الباب فيما أجاب به الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان في الجواب عن الاعتراض في الغيبة

الصفحة 142 

الباب فيما أجاب به الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان في الجواب عن الاعتراض في الغيبة، ولم يرتض الجواب الشيخ علي بن عيسى في كتاب كشف الغمة، وذكر الكلامين قال الشيخ الفاضل علي بن عيسى (رحمه الله) في كتاب كشف الغمة: قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان وقد تقدمت الأحاديث المنقولة من كتابه هذا قال في آخر الباب الخامس والعشرون وهو آخر الأبواب في الدلالة على كون المهدي حيا باقيا منذ غيبته إلى الآن: (ولا امتناع في بقائه (عليه السلام) بدليل بقاء عيسى والخضر والياس (عليهم السلام) وبقاء الدجال وإبليس اللعين من أعداء الله، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنة وقد اتفقوا على ذلك ثم أنكروا بقاء المهدي (عليه السلام) لوجهين:

أحدهما طول الزمان، والثاني أنه في سرداب من غير أن يقوم أحد بطعامه وشرابه، وهذا مما لا يبقى به الإنسان عادة)(1).

قال مؤلف هذا الكتاب محمد بن يوسف بن محمد الكنجي: بعون الله نبتدئ، أما عيسى (عليه السلام) والدليل على بقائه من الكتاب قوله تعالى: *(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)*(2) ولم يؤمن به أحد مذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا فلا بد أن يكون ذلك في آخر الزمان، وأما السنة فما رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب بإسناده عن النواس بن سمعان في حديث طويل في قصة الدجال قال: فينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين(3)، وأيضا ما تقدم من قوله (صلى الله عليه وآله): " كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم "(4).

وأما الخضر وإلياس فقد قال ابن جرير الطبري: الخضر والياس باقيان يسيران في الأرض، وأيضا فما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي (صلى الله عليه وآله) حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا " يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي

____________

(1) كفاية الطالب: 521.

(2) النساء: 159.

(3) صحيح مسلم 8 / 198.

(4) مسند أحمد 2 / 272.

الصفحة 143 

تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا النبي (صلى الله عليه وآله) حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال: فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن قال: فيريد الدجال أن يقتله ثانيا فلا يسلط عليه " قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد يقال إن هذا الرجل الخضر (عليه السلام)(1)، وهذا لفظ مسلم في صحيحه كما سقناه سواء.

وأما الدليل على بقاء الدجال فإنه أورد حديث تميم الداري والجساسة الدابة التي تكلمهم وهو حديث صحيح ذكره مسلم في صحيحه(2) وقال: هذا حديث صحيح في بقاء الدجال قال، وأما الدليل على بقاء إبليس اللعين فآي الكتاب العزيز نحو قوله تعالى: *(قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين)*(3) وأما بقاء المهدي (عليه السلام) فقد جاء في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال سعيد بن جبير في قوله تعالى: *(ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)*(4) قال: هو المهدي (عليه السلام) من عترة فاطمة (عليها السلام).

وأما من قال أنه عيسى (عليه السلام) فلا تنافي بين القولين إذ هو مساعد للإمام (عليه السلام) على ما تقدم.

وقد قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسرين في تفسير قوله تعالى: *(وإنه لعلم للساعة)*(5) قال: هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وأماراتها.

وأما الجواب عن طول الزمان فمن حيث النص والمعنى، أما النص فما تقدم من الأخبار على أنه لا بد من وجود الثلاثة في آخر الزمان وأنهم ليس فيهم متبوع غير المهدي (عليه السلام) بدليل أنه إمام الأئمة في آخر الزمان وأن عيسى (عليه السلام) يصلي خلفه كما ورد في الصحاح ويصدقه في دعواه، والثالث هو الدجال اللعين، وقد ثبت أنه حي موجود.

وأما المعنى في بقائهم فلا يخلو من أحد قسمين أما أن يكون بقاؤهم داخلا في مقدور الله تعالى أو لا يكون، ويستحيل أن يخرج بقاؤهم عن مقدور الله تعالى لأن من بدأ الخلق من غير شئ وأفناه ثم يعيده بعد الفناء لا بد أن يكون البقاء في مقدوره، ثم اختيار البقاء لا يخلو من قسمين: أما أن يكون راجعا إلى اختياره تعالى أو اختيار الأمة، ولا يجوز أن يكون راجعا إلى اختيار الأمة، لأنه لو صح ذلك لجاز لأحدنا أن يختار البقاء لنفسه ولولده وذلك غير حاصل لنا ولا داخل تحت مقدورنا،

____________

(1) صحيح مسلم 8 / 199.

(2) صحيح مسلم 8: 205.

(3) الأعراف: 14 - 15.

(4) التوبة: 33.

(5) الزخرف: 61.

الصفحة 144 

والأول لا يخلو من قسمين: أما أن يكون لسبب أو لا، فإن كان لغير سبب كان خارجا عن وجه الحكمة، وما يخرج عن وجه الحكمة لا يدخل في أفعاله تعالى فلا بد أن يكون لسبب تقتضيه الحكمة، قال: وسنذكر سبب بقاء كل واحد منهم على حدته.

وأما سبب بقاء عيسى (عليه السلام) فلقوله تعالى: *(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)*(1) ولم يؤمن به منذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا أحد، فلا بد أن يكون هذا في آخر الزمان.

وأما الدجال اللعين فلقوله (صلى الله عليه وآله): " إنه خارج منكم الأعور الدجال وإن معه جبال من خبز تسير معه " إلى غير ذلك من علاماته فلا بد أن يكون ذلك في آخر الزمان لا محالة، وأما الإمام المهدي (عليه السلام) مذ غيبته عن الأبصار إلى يومنا هذا لم يملأ الأرض قسطا وعدلا كما تقدمت الأخبار في ذلك فلا بد أن يكون ذلك مشروطا آخر الزمان فقد صارت هذه الأسباب لاستيفاء الأجل المعلوم فعلى هذا اتفقت أسباب بقاء الثلاثة لصحة أمر معلوم وهما صالحان نبي وإمام، وطالح وهو الدجال، وقد تقدمت الأخبار من الصحاح بما ذكرناه في صحة بقاء الدجال مع صحة بقاء عيسى (عليه السلام)، فما المانع من بقاء المهدي مع كون بقائه باختيار الله تعالى وداخلا تحت مقدوره وهو آية الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فعلى هذا هو أولى بالبقاء من الاثنين الآخرين لأنه إذا بقي المهدي كان إماما آخر الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا كما تقدمت الأخبار، فيكون بقاؤه مصلحة للمكلفين ولطفا لهم من عند الله تعالى، بخلاف الدجال فإن في بقائه مفسدة لادعائه الربوبية على ما ذكر وفتكه بالأمة ولكن في بقائه ابتلاء من الله تعالى ليعلم المطيع منهم من العاصي والمحسن من المسئ والمصلح من المفسد، وهذا هو الحكمة في بقاء الدجال.

وأما بقاء عيسى (عليه السلام) فهو سبب إيمان أهل الكتاب للآية والتصديق بنبوة سيد الأنبياء محمد خاتم الأنبياء رسول رب العالمين، ويكون تبيانا لدعوى الإمام عند أهل الإيمان ومصدقا لما دعا إليه عند أهل الطغيان بدليل صلاته خلفه ونصرته إياه ودعائه إلى الملة المحمدية التي هو إمام فيها فصار بقاء المهدي (عليه السلام) أصلا، وبقاء الاثنين فرعا على بقائه، فكيف يصح بقاء الفرعين مع عدم بقاء الأصل لهما؟ ولو صح ذلك لصح وجود المسبب من دون وجود السبب وذلك مستحيل في العقول، وإنما قلنا: إن بقاء المهدي أصل لبقاء الاثنين لأنه لا يصح وجود عيسى (عليه السلام) بانفراده غير ناصر لملة الإسلام وغير مصدق للإمام لأنه لو صح وجود عيسى (عليه السلام) لكان منفردا بدولة ودعوة وذلك يبطل دعوة الإسلام من حيث أراد أن يكون تبعا فصار متبوعا، وأراد أن يكون فرعا فكان

____________

(1) النساء: 159.

الصفحة 145 

أصلا والنبي (صلى الله عليه وآله) قال: " لا نبي بعدي " وقال (صلى الله عليه وآله): " الحلال ما أحل الله على لساني إلى يوم القيامة والحرام ما حرم الله على لساني إلى يوم القيامة " فلا بد من أن يكون عونا وناصرا ومصدقا، وإذا لم يجد من يكون له عونا ومصدقا لم يكن لوجوده، تأثير، فثبت أن وجود المهدي أصل لوجوده وكذلك الدجال اللعين لا يصح وجوده في آخر الزمان، ولا يكون للأمة إمام يرجعون إليه، ووزير يعولون عليه لأنه لو كان الأمر كذلك لم يزل الإسلام مقهورا ودعوته باطلة فصار وجود الإمام أصلا لوجوده على ما قلنا.

وأما الجواب عن إنكارهم بقاءه في السرداب من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه ففيه جوابان:

أحدهما بقاء عيسى (عليه السلام) في السماء من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، وهو بشر مثل المهدي (عليه السلام) فكما جاز بقاؤه في السماء والحال هذه فكذلك المهدي في السرداب.

فإن قلت: إن عيسى (عليه السلام) يغذيه رب العالمين من خزانة غيبه.

قلت: لا تفنى خزائنه بانضمام المهدي إليه في غذائه فإن قلت: إن عيسى ليس من طبيعته البشرية قلت هذا دعوى باطلة لأنه تعالى قال لأشرف أنبيائه: *(قل إنما أنا بشر مثلكم)*(1).

فإن قلت: اكتسب ذلك من العالم العلوي، قلت: هذا يحتاج إلى توقيف ولا سبيل إليه: والثاني:

بقاء الدجال في الدير على ما تقدم بأشد الوثائق، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبه بالحديد، وفي رواية في بئر موثوق، وإذا كان بقاء الدجال ممكنا على الوجه المذكور من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، فما المانع من بقاء المهدي (عليه السلام) مكرما من غير الوثاق إذ الكل في مقدور الله تعالى؟ فثبت أنه غير ممتنع شرعا ولا عادة، ثم ذكر بعد هذه الأبحاث خبر سطيح ووقايع وحوادث تجرى وزلازل من فتن، ثم إنه يذكر خروج المهدي (عليه السلام) وإنه يملأ الأرض عدلا وتطيب الدنيا وأهلها في أيام دولته(2).

قال الشيخ الفاضل في كتاب كشف الغمة بعد أن ذكر ما ذكرناه عقيب: هذه الأبحاث والجوابات لا تثبت لنا حجة ولا تقطع الخصم ولا تضره لما يرد عليها من الإيرادات وتطويله في إثبات بقاء المسيح (عليه السلام) وإبليس والدجال، فهي مثل الضروريات عند المسلمين فلا حاجة إلى التكلف لتقريرها، والجواب المختصر ما ذكرته آنفا وهو أن النقل قد ورد به من طرق المؤالف والمخالف، والعقل لا يحيله فوجب القطع به، فأما قوله: إن المهدي (عليه السلام) في سرداب وكيف يمكن بقاؤه من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه فهذا قول عجيب وتصور غريب فإن الذين أنكروا وجوده (عليه السلام) لا يوردون

____________

(1) الكهف: 110.

(2) كفاية الطالب: 521 - 533.

الصفحة 146 

هذا، والذين يقولون بوجوده لا يقولون: إنه في سرداب، بل يقولون: إنه حي موجود يحل ويرتحل ويطوف في الأرض ببيوت وخيم وخدم وحشم وإبل وخيل وغير ذلك، وينقلون قصصا في ذلك وأحاديث يطول شرحها، وأنا أذكر من ذلك قصتين قرب عهدهما من زماني، وحدثني بهما جماعة من ثقات إخواني.

الأولى: أنه كان في بلاد الحلة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها هرقل مات في زماني وما رأيته (ولكن حكى) وحكى لي ولده شمس الدين قال: حكى لي والدي أنه خرج فيه وهو شاب على فخذه الأيسر توثة مقدار قبضه الإنسان وكانت في كل ربيع تشقق ويخرج منها دم وقيح ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله، وكان مقيما بهرقل، فحضر إلى الحلة يوما ودخل إلى مجلس السيد السعيد رضي الدين علي بن طاووس (رحمه الله) وشكا إليه ما يجده منها فقال:

أريد أن أداويها فأحضر له أطباء الحلة وأراهم الموضع فقالوا: هذه التوثة فوق العرق الأكحل في علاجها خطر، إن قطعت خيف أن يقطع العرق فيموت، فقال السعيد رضي الدين قدس الله روحه:

أنا متوجه إلى بغداد وربما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء فاصحبني، فصعد معه وحضر الأطباء فقالوا كما قال أولئك فضاق صدره فقال له السعيد أن الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب وعليك الاجتهاد في الاحتراس، فلا تغرر بنفسك والله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله فقال والدي: إذا كان الأمر هكذا وقد وصلت إلى بغداد فتوجه في زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرفه السلام ثم انحدر إلى أهلي، فحسن ذلك فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجه.

قال: فدخلت المشهد وزرت الأئمة (عليهم السلام) ونزلت السرداب استغثت بالله تعالى وبالإمام (عليه السلام) وقضيت بعض الليل في السرداب وبت في المشهد إلى الخميس، ثم مضيت إلى دجلة فاغتسلت ولبست ثوبا نظيفا وملأت إبريقا كان معي وصعدت أريد المشهد فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم فالتقينا فرأيت شابين أحدهما عبد مخطوط وكل واحد فهما متقلد بسيف، وشيخا منقبا بيده رمح والآخر مقلد بسيف وعليه فرجية ملونة فوق السيف وهو متحنك بعذبته فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعب الرمح على الأرض، ووقف الشابان عن يسار الطريق وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي، ثم سلموا عليه فرد عليهم السلام فقال له صاحب الفرجية: أنت غدا تروح إلى أهلك؟ فقال له: نعم فقال له: تقدم حتى أبصر ما يوجعك، قال: فكرهت ملامستهم وقلت

الصفحة 147 

في نفسي: أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول ثم، إني مع ذلك تقدمت إليه فلزمني بيده ومدني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده فأوجعني ثم استوى على سرجه كما كان، فقال لي الشيخ: أفلحت يا إسماعيل، فعجبت من معرفته اسمي، فقلت: أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله تعالى.

قال: فقال لي الشيخ: هذا هو الإمام (عليه السلام)، قال: فتقدمت إليه واحتضنته وقبلت فخذه ثم إنه ساق وأنا أمشي معه محتضنه، فقال: إرجع فقلت: لا أفارقك أبدا فقال: المصلحة رجوعك فأعدت عليه مثل القول الأول فقال الشيخ: يا إسماعيل ما تستحي، يقول لك الإمام مرتين ارجع وتخالفه، فجبهني بهذا القول فوقفت، فتقدم خطوات والتفت إلي وقال: إذا وصلت بغداد فلا بد أن يطلبك أبو جعفر يعني الخليفة المنتصر(1)، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئا فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى علي بن عوض فإنني أوصيه يعطيك الذي تريد، ثم سار وأصحابه معه فلم أزل قائما أبصرهم حتى بعدوا وحصل عندي أسف لمفارقته، فقعدت إلى الأرض ساعة ثم مضيت إلى المشهد فاجتمع القوم حولي وقالوا: نرى وجهك متغيرا، أوجعك شئ؟ قلت: لا، قالوا: أخاصمك أحد؟ قلت: لا، ليس عندي مما تقولون خبر، ولكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم فقالوا: هم الشرفاء أرباب الغنم فقلت: لا، بل هو الإمام فقالوا: الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية، فقلت: هو صاحب الفرجية فقالوا: أريته المرض الذي كان فيك؟ فقلت: هو قبضه بيده فأوجعني، ثم كشفت رجلي فلم أر لذلك المرض أثرا، فداخلني الشك من الدهش فأخرجت رجلي الأخرى فلم أر شيئا.

فانطبق الناس علي ومزقوا القميص، وأدخلني القوام خزانة ومنعوا الناس عني وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجة وسأل عن الخبر فعرفوه فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي فسألني: منذ كم خرجت من بغداد؟ فعرفته أني خرجت من بغداد أول الأسبوع فمشى عني، وبت بالمشهد وصليت الصبح وخرجت وخرج الناس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عني ووصلت إلى إيوان فبت بها، وبكرت منها أريد بغداد فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان فسألوني عن اسمي وعن نسبي ومن أين جئت؟

فعرفتهم فاجتمعوا علي ومزقوا ثيابي ولم يبق لي في روحي حكم، وكان الناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرفهم الحال ثم حملوني إلى بغداد وازدحم الناس علي وكادوا يقتلوني من كثرة

____________

(1) في المصدر: المستنصر.

الصفحة 148 

الزحام، وكان الوزير القمي قد طلب السعيد رضي الدين (رحمه الله) فتقدم أن يعرفه صحة الخبر.

قال: فخرج رضي الدين ومعه جماعة فتوافينا باب النوبى فرد أصحابه الناس عني فلما رآني قال: أعنك يقولون؟ قلت: نعم، فنزل عن دابته وكشف فخذي فلم ير شيئا فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول: يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي، فسألني الوزير عن القصة فحكيت له فاحضر الأطباء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها وقالوا ما دواؤها إلا القطع بالحديد، ومتى قطعها مات، فقال لهم الوزير: بتقدير أن تقطع ولا يموت في كم يبرأ؟

فقالوا: في شهرين وتبقى في مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر، وسألهم الوزير: متى رأيتموه فقالوا: منذ عشرة أيام، فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم وهي مثل أختها ليس فيها أثر أصلا، فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح فقال الوزير: حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها، ثم إنه أحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصة فعرفه بها كما جرى، فتقدم له بألف دينار فلما حضرت قال: خذ هذه فأنفقها فقال ما أجرأ آخذ منه حبة واحدة فقال الخليفة: ممن تخاف؟ فقال من الذي فعل معي هذا قال: لا تأخذ من أبي جعفر شيئا فبكى الخليفة وتكدر، وخرج من عنده ولم يأخذ شيئا.

قال الشيخ الفاضل علي بن عيسى في كشف الغمة عقيب ذلك: كنت في بعض الأيام أحكي هذه القصة لجماعة عندي، وكان شمس الدين محمد ولده عندي، وأنا لا أعرفه فلما انتقضت الحكاية قال: أنا ولده لصلبه فعجبت من هذا الاتفاق فقلت: هل رأيت فخذه وهي مريضة؟ فقال: لا لأني أصبو عن ذلك ولكني رأيت بعد ما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر.

وقال علي بن عيسى أيضا: وسألت السيد صفي الدين محمد بن محمد بن بشر العلوي الموسوي ونجم الدين حيدر بن الأيسر رحمهما الله وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي الهيئات منهم، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي فأخبراني بصحة هذه القصة وأنهما رأياها في حال مرضها وحال صحتها، وحكى لي ولده هذا أنه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه (عليه السلام) حتى إنه جاء إلى بغداد وأقام بها فصل الشتاء، وكان كل يوم يزور سامراء ويعود إلى بغداد فزارها في تلك السنة أربعين مرة طمعا أن يعود له الوقت الذي مضى، أو يقضي له الحظ بما قضى، ومن الذي أعطاه دهره الرضا أو ساعده بمطالب صرف القضا؟ فمات بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصته، والله يتولاه وإيانا برحمته وكرامته.

ثم قال الثانية: علي بن عيسى في كشف الغمة: وحكى لي السيد باقي عطوة العلوي الحسيني

الصفحة 149 

أن أباه عطوة كان به أدرة وكان زيدي المذهب، وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإمامية ويقول: لا أصدقكم ولا أقول بمذهبكم حتى يجئ صاحبكم - يعني المهدي - فيبرئني من هذا المرض، ويكرر هذا القول منه، فبينا نحن مجتمعون عنده وقت العشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا، فأتيناه سراعا فقال: الحقوا صاحبكم فالساعة خرج من عندي فخرجنا فلم نر أحدا فعدنا إليه وسألناه فقال: إنه دخل إلي شخص وقال: يا عطوة، فقلت: من أنت فقال: أنا صاحب بنيك قد جئت لأبرئك مما بك، ثم مد يده وعصر قروتي ومشى، فمددت يدي فلم أر بها أثرا، قال لي ولده: وبقي مثل الغزال ليس به قروة، واشتهرت هذه القصة وسألت عنها غير ابنه فأقر بها.

والأخبار عنه (عليه السلام) في هذا الباب كثيرة وأنه رآه جماعة قد انقطعوا له في طريق الحجاز وغيرها وخلصهم وأوصلهم إلى حيث أرادوا، ولولا التطويل لذكرت منها جملة ولكن هذا القدر الذي قرب عهده من زماني كاف انتهى كلام علي بن عيسى(1).

____________

(1) كشف الغمة: 3 / 296 - 301.

الصفحة 150 

 

نصيحة لطيفة وهداية شريفة نختم بها هذا الكتاب

 

وهو أن نقول: إياك أيها الواقف على ما في هذا الكتاب من الأخبار والروايات من طريق العامة أن يدخلك الشك والريب فيما قلناه عنهم في أبواب الكتاب في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأنه الخليفة ووصيه من بعده (عليه السلام)، وغير ذلك من النصوص عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضله وفضل أهل البيت (عليهم السلام) وإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ورواياتهم ذلك في صحاحهم وكتبهم المعتمدة وأخبارهم المسندة عن رجالهم الموثوق بهم كما اطلعت عليه، والثناء منهم على مشايخهم في أسانيدهم للأخبار الواردة عنهم في هذا الكتاب، فإني ما ذكرت عنهم في هذا الكتاب إلا ما هو مذكور في كتبهم ومصنفاتهم المعتمدة المنقولة عنهم، والله جل جلاله على ذلك من الشاهدين وكفى بالله شهيدا والحمد لله رب العالمين.

فإن قلت: كيف يروون هذه الأخبار الصحيحة والروايات الواضحة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبنيه الأحد عشر وهم الأئمة الاثنا عشر بنص رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم بالإمامة والخلافة والوصاية من غير معارض لها من الروايات من طريق الفريقين المخالف والمؤالف.

[ قلت: ] فإنه لم يدع مدع من العامة بأن إمامة أبي بكر وعمر وعثمان [ كانت ] عن نص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما كانت بيعة من بعض الناس كما هو عليه إجماع العامة والخاصة، فبقيت النصوص الواردة عن رسول الله سالمة من الروايات المعارضة لهذه الروايات المجمع على نقلها من المؤالف والمخالف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإمامة الأئمة الاثني عشر، الذي هو مذهب الفرقة المحقة الاثني عشرية شيعة آل محمد صلى الله عليهم أجمعين.

فإن قلت: هذا من العجب، كيف تروي العامة هذه الأخبار الصحيحة عندهم من إمامة الأئمة الاثني عشر ولا يعملون بها؟ بل يقدمون على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الإمامة، وهذا لم يأت به نص من رسول الله صلى الله عليه وآله بالتقديم عليه، بل روت العامة والخاصة النهي عن التقديم عليه في الإمامة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا من أعجب العجائب والخسران المبين والضلال البعيد فما دعاهم إلى ذلك حتى قدموا ما أخر الله سبحانه وأخروا ما قدم الله جل جلاله.

الصفحة 151 

قلت: عملوا ذلك لأسباب:

منها: الميل إلى الدنيا وطلب ما فيها من الجاه والمال، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، من ذلك ما نقله أبو المؤيد موفق بن أحمد أخطب الخطباء عند العامة في الفصل التاسع من كتابه في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال الشعبي: ما ندري ما نصنع بعلي (رضي الله عنه) إن أحببناه افتقرنا وإن أبغضناه كفرنا(1)؟.

ومنها: العلة الكبرى والمصيبة العظمى، تقليد الآباء والسلف الماضين من علمائهم المعلولين بهذه العلل فضلوا وأضلوا.

ومنها: الحسد للأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ما أعطاهم من هذا المنصب الشريف والمترقي المنيف من أمر الله جل جلاله الخلق باتباعهم وفرض طاعتهم عليهم قال الله جل جلاله: *(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)*(2) الآية، وقد روى المؤالف والمخالف في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) هم الناس المحسودون(3).

ومنها: اتباع الهوى وما تهوى الأنفس وقد جاءهم من ربهم الهدى، وجحود الحق وترك العمل به، قال الله جل جلاله في كتابه إخبارا عن أهل الكتاب: *(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)*(4) وقال جل جلاله: *(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)*(5) يعني أهل الكتاب يعرفون نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) بنعت الله جل جلاله ووصفه لمحمد (صلى الله عليه وآله) في التوراة والإنجيل وقال تعالى: *(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)*(6) وقال عز وجل:

*(ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله)*(7).

وقال تعالى: *(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)*(8).

وقال جل ذكره: *(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)*(9).

____________

(1) مناقب الخوارزمي 330 / 350.

(2) النساء: 54.

(3) تفسير العياشي 1 / 246 ح 153.

(4) البقرة: 89.

(5) البقرة: 146.

(6) النمل: 14.

(7) الأنعام: 111.

(8) الأنعام: 7.

(9) الحجر: 14 - 15.

الصفحة 152 

وقال سبحانه وتعالى: *(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)*(1).

وغير ذلك من الآيات، وإذا كان من الناس ما ذكر الله سبحانه وتعالى لا يستبعد على هؤلاء النقلة من العامة للأحاديث الصحاح والروايات الواضحات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النص على إمامة أمير المؤمنين وبنيه الأحد عشر الذين آخرهم المهدي (عليه السلام) بالإمامة والخلافة والوصاية ومالوا عنهم وانحرفوا عنهم لأحد الأسباب التي ذكرناها، لأن هؤلاء النقلة إنما هم من جملة الذين يجوز عليهم الضلالة والهدى واتباع الحق وتركه كغيرهم من سائر الناس، إذ ليس بين العلم والعمل لزوم كلي، يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر، فرب عالم لا يعمل، ورب عامل بغير علم، وهذا واضح بين، والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

____________

(1) التوبة: 115.

 

 

 

الصفحة 153 

في رسائل الجاحظ حول أحقية الأمير (عليه السلام) بالخلافة وأفضليته

 

وأختم كتابي هذا برسالتي أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وهو من أعيان علماء المخالفين من العامة مما ذكر فيهما واستدل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون أبي بكر بأدلة قطعية وبراهين بينة وهو لا يتهم في ذلك، بل هو حجة عليه وعلى جميع الفرق القائلين بإمامة أبي بكر، والجاحظ هذا من المتعصبين المنحرفين عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل هو عثماني مرواني، وفي الرسالتين أيضا تفضيل بني هاشم على غيرهم، وهاتان الرسالتان أوردهما الشيخ الفاضل الثقة الورع الشيخ علي بن عيسى تغمده الله تعالى برحمته في أول كتاب كشف الغمة.

قال (رحمه الله): وقع إلى رسالة من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في التفضيل أثبتها مختصرا ألفاظها وترجمتها: رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في الترجيح والفضل، نسخت من مجموع الأمير أبي محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قال: هذا كتاب من اعتزل الشك والظن والدعوى والأهواء وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وبإجماع الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) مما تضمنه الكتاب والسنة وترك القول بالآراء فإنها تخطئ وتصيب، لأن الأمة أجمعت أن النبي (صلى الله عليه وآله) شاور أصحابه في الأسرى ببدر، واتفق رأيهم على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى: *(ما كان لنبي أن يكون له أسرى)*(1) الآية فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين، وإنما الحجة الطاعة لله ولرسوله وما أجمعت عليه الأمة من كتاب الله وسنة نبيها، ونحن لم ندرك النبي (صلى الله عليه وآله) ولا أحدا من أصحابه الذين اختلفت الأمة في أحقهم فنعلم أيهم أولى ونكون معهم كما قال الله تعالى: *(وكونوا مع الصادقين)*(2) ونعلم أيهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال الله تعالى:

*(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)*(3) حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين وأهله وأهل الصدق والحق، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان: أحدهما قالوا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) مات ولم يستخلف أحدا وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه،

____________

(1) الأنفال: 67.

(2) التوبة: 119.

(3) النحل: 78.

الصفحة 154 

فاختاروا أبا بكر، والآخرون قالوا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) استخلف عليا (عليه السلام) فجعله إماما للمسلمين بعده، وادعى كل فريق منهم الحق، فلما رأينا ذلك أوقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحق من المبطل، فسألناهم جميعا: هل للناس بد من وال يقيم أعيادهم ويجبي زكاتهم ويفرقها على مستحقيها ويقضي بينهم ويأخذ لضعيفهم من قويهم ويقيم حدود الله؟ فقالوا: لا بد من ذلك.

فقلنا: هل لأحد أن يختار أحدا فيوليه من غير نظر في كتاب الله وسنة نبيه.

فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر، فسألناهم جميعا عن الإسلام الذي أمر الله به.

فقالوا: إنه الشهادتان والإقرار بما جاء به من عند الله والصلاة والصوم والحج بشرط الاستطاعة لإجماعهم، والعمل بالقرآن يحل حلاله ويحرم حرامه فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم جميعا هل لله خيرة من خلقه اصطفاهم واختارهم.

فقالوا: نعم، فقلنا ما برهانكم؟ قالوا قوله تعالى: *(وربك يخلق ما يشاء ويختار)*(1) فسألناهم عن الخيرة فقالوا: هم المتقون، قلنا: ما برهانكم؟ قالوا: قوله تعالى: *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)*(2) فقلنا هل لله خيرة من المتقين؟ قالوا: نعم، المجاهدون بدليل قوله تعالى: *(فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)*(3) فقلنا: هل لله خيرة من المجاهدين؟.

قالوا جميعا: نعم، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد بدليل قوله تعالى: *(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)*(4) الآية، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه، وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد، ثم قلنا: هل لله خيرة منهم؟

قالوا: نعم، قلنا: ومن هم؟ قالوا: أكثرهم عناء في الجهاد وطعنا وضربا وقتلا في سبيل الله بدليل قوله تعالى: *(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)*(5) *(وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)*(6) فقبلنا ذلك منهم وعلمناه وعرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد وأبذلهم لنفسه في طاعة الله وأقتلهم لعدوه، فسألناهم عن هذين الرجلين علي بن أبي طالب وأبي بكر أيهما كان أكثر عناء في الحرب وأحسن بلاء في سبيل الله فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه كان أكثر طعنا وضربا وأشد قتالا وأذب في دين الله ورسوله، فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين ودلالة الكتاب والسنة أن عليا (عليه السلام) أفضل، فسألناهم ثانيا عن خيرته تعالى من المتقين.

____________

(1) القصص: 68.

(2) الحجرات: 13.

(3) النساء: 95.

(4) الحديد: 10.

(5) الزلزلة: 7.

(6) البقرة: 110.

الصفحة 155 

فقالوا: هم الخاشعون بدليل قوله تعالى: *(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد)*(1) إلى قوله تعالى:

*(من خشي الرحمن بالغيب)*(2). وقال تعالى *(وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم)*(3) ثم سألناهم جميعا: من هم الخاشعون؟

فقالوا: هم العلماء لقوله: *(إنما يخشى الله من عباده العلماء)*(4)، ثم سألناهم جميعا: من أعلم الناس؟

قالوا: أعلمهم بالعدل(5) وأهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله تعالى: *(يحكم به ذوا عدل منكم)*(6) فجعل الحكومة إلى أهل العدل، فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟ فقالوا: أدلهم عليه، قلنا: فمن أدل الناس عليه؟ قالوا أهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله: *(أفمن يهدي إلى الحق)*(7) الآية، فدل كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) والإجماع أن أفضل الأمة بعد نبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه إذا كان أكثرهم جهادا كان أتقاهم، وإذا كان اتقاهم كان أخشاهم، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدل على العدل، وإذا كان أدل على العدل كان أهدى الأمة إلى الحق، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعا وأن يكون حاكما لا تابعا ولا محكوما عليه، واجتمعت الأمة بعد نبيها أنه خلف كتاب الله تعالى ذكره وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر وإلى سنته (صلى الله عليه وآله) فيقتدون بهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه، فإذا قرأ قارئهم *(وربك يخلق ما يشاء ويختار)*(8) فيقال له أثبتها، ثم يقرأ *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)*(9) وفي قراءة ابن مسعود: إن خيركم عند الله أتقاكم، ثم يقرأ: *(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشي الرحمن بالغيب)*(10) فدلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون، ثم يقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله: *(إنما يخشى الله من عباده العلماء)*(11) فيقال له: إقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى: *(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)*(12) علم أن العلماء أفضل من غيرهم، ثم يقال: إقرأ، فإذا بلغ إلى قوله تعالى: *(يرفع الله

____________

(1) ق: 31.

(2) ق: 33.

(3) الأنبياء: 48 - 49.

(4) فاطر: 28.

(5) في المصدر: بالقول.

(6) المائدة: 95.

(7) يونس: 35.

(8) القصص: 68.

(9) الحجرات: 13.

(10) ق: 31 - 33.

(11) فاطر: 28.

(12) الزمر: 9.

الصفحة 156 

الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)*(1) قيل قد دلت هذه الآية على أن الله قد اختار العلماء وفضلهم ورفعهم درجات وقد أجمعت الأمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعبد الله بن العباس (رضي الله عنه) وابن مسعود وزيد بن ثابت رحمهم الله، وقالت طائفة: عمر بن الخطاب، فسألنا الأمة من أولى بالتقديم إذا حضرت الصلاة فقالوا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " يؤم بالقوم أقرأهم "(2) ثم أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله تعالى من عمر فسقط عمر ثم سألنا الأمة: أي هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله وأفقه لدينه؟ فاختلفوا فوقفناهم حتى نعلم ثم سألناهم: أيهم أولى بالإمامة، فأجمعوا على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الأئمة من قريش "(3) فسقط ابن مسعود وزيد بن ثابت وبقي علي بن أبي طالب وابن عباس فسألنا: أيهما أولى بالإمامة؟ فقالوا إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين فأكبرهما سنا وأقدمهما هجرة، فسقط عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) وبقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيكون أحق بالإمامة لما اجتمعت عليه الأمة ولدلالة الكتاب والسنة عليه(4). هذا آخر رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

____________

(1) المجادلة: 11.

(2) المغني 1 / 617، الشرح الكبير 1 / 463.

(3) مسند أحمد 3 / 129.

(4) كشف الغمة 1 / 37 - 41.

الصفحة 157 

 

رسالة أخرى لأبي عثمان عمرو بن بحر

 

هذا، نقلها علي بن عيسى في كتاب كشف الغمة قال: رسالة وقعت إلي من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أذكرها مختصرا لها.

قال: إعلم حفظك الله أن أصول الخصومات معروفة بينة وأبوابها مشهورة كالخصومة بين الشعوبية والعرب والكوفي والبصري والعدناني والقطحاني، وهذه الأبواب الثلاثة أنقص للعقول السليمة وأفسد للأخلاق الحسنة من المنازعة في القدر والتشبيه وفي الوعد والوعيد والأسماء والأحكام وفي الآثار وتصحيح الأخبار، وأنقص من هذه للعقول تمييز الرجال وترتيب الطبقات وذكر تقديم علي (عليه السلام) وأبي بكر، فأولى الأشياء بك القصد وترك الهوى فإن اليهود نازعت النصارى في المسيح فلج بهما القول حتى قالت اليهود: إنه ابن يوسف النجار وإنه لغير رشده وإنه صاحب تبريج(1) وخدع ومخاريق وناصب شرك وصياد سمك وصاحب شص وشبك، فما يبلغ من عقل صياد وربيب نجار؟ وزعمت النصارى أنه رب العالمين وخالق السماوات والأرضيين وإله الأولين والآخرين، فلو وجدت اليهود أسوأ من ذلك القول لقالته فيه، ولو وجدت النصارى أرفع من ذلك القول لقالته فيه، وعلى هذا قال علي (عليه السلام): " يهلك في رجلان محب مفرط ومبغض مفرط "(2) والرأي كل الرأي أن لا يدعوك حب الصحابة إلى بخس عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) حقوقهم وحظوظهم، فإن عمر لما كتبوا الدواوين وقدموا ذكره أنكر ذلك وقال: ابدأوا بطرا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضعوا آل الخطاب حيث وضعهم الله، قالوا: فأنت أمير المؤمنين فأبى إلا تقديم بني هاشم وتأخير نفسه، فلم ينكر عليه منكر وصوبوا رأيه وعدوا ذلك من مناقبه.

واعلم أن الله لو أراد أن يسوي بين بني هاشم وبين الناس لما أبانهم بسهم ذوي القربى ولما قال:

*(وأنذر عشيرتك الأقربين)*(3) وقال الله تعالى: *(وإنه لذكر لك ولقومك)*(4) وإذا كان لقومه في ذلك ما ليس لغيرهم فكل من كان أقرب كان أرفع، ولو سواهم بالناس لما حرم عليهم الصدقة، وما هذا التحريم إلا لإكرامهم على الله ولذلك قال للعباس حيث طلب ولاية الصدقات: لا أوليك غسالات

____________

(1) في المصدر: نيرنج.

(2) بحار الأنوار 10 / 217 ح 18.

(3) الشعراء: 214.

(4) الزخرف: 44.

الصفحة 158 

خطايا الناس وأوزارهم، بل أوليك سقاية الحاج والإنفاق على زوار الله، ولهذا كان رباه أول ربا وضع، ودم ربيعة بن الحارث أول دم أهدر لأنهما القدوة في النفس والمال، لهذا قال علي (عليه السلام) على منبر الجماعة: " نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد "(1) وصدق (عليه السلام)، كيف يقاس بقوم منهم رسول الله وآله، الأطيبان علي وفاطمة والسبطان الحسن والحسين والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر وسيد الوادي عبد المطلب وساقي الحجيج العباس وحليم البطحاء والنجدة والخير فيهم، والأنصار أنصارهم، والمهاجر من هاجر إليهم ومعهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين الحق والباطل فيهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير إلا فيهم ولهم ومنهم ومعهم وقال (صلى الله عليه وآله) فيما أبان به أهل بيته: " إني تارك فيكم الخليفتين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "(2) ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر حين طلب مصاهرة علي: إني سمعت رسول الله (عليه السلام) يقول: " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي "(3).

واعلم أن الرجل قد ينازع في تفضيل ماء دجلة على ماء الفرات فإن لم يتحفظ وجد في قلبه على شارب ماء دجلة رقة لم يكن يجدها، ووجد في قلبه غلظة على شارب ماء الفرات لم يكن يجدها، فالحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أبناء نبينا ورسولنا فنحكم لجميع المرسلين بالتصديق ولجميع السلف بالولاية، ونخص بني هاشم بالمحبة ونعطي كل امرئ قسطه من المنزلة، فأما علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فلو أفردنا لأيامه الشريفة ومقاماته الكريمة ومناقبه السنية كلاما لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال، العرق صحيح والمنشأ كريم والشأن عظيم والعمل جسيم والعلم كثير والبيان عجيب واللسان خطيب والصدر رحيب، فأخلاقه وفق أعراقه وحديثه يشهد بقديمه، وليس التدبير في وصف مثله إلا ذكر جمل قدره واستقصاء جميع حقه، وإذا كان كتابنا لا يحتمل تفسير جميع أمره ففي هذه الجملة بلاغ لمن أراد معرفة فضله.

وأما الحسن والحسين (عليهما السلام) فمثلهما مثل الشمس والقمر فمن أعطى ما في الشمس والقمر من المنافع العامة والنعم الشاملة التامة ولو لم يكونا ابني علي (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام)، ورفعت من وهمك كل رواية وكل سبب توجبه القرابة لكنت لا تقرن بهما أحدا من أجلة أولاد المهاجرين والصحابة إلا أراك فيهما الإنصاف من تصديق قول النبي (صلى الله عليه وآله): " إنهما سيدا شباب أهل الجنة "(4) وجميع من هما

____________

(1) بحار الأنوار 26 / 269 ح 5.

(2) بحار الأنوار 22 / 465 ح 19.

(3) بحار الأنوار 39 / 108 ح 22.

(4) بحار الأنوار 46 / 81 ح 6.

الصفحة 159 

سادته سادة، والجنة لا تدخل إلا بالصدق والصبر وإلا بالحلم والعلم وإلا بالطهارة والزهد وإلا بالعبادة والطاعة الكثيرة والأعمال الشريفة والاجتهاد والأثرة والإخلاص في النية، فدل على أن حظهما في الأعمال المرضية والمذاهب الزكية فوق كل خط.

وأما محمد بن الحنفية فقد أقره الصادر والوارد والحاضر والبادي أنه كان واحد دهره ورجل عصره وكان أتم الناس تماما وكمالا.

وأما: علي بن الحسين (عليه السلام) فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لا يتمرى أحد في تدبيره ولا يشك أحد في تقديمه، وكان أهل الحجاز يقولون لم نر ثلاثة في دهر يرجعون إلى أب قريب كلهم يسمى عليا وكلهم يصلح للخلافة لتكامل خصال الخير فيهم، يعنون علي بن الحسين ابن علي (عليهما السلام) وعلي بن عبد الله بن جعفر وعلي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، ولو عزونا لكتابنا هذا ترتبهم لذكرنا رجال أولاد علي لصلبه وولد الحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلا أنا ذكرنا جملة من القول فيهم فاقتصرنا من الكثير على القليل.

وأما: النجدة فقد علم أصحاب الأخبار وحمالوا الآثار أنهم لم يسمعوا بمثل نجدة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحمزة (رضي الله عنه) ولا يصير جعفر الطيار رضوان الله عليه، وليس في الأرض قوم أثبت جنانا ولا أكثر مقتولا تحت ظلال السيوف ولا أجدر أن يقاتلوا، وقد فرت الأخيار وذهبت الصنائع وخام ذو البصيرة وجاد أهل النجدة من رجالات بني هشام وهم كما قيل:

 

وخام الكمي وطاح اللوى        ولا تأكل الحرب إلا سمينا

 

وكذلك قال دغفل(1) حين وصفهم: أنجاد أمجاد ذوو ألسنة حداد.

وكذلك قال علي (عليه السلام) حين سئل عن بني هاشم وبني أمية: نحن أنجد وأمجد وأجود، وهم أنكر وأمكر وأغدر.

وقال أيضا: نحن أطعم للطعام وأضرب للهام، وقد عرفت جفاء المكيين وطيش المدنيين وأعراق بني هشام مكية ومناسبهم مدنية، ثم ليس في الأرض أظهر أخلاقا ولا أطهر بشرا ولا أدوم دماثة ولا ألين عريكة ولا أطيب عشيرة ولا أبعد من كبر منهم، والحدة لا يكاد يعدمها الحجازي والتهامي إلا أن حليمهم لا يشق غباره، وذلك في الخاص والجمهور على خلاف ذلك حتى تصير إلى بني هاشم، فالحلم في جمهورهم وذلك يوجد في الناس كافة، ولكنا نضمن أنهم أتم الناس

____________

(1) هو دغفل بن حنظلة النسابة أحد بني شيبان.

الصفحة 160 

فضلا وأقلهم نقصا، وحسن الخلق في البخيل أسرع وفي الذليل أوجد وفيهم مع فرط جودهم وظهور عزهم من البشر الحسن والاحتمال وكرم التفاضل ما لا يوجد مع البخيل الموسر والذليل المكثر اللذين يجعلان البشر وقاية دون المال، وليس في الأرض خصلة تدعو إلى الطغيان والتهاون بالأمور وتفسد العقول وتورث السكر إلا وهي تعتريهم وتعرض لهم دون غيرهم، إذ قد جمعوا مع الشرف العالي والمغرس الكريم والعز والمنعة مع إبقاء البأس عليهم والهيئة لهم وهم في كل أوقاتهم وجميع أعصارهم فوق من هم على مثل ميلادهم في الهيئة الحسنة والمروءة الظاهرة والأخلاق المرضية، وقد عرف الحدث العزيز من فتيانهم وذوي الغرامة من شبانهم أنه إن افترى لم يفتر عليه وإن ضرب لم يضرب، ثم لا تجده إلا قوي القلب بعيد الهمة كثير المعرفة مع خفة ذات اليد وتعذر الأمور، ثم لا تجد عند أفسدهم شيئا من المنكر إلا رأيت في غيره من الناس أكثر منه من مشايخ القبائل وجمهور العشائر، وإذا كان فاضلهم فوق كل فاضل وناقصهم أنقص نقصانا من كل ناقص فأي دليل أدل وأي برهان أوضح مما قلناه؟

وقد علمت أن الرجل فيهم ينعت بالتعظيم والرواية في دخول الجنة بغير حساب ويتأول القرآن له ويزداد في طمعه في كل حيلة وينقص من خوفه ويحتج له بأن النار لا تمسه وأنه ليشفع في مثل ربيعة ومضر وأنت تجد لهم مع ذلك العدد الكثير من الصوام والمصلين والتالين الذين لا يجاريهم أحد ولا يقاربهم، كان أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب يصلي في كل ليلة ألف ركعة وكذا علي ابن الحسين بن علي وعلي بن عبد الله بن جعفر وعلي بن عبد الله بن العباس (عليهم السلام) مع العلم والحلم وكظم الغيظ والصفح الجميل والاجتهاد المبرز، فلو أن خصلة من الخصال أو داعية من هذه الدواعي عرضت لغيرهم لهلك وأهلك، واعلم أنهم لم يمتحنوا بهذه المحن ولم يتحملوا هذه البلوى إلا لما قدموا من العزائم التامة والأدوات الممكنة ولم يكن الله ليزيدهم في المحنة إلا وهم يزدادون على شدة المحن خبرا وعلى التكشف تهذيبا.

وجملة أخرى مما لعلي بن أبي طالب خاصة الأب أبو طالب بن عبد المطلب والجد عبد المطلب بن هاشم والأم فاطمة بنت أسد بن هاشم، والزوجة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد النساء أهل الجنة والولد الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة والأخ جعفر الطيار في الجنة، والعم العباس وحمزة سيد الشهداء في الجنة، والعمة صفية بنت عبد المطلب وابن العم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأول هاشمي من هاشميين، كان في الأرض ولد أبي طالب والأعمال التي يستحق بها الخير أربعة:

التقدم في الإسلام، والذب عن رسول الله وعن الدين، والفقه في الحلال والحرام، والزهد في

الصفحة 161 

الدنيا، وهي مجتمعة في علي بن أبي طالب متفرقة في الصحابة، وفي علي يقول أسد بن رقيم يحرض عليه قريشا وإنه قد بلغ منه على حداثة سنه ما لم يبلغه ذوو الأسنان:

 

في كل مجمع غاية أخزاكم      جذع أبر علي المذاكي القرح

لله دركم ألما تنكروا     قد ينكر الضيم الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم      ذبحا ويمشي آمنا لم يجرح

أين الكهول وأين كل دعامة     للمعضلات وأين زين الأبطح

أفناهم ضربا بكل مهند  صلت وحد غزاره لم يصفح

 

وأما الجود: فليس على ظهر الأرض جواد جاهلي ولا إسلامي ولا عربي ولا عجمي إلا وجوده يكاد يصير بخلا إذا ذكر جود علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العباس المذكورون بالجود منهم لكن اقتصرنا، ثم ليس في الأرض قوم أنطق خطيبا ولا أكثر بليغا من غير تكلف ولا تكسب من بني هاشم وقال أبو سفيان بن الحرث:

 

لقد علمت قريش غير فخر     بأنا نحن أجودهم حصانا

وأكثرهم دروعا سابغات          وأمضاهم إذا طعنوا سنانا

وأدفعهم عن الضراء فيهم        وأبينهم إذا نطقوا لسانا(1)

 

ومما يضم إلى جملة القول في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه أطاع الله قبلهم ومعهم وبعدهم وامتحن بما لم يمتحن به ذو عزم وابتلي بما لم يبتل به ذو صبر، وأما جملة القول في ولد علي فإن الناس لا يعظمون أحدا من الناس إلا بعد أن يصيبوا منهم وينالوا من فضلهم، وإلا بعد أن تظهر قدرتهم، وهم معظمون قبل الاختبار وهم بذلك واثقون وبه أنه لهم موقنون، فلولا أن هناك سرا كريما وخيما عجيبا وفضلا مبينا وعرقا ناميا لاكتفوا بذلك التعظيم ولم يعانوا تلك التكاليف الشداد والمحن الغلاظ، فأما المنطق والخطب فقد علم الناس كيف كان علي بن أبي طالب عند التفكير والتحبير وعند الارتجال والبدئة وعند الإطناب والإيجاز في وقتيها، وكيف كان كلامه قاعدا وقائما وفي الجماعات ومنفردا، مع الخبرة بالأحكام والعلم بالحلال والحرام، وكيف كان عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) الذي كان يقال له: الحبر والبحر، ومثل عمر بن الخطاب يقول له: غص يا غواص، وشنشنة أعرفها من أخزم، قلب عقول ولسان قؤول، ولو لم يكن لجماعتهم إلا لسان زيد بن علي بن الحسين وعبد الله بن معاوية بن جعفر لقرعوا بهما جميع البلغاء وعلوا بها على جميع الخطباء،

____________

(1) في المصدر: وأثبتهم إذا نطقوا جنانا.

الصفحة 162 

وكذلك قالوا: أجواد أمجاد وألسنة حداد.

ولقد ألقيت إليك جملة من ذكر آل الرسول يستدل بالقليل منها على الكثير، وبالبعض على الكل، والبغية في ذكرهم أنك متى عرفت منازلهم ومنازل طاعاتهم ومراتب أعمالهم وأقدار أفعالهم وشدة محنتهم أضفت ذلك إلى حق القرابة كان أدنى ما يجب علينا وعليك الاحتجاج لهم، وجعلت بدل التوقف في أمرهم الرد على من أضاف إليهم ما لا يليق بهم، وقد تقدم من قولنا فيهم متفرقا ومجملا ما أغنى عن الاستقصاء في هذا الكتاب. تمت الرسالة وهي بخط عبد الله بن الحسن الطبري(1).

قال: علي بن عيسى عقيب ذكره هاتين الرسالتين: أقول: إن أبا عثمان من رجال الإسلام وأفراد الزمان في الفضل والعلم وصحة الذهن وحسن الفهم والاطلاع على حقائق العلوم والمعرفة بكل جليل ودقيق، ولم يكن شيعيا فيتهم، وكان عثمانيا مروانيا وله في ذلك كتب مصنفة، وقد شهد في هاتين الرسالتين من فضل بني هاشم وتقديمهم وفضل علي (عليه السلام) وتقديمه بما لا شك فيه ولا شبهة وهو أشهر من فلق الصباح، وهذا إن كان مذهبه فذاك وليس بمذهبه وإلا فقد أنطقه الله تعالى بالحق وأجرى لسانه بالصدق، وقال ما يكون حجة عليه في الدنيا والآخرة، ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصمه في محشره، فإن الله عند لسان كل قائل فلينظر قائل ما يقول.

وأصعب الأمور وأشقها أن يذكر الإنسان شيئا يستحق به الجنة ثم يكون ذلك موجبا لدخوله النار ونعوذ بالله:

 

أحرم منكم بما أقول وقد        نال به العاشقون من عشقوا

صرت كأني ذبالة نصبت         تضئ للناس وهي تحترق

 

انتهى كلامه علي بن عيسى(2).

وقال الشيخ الإمام السعيد العلامة ابن الرؤساء أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي في كلام أعلام الورى بعد أن ذكر أحاديث كثيرة مسندة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الأئمة بعدي اثنا عشر هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وولده الأحد عشر الذين آخرهم القائم، ولما كانت الروايات والأحاديث بذلك من طريق العامة قال أبو علي الطبرسي عقيب ذكره هذه الأحاديث: هذا بعض ما جاء من الأخبار من طريق المخالفين ورواياتهم في النص على عدد الأئمة

____________

(1) كشف الغمة 1 / 29 - 37، طبعة دار الأضواء / بيروت.

(2) كشف الغمة 1 / 41.

الصفحة 163 

الاثني عشر (عليهم السلام) وإذا كانت الفرقة المخالفة قد نقلت ذلك كما نقلته الشيعة الإمامية، ولم تنكر ما تضمنه الخبر فهو أدل دليل على أن الله تعالى هو الذي سخرهم لروايته إقامة لحجته وإعلاء لكلمته، وما هذا الأمر إلا كالخارق للعادة والخارج عن الأمور المعتادة، ولا يقدر عليه إلا الله تعالى الذي يذلل الصعب ويقلب القلب ويسهل العسير وهو على كل شئ قدير(1). انتهى كلام أبي علي الطبرسي، ذكره في الكتاب المشار إليه.

وعلى هذا انقطع الكلام ونشكر الملك العلام قائلين: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا، وكان الفراغ من تصنيف هذا الكتاب الجليل الموسوم بغاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام على يد مصنفه السيد الجليل النبيل السيد هاشم بن السيد سليمان بن السيد إسماعيل بن السيد عبد الجواد البحراني باليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان للسنة الثالثة والمائة والألف وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا، وفرغ من كتابته المحتاج إلى ربه الغني أقل السادات وأقدم الطلاب ابن محمد الرضوي محمد علي الخوانساري في يوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من السنة الواحدة والسبعين والمائتين بعد الألف، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

 

*  *  *

 

____________

(1) أعلام الورى 2 / 165.