خلق أفعال العباد

الصفحة 42   

فصل: في أفعال العباد

قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يزل عالما بمقاديرها(1) (2).

قال الشيخ أبو عبد الله - رحمه الله -:(3) الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أن أفعال العباد(4) غير مخلوقة لله تعالى، والذي ذكره أبو جعفر - رحمه الله - قد جاء به حديث غير معمول به ولا مرضي الاسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشئ هو خلق له، ولو كان ذلك كما قال

____________

(1) الاعتقادات ص 29.

(2) عنه في البحار 5: 19 / 29. وراجع معاني الأخبار 396، بحار الأنوار 5:

30 الحديث 37 و 38.

(3) تبع الشيخان الجليلان جمهور المتكلمين في إفراد بحث الجبر عن بحث خلق الأفعال، وعن مبحث الهدى والضلال، مع أن الجميع فروع من نظرية الجبر ومن فاز بحل مشاكل هذه الأخيرة فاز بالنجاة من صعوبات البقية. ش.

(4) إن لهذا البحث وبيان المقصود منه تقريرا من وجهين: كلامي، ونفسي، أما النفسي - وهو المقصود لدى الفلاسفة وعلماء التربية - فهو أن الإنسان في أفعاله - وفي مقدمتها الطلب والإرادة - هل هو حر مختار ومستقل في إيجاد أفعاله؟ أو هو مجبور باقتضاء العوامل الأخرى المتصرفة فيه من الداخل والخارج؟ فإن اختلاف التربية والتهذيب يؤثران بالحس والتجربة على الإنسان في اختلاف إرادته ومطالبه وتكييف أحواله وإصدار أعماله، وهذا البحث يختلف عن المبحث الكلامي الآتي ذكره اختلافا واضحا وإن خفي على الجمهور.

وأما البحث الكلامي - وهو المبحوث عنه لدى علماء الكلام وزعماء الطوائف الإسلامية، ولا يزالون مختلفين فيه - فهو أن الإنسان - وإن بلغ رشده وأشده وخوطب بالتكاليف الإلهية - هل هو مختار في أفعاله، حر في إرادته، مستقل في الطلب؟ أو أن الله تعالى هو الخالق في الحقيقة لجميع ما يصدر من الإنسان في الظاهر، وهو كآلة صماء في أداء ما يجري على يديه من أفعال خالقه، فعلى هذا يكون الإنسان فاعلا بالمجاز في كل ما ينسب إليه من أفعاله مباشرة، وإنما يكون المنسوب إليه حقيقة هو الله تعالى وحده، وهذا الوجه يشترك مع الوجه السابق عليه في سلب اختيار العبد واضطراره في أفعاله طرا، وهما بناء عليه يستلزمان الجبر معا، ويسمى البحث الكلامي بحث الجبر الديني، كما يسمى البحث النفسي بحث الجبر التكويني، والفرق بينهما يبدو من وجوه أهما أن المنسوب إليه في الجبر الديني إنما هو الله وحده، وهو الذي أمر بالحسنات ويثيب بحسبها، وهو الذي نهى عن السيئات ويعاقب عليها، وفي صورة كهذه يصعب جدا تصور الإيمان بعدالة من أجرى على يديك السيئات وهو في نفس الوقت مؤاخذك بها ومعاقبك عليها، نعم إن الجبر التكويني يقضي أيضا باضطرار العبد فيما يأتيه، غير أنه يجعل مصادر الحسنات والسيئات غير مصدر الثواب والعقاب. ش.

الصفحة 43   

المخالفون للحق(1) لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلقه، ومن علم السماء والأرض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئا من صنع الله تعالى وقرره في نفسه لوجب أن يكون خالقا له، وهذا محال لا يذهب وجه الخطأ فيه على بعض رعية الأئمة - عليهم السلام - فضلا عنهم.

فأما التقدير فهو الخلق في اللغة، لأن التقدير لا يكون إلا بالفعل، فأما بالعلم فلا يكون تقديرا ولا يكون أيضا بالفكر، والله تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال(2).

وقد روي عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا - صلوات

____________

(1) بحار الأنوار 5: 20.

(2) بحار الأنوار 5: 20.

الصفحة 44   

الله عليهم -: أنه سئل عن أفعال العباد، فقيل له: [ هل هي ](1) مخلوقة لله تعالى؟ فقال - عليه السلام -: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها.

وقد قال سبحانه: (أن الله برئ من المشركين ورسوله)(2) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم(3).

وسأل أبو حنيفة أبا الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - عن أفعال العباد ممن هي؟ فقال له أبو الحسن - عليه السلام -: إن [ أفعال العباد ](4) لا تخلو من ثلاثة منازل: إما أن تكون من الله تعالى خاصة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصة، فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أول بالحمد على حسنها والذم على قبحها، ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها، ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معا فيها والذم عليهما جميعا فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنها من الخلق، فإن عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

وفي أمثال ما ذكرناه من الأخبار ومعانيها ما يطول به الكلام.

فصل:

 

وكتاب الله تعالى مقدم على الأحاديث(5) والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحق دون ما سواه.

____________

(1) ( أ ) (ح) (ق) (ش): أهي.

(2) التوبة: 3.

(3) بحار الأنوار 5: 20.

(4) (ق): الأفعال.

(5) (ز): الأخبار.

الصفحة 45   

قال الله تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)(1) فخبر بأن كل شئ خلقه فهو حسن غير قبيح، فلو كانت القبائح من خلقه لنافى ذلك حكمه بحسنها، وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنه خلق قبيحا(2).

وقال تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)(3) فنفى التفاوت عن خلقه(4)، وقد ثبت أن الكفر والكذب متفاوت في نفسه، والمتضاد(5) من الكلام متفاوت! فكيف يجوز أن يطلقوا على الله تعالى أنه خالق لأفعال العباد وفي أفعالهم من التفاوت والتضاد(6) ما ذكرناه مع قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) فنفى ذلك ورد على مضيفه(7) إليه وأكذبه فيه.

____________

(1) السجدة: 7.

(2) ليس هذا الكلام وحده ولا هذه الآية وحدها شاهد الفئة العدلية وشيخها الشارح - طاب ثراه - عند إبطاله لنظرية الجبر وتصحيحه لإسناد أفعال العباد إلى أنفسهم، إذ كل آية نزهت ربنا سبحانه عن الشرور وخلق الآثام تؤيده، وكذلك الدلائل التي قضت بأن الشرور أمور سلبية غير ثابتة في متن الأعيان ولا مبدأ لها ولا علة تقوي أيضا كلام الشيخ - طاب ثراه - وكذلك القياسات التي أقامها علماء اللاهوت بغرض إثبات أن المبدأ الأول (واجب الوجود) مصدر كل خير وجود، ولا ولن يرى شر ما من ناحيته القدسية. ش.

(3) الملك: 3.

(4) يجوز أن يكون الخلق هنا مصدرا مرادفا للإيجاد لا اسم مصدر مرادفا للموجود، كما ذكر في المتن، فيكون المراد - والله أعلم - أنه سبحانه لا يتفاوت عليه خلق الأشياء صغيرها من كبيرها، أو حقيرها من خطيرها، أو قليلها من كثيرها، ولا يلزم من العدول عن تفسير الشيخ - قدس سره - وهن ما في أصل رأيه. ش.

(5) (ق) (ش): والتضاد.

(6) ليست في بقية النسخ.

(7) (ق): من يضيفه.

الصفحة 46   

فصل: في الفرق بين الجبر والتفويض

 

قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله -(1): لا جبر ولا تفويض(2)، بل(3) أمر بين أمرين(4).

وروى في ذلك حديثا مرسلا قال: فقيل: وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية.

قال الشيخ المفيد - عليه الرحمة -: الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقهر(5) والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق(6) من غير أن يكون لهم(7) قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه، وقد يعبر عما يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الاكراه له على التخويف والالجاء أنه جبر والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه، لأنهم يزعمون [ كان

____________

(1) الاعتقادات ص 29.

(2) الكافي 1: 160 / 13، التوحيد: 362 / 8، وعنه في البحار 5: 17 / 28.

(3) (ح): ولكن.

(4) ( أ ) (ش): الأمرين.

(5) في بعض النسخ: بالقسر.

(6) (ش) (ق): الحي.

(7) (ش) (ق): له.

الصفحة 47   

مذهب الجبر هو قول من يزعم ](1) أن الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والامتناع منها، وخلق فيه المعصية كذلك، فهم المجبرة حقا [ والجبر مذهبهم على ](2) التحقيق(3).

والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين أن الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم، وحد لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم [ ونهاهم عن ](4) القبائح بالزجر والتخويف، والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها. فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض على ما بيناه.

____________

(1) ليست موجودة في بقية النسخ، وإنما هي من المطبوعة.

(2) في بعض النسخ: والجبرية مذهبهم في.

(3) انظر (الدلائل والمسائل - ص 62 - 63 ج 1 ط بغداد) العلامة الشهرستاني.    چ.

(4) في بعض النسخ: ومنعهم من.

الصفحة 48   

فصل: في الإرادة والمشيئة

 

قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله -(1) (2) نقول: شاء الله وأراد(3) ولم يحب ولم

____________

(1) الاعتقادات ص 30.

(2) عنه في البحار 5: 90 - 91 / 1.

(3) هذا الفصل من فروع بحث الإرادة، وقد استحق من المتكلمين عناية وعنوانا مفردا على أثر الاختلاف العظيم بين العلماء وزعماء المذاهب في المشيئة الإلهية المذكورة في آيات الذكر الحكيم متعلقة بأمور غير مرضية لديه سبحانه، ثم في تأويلها بوجوه لا تخلو عن التكلف في الأكثر، وأهمها آية الأنعام:

148 (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) ثم آية الزخرف: 20 (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) وآيات كثيرة توهم تعلق إرادة الخالق بما يستقبحه المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

أما السلف الصالح من آل محمد، فلا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق في الاصرار على تنزيه الرب سبحانه وتقدسه عن كل ما هو قبيح أو شبه قبيح وشدة استنكارهم تعلق مشيئة الله أو إرادته بشرك أو ظلم أو فاحشة قط، فضلا عن فعله أو خلق فعله أو الأمر به، إذ كل ذلك عندهم خلاف حكمته وعدله وفضله، كذلك الحسيات العامة في البشر تجل ذوي العدل والفضل عن التمدح بإرادة القبائح، فكيف ترمي بها الحرم الإلهي.

أما الجواب عن الآيتين فبأن المقالة فيهما عن لسان المشركين، ومقالة المشركين من شأنها أن تورد للرد عليها لا للأخذ بها، فالآيتان إذن حجتان لأهل العدل لا عليهم، ولا سيما بعد اشتمالهما على ذم القائلين بهذه المقالة ونسبتهم إلى التخرص والجهالة. ش.

الصفحة 49   

يرض، وشاء - عز اسمه - ألا يكون شئ إلا بعلمه وأراد مثل ذلك(1).

قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: الذي ذكره الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - في هذا الباب لا يتحصل، ومعانيه تختلف وتتناقض، والسبب في ذلك أنه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة ولم يكن ممن يرى النظر فيميز بين الحق منها والباطل ويعمل على ما يوجب الحجة، ومن عول في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه(2). والحق في ذلك: أن الله تعالى لا يريد

____________

(1) الكافي 1: 151 / 5، التوحيد: 339 / 9.

(2) ذهبت أنظار العلماء مذاهب شتى في الإرادة والمشيئة المذكورتين في بعض الآيات، فمن قائل إن الإرادة أزلية وعين ذاته سبحانه ومتعلقاتها حوادث تتجدد بتجدد العلاقات الوقتية، فالمشرك بالله اليوم لم تتعلق بهدايته إرادة الله في الأزل بخلاف المؤمن الذي قد تعلقت بهدايته الإرادة الأزلية.

وقائل آخر إن الإرادات الربانية تتجدد بتجدد الكائنات والحادثات، أو أن إرادته (بالأحرى) هي الخلق ما ظهر منه وما بطن، وما قبح منه أو حسن، وثالث في القوم يرى الإرادة والمشيئة عبارتين عن الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى تركه، ولا يكون الداعي الإلهي إلا حسنا وصالحا فيريد اليسر ولا يريد العسر ويشاء الإيمان ولا يشاء الكفر، ورابع فيهم لا يرى الإرادة والمشيئة شيئا سوى العلم بالمصلحة أو العلم بالمفسدة، غاية الأمر. مصلحة خاصة ومفسدة مخصوصة، وقد فصلت أقوالهم وأدلتهم في الكتب الكلامية، وما خلافهم هذا إلا فرعا من اختلافهم في أصل الإرادة الإلهية.

وجدير بالمرء أن يقنع في هذه الورطة باعتقاد: أن الله سبحانه مريد فقط ولا يريد شيئا من السيئات والقبائح قط، دون أن يتعمق في كنه الإرادة والمشيئة، هذا ما يقتضيه العقل والعدل وتقضي به ظواهر الكتاب والسنة، فكلما صادفته آية أو رواية مخالفة لهذا الاعتقاد لجأ إلى تأويلها تأويلا مناسبا لأصول البلاغة واللغة ومتفقا مع المذهب، وخير كتاب يسكن النفس ويروي الغليل في هذا المقام كتاب (متشابه القرآن ومختلفه) للعالم الثقة محمد بن شهرآشوب السروي - روح الله روحه.

وقال العلامة الإمام حجة العلم والدين السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي - مد ظله - في رسالته النفيسة (إلى المجمع العلمي العربي بدمشق - ص 50 - 52 ط صيدا) ما نصه: وكفى في فضل ابن شهرآشوب إذعان الفحول من أعلام أهل السنة له بجلالة القدر وعلو المنزلة، وقد ترجمه الشيخ صلاح الدين الصفدي خليل بن أيبك الشافعي، فذكر أنه حفظ أكثر القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في أصول الشيعة، (قال): وكان يرحل إليه من البلاد، ثم تقدم في علم القرآن والغريب والنحو ووعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه، وقال: وكان بهي المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجد، لا يكون إلا على وضوء (قال): وأثنى عليه ابن أبي طي في تاريخه ثناءا كثيرا، توفي سنة 588.

وذكره الفيروزآبادي في محكي بلغته، وأثنى عليه بما يقرب من ثناء الصفدي، وذكر أنه عاش مائة سنة إلا عشرة أشهر.

وعن بعض أهل المعاجم في التراجم من أهل السنة أنه قال في ترجمته: وكان إمام عصره، ووحيد دهره، أحسن الجمع والتأليف، وغلب عليه علم القرآن والحديث، وهو عند الشيعة كالخطيب البغدادي لأهل السنة في تصانيفه وتعليقات الحديث ورجاله ومراسيله، ومتفقه ومتفرقه إلى غير ذلك من أنواعه، واسع العلم، كثير الفنون، مات في شعبان سنة 588 ه‍. چ.

الصفحة 50   

إلا ما حسن من الأفعال، ولا يشاء إلا الجميل من الأعمال ولا يريد القبائح ولا يشاء الفواحش، تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا.

قال الله تعالى: (وما الله يريد ظلما للعباد)(1) وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(2) وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)(3) الآية.

وقال: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا

____________

(1) المؤمن: 31.

(2) البقرة: 186.

(3) النساء: 26.

الصفحة 51   

ميلا عظيما)(1).

وقال: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)(2) فخبر سبحانه أنه لا يريد بعباده العسر، بل يريد بهم اليسر، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال، ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب إليه الضالون المفترون على الله الكذب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

فأما ما تعلقوا به من قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا)(3) فليس للمجبرة به تعلق ولا فيه حجة من قبل أن المعنى فيه أن من أراد الله تعالى أن ينعمه ويثيبه جزاء على طاعته شرح صدره للاسلام بالألطاف التي يحبوه بها، فييسر له بها استدامة أعمال الطاعات، والهداية في هذا الموضع هي النعيم(4).

قال الله تعالى فيما خبر به عن أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا)(5) الآية، أي: نعمنا به وأثابنا إياه، والضلال في هذه الآية هو العذاب قال الله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر)(6) فسمى الله تعالى العذاب ضلالا والنعيم هداية، والأصل في ذلك أن الضلال هو الهلاك والهداية هي النجاة.

____________

(1) النساء: 27.

(2) النساء: 28.

(3) الأنعام: 125.

(4) في بعض النسخ: التنعيم.

(5) الأعراف: 43.

(6) القمر: 47.

الصفحة 52   

قال الله تعالى حكاية عن العرب: (أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد)(1) يعنون إذا هلكنا فيها وكان المعنى في قوله: (فمن يرد الله أن يهديه) ما قدمناه وبيناه، (ومن يرد أن يضله) ما وصفناه، والمعنى في قوله تعالى:

(يجعل صدره ضيقا حرجا) يريد سلبه التوفيق عقوبة له على عصيانه ومنعه الألطاف جزاء له على إساءته، فشرح الصدر ثواب الطاعة بالتوفيق، وتضييقه عقاب المعصية بمنع التوفيق، وليس في هذه الآية على ما بيناه شبهة لأهل الخلاف فيما ادعوه من أن الله تعالى يضل عن الإيمان، ويصد عن الاسلام، ويريد الكفر، ويشاء الضلال.

وأما قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا)(2) فالمراد به الإخبار عن قدرته، وأنه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويحملهم عليه بالاكراه والاضطرار لكان على ذلك قادرا، لكنه شاء تعالى منهم الإيمان على الطوع والاختيار، وآخر الآية يدل على ما ذكرناه وهو قوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(3) يريد أنه قادر على إكراههم على الإيمان، لكنه لا يفعل ذلك، ولو شاء لتيسر عليه، وكل ما يتعلقون به من أمثال هذه الآية فالقول فيه ما ذكرناه أو نحوه على ما بيناه، وفرار المجبرة من إطلاق القول بأن الله تعالى يريد أن يعصى ويكفر به، ويقتل أولياؤه، ويشتم أحباؤه إلى القول بأنه يريد أن يكون ما علم كما علم، ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهيا عنها، وقوع فيما هربوا منه، وتورط فيما كرهوه، وذلك أنه إذا كان ما علم من القبيح كما علم

____________

(1) السجدة: 10.

(2) يونس: 99.

(3) يونس: 99.

الصفحة 53   

وكان تعالى مريدا لأن يكون ما علم من القبيح كما علم فقد أراد القبيح وأراد أن يكون قبيحا فما معنى فرارهم من شئ إلى نفسه وهربهم من معنى إلى عينه، فكيف يتم لهم ذلك مع أهل العقول، وهل قولهم هذا إلا كقول إنسان:

أنا أسب زيدا لكني أسب أبا عمرو، وأبو عمرو هو زيد، أو كقول اليهود إذ قالوا سخرية بأنفسهم: نحن لا نكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنا نكفر بأحمد، فهذا رعونة وجهل ممن صار إليه، وعناء وضعف عمل(1) ممن اعتمد عليه.

____________

(1) (ق): عقل.