(معرفة من شاهده في حياة أبيه (عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام

الصفحة 505 

491 / 95 - أخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى بن أحمد، قال:

حدثنا أبي (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن همام، قال: حدثني جعفر بن محمد، قال:

حدثني محمد بن جعفر، قال: حدثني أبو نعيم، قال: وجهت المفوضة (1) كامل بن إبراهيم المزني (2) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) يباحثون أمره.

قال كامل بن إبراهيم: فقلت في نفسي: أسأله عن قوله (3) لا يدخل الجنة إلا من عرف معرفتي وقال بمقالتي. فلما دخلت على سيدي أبي محمد (عليه السلام) نظرت إلى ثياب بيضاء ناعمة عليه، فقلت في نفسي: ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان، وينهانا عن لبس مثله!

فقال (عليه السلام) مبتسما: يا كامل بن إبراهيم! وحسر عن ذراعيه، فإذا مسح (4)

____________

(1) هم قوم زعموا أن الله (تعالى) فوض خلق العالم وتدبيره لرسوله وعلي والأئمة (عليهم السلام) فخلقوا هم الأرضين والسماوات. راجع المقالات والفرق: 238، الفرق بين الفرق: 251، معجم الفرق الإسلامية: 235.

(2) في الهداية والغيبة والخرائج: المدني، وفي إثبات الوصية: المدائني.

(3) (عن قوله) ليس في " ع، ط ".

(4) المسح: كساء من شعر.

الصفحة 506 

أسود خشن، فقال: يا كامل، هذا لله (عز وجل)، وهذا لكم. فخجلت وجلست إلى باب مرخى عليه ستر، فجاءت الريح فكشفت طرفه، فإذا أنا بفتى كأنه قمر، من أبناء أربع، أو مثلها، فقال: يا كامل بن إبراهيم، فاقشعررت (1) من ذلك، وألهمت أن قلت:

لبيك يا سيدي، فقال: جئت إلى ولي الله وحجة زمانه، تسأله: هل يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك، وقال بمقالتك؟

فقلت: إي والله.

قال: إذن - والله - يقل داخلها، والله إنه ليدخلها (2) قوم يقال لهم: الحقية قلت:

يا سيدي: ومن هم؟

قال: هم قوم من حبهم لعلي يحلفون بحقه ولا يدرون ما حقه وفضله.

ثم سكت ساعة عني، ثم قال: وجئت تسأله عن مقالة المفوضة، كذبوا عليهم لعنة الله، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء الله شئنا، والله (عز وجل) يقول: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * (3) ثم رجع والله الستر إلى حالته، فلم أستطع كشفه.

ثم نظر إلي أبو محمد (عليه السلام) مبتسما وهو يقول: يا كامل بن إبراهيم، ما جلوسك وقد أنبأك بحاجتك حجتي من بعدي؟! فانقبضت وخرجت، ولم أعاينه بعد ذلك.

قال أبو نعيم: فلقيت كامل بن إبراهيم، وسألته عن هذا الخبر، فحدثني به.(4)

492 / 96 - وأخبرني أبو القاسم عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزاز، قال:

حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الثعالبي قراءة في يوم الجمعة مستهل رجب سنة سبعين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي، قال: كنت امرءا لهجا بجمع (5) الكتب المشتملة على غوامض

____________

(1) في " ع، م ": فاشعرت.

(2) في " ع، م " زيادة: حتى.

(3) الإنسان 76: 30.

(4) الهداية الكبرى: 359، إثبات الوصية: 222، غيبة الطوسي: 246 / 216، الخرائج والجرائح 1: 458 / 4 كشف الغمة 2: 499، ينابيع المودة: 461.

(5) في " ع ": بجميع.

الصفحة 507 

العلوم ودقائقها، كلفا باستظهار ما يصح من حقائقها، مغرما بحفظ مشتبهها ومستغلقها، شحيحا على ما أظفر به من معاضلها ومشكلاتها، ومتعصبا لمذهب الإمامية، راغبا عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم، والتعدي إلى التباغض والتشاتم، معيبا للفرق ذوي الخلاف، كشافا عن مثالب أئمتهم، هتاكا لحجب قادتهم.

إلى أن بليت بأشد النواصب منازعة، وأطولهم مخاصمة، وأكثرهم جدالا، وأقشعهم سؤالا، وأثبتهم على الباطل قدما.

فقال ذات يوم وأنا أناظره: تبا لك - يا سعد - ولأصحابك، إنكم معشر الرافضة تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما، وتجحدون من رسول الله ولايتهما وإمامتهما، هذا الصديق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته، أما علمتم أن الرسول (عليه وآله السلام) ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلا علما منه بأن الخلافة له من بعده، وأنه هو المقلد أمر التأويل، والملقى إليه أزمة الأمة، وعليه المعول في شعب الصدع، ولم الشعث، وسد الخلل، وإقامة الحدود، وتسرية (1) الجيوش لفتح بلاد الكفر، فكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته، إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة إلى مكان يستخفي فيه، فلما رأينا النبي (صلى الله عليه وآله) متوجها إلى الانجحار (2)، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد، استبان لنا قصد رسول الله بأبي بكر إلى الغار للعلة التي شرحناها.

وإنما أبات عليا (عليه السلام) على فراشة لما لم يكن يكترث له، ولم يحفل به، لاستثقاله إياه، وعلمه بأنه إن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه، للخطوب التي كان يصلح لها.

قال سعد: فأوردت عليه أجوبة شتى، فما زال يقصد كل واحد منها بالنقض والرد علي.

ثم قال: يا سعد، دونكها أخرى بمثلها تحطم آناف الروافض، ألستم تزعمون

____________

(1) في " ع ": وتسريته.

(2) أي الاستتار.

 

 

الصفحة 508 

أن الصديق المبرأ من دنس الشكوك (1)، والفاروق المحامي عن بيضة الاسلام، كانا يسران (2) النفاق، واستدللتم بليلة العقبة، أخبرني عن الصديق والفاروق، أسلما طوعا أو كرها؟

قال سعد: فأحتلت لدفع هذه (3) المسألة عني خوفا من الإلزام، وحذرا من أني إن أقررت له بطواعيتهما (4) في الاسلام احتج بأن بدء النفاق ونشوءه في القلب لا يكون إلا عند هبوب روائح القهر والغلبة، وإظهار اليأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد له قلبه، نحو قول الله (عز وجل): * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (5).

وإن قلت: أسلما كرها، كان يقصدني (6) بالطعن، إذ لم يكن ثمة سيوف منتضاة كانت تريهما البأس.

قال سعد: فصدرت عنه مزورا (7) قد انتفخت أحشائي من الغضب، وتقطع كبدي من الكرب، وكنت قد اتخذت طومارا (8)، وأثبت فيه نيفا وأربعين مسألة من صعاب المسائل التي لم أجد لها مجيبا، على أن أسأل عنها خير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمد (عليه السلام)، فارتحلت خلفه، وقد كان خرج قاصدا نحو مولاي بسر من رأى، فلحقته في بعض المناهل، فلما تصافحنا قال: لخير لحاقك بي.

قلت: الشوق، ثم العادة في الأسئلة (9).

____________

(1) في " م، ط ": الشرك.

(2) في " ع، م ": يستران.

(3) (هذه) ليس في " ع، م ".

(4) في " ط ": بطوعهما، وفي " م ": طوعيتهما.

(5) غافر 40: 84 و 85.

(6) في " ع ": كرها تقصدني.

(7) في " ع، م ": عنه من وراء، الازورار عن الشئ: العدول عنه.

(8) أي صحيفة.

(9) في " ع، م ": الاسولة.

الصفحة 509 

قال: قد تكافأنا على (1) هذه الخطة الواحدة، فقد برح بي الشوق إلى لقاء مولانا أبي محمد (عليه السلام)، وأريد أن أسأله عن معاضل في التأويل (2) ومشاكل من التنزيل، فدونكها الصحبة المباركة، فإنها تقف بك على ضفة بحر لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، وهو إمامنا.

فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيدنا (عليه السلام)، فاستأذنا فخرج إلينا الإذن بالدخول عليه، وكان على عاتق أحمد بن إسحاق جراب قد غطاه بكساء طبري، فيه ستون ومائة صرد من الدنانير والدراهم، على كل صرة ختم (3) صاحبها.

قال سعد: فما شبهت مولانا أبا محمد (عليه السلام) حين غشينا نور وجهه إلا ببدر قد استوفى من لياليه أربعا بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري (4) في الخلقة والمنظر، على رأسه فرق بين وفرتين، كأنه ألف بين واوين، وبين يدي مولانا (عليه السلام) رمانة ذهبية (5) تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصرة، وبيده قلم، إذا أراد أن يسطر به على البياض قبض الغلام على أصابعه، وكان مولانا (عليه السلام) يدحرج الرمانة بين يديه، ويشغله (6) بردها لئلا يصده عن كتبة (7)، ما أراد (8) فسلمنا عليه، فألطف في

____________

(1) في " ع، م ": عن.

(2) في " ع، م ": التوحيد.

(3) في " ع، م ": اسم.

(4) المشتري: من أكبر الكواكب السيارة.

(5) في " م " ذهب.

(6) في " ع، م ": يغفله.

(7) في " ط ": كتب.

(8) فيه غرابة من حيث قبض الغلام (عليه السلام) على أصابع أبيه أبي محمد (عليه السلام) وهكذا وجود رمانة من ذهب يلعب بها لئلا يصده عن الكتابة، وقد روى في الكافي 1: 248 / 15 عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: إن صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن موسى - وهو صغير - ومعه عناق مكية وهو يقول لها: اسجدي لربك، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمه إليه وقال: بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب.

الصفحة 510 

الجواب، وأومأ إلينا بالجلوس، فلما فرغ من كتبة البياض الذي كان بيده، أخرج أحمد ابن إسحاق جرابه من طي كسائه، فوضعه بين يدي مولانا فنظر أبو محمد (عليه السلام) إلى الغلام وقال: يا بني، فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك.

فقال: يا مولاي، أيجوز لي أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نجسة، وأموال رجسة قد شيب أحلها بأحرمها؟!

فقال مولانا (عليه السلام): يا بن إسحاق، استخرج ما في الجراب ليميز بين الأحل منها والأحرم. فأول صرة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام: هذه لفلان بن فلان، من محلة كذا بقم، تشتمل على اثنين وستين دينارا، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثا له من أبيه خمسة وأربعون دينارا، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر دينارا، وفيها من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.

فقال: مولانا (عليه السلام): صدقت يا بني، دل الرجل على الحرام منها.

فقال (عليه السلام): فتش عن دينار رازي السكة، تاريخه سنة كذا، قد انطمس من إحدى صفحتيه نصف نقشة (1)، وقراضة أصلية وزنها ربع دينار، والعلة في تحريمها أن صاحب هذه الجملة وزن في شهر كذا من سنة كذا على حائك من جيرانه من الغزل منا وربع، فأنت على ذلك مدة، وفي انتهائها قيض لذلك الغزل سارق، فأخبر (2) الحائك صاحبه فكذبه، واسترد منه بدل ذلك منا ونصف غزلا أدق مما كان قد (3) دفعه إليه، واتخذ من ذلك ثوبا، كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه. فلما فتح الصرة صادف في وسط الدنانير رقعة باسم من أخبر عنه، وبمقدارها على حسب ما قال (عليه السلام)، واستخرج الدينار والقراضة بتلك العلامة.

ثم أخرج صرة أخرى، فقال الغلام (عليه السلام): هذه لفلان بن فلان، من محلة كذا بقم، تشتمل على خمسين دينارا، لا يحل لنا مسها (4).

____________

(1) في " ع، م " صفحتيه فقر.

(2) في " ط " زيادة: به.

(3) (قد) ليس في " ع، م ".

(4) في " ط ": لمسها.

الصفحة 511 

قال: وكيف ذلك؟

قال (عليه السلام): لأنها من ثمن حنطة حاف (1) صاحبها على أكاره في المقاسمة، وذلك أنه قبض حصته منها بكيل واف، وكال ما خص الأكار منها بكيل بخس.

فقال مولانا (عليه السلام): صدقت يا بني.

ثم قال: يا بن إسحاق، احملها بأجمعها لتردها، أو توصي بردها (2) على أربابها، فلا حاجة لنا في شئ منها، ائتنا بثوب العجوز. قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته.

فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إلي مولانا أبو محمد (عليه السلام) فقال: ما جاء بك يا سعد؟

فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.

فقال: والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟

قلت: على حالتها يا مولاي.

فقال: سل قرة عيني - وأومأ إلى الغلام - عما بدا لك منها.

فقلت: مولانا وابن مولانا، إنا روينا عنكم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة: " إنك قد أرهجت (3) على الاسلام وأهله بفتنتك (4)، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك، فإن كففت عني غربك (5) وإلا طلقتك ". ونساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان طلاقهن بوفاته (6).

قال (عليه السلام): ما الطلاق؟

____________

(1) أي جار وظلم.

(2) (أو توصي بردها) ليس في " ع، م ".

(3) الرهج: الشغب والفتنة، وأرهج: أثار الغبار.

(4) في " ع ": بفئتك.

(5) أي حدتك " النهاية 3: 350 ".

(6) في " ع، م ": طلقهن وفاته.

الصفحة 512 

قلت: تخلية السبيل.

قال: فإذا كان وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خلى سبيلهن، فلم لا يحل لهن الأزواج؟

قلت: لأن الله (عز وجل) حرم الأزواج (1) عليهن.

قال: كيف وقد خلى الموت سبيلهن؟

قلت فأخبرني يا بن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكمه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).

قال: إن الله (تقدس اسمه): عظم شأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، فخصهن بشرف الأمهات، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا أبا الحسن، إن هذا الشرف باق لهن ما دمن لله على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك، فأطلق لها في الأزواج، وأسقطها من شرف الأمهات ومن شرف أمومة المؤمنين ".

قلت: فأخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة بها في أيام عدتها حل للزوج أن يخرجها من بيته.

قال: السحق دون الزنا، وإن المرأة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، ليس لمن أرادها أن يمتنع (2) بعد ذلك من التزوج بها لأجل الحد (3)، وإذا سحقت وجب عليها الرجم، والرجم خزي، ومن قد أمر الله برجمه فقد أخزاه، ومن أخزاه فقد أبعده، ومن أبعده فليس لأحد أن يقربه.

قلت: فأخبرني يا بن رسول الله، عن أمر الله لنبيه موسى (عليه السلام) * (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * (4) فإن فقهاء الفريقين يزعمون أنها كانت من إهاب (5) الميتة.

____________

(1) (الأزواج) ليس في " ع، م ".

(2) في " ع، م ": أراد أن يمنع.

(3) في " ع، م ": الحدود.

(4) طه 20: 12.

(5) الإهاب: الجلد.

الصفحة 513 

فقال (عليه السلام): من قال ذلك فقد أفترى على موسى (عليه السلام) واستجهله في نبوته، لأنه ما خلا الأمر فيها من خصلتين: إما أن تكون صلاة موسى (عليه السلام) فيها جائزة أو غير جائزة، فإن كانت صلاة موسى (عليه السلام) جائزة جاز لموسى (عليه السلام) أن يكون لابسهما في البقعة، إذ لم تكن مقدسة، وإن كانت مقدسة مطهرة فليست بأطهر وأقدس من الصلاة.

وإن كانت صلاته غير جائزة فيهما فقد أوجب أن موسى (عليه السلام) لم يعرف الحلال من (1) الحرام، وعلم ما جاز فيه الصلاة وما لا يجوز، وهذا كفر.

قلت: فأخبرني يا بن مولاي، عن التأويل فيها.

قال: إن موسى (عليه السلام) ناجى ربه بالوادي المقدس، فقال: " يا رب، إني قد أخلصت لك المحبة مني، وغسلت قلبي عمن سواك " وكان شديد الحب لأهله، فقال الله (تعالى): * (فاخلع نعليك) * أي (2) انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة، وقلبك من الميل إلى سواي مغسولا.

قلت: فأخبرني - يا بن رسول الله - عن تأويل * (كهيعص) * (3).

قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، اطلع الله عليها عبده زكريا (عليه السلام)، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن زكريا (عليه السلام) سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلمه إياها، فكان زكريا (عليه السلام) إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سري عنه همه، وانجلى كربه، فإذا ذكر اسم الحسين (عليه السلام) خنقته العبرة، ووقعت عليه الهموم، فقال ذات يوم: " إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني، وتثور زفرتي؟ " فأنبأه الله عن قصته، فقال: * (كهيعص) * فالكاف: اسم كربلاء، والهاء: هلاك

____________

(1) في " ط ": و.

(2) في " ع، م ": و.

(3) مريم 19: 1.

الصفحة 514 

العترة، والياء: يزيد (لعنه الله)، وهو ظالم الحسين (عليه السلام)، والعين: عطشه، والصاد: صبره.

فلما سمع بذلك زكريا (عليه السلام) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانب ندبته (1): " إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما (2).

ثم كان يقول: " إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، واجعله وارثا رضيا، يوازي محله مني محل الحسين، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم أفجعني به، كما تفجع محمدا حبيبك بولده " فرزقه الله (تعالى) يحيى (عليه السلام)، وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر، وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك، وله قصة طويلة.

قلت: فأخبرني يا مولاي، عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم.

قال: مصلح، أو مفسد؟

قلت: مصلح.

قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على الفساد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟

قلت: بلى.

قال: فهي العلة أوردها لك ببرهان ينقاد له (3) عقلك:

أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله (تعالى)، وأنزل عليهم علمه، وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم، وأهدى إلى الاختيار منهم، مثل موسى وعيسى (عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما، وكمال علمهما، إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق، وهما يظنان أنه مؤمن؟

قلت: لا.

____________

(1) في " ع، م ": أنته.

(2) في " ط ": بساحتها.

(3) في " ط ": ينقاد بذلك.

الصفحة 515 

قال (عليه السلام): فهذا موسى كليم الله، مع وفور عقله، وكمال علمه، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا، ممن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال الله (عز وجل): * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * (1). وقوله * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) * (2).

فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله (تعالى) لنبوته، واقعا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور، وتكن الضمائر، وتنصرف عليه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد، لما أرادوا أهل الصلاح.

ثم قال مولانا (عليه السلام): يا سعد، حين ادعى خصمك " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمة إلى الغار إلا علما منه أن الخلافة له من بعده، وأنه هو المقلد أمور التأويل، والملقى إليه أزمة الأمور، وعليه المعول في لم الشعث، وسد الخلل، وإقامة الحدود، وتسيير الجيوش (3) لفتح بلاد الكفر،، فكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته، إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه، وإنما أبات عليا (عليه السلام) على فراشه لما لم يكن يكترث له ولم يحفل به، لاستثقاله إياه، وعلمه بأنه إن قتل لن يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها ".

فهلا نقضت دعواه بقولك: أليس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم، فكان لا يجد بدا من قوله: بلى.

فكنت تقول له حينئذ: أليس كما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الخلافة من

____________

(1) الأعراف 7: 155.

(2) البقرة 2: 55.

(3) في " ط " تسريب الجيوش، أي بعثها وتسييرها قطعة قطعة.

الصفحة 516 

بعده لأبي بكر، علم أنها من بعد أبي بكر لعمر، ومن بعده لعثمان، ومن بعد عثمان لعلي، فكان أيضا لا يجد بدا من قوله: نعم. ثم كنت تقول له: فكان الواجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخرجهم جميعا على الترتيب إلى الغار، ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر، ولا يستخف بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إياهم، وتخصيصه أبا بكر بإخراجه مع نفسه دونهم.

فلما قال: " أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعا، أو كرها؟ " لم لم تقل:

بل أسلما طمعا؟ وذلك أنهما كانا يجالسان اليهود، ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوراة، وفي سائر الكتب المتقدمة، الناطقة بالملاحم من حال إلى حال، من قصة محمد (صلى الله عليه وآله)، ومن عواقب أمره، وكانت اليهود تذكر أن لمحمد (صلى الله عليه وآله) تسلطا على العرب، كما كان لبخت نصر على بني إسرائيل، غير أنه كاذب في دعواه أنه نبي.

فأتيا محمدا (صلى الله عليه وآله) فساعداه على قول شهادة أن لا إله إلا الله، وتابعاه طمعا في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولاية بلد، إذا استقامت أموره، واستتبت أحواله. فلما أيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين، على أن يقتلوه، فدفع الله كيدهم، وردهم بغيظهم، لم ينالوا خيرا.

كما أتى طلحة والزبير عليا (عليه السلام) فبايعاه، وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع الله كل واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين.

قال سعد: ثم قام مولانا أبو محمد الحسن بن علي الهادي (عليه السلام) للصلاة مع الغلام، فانصرفت عنهما، وطلبت أحمد بن إسحاق، فاستقبلني باكيا، فقلت: ما أبطأك وأبكاك؟

فقال: قد فقدت الثوب الذي أرسلني مولاي لإحضاره.

قلت: لا عليك، فأخبره. فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما، وهو يصلي على محمد وآل محمد، فقلت: ما الخبر؟

قال: وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا (عليه السلام)، يصلي عليه.

الصفحة 517 

قال سعد: فحمدنا الله (عز وجل) على ذلك، وجعلنا نختلف إلى مولانا أياما فلا نرى الغلام (عليه السلام) بين يديه (1)، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.

 

*  *  *

 

____________

(1) كمال الدين وتمام النعمة: 454 / 21، الخرائج والجرائح 1: 481 / 22 نحوه، الاحتجاج 2: 461، وقطعة منه في الثاقب في المناقب: 585 / 534، وتأويل الآيات 1: 299 / 1، ومدينة المعاجز: 594.