يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام

الصفحة 66   

يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (1) عليهم السلام

تنزيه يعقوب عن إيقاع التحاسد بين بنيه:

(مسألة) فإن قيل: فما معنى تفضيل يعقوب عليه السلام ليوسف (ع) على إخوته في البر والتقريب والمحبة، حتى أوقع ذلك التحاسد بينهم وبينه وأفضى إلى الحال المكروهة التي نطق بها القرآن، حتى قالوا على ما حكاه الله تعالى عنهم: (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين) (2) فنسبوه إلى الضلال والخطأ. وليس لكم أن تقولوا إن يعقوب (ع) لم يعلم بذلك من حالهم قبل أن يكون منه التفضيل ليوسف (ع). لأن ذلك لا بد من أن يكون معلوما منه من حيث كان في طباع البشر من التنافس والتحاسد.

(الجواب): قيل ليس فيما نطق به القرآن ما يدل على أن يعقوب عليه السلام فضله بشئ من فعله وواقع من جهته، لأن المحبة التي هي ميل الطباع ليست مما يكتسبه الانسان ويختاره، وإنما ذلك موقوف على فعل الله تعالى فيه. ولهذا ربما يكون للرجل عدة أولاد فيحب أحدهم دون غيره، وربما يكون المحبوب دونهم في الجمال والكمال. وقد قال الله تعالى:

____________

(1) قصص الأنبياء ص 119 - 122.

(2) يوسف الآية 8.

الصفحة 67   

(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) (1) وإنما أراد ما بيناه من ميل النفس الذي لا يمكن الانسان أن يعدل فيه بين نسائه، لأن ما عدا ذلك من البر والعطاء والتقريب وما أشبهه، يستطيع الانسان أن يعدل بين النساء.

فإن قيل فكأنكم قد نفيتم عن يعقوب عليه السلام القبيح والاستفساد وأضفتموهما إلى الله تعالى فما الجواب عن المسألة من هذا الوجه؟.

قلنا: عنها جوابان: أحدهما لا يمتنع أن يكون الله تعالى علم أن أخوة يوسف عليه السلام سيكون بينهم ذلك التحاسد والفعل القبيح على كل حال، وإن لم يفضل يوسف (ع) عليهم في محبة أبيه له، وإنما يكون ذلك استفسادا إذا وقع عنده الفساد وارتفع عند ارتفاعه، ولم يكن تمكينا.

والجواب الآخر أن يكون ذلك جاريا مجرى التمكين (الامتحان) والتكليف الشاق، لأن هؤلاء الأخوة متى امتنعوا من حسد أخيهم والبغي عليه والإضرار به وهو غير مفضل عليهم ولا مقدم ولا يستحقونه من الثواب ما يستحقونه إذا امتنعوا من ذلك مع التقديم والتفضيل، فأراد الله تعالى منهم أن يمتنعوا على هذا الوجه الشاق. وإذا كان مكلفا على هذا الوجه فلا استفساد في تمييله بطباع أبيهم إلى محبة يوسف (ع)، لأن بذلك ينتظم هذا التكليف ويجري هذا الباب مجرى خلق إبليس، مع علمه تعالى بضلال من ضل عند خلقه، ممن لو لم يخلقه لم يكن ضالا. ومجرى زيادة الشهوة فيمن يعلم منه تعالى هذه الزيادة أنه يفعل قبيحا لولاها لم يفعله.

ووجه آخر في الجواب عن أصل المسألة: وهو أنه يجوز أن يكون يعقوب كان مفضلا ليوسف (ع) في العطاء والتقريب والترحيب والبر الذي يصل إليه من جهته، وليس ذلك بقبيح لأنه لا يمتنع أن يكون يعقوب (ع) لم يعلم أن ذلك يؤدي إلى ما أدى إليه، ويجوز أن يكون رأى من سيرة أخوته

____________

(1) النساء الآية 129.

الصفحة 68   

وسدادهم وجميل ظاهرهم ما غلب في ظنه معهم أنهم لا يحسدونه، وإن فضله عليهم. فإن الحسد وإن كان كثيرا ما يكون في الطباع، فإن كثيرا من الناس يتنزهون عنه ويتجنبونه، ويظهر من أحوالهم أمارات يظن معها بهم ما ذكرناه. وليس التفضيل لبعض الأولاد على بعض في العطاء محاباة، لأن المحاباة هي المفاعلة من الحباء، ومعناها أن تحبو غيرك ليحبوك. وهذا خارج عن معنى التفضيل بالبر، الذي لا يقصد به إذا ما ذكرناه.

فأما قولهم: إن أبانا لفي ضلال مبين. فلم يريدوا به الضلال عن الدين. وإنما أرادوا به الذهاب عن التسوية بينهم في العطية، لأنهم رأوا أن ذلك أصوب في تدبيرهم. وأصل الضلال هو العدول. وكل من عدل عن شئ وذهب عنه فقد ضل. ويجوز أيضا أن يريدوا بذلك الضلال عن الدين، لأنهم خبروا عن اعتقادهم. ويجوز أن يعتقدوا في الصواب الخطأ.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقع من إخوة يوسف (ع) هذا الخطأ العظيم والفعل القبيح وقد كانوا أنبياء في الحال؟ فإن قلتم لم يكونوا أنبياء في تلك الحال، قيل لكم وأي منفعة في ذلك لكم وأنتم تذهبون إلى أن الأنبياء عليهم السلام لا يوقعون القبائح قبل النبوة ولا بعدها؟.

قلنا: لم تقم الحجة بأن إخوة يوسف (ع) الذين فعلوا به ما فعلوه كانوا أنبياء في حال من الأحوال، وإذا لم تقم بذلك حجة جاز على هؤلاء الأخوة من فعل القبيح ما يجوز على كل مكلف لم تقم حجة بعصمته، وليس لأحد أن يقول كيف تدفعون نبوتهم. والظاهر أن الأسباط من بني يعقوب كانوا أنبياء، لأنه لا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الأخوة الذين فعلوا بيوسف (ع) ما قصه الله تعالى عنهم. وليس في ظاهر الكتاب أن جميع إخوة يوسف (ع) وما ساير أسباط يعقوب (ع) كادوا يوسف (ع) بما حكاه الله تعالى من الكيد. وقد قيل إن هؤلاء الأخوة في تلك الأحوال لم يكونوا بلغوا الحلم ولا توجه إليهم التكليف. وقد يقع ممن

الصفحة 69   

قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال، وقد يلزمهم بعض العقاب واللوم والذم، فإن ثبت هذا الوجه سقطت المسألة أيضا، مع تسليم أن هؤلاء الأخوة كانوا أنبياء في المستقبل.

تنزيه يعقوب عن التغرير بولده:

(مسألة) فإن قيل: فلم أرسل يعقوب (ع) يوسف مع إخوته، مع خوفه عليه منهم، وقوله: (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) (1) وهل هذا إلا تغرير به ومخاطرة؟.

(الجواب): قيل له: ليس يمتنع أن يكون يعقوب (ع) لما رأى من بنيه ما رأى من الإيمان والعهود والاجتهاد في الحفظ والرعاية لأخيهم، ظن مع ذلك السلامة وغلبة النجاة، بعد أن كان خائفا مغلبا لغير السلامة. وقوي في نفسه أن يرسله معهم إشفاقا من إيقاع الوحشة والعداوة بينهم، لأنه إذا لم يرسله مع الطلب منهم والحرص، علموا أن سبب ذلك هو التهمة لهم والخوف من ناحيتهم فاستوحشوا منه ومن يوسف (ع)، وانضاف هذا الداعي إلى ما ظنه من السلامة والنجاة، فأرسله.

تنزيه يعقوب عن تكذيب الصادق:

(مسألة): فإن قالوا: فما معنى قولهم ليعقوب (ع): (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) (1) وكيف يجوز أن ينسبوه إلى أنه لا يصدق الصادق ويكذبه؟.

(الجواب): إنهم لما علموا على مرور الأيام بشدة تهمة أبيهم لهم وخوفه على أخيهم منهم لما كان يظهر منهم من أمارات الحسد والمنافسة، أيقنوا بأنه (ع) يكذبهم فيما أخبروا به من أكل الذئب أخاهم، فقالوا له إنك

____________

(1) يوسف الآية 13.

الصفحة 70   

لا تصدقنا في هذا الخبر لما سبق إلى قلبك من تهمتنا وإن كنا صادقين. وقد يفعل مثل ذلك المخادع المماكر إذا أراد أن يوقع في قلب من يخبره بالشئ صدقه، لأن القتل من أفظع مصائب الدنيا، فيقول أنا أعلم أنك لا تصدقني في كذا وكذا. وإن كنت صادقا، وهذا بين.

تنزيه يعقوب عن الحزن المكروه:

(مسألة) فإن قيل: فلم أسرف يعقوب (ع) في الحزن والتهالك وترك التماسك حتى ابيضت عيناه من البكاء والحزن، ومن شأن الأنبياء عليهم السلام التجلد والتصبر وتحمل الأثقال، ولولا هذه الحال ما عظمت منازلهم وارتفعت درجاتهم؟

الجواب: قيل له إن يعقوب عليه السلام بلي وامتحن في ابنه بما لم يمتحن به أحد قبله، لأن الله تعالى رزقه مثل يوسف عليه السلام أحسن الناس وأجملهم وأكملهم عقلا وفضلا وأدبا وعفافا ثم أصيب به أعجب مصيبة وأطرفها، لأنه لم يمرض بين يديه مرضا يؤول إلى الموت فيسليه عنه تمريضه له ثم يأسه منه بالموت، بل فقده فقدا لا يقطع معه على الهلاك فييأس منه، ولا يجد إمارة على حياته وسلامته، فيرجو ويطمع. وكان متردد الفكر بين يأس وطمع، وهذا أغلظ ما يكون على الانسان وأنكأ لقلبه، وقد يرد على الانسان من الحزن ما لا يملك رده ولا يقوى على دفعه. ولهذا لم لا يكون أحدنا منهيا عن مجرد الحزن والبكاء، وإنما نهي عن اللطم والنوح، وأن يطلق لسانه فيما يسخط ربه وقد بكى نبينا صلى الله عليه وآله على ابنه إبراهيم عند وفاته. وقال: العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وهو القدرة في جميع الآداب والفضائل على أن يعقوب (ع) إنما أبدى من حزنه يسيرا من كثير، وكان ما يخفيه ويتصبر عليه ويغالبه أكثر وأوسع مما

____________

(1) يوسف الآية 17.

الصفحة 71   

أظهره.

وبعد، فإن التجلد على المصائب وكظم الغيظ والحزن من المندوب إليه، وليس بواجب ولا لازم، وقد يعدل الأنبياء عن كثير من المندوبات الشاقة، وأن كانوا يفعلون من ذلك الكثير.

حول الرؤيا التي رآها يوسف (ع):

(مسألة) فإن قيل: كيف لم يتسل يعقوب (ع) ويخفف عنه الحزن ما يحققه من رؤيا ابنه يوسف، ورؤيا الأنبياء (ع) لا تكون إلا صادقة؟.

(الجواب) قيل له في ذلك جوابان: أحدهما أن يوسف (ع) رأى تلك الرؤيا وهو صبي غير نبي ولا موحى إليه، فلا وجه في تلك الحال للقطع على صدقها وصحتها.

والآخر أن أكثر ما في هذا الباب أن يكون يعقوب (ع) قاطعا على بقاء ابنه، وأن الأمر سيؤول فيه إلى ما تضمنته الرؤيا، وهذا لا يوجب نفي الحزن والجزع، لأنا نعلم أن طول المفارقة واستمرار الغيبة يقتضيان الحزن، مع القطع على أن المفارق باق يجوز أن يؤول حال إلى القدوم؟ وقد جزع الأنبياء عليهم السلام ومن جرى مجراهم من المؤمنين المطهرين من مفارقة أولادهم وأحبائهم، مع يقينهم بالالتقاء بهم في الآخرة والحصول معهم في الجنة.

والوجه في ذلك ما ذكرناه.