آراء ونظريات الأشاعرة 3

 

استدلال المنكرين بالعقل

    استدلّ المنكرون بوجوه عقلية :

    الأوّل : إنّ الرؤية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون المرئي في جهة ومكان ، ومسافة خاصة بينه و بين رأيه ، أن يكون مقابلاً لعين الرائي ، وكلّ ذلك ممتنع على الله سبحانه ، والقول بحصول الرؤية بلا هذه الشرائط أشبه بتمنّي المحال.

    الثاني : إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الله كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً ، وإمّا أن تقع على بعضه فيكون مبعّضاً مركباً ، وكلّ ذلك ممّا لا يلتزم به أهل التنزيه.

    الثالث : إنّ كلّ مرئي بجارحة العين يشار إليه بحدقتها ، وأهل التنزيه كالأشاعرة وغيرهم ينزّهونه سبحانه عن الإشارة إليه بإصبع أو غيره.

    الرابع : إنّ الرؤية بالعين الباصرة لا تتحقّق إلاّ بوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين ، والله سبحانه منزّه عن كلّ ذلك.

    وإلى هذا الدليل يشير الإمام الهادي أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليمها السَّلام فيما رواه الكليني عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث ( عليه السَّلام ) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس. فكتب : « لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ». (2)

________________________________________

1 ـ مناقب أحمد : 1/391.

2 ـ الكافي : 1/97 ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث4.

________________________________________

(227)

    ومراده من الهواء هو الأثير الحامل للنور ونحوه.

الاستدلال بالكتاب

    استُدِلَّ على امتناع رؤيته سبحانه بآيات :

    الآية الأُولى : قوله سبحانه : ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ. (1)

    الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصري أو السمعي أو العقلي ، إلاّبإضافته إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، ولأجل ذلك لو قال قائل : أدركته ببصري وما رأيته ، أو قال : رأيته وما أدركته ببصري يعدّ متناقضاً ، والآية بصدد بيان علوّه ، وأنّه تعالى تفرّد بهذا الوصف ، وهو أنّه يرى ولا يُرى ، كما تفرَّد سبحانه بأنّه يطعم ويجير ، ولا يطعم ولا يجار عليه ، قال سبحانه : قُل أَغَيْرَ اللّهِ أَ تَّخِذُ وَلِيّاً فاطِرِالسَّمواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ (2) وقال سبحانه : قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . (3)

    وإن شئت قلت : إنّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف :

    1. ما يرى و يُرى ( بالضم ) كالإنسان.

    2. مالا يرى ولا يُرى كالأعراض النسبية ، أي : الكيف والكم.

    3. ما يُرى ولا يرى كالجمادات.

________________________________________

1 ـ الأنعام : 102 ، 103.

2 ـ الأنعام : 14.

3 ـ المؤمنون : 88.

________________________________________

(228)

    4. ما يرى ولا يُخرى ، وهذا القسم تفرّد به سبحانه ، وأنّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

    وبعبارة أُخرى : إنّه سبحانه لمّا قال : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أنّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية ، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء لا تُدْرِكُهُ الأَبصارولمّا يتبادر من ذلك الوصف ، إلى بعض الأذهان أنّه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الحس ، وبطل الاتصال الوجودي الذي هو مناط الإدراك والعلم بينه و بين مخلوقاته ، دفعه بقوله : وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ثمّ علّل بقوله : وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبير ، واللّطيف وهو الرقيق النافذ في الشيء و الخبير من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء ، كان شاهداً على كلّ شيء ، لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنه ، من غير أن يشغله شيء عن شيء ، أو يحتجب عنه شيء بشيء. (1)

    ومن عجيب التأويل : قول الأشعري : إنّ قوله سبحانه : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار : تأويله الصحيح : إمّا أنّ الأبصار لا تدركه تعالى في الدنيا ولكن تدركه في الآخرة.

    وإمّا أنّ أبصار الكافرين لا تدركه. (2)

    ولا يخفى أنّه تأويل لا شاهد له ، وهو يهاجم المعتزلة بنظير هذه التأويلات ، وقد ارتكبه هو في الذب عن مذهبه.

    وحسبك في توضيح الآية ما ذكره الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) في تفسير الآية ، روى العياشي في تفسيره عن الأشعث بن حاتم قال : قال ذو الرئاستين : قلت لأبي الحسن الرضا ( عليه السَّلام ) : جعلت

________________________________________

1 ـ الميزان : 7/308بتلخيص.

2 ـ الإبانة : 17.

________________________________________

(229)

    فداك ، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية ، فقال بعضهم : لا يُرى. فقال : يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه ، فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأَبصار وهو اللَّطيف الخبير. (1)

    وهناك حديث آخر عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : قال أبو قرة للإمام الرضا ( عليه السَّلام ) : إنّا رُوينا أنّ الله عزّ وجلَّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسم لموسى ( عليه السَّلام ) الكلام ، ولمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الرؤية؟ فقال أبو الحسن ( عليه السَّلام ) : فمن المبلّغ عن الله عزّوجلّ إلى الثقلين : الجن والإنس : لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار ، ووَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ، و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءأليس محمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار ، وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْما ، و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءثمّ يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا : أن يكون يأتي عن الله بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. (2) كلام الرازي حول الآية

    وإنّ تعجب فعجب قول الرازي : « إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته ، والمؤمنون يرونه في الآخرة » فإنّ الآية لو لم تدل على مقالة المنكِر ، لا تدل على مقالة المثبت ، ولما كان موقف الرازي في المقام موقف المفسر الذي اتخذ لنفسه عقيدة وفكرة ، حاول أن يثبت دلالة الآية على ما يرتئيه بوجوه عليلة ، وإليك تلك الوجوه :

________________________________________

1 ـ تفسير العياشي : 1/373 الحديث 79.

2 ـ التوحيد للصدوق : 110 ـ 111 ، الحديث 9 ، وقد استدلّ الإمامعليه السَّلام بعدة آيات على امتناع رؤيته ، وسيوافيك بيان دلالتها.

________________________________________

(230)

     ( الأوّل ) : أنّ الآية في مقام المدح ، فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : لا تدركه الأبصار ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم ، لا تصحّ رؤية شيء منها ، ولا مُدح شيء منها في كونها لا تدركها الأبصار ، فثبت أنّ قوله : لا تدركه الأبصار يفيد المدح ، ولا يصحّ إلاّ إذا صحت الرؤية.

    يلاحظ عليه : أوّلاً : لو كان المدح دليلاً على إمكان الرؤية فليكن المدح في الآية التالية دليلاً على إمكان ما ذكر فيها ، قال سبحانه : وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً. (1) فلو دل سلب شيء عن شيء على إمكان ثبوته له ، لدلت الآية على جواز اتخاذه الولد والشريك ، ممّا يعد مستحيلاً في نفسه عليه تعالى.

    وثانياً : أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل وهو لا تدركه الأبصار بل بمجموع الجزءين المذكورين في الآية ، واللّهـ سبحانه جلّت عظمتهـ يدرك ، ولكن لعلوّ شأنه ، ومقامه لا يُدرك.

     ( الثاني ) : أنّ لفظ الأبصار ، صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لايدركه جميع الأبصار ، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.

    يلاحظ عليه : أنّ المتبادر في المقام هو الثاني لا الأوّل ، وأيّ عبارة أصرح من الآية في الدلالة على أنّه لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ، وأنّه تعالى يدركهم ، وهذا هو المفهوم من نظائره.

    قال سبحانه : إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتدين (2) ، و قال سبحانه : فَإِنَّ

________________________________________

1 ـ الإسراء : 111.

2 ـ البقرة : 190.

(231)

اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ (1) ، وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْظالِمينَ . (2)

    قال الإمام عليّ ( عليه السَّلام ) : « الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفِطَن ». (3)

    فهل يحتمل الرازي أنّ المراد من هذه الجمل سلب العموم وأنّ بعض القائلين والعادّين والمجتهدين يبلغ مدحته ، ويحصي نعماءه ، ويؤدّي حقّه؟

     ( الثالث ) : أنّ الله تعالى لا يُرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة ، يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلّت عليه الآية لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار ، لتخصيص نفي إدراك الله ، بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أنّ الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً ، ولما ثبت أنّ سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ، ثبت أنّ الله تعالى يخلق حاسة سادسة فينا تحصل رؤية الله بها.

    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ محور البحث رؤية الله بالعيون والأبصار لا بحاسة سادسة ، فماذ كره خروج من محل البحث والأشاعرة تبعاً لإمامهم ، يقولون برؤية الله سبحانه في الآخرة بهذه العيون كفلق القمر ، وتفسير الرؤية بخلق حاسة سادسة ، رجم بالغيب.

    ثانياً : كيف رضي الإمام بأنّ مفهوم قوله : لا تدركه الأبصار أنّه يدرك بغير الأبصار ، فحاول التفتيش عن الحاسة التي يدرك بها يوم القيامة ، فهداه التدبر إلى القول بأنّه يدرك بحاسة سادسة ، فهل يقول به في نظائره؟ إذا قال قائل : « ما رأيت بعيني » و« ما سمعت بأذني » ، فهل معناهما أنّه رآه بغير عينه أو سمعه بغير أذنه؟

________________________________________

1 ـ آل عمران : 32.

2 ـ آل عمران : 57.

3 ـ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

________________________________________

(232)

    هذا ولو سمح لي أدب البحث والنقد ، لقلت بأنّ ما ذكره الرازي أشبه بالمهزلة ، وليست محاولته هذه إلاّ أنّه بصدد إصلاح ما اتخذه من موقف مسبق في هذا المجال. وإلاّ فالرازي ينبغي أن يترفع عن مثل هذا الكلام.

    ولأجل ذلك ضربنا عن الوجه الرابع صفحاً ، لكونه في الوهن مثل الثالث (1) ، بل أوهن منه.

    الآية الثانية : قوله سبحانه : يَومَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً . (2)

    إنّ الرؤية سواء أوقعت على الكل أم على الجزء ، نوع إحاطة به سبحانه عنها. والآية في كيفية البيان نظير الآية السابقة ، وتختلفان في تقدّم الإيجاب وتأخّر السلب هنا ، عكس الآية السابقة.

    فقوله : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ نظير قوله : وهو يدرك الأبصار.

    وقوله : ولا يحيطون به علماً نظير قوله : لاتدركه الأبصار .

    والضمير في ولا يحيطون به يرجع إلى الله. واحتمل الرازي لأجل الفرار من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه رجوع الضمير إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم أي لا يحيط العباد بما فيهما. وهو تأويل لأجل تثبيت موقف مسبق ، لأنّ عدم علم العباد بما فيهما ، أمر واضح لا حاجة لذكره هنا بلا موجب ، وإنّما المناسب هو ذكر إحاطته سبحانه بعباده ، وعدم إحاطتهم به ، فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الآخرة ، وهو مابين أيديهم ، و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا وهو وما خلفهم ، فهم محاطون بعلمه ، ولا يحيطون به علماً فيجزيهم بما فعلوا ، وقد عرفت أنّ الرؤية نوع إحاطة.

________________________________________

1 ـ راجع للوقوف على هذه الوجوه تفسير الرازي : 4/118 ـ 119.

2 ـ طه : 109 ـ 110.

________________________________________

(233)

    الآية الثالثة : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا اِلى بِارئِكُمْ فَاْقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذْتُكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. (1)

    إذا كان جزاء اتخاذ العجل معبوداً هو قتل الأنفس ، كان جزاء الطالبين رؤية الله تعالى جهرة هو الأخذ بالصاعقة. وهذا يدلّ على أنّ الجرمين من باب واحد. فكما أنّ عبدة العجل جسّدوا الإله في العجل فطلبة الرؤية والمصرّون عليها ، صوّروه جسماً أو عرضاً قابلاً للرؤية ، فكلتا الطائفتين ظلموا ربّهم ونزّلوا الإله المتعالي عن الكيف والتشبيه والتجسيم والتجسيد ـ حسب زعمهم ـ إلى حضيض الأجسام والماديات والصور والأعراض ، فاستحقوا جزاءً واحداً ، وهو أخذهم من أديم الأرض بقتل أنفسهم ، أو حرقهم بالصاعقة.

    وإن شئت قلت : إنّ التماس الرؤية لو كان التماس أمر ممكن ، لم يكن في سؤالهم بأس أبداً ، فإمّا أن تجاب دعوتهم أو ترد ، ولا يصحّ إحراقهم بالصاعقة كما في سؤالهم الآخر.وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعام واحِد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذي هُوَ اَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. (2)

    الآية الرابعة : إنّه سبحانه ما ذكر سؤال الرؤية إلاّ استعظمه ، وما نوّه به إلاّ استفظعه ، ولو كانت الرؤية أمراً جائزاً وشيئاً ممكناً ، لما كان لهذا الاستعظام وجه ، وكان سؤالهم لها مثل سؤال الأُمم أنبياءهم بأنّهم لا يؤمنون إلاّ أن يحيي الموتى ، أو غير ذلك ، من دون الاستعظام والاستفظاع.

    وإليك هذه الآيات :

    1. يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ اَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأْلُوا

________________________________________

1 ـ البقرة : 54 ـ 55.

2 ـ البقرة : 61.

________________________________________

(234)

مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهُمُ البَّيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبينا . (1)

    فسمّى سبحانه نفس السؤال ظلماً وعدواناً ، ويكفي في الاستعظام قوله فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وقوله ثمّ اتخذوا العجل فكان السؤال واتخاذ العجل من باب واحد.

    2. وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبّنا لَقَدِ اسْتَكْبَروا في أَنْفُسِهمْ وَعَتَوا عُتُوّاً كَبيراً. (2)

    3.وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) (3). (4)

    فلو كانت الرؤية جائزة وهي عند مجوزيها من أعظم الجزاء ، لم يكن التماسها عتواً ، لأنّ من سأل تعالى نعمة في الدنيا لم يكن عاتياً ، وجرى مجرى ما يقال : لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت.

    وباختصار : إنّ هذا الاستعظام والاستفظاع لا يناسب كونه أمراً ممكناً ونعمة من نعمه سبحانه يكرم عباده بها في الآخرة.

 

الرازي والاستدلال بهذه الآيات

    قد اتخذ الرازي في تفسير الآيات موقف المجادل الذي لا يهمه سوى الدفاع عن فكرته ، أو موقف الغريق الذي يتشبث بكلّ حشيش وإن كان يعلم أنّه لا يجديه. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاستمع لما نتلوه عليك منه وهو بصدد ردّالاستدلال بهذه الآيات من عدّ السؤال أمراً منكراً :

________________________________________

1 ـ النساء : 153.

2 ـ الفرقان : 21.

3 ـ البقرة : 55.

4 ـ وقد مرّت الآية في الحجة الثالثة ، ولكن كيفية الاستدلال في المقام تختلف عن ما تقدّم.

________________________________________

(235)

    1. إنّ رؤية الله لا تحصل إلاّ في الآخرة ، فكان طلبها في الدنيا أمراً منكراً.

    يلاحظ عليه : أنّه سبحانه يصف طلب الرؤية في الآيات السابقة بالظلم تارة والاستكبار ثانية ، والعتو الكبير ثالثة ، وإيجابه العذاب ونزول الصاعقة رابعة.

    فهل هذا أنسب مع طلب الأمر المحال ، أو أنسب مع طلب الأمر الممكن غير الواقع لمصلحة؟

    فهل الظلم ( التعدّي عن الحدود ) والاستكبار والعتو ، يناسب تطّلعهم إلى أمر عظيم رفيع ، وهؤلاء أقصر منه وتناسيهم أين التواب ورب الأرباب ، أو أنّه يناسب سؤالهم شيئاً ليس خارجاً عن مستواهم ، غير أنّ المصلحة أوجبت حرمانهم ، لا شكّ أنّ الأُمور الأربعة التي تحكي عن تكون جرم كثير وعصيان فظيع ، إنّما هي تناسب الأمر الأوّل لا الثاني.

    والذي يكشف عن ذلك أنّه سبحانه عدّ طلب الرؤية من موسى أكبر من سؤال أهل الكتاب من النبي الأكرم تنزيل كتاب عليهم من السماء وقال : يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَة (1). وليس وجه كون الثاني أكبر من الأوّل سوى كونه أمراً محالاً دون الآخر ، وإن كان غير واقع.

    2. إنّ حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله ، فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف ، والرؤية تتضمن العلم الضروري وهو ينافي التكليف.

    يلاحظ عليه : أنّه من أين وقف الرازي على أنّ رؤية الله سبحانه في الدنيا لحظة أو لحظات توجب إزالة التكليف؟ فهل ورد ذلك في الكتاب أو السنّة ، أو أنّه من نتاج ذهنه وفكرته؟

    ثمّ إنّ مزيل التكليف هو حصول غايات التكليف وأهدافه. وليست

________________________________________

1 ـ النساء : 153.

________________________________________

(236)

    الغاية من التكليف إلاّ التكامل الروحي ، والانسلاخ من المادة والماديات ، والانسلاك في عداد الروحانيين وليس هذا ممّا يحصل بوقوع البصر على ذاته لحظة أو لحظات ، إلاّ أن تحولهم الرؤية إلى إنسان مثالي قد أتم كمالاته ، وهل هذا يحصل بصرف الرؤية؟ لا أدري ، ولا المنجم يدري ، ولا الرازي يدري.

    وأقصى ما يعطيه النظر بالأبصار ، هو الإذعان وحصول العلم الضروري بوجوده سبحانه عن طريق الحس ، وأين هذا من إنسان مثالي صار بالعبادة والطاعة مثلاً لأسمائه ، ومجالي لصفاته ، وترفع عن حضيض المادية ، متوجهاً إلى عالم التجرد.

    3. إنّه لما تمت الدلائل على صدق المدّعى ، كان طلب الدلائل الأُخرى تعنتاً ، والتعنت يستوجب التعنيف.

    يلاحظ عليه : أنّ بني إسرائيل أُمّة معروفة بالجدل والعناد ، وكانت حياتهم مملوءة بالتعنت. فلماذا لم تأخذهم الصاعقة إلاّ في هذا المورد؟

    وهذا يكشف عن كون التعنت في المورد ذا خصوصية ، وليست هي إلاّ لأجل إصرارهم على الرؤية عن طريق التكبر والعتو ، على تحقّق أمر محال.

    4. لا يمنع أن يعلم الله أنّ في منع الخلق عن رؤيته في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة ، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا. (1)

    يلاحظ عليه : إذا كانت الرؤية أمراً ممكناً وجزاءً للمؤمنين في الآخرة ، وقد اقتضت المصلحة منعها عن الخلق في الدنيا ، فما معنى هذا التفزيع والاستنكار والاستفظاع؟ فهل طلب شيء خال عن المصلحة ، يوجب نزول الصاعقة والإحراق بالنار؟

    لم تكن هذه المحاولات الفاشلة صادرة عن الرازي لتبنّي الحقّ والبخوع

________________________________________

1 ـ راجع تفسير الرازي : 1/369 ، ط مصر في ثمانية أجزاء.

________________________________________

(237 )

    للحقيقة ، وإنّما هو نوع تعنت في مقابل أدلّة المحقّين في باب الرؤية. ونعم الحكم الله.

    الآية الخامسة : قوله سبحانه : وَلَما جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَةُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِني اَنْظُر إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتتُ إِلَيْكَ وَأَنَا اَوّلُ الْمُؤْمِنين. (1)

    وقد تعرفت على كيفية الاستدلال بالآية عند سرد أدلّة المثبتين ونقدها ، فلا حاجة للتكرار. ولكن نشير إلى بعض الأهواء الساقطة للرازي في الاستدلال بها :

    1. لو كانت الرؤية ممتنعة فلماذا طلبها موسى؟

    وقد تعرفت على الإجابة عنه فلا نعيد.

    2. لو كانت رؤيته مستحيلة لقال لا أرى ( بصيغة المجهول ). ألا ترى أنّه لو كان في يد رجل حجر. فقال له إنسان : ناولني هذا لآكله ، فإنّه يقول له : هذا لا يؤكل ، ولا يقول له لا تأكل ، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة ، لقال له« لا تأكله » أي هذا ممّا يؤكل ولكن لا تأكله. فلما قال تعالى« لن تراني » ولم يقل لا أُرى علمنا أنّ هذا يدل على أنّه تعالى في ذاته جائز الرؤية.

    يلاحظ عليه : أنّ الإجابة ب ـ « لن تراني » مكان « لا أُرى » لأجل حفظ المطابقة بين السؤال والجواب ، فلمّا كان السؤال ب ـ « أرني » وافاه الجواب ب ـ « لن تراني » وحين سمع القوم إنكاره سبحانه عليه مع نبوّته ، علموا أنّهم أولى به. وأنّ رؤيته تعالى شيء غير ممكن ، ولو جازت لنبيه.

    فأي قصور في دلالة الآية على الامتناع حتى يبدل الجواب بـ « لا أُرى ».

________________________________________

1 ـ الأعراف : 143.

________________________________________

(238)

    3.إنّه سبحانه علّق رؤيته على أمر ممكن جائز ، والمعلّق على الجائز ، جائز فينتج أنّ الرؤية في نفسها جائزة.

    وقد تعرفت على الإجابة عنه.

    4. إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل لله ، وهو لما رآه سبحانه اندكّت أجزاؤه ، فإذا كان الأمر كذلك ، ثبت أنّه تعالى جائز الرؤية. أقصى ما في الباب أن يقال : الجبل جماد ، والجماد يمتنع أن يرى شيئاً ، إلاّ أنّا نقول : لا يمتنع أن يقال : إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من رؤية الجبل إياه سبحانه ، مع الحياة والعقل والفهم ، شيء نسجته فكرته ، وليس في نفس الآية أي دليل عليه ، والحافز إلى هذه الحياكة ، هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها ، فإنّ ظاهر الآية أنّ الجبل لم يتحمل تجلّيه سبحانه فدُك وذاب ، وبطلت هويته ، لا أنّه رآه وشاهده ، وقد عرفت أنّ التجلّي كما يكون بالذات ، يكون بالفعل أيضاً ، ولو كان الجبل لائقاً بهذه الفضيلة الرابية ، فنبيّه أولى بها ، وفي قدرته سبحانه أن يريه ذاته ، مع حفظه عمّا ترتّب على الجبل من الاندكاك ، فالنتيجة أنّ العالم بأسره لا يتحمل تجلّيه سبحانه ، بفعل أو بوصف من أوصافه ، أو باسم من أسمائه.

استدلال المنكرين بالسنّة

    لقدعرفت هدي القرآن وقضاءه في الرؤية. وهناك روايات متضافرة عن طريق أهل البيت والعترة الطاهرة الذين جعلهم الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أعدال الكتاب وقرناءه ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله عزّوجلّ حبل ممدود

________________________________________

1 ـ تفسير الرازي : 4/292 ـ 295 ، ط مصر في ثمانية أجزاء ، وقد جعل كلّ واحد من هذه الأُمور حجّة على جواز الرؤية ، وقد نقلناه ملخصاً.

________________________________________

(239 )

    من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ». (1)

    ومن يرجع إلى خطب الإمام ( عليه السَّلام ) في التوحيد ، وما أثر من أئمّة العترة الطاهرة ، يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية ، وأنّه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف أبصار العيون. وإليك النزر اليسير في ذلك الباب :

    1. قال الإمام في خطبة الأشباح : « الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد ، فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه ». (2)

    2. وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال ( عليه السَّلام ) : « أفأعبد مالا أرى؟! » فقال : وكيف تراه؟ فقال : « لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد عنها غير مباين ». (3)

    3. وقال ( عليه السَّلام ) : « الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ». (4)

    إلى غير ذلك من خطبه ( عليه السَّلام ) الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة الأبصار والقلوب به. (5)

    وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في

________________________________________

1 ـ مسند أحمد : 3/26 ، وقريب منه ما رواه غيره.

2 ـ نهج البلاغة : ( الخطبة : 87 ) ط مصر للإمام عبده. « أناسي » : جمع إنسان البصر : هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها.

3 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 174.

4 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 180.

5 ـ لاحظ الخطب : 48و 81و ... .

________________________________________

(240)

    كتاب « الكافي » ، باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثماني روايات. (1)

    كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية ، فيها نور القلوب وشفاء الصدور. (2) ومن أراد الوقوف فليرجع إلى تلك الجوامع الحديثية.

________________________________________

1 ـ الكافي : 1/95 ، باب إبطال الرؤية.

2 ـ التوحيد : 107 ـ 122 ، الباب 8.

(241)

(13)

كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي

    أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ويبدو أنّ البحث في كلامه سبحانه أوّل مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام ، وإن لم يكن ذلك أمراً قطعياً بل ثبت خلافه ، وقد شغلت تلك المسألة بال العلماء والمفكّرين الإسلاميين في عصر الخلفاء ، وحدثت بسببه مشاجرات ، بل مصادمات دامية ذكرها التاريخ وسجل تفاصيلها ، وخاصة في قضية ما يسمّى ب ـ « محنة خلق القرآن » وكان الخلفاء هم الذين يروّجون البحث عن هذه المسألة ونظائرها حتّى ينصرف المفكّرون عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم ، هذا من جانب.

    ومن جانب آخر ، إنّ الفتوحات الإسلامية أوجبت الاختلاط بين المسلمين وغيرهم ، وصار ذلك مبدء لاحتكاك الثقافتين ـ الإسلامية والأجنبية ـ و في هذا الجو المشحون بتضارب الأفكار ، طرحت مسألة تكلُّمِه سبحانه في الأوساط الإسلامية ، وأوجدت ضجة كبيرة في المجامع العلمية ، خصوصاً في عصر المأمون و من بعده ، وأُريقت في هذا السبيل دماء الأبرياء ، ولما لم تكن هذه المسألة مطروحة في العصور السابقة بين المسلمين تضاربت الأقوال فيها إلى حدّ صارت بعض الأقوال والنظريات موهونة جدّاً كما سيوافيك.

    ثمّ إنّ الاختلاف في كلامه سبحانه واقع في موضعين :

    الأوّل : ما هو حقيقة كلامه سبحانه؟ وهل هو من صفات ذاته كالعلم

 

________________________________________

(242)

    والقدرة والحياة ، أو من صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرزق إلى غير ذلك من الصفات الفعلية؟

    الثاني : هل هو قديم أوحادث ، أو هل هو غير مخلوق أو مخلوق؟ والاختلاف في هذا المقام من نتائج الاختلاف في الموضع الأوّل. ونحن نطرح رأي الأشاعرة في كلا المقامين.

 

ما هو حقيقة كلامه؟

    إنّ في حقيقة كلامه آراء مختلفة نذكرها إجمالاً أوّلاً ، ونركز على البحث عن رأي الأشاعرة ثانياً.

1. نظرية المعتزلة

    قالت المعتزلة في تعريف كلامه تعالى :

    إنّ كلامه سبحانه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها سبحانه في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرائيل ، أو النبي ، فمعنى كونه متكلّماً كونه موجداً للكلام ، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه الفعل. (1)

2. نظرية الحكماء

    إنّ كلامه سبحانه لا ينحصر فيما ذكره ، بل مجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه ، يتكلّم به ، بإيجاده وإنشائه ، فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته. (2)

    فعلى تينك النظريتين ، يكون تكلّمه سبحانه من أوصاف فعله ، لا من صفات ذاته ، خلافاً للنظريتين الآتيتين.

3. نظرية الحنابلة

    كلامه حرف وصوت يقومان بذاته ، وأنّه قديم ، وقد بالغوا فيه حتى قال

    بعضهم جهلاً : إنّ الجلد والغلاف قديمان. (3)

________________________________________

1 ـ شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، المتوفّ ـ ى عام 415هـ .

2 ـ شرح المنظومة : 179 ، وللحكماء نظرية أُخرى في كلامه سبحانه تطلب من محلها.

    1 . المواقف : 293.

 

________________________________________

(243)

4. نظرية الأشاعرة

    إنّ مسلك الأشاعرة هو مسلك الحنابلة ، لكن بصورة معدّلة نزيهة عمّا لا يقبله العقل السليم. فذهب أبو الحسن الأشعري إلى كونه من صفات الذات ، لا بالمعنى السخيف الذي تتبنّاه الحنابلة ، بل بمعنى آخر ، وهو القول بالكلام النفسي القائم بذات المتكلّم.

    وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري ، لم نجدها في « الإبانة » و« اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية ، وهي أنّ كلامه سبحانه غير مخلوق ، ولم يبحث عن حقيقة كلامه ، ومع ذلك فقد نقلها عنه الشهرستاني وقال : وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية ، وبذات المتكلّم ، وليس بحروف ولا أصوات ، وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده ، وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاماً حقيقياً تردد ، أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز؟ و إن كان على طريق الحقيقة فإطلا ق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك. (1)

    وقال الآمدي : ذهب أهل الحقّ من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّماً بكلام قديم أزلي نفساني ، أحدي الذات ، ليس بحروف ولا أصوات وهو ـ مع ذلك ـ ينقسم بانقسام المتعلقات ، مغاير للعلم والإرادة وغير ذلك من الصفات. (2)

    وقال العضدي : ـ بعد نقل نظرية المعتزلة ـ و هذا لا ننكره ، لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ، ونزعم أنّه غير العبارات ، إذ قد

________________________________________

1 ـ نهاية الإقدام : 320.

2 ـ غاية المرام : 88.

________________________________________

(244)

    تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ، بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة كما يدلّ عليه بالعبارة ـ إلى أن قال ـ : وإنّه غير العلم ، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه بل هو يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، وغير الإرادة ، لأنّه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا ، فإذا هو صفة ثالثة غير العلم والإرادة ، قائمة بالنفس ، ثمّ نزعم أنّه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى ـ إلى أن قال ـ : الأدلّة الدالّة على حدوث الألفاظ إنّما تفيدهم بالنسبة إلى الحنابلة ، وأمّا بالنسبة إلينا فيكون نصّاً للدّليل في غير محلّ النزاع. وأمّا ما دلّ على حدوث القرآن مطلقاً ، فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ ، لا يكون لهم فيه حجّة علينا ، ولا يجدي عليهم إلاّ أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة. (1)

    فقد أحسن العضدي وأنصف. وستوافيك البرهنة على أنّ ما يسمونه كلاماً نفسياً أمر صحيح ، لكنّه ليس خارجاً عن إطار العلم والإرادة ، وليس وصفاً ثالثاً وراءهما.

    ثمّ إنّ الشهرستاني قد قام بتبيين المقصود من الكلام النفساني في كلام مبسوط. وبما أنّ الكلام النفسي قد أحاط به الإجمال والإبهام ، فنأتي بنصّ كلامه ، وإن كان لايخلو عن تعقيد في الإنشاء ، حتّى يتبيّن المقصود منه قال :

    العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه ، تارةً إخباراً عن أُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتداها إلى منتهاها على وفق ثبوتها ، وتارةً حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم ومشاهدتهم ، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة ، وتارةً نطقاً عقلياً إمّا بجزم القول أنّ الحقّ والصدق كذا ، وإمّا بترديد الفكر أنّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب ، إلى غير ذلك من الأفكار حتّى أنّ كلّ صانع يحدث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت

________________________________________

1 ـ المواقف : 294.

________________________________________

(245)

    إليه صنعته ، ثمّ تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة ، وباهَتَ العقل ، وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان ، وسبيله سبيل السوفسطائية ، كيف وإنكاره ذلك ممّا لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه ، ثمّ لم يعبّر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار ، فوجد أنّ المعنى معلوم بالضرورة وإنّما الشكّ في أنّه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير ، والتمييز بينه و بين العلم هين ، إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به ، وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب ، ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء ، وهي أقسام معلومة وقضايا معقولةوراء التبيين ، والتمييز بينه و بين الإرادة أسهل وأهون ، فإنّ الإرادة قصد إلى تخصيص الفعل ببعض الجائزات ( الممكنات ) ولا قصد في هذه القضايا ولا تخصيص ، وأمّا التقدير والتفكير والتدبير فكلّ ذلك عبارات عن حديث النفس ، وهو الذي يعنى به من النطق النفساني ، ومن العجب أنّ الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كلّ معنى ولا يجد نفسه قط خالياًعن حديث النفس حتى في النوم فإنّه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدّث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتّى يتكلّم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق. (1)

    نرى أنّ ما ذكره الآمدي الذي نقلناه آنفاً في تفسير الكلام النفسي وارد في كلمات المتأخرين عنه ، كالفاضل القوشجي والفضل بن روزبهان ، وإليك نصوصهما :

    1. قال الفاضل القوشجي في شرح التجريد : إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك ، يجد في نفسه معاني يعبر عنها ، نسمّيها بالكلام الحسي ، والمعنى الذي يجده ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه ، هو الذي نسمّيه الكلام. (2)

________________________________________

1 ـ نهاية الإقدام : 321 ـ 322.

2 ـ شرح التجريد للقوشجي : 420.

________________________________________

(246)

    2. وقال الفضل في نهج الحق : إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته ، ولابدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلّف من الحروف والأصوات فنقول :

    ليرجع الشخص إلى نفسه أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنّه يزور ويرتب معاني فيعزم على التكلّم بها ، كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنّه يرتب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتة. فهذا هو الكلام النفسي. ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول لهذه المدلولات : هي الكلام النفسي. (1)

حصيلة البحث

    دلّت النصوص المذكورة عن أقطاب الأشاعرة على أنّ في مورد كل كلام صادر من أيّ متكلم ـ خالقاً كان أو مخلوقاً ـ وراء العلم في الجمل الخبرية ، ووراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية ، معاني قائمة بنفس المتكلّم ، وهو الكلام النفسي ، يتبع حدوثه وقدمه ، حدوث المتكلّم وقدمه.

    وما ذكروا في توضيحه حقّ لا ينكره أحد ، إنّما الكلام في إثبات مغايرته للعلم في الجمل الخبرية ، وللإرادة في الجمل الإنشائية ، وهو غير ثابت ، بل الثابت خلافه ، وإنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلّم ليست إلاّ تصور المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة ، فيرجع

________________________________________

1 ـ نهج الحق المطبوع ضمن دلائل الصدق : 1/146 ، ط النجف.

________________________________________

(247)

    الكلام النفسي في الجمل الخبرية إلى التصورات والتصديقات ، فأي شيء هنا وراء العلم حتى نسمّيه بالكلام النفسي ، كما أنّه عندما يرتب المتكلّم المعاني الإنشائية ، فلا يرتب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدمة لهما ، كتصور الشيء والتصدّيق بالفائدة ، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة ، فأيّ شيء هنا غيرهما حتّى نسميه بالكلام النفسي ، وعند ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الإخبار ، ووراءه مع الإرادة في الإنشاء ، مع أنَّ الأشاعرة يصرون على إثبات وصف ذاتي باسم التكلّم وراء العلم والإرادة ، ولأجل ذلك يقولون : كونه متكلّماً بالذات ، غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

    والأولى أن نستعرض ما استدلّوا به على أنّ الكلام النفسي وراء العلم ، فإليك بيانه :

    الأوّل : أنّ الكلام النفسي غير العلم ، لأنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالإخبار عن الشيء غير العلم به. قال السيد الشريف في شرح المواقف : والكلام النفسي في الإخبار معنى قائم بالنفس لا يتغير بتغير العبارات ، وهو غير العلم ، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه ، أو يشكّ فيه. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ المراد من رجوع كلّ ما في الذهن في ظرف الإخبار إلى العلم ، هو الرجوع إلى العلم الجامع بين التصور والتصديق. فالمخبر الشاك أو العالم بالخلاف يتصور الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية ثمّ يخبر ، فما في ذهنه من هذه التصوّرات الثلاثة لا يخرج عن إطار العلم ، وهو التصوّر.

    نعم ، ليس في ذهنه الشق الآخر من العلم وهو التصديق. ومنشأ الاشتباه هو تفسير العلم بالتصديق فقط ، فزعموا أنّه غير موجود عند الإخبار في ذهن المخبر الشاك أو العالم بالخلاف ، والغفلة عن أنّ عدم وجود العلم بمعنى التصديق لا يدلّ على عدم وجود القسم الآخر من العلم وهو التصوّر.

    الثاني : ما استدلوا به في مجال الإنشاء قائلين بأنّه يوجد في ظرف الإنشاء شيء غير الإرادة والكراهة ، وهو الكلام النفسي ، لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فالمقصود هو الاختبار دون الإتيان. (2)

    أوّلاً : إنّ الأوامر الاختبارية على قسمين :

    قسم تتعلّق الإرادة فيه بنفس المقدّمة ولا تتعلّق بنفس الفعل ، كما في أمره سبحانه الخليل بذبح إسماعيل. ولأجل ذلك لما أتى الخليل بالمقدّمات نودي أن قد صدّقت الرؤيا.

________________________________________

1 ـ شرح المواقف : 2/94.

2 ـ شرح المواقف : 2/94.

________________________________________

(248)

    وقسم تتعلّق الإرادة فيه بالمقدّمة وذيلها ، غاية الأمر ، أنّ الداعي إلى الأمر مصلحة مترتبة على نفس القيام بالفعل ، لا على ذات الفعل ، كما إذا أمر الأمير أحد وزرائه في الملأ العام بإحضار الماء لتفهيم الحاضرين بأنّه مطيع غير متمرد. وفي هذه الحالة ـ كالحالة السابقة ـ لا يخلو المقام عن إرادة ، غاية الأمر ، أنّ القسم الأوّل تتعلّق الإرادة فيه بالمقدّمة فقط ، وهنا بالمقدّمة مع ذيلها. فما صحّ قولهم إنّه لا توجد الإرادة في الأوامر الاختبارية.

    وثانياً : الظاهر أنّ المستدل تصور أنّ إرادة الآمر تتعلّق بفعل الغير ، أي المأمور ، فلأجل ذلك حكم بأنّه لا إرادة متعلّقة بفعل الغير في الأوامر الامتحانية ، ويستنتج أنّ فيها شيئاً غير الإرادة ، ربما يسمّى بالطلب ( في مقابل الإرادة ) عندهم أو بالكلام النفسي ، ولكن الحقّ غير ذلك ، فإنّ إرادة الآمر لا تتعلّق بفعل الغير مطلقاً ، لأنّ فعله خارج عن إطار اختيار الأمر ، وما هو كذلك لا يقع متعلّقاً للإرادة ، فلأجل ذلك ما اشتهر من « تعلّق إرادة الآمر والناهي بفعل المأمور به » كلام صوري ، إذ هي لا تتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري ، وليس فعل الغير من أفعال الأمر الاختيارية ، فلا محيص من القول بأنّ إرادة الآمر متعلّقة بفعل نفسه وهو الأمر والنهي. وإن شئت قلت : إنشاء البعث إلى الفعل أو الزجر عنه ، والكلّ واقع في إطار اختيار الآمر ويعدّان من أفعاله الاختيارية.

    نعم ، الغاية من البعث والزجر هي انبعاث المأمور إلى ما بعث إليه ، أو انتهاؤه عمّا زجر عنه ، لعلم المكلّف المأمور بأنّ في التخلّف مضاعفات دنيوية أو أُخروية.

    وعلى ذلك يكون تعلّق إرادة الآمر في الأوامر الجدية والاختيارية على

 

________________________________________

(249)

    وزان واحد ، وهو تعلّق إرادته ببعث المأمور وزجره ، لا فعل المأمور ولا انزجاره ، فإنّه غاية للآمر لا مراد له ، فالقائل خلط بين متعلّق الإرادة ، وما هو غاية الأمر والنهي.

    وباختصار : إنّ فعل الغير لمّا كان خارجاً عن اختيار الآمر لا تتعلّق به الإرادة.

    وربما يبدو في الذهن أن يعترض على ما ذكرنا بأنّ الآمر إذا كان إنساناً لا تتعلّق إرادته بفعل الغير لخروجه عن اختياره ، وأمّا الواجب سبحانه فهو آمر قاهر ، وإرادته نافذة في كلّ شيء : إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمواتِوَالأَرْض إِلاّ آتي الرَّحْمن عَبْداً. (1)

    ولكن الإجابة عن هذا الاعتراض واضحة ، فإنّ المقصود من الإرادة هنا هو الإرادة التشريعية ، وأمّا الإرادة التكوينية القاهرة على العباد المخرجة لهم عن وصف الاختيار ، الجاعلة لهم كآلة بلا إرادة ، فهي خارجة عن مورد البحث ، قال سبحانه : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعا (2) فهذه الآية تعرب عن عدم تعلّق مشيئته سبحانه بإيمان من في الأرض ، ولكن من جانب آخر تعلّقت مشيئته بإيمان كلّ مكلّف واع ، قال سبحانه : وَاللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيلَ ) (3) فقوله« الحق » عام ، كما أنّ هدايته السبيل عامة مثله لكلّ الناس. وقال سبحانه : يُريدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مَنْ قَبْلِكُمْ ) (4) ، إلى غير ذلك منالآيات الناصة على عموم هدايته التشريعية.

    الثالث : إنّ العصاة والكفّار مكلّفون بما كلّف به أهل الطاعة والإيمان بنصّ القرآن الكريم ، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه

________________________________________

1 ـ مريم : 93.

2 ـ يونس : 99.

3 ـ الأحزاب : 4.

4 ـ النساء : 26.

________________________________________

(250)

    وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، ولابدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف وهو الذي نسمّيه بالكلام النفسي تارة ، وبالطلب أُخرى. فيستنتج من ذلك أنّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

    وقد أجابت عنه المعتزلة بأنّ إرادته سبحانه لو تعلّقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد ، وأمّا إذا تعلّقت بفعل الغير فبما أنّها تعلّقت بالفعل الاختياري الصادر من العبد عن حرية واختيار ، فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد ، فإن أراد واختار العبد يتحقّق الفعل ، وإن لم يرد فلا يتحقّق.

    والأولى في الجواب أن يقول : إنّ المستدل خلط بين الإرادة التكوينية المتعلّقة بالإيجاد مباشرة أو تسبيباً ، فإنّ إرادته في ذلك المجال لا تنفك عن المراد ، قال سبحانه إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. (1) ، و بين الإرادة التشريعية المتجلّية بصورة التقنين في القرآن والحديث فإنّها تتعلّق بنفس إنشائه وبعثه ، وجعله الداعي للانبعاث والانزجار ، والمراد فيها ( الإنشاء والبعث ) غير متخلّف عن الإرادة ، وأمّا فعل الغير ، أي انبعاث العبد وانتهاؤه فهو من غايات الإرادة التقنينية لا من متعلّقاتها ، فتخلّفهما عن الإرادة التقنينية لا يكون نقضاً للقاعدة ، أي امتناع تخلف مراده سبحانه عن إرادته ، لما عرفت من أنّ فعل الغير ليس متعلّقاً لإرادته في ذلك المجال.

    الرابع : ما ذكره « الفضل بن روزبهان » من أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلّماً هو خلقه الكلام فلا يقال لخالق الكلام متكلّم ، كما لا يقال لخالق الذوق إنّه ذائق. (2)

    يلاحظ عليه : أنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس قسماً واحداً وهو القسم الحلولي ، بل له أقسام ، فإنّ القيام منه ما هو صدوري كالقتل والضرب في القاتل والضارب ، ومنه حلولي كالعلم والقدرة في العالم والقادر ، والتكلّم

________________________________________

1 ـ يس : 82.

2 ـ دلائل الصدق : 1/147 ، طبعة النجف الأشرف.

(251)

    كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل ، بل من المبادئ الصدورية ، فلأجل أنّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه أنّه متكلّم وِزانَ إطلاق الرزّاق عليه سبحانه. بل ربما يصحّ الإطلاق وإن لم يكن المبدأ قائماً بالفاعل أبداً لا صدورياً ولا حلولياً ، بل يكفي نوع ملابسة بالمبدأ ، كالتمّار واللبان لبائع التمر واللبن ، وأمّا عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنّ صدق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليس قياسياً حتى يطلق عليه سبحانه الذائق والشام بسبب إيجاده الذوق والشم ، وربما احترز الإلهيون عن توصيفه بهما لأجل الابتعاد عمّا يوهم التجسيم ولوازمه.

    الخامس : أنّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي ، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه : وأََسِرُّوا قَولَكُمْ اَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ إطلاق« القول » على الموجود في الضمير من باب العناية المشاكلة ، فإنّ « القول » من التقول باللسان ، فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له ، إلاّ الصورة العلمية ، إلاّ من باب العناية.

 

حصيلة البحث

    إنّ الأشاعرة زعموا أنّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصورات والتصديقات في الأُولى ، ووراء الإرادة والكراهة في الثانية ، شيئاً يسمّونه بالكلام النفسي ، وربما خصّوا لفظ « الطلب » بالكلام النفسي في القسم الإنشائي; وبذلك صححوا كونه سبحانه متكلماً ، ككونه عالماً وقادراً ، وأنّ الكلّ من الصفات الذاتية.

    ولكن البحث والتحليل ـ كما مرّ عليك ـ أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية ، ولا وراء الإرادة

________________________________________

1 ـ الملك : 13.

________________________________________

(252)

    والكراهة في الجمل الإنشائية ، شيء نسمّيه كلاماً نفسياً ، كما عرفت أنّ الطلب أيضاً هو نفس الإرادة.

    وبذلك نقف على أنّ ما يقوله المحقّق الطوسي من أنّ « النفسانية غير معقولة » (1) أمر متين لا غبار عليه.

    إلى هنا تمّ بيان النظريات الثلاث للمعتزلة والحكماء والأشاعرة.

    وبه تمّ الكلام في المقام الأوّل. وحان أوان البحث في المقام الثاني وهوحدوث كلامه أو قدمه.

________________________________________

1 ـ كشف المراد : 178 ، ط صيدا.

________________________________________

(253)

(14)

كلام الله غير مخلوق أو قديم

    لقد شاع في أواخر القرن الثاني ، كون كلام الله غير مخلوق وقد اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمهم إمام الحنابلة ، وتحمل في طريق عقيدته هذه ألوان التعذيب ، وقد اعتنقوا هذه الفكرة مع الاعتراف بأنّه لم يرد فيها نصّ من رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ولا جاء من الصحابة فيها كلام.

    وقد تسربت تلك العقيدة مثل القول بالتشبيه والتجسيم إلى المسلمين من اليهودية والنصرانية ، حيث قال اليهود بقدم التوراة (1) والنصرانية بقدم الكلمة ( المسيح ).

    يقول أبو زهرة : كثر القول حول القرآن الكريم في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، وقد عمل على إثارة هذه المسألة ، النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي ، الذ ي كان يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكّك المسلمين في دينهم ، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيّهم ، مثل زعمه عشق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لزينب بنت جحش ، فقد جاء في القرآن أنّ عيسى بن مريم كلمته ألقاها إلى مريم ، فكان يبث بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة ، فيسألهم أكلمته قديمة أم لا؟ فإن قالوا : لا ... فقد قالوا : إنّ كلامه مخلوق (2) ،

________________________________________

1 ـ اليهودية : ص 222 تأليف أحمد شلبي كما في بحوث مع السلفيين : 153.

2 ـ يراد أنّه مختلق و مزور.

________________________________________

(254)

    وإن قالوا : قديمة ... ادّعى أنّ عيسى قديم. (1)

    وعلى ذلك وجد من قال إنّ القرآن مخلوق ، ليرد كيد هؤلاء ، فقال ذلك الجعد بن درهم ، وقاله الجهم بن صفوان ، وقالته المعتزلة واعتنق ذلك الرأي المأمون.

    وقد أعلن في سنة 212 ، أنّ المذهب الحقّ هو أنّ القرآن مخلوق ، وأخذ يدعو لذلك في مجلس مناظراته ، وأدلى في ذلك بما يراه حججاً قاطعة في هذا الموضوع ، وقد ترك المناقشة حرة ، والناس أحراراً فيما يقولون.

    ولكن في سنة 218 وهي السنة التي توفي فيها ، بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق هذه الفكرة ، ومن الغريب أنّه ابتدأ بهذا وهو خارج بغداد ، وقد خرج مجاهداً فكتب هذه الكتب وهو بمدينة الرقة ، وأخذ يرسل الكتب لحمل الناس على اعتناق عقيدة أنّ القرآن مخلوق ، إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم ، وقد جاء في بعض كتبه : وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من أُمور رعيته بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر بأنّه مخلوق محدث. (2)

    وقد سارع نائبه ببغداد إلى تنفيذ ما أمر به ، لكنّه تجاوز الحدّ السلبي إلى الحدّ الإيجابي فأحضر المحدثين والفقهاء فسألهم عن عقيدتهم حول القرآن ،

________________________________________

1 ـ « ولا شكّ أنّ ذلك تلبيس ، لأنّ معنى كلمة الله ، أنّ الله خلقه بكلمة منه ، كما نصّ على ذلك في آيات أُخرى ، لا أنّه هو ذات كلمة الله ». هذا ما أفاده أبو زهرة في تعليقته على كتابه. والحقّ أنّ المسيح كلمة الله نفسها ، وليس المسيح وحده كذلك ، بل الموجودات الإمكانية كلّها كلامه تعالى. قال سبحانه : ( وَلو أنّ ما فِي الأَرض مِنْ شَجَرة أَقلام وَالبَحر يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلمات الله

( لقمان : 27 ).2 ـ تاريخ الطبري : 7/196 ، والرسالة مبسوطة.

________________________________________

(255)

    وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة ، فأصرّوا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم : « أحمد بن حنبل » ، و« محمد بن نوح » ، و« القواريري » ، و« سجادة » فشدوا بالوثاق. لكن الكلّ رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما : ابن نوح وأحمد بن حنبل ، فسيقا إلى طرطوس ليلتقيا بالمأمون ، ومات الأوّل في الطريق ، وبقي أحمد ، وبينا هم في الطريق مات المأمون وترك وصية بها من بعده أن يؤخذ بسيرته في خلق القرآن ، وقد تولى الحكم المعتصم ثمّ الواثق فكانا على سيرة المأمون في مسألة خلق القرآن. (1)

    ولمّا تولّى المتوكّل الحكم انقلب الأمر وصارت الظروف مناسبة لصالح المحدثين ، وفي هذا الجو أعلن إمام الحنابلة عقيدته في القرآن بالقول بعدم كونه مخلوقاً.

    وقال محقّق كتاب« الأُصول الخمسة » للقاضي عبد الجبار : الحديث في القرآن وكلام الله من أهمّ المشاكل التي عرضت لمفكري الإسلام. وقد أثارت ضجة كبيرة في صفوف العلماء والعامة ، وارتبطت بها محنة كبيرة تعرف بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، وكان شعار النظريتين المتنازعتين« هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ ». فتزعم المعتزلة جهة المنادين بخلق القرآن واستجلبوا لصفهم خليفة من أعظم الخلفاء وهو المأمون ، ووزيراً من أعظم وزراء بني العباس هو أحمد بن أبي دؤاد ، وذهب ضحية الخلاف كثيرون ، وثبت القائلون بأنّه غير مخلوق على رأيهم وليس لهم من أُمور الحكم بشيء. وتراجع القائلون بخلق القرآن تحت ضغط الناس ، وخرج أحمد بن حنبل من المحنة ظافراً يضرب به المثل في الثبات على العقيدة ، كما سجل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الفكرية ، مع أنّهم روّادها الأوائل.

    أقول : و (2)ليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام ، وكم في تاريخ خلفاء

________________________________________

1 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 294 ـ 296 بتلخيص.

2 ـ الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 527.

________________________________________

(256)

    الإسلام من ضغط وعنف وتدخل في الحرية الفكرية!!

    هؤلاء هم شيعة أهل البيت عاشوا قروناً بين إخوانهم المسلمين تحت ستار التقية خوفاً على نفوسهم ودمائهم وأموالهم.

    وعلى أي تقدير فقد قال المحقّق المزبور : إنّ أوّل من تفوّه بقدم القرآن هو عبد الله بن كلاب ، لأنّ السلف كانوا يتحرجون من وصف القرآن بأنّه قديم و قالوا فقط غير مخلوق ، لكن المعتزلة زادوا بأنّ كلام الله مخلوق محدث ، وميز الأشعري متابعاً لابن كلاب بين الكلام النفسي الأزلي القديم ، والكلام المتعلّق بالأمر والنهي والخبر وهو حادث. (1)

    وأمّا ابن تيمية ففرّق بين كونه غير مخلوق وكونه قديماً وقال : وكما لم يقل أحد من السلف إنّه ( أي كلام الله ) مخلوق ، لم يقل أحد منهم إنّه قديم ، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم ... وأوّل من عرف أنّه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب. (2)

    والظاهر الواضح أنّ القول بأنّ السلف القائلين بعدم خلق القرآن ، لا يقولون بقدم القرآن ، والتفريق بين عدم الخلق والقدم لا يعدو عن أن يكون كذباً وغير صحيح.

    فأوّلاً : إنّ ابن الجوزي يصرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا إنّ القرآن كلام الله قديم. (3)

    وثانياً : إنّ معنى كون شيء غير مخلوق هو أنّه قديم ، إذ لو فرض كونه غير قديم مع كونه غير مخلوق ، فلابدّ و أن يكون قد حدث ووجد من العدم بنفسه ، وهو واضح البطلان ، قال سبحانه : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ

________________________________________

1 ـ الأُصول الخمسة : 528.

2 ـ مجموعة الرسائل : 3/20.

3 ـ المنتظم في ترجمة الأشعري : 6/332.

________________________________________

(257)

شَيْء (1). (2)

    ولأجل إيضاح الحال نأتي بما جاء به أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري في ذلك المجال.

    قال أحمد بن حنبل : والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله ، فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.

    وكلّم الله موسى تكليماً ، من الله ، سمع موسى يقيناً ، وناوله التوراة من يده ، ولم يزل الله متكلماً عالماً ، تبارك الله أحسن الخالقين. (3)

    وقال أبو الحسن الأشعري : ونقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر. (4)

    وقد نقل عن إمام الحنابلة أنّه قيل له : هاهنا قوم يقولون : القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق. فقال : هؤلاء أضر من الجهمية على الناس ، ويلكم فإن لم تقولوا : ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد : هؤلاء قوم سوء ، فقيل له : ما تقول؟ قال : الذي اعتقد وأذهب إليه ولا أشك فيه أنّ القرآن غير مخلوق. ثمّ قال : سبحان الله ، ومن شكّ في هذا؟ (5)

    هذا ما لدى المحدثين والحنابلة والأشاعرة. وأمّا المعتزلة : فيقول القاضي عبد الجبار : أما مذهبنا في ذلك : أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو

________________________________________

1 ـ الطور : 35.

2 ـ بحوث مع أهل السنّة والسلفية : 158.

3 ـ كتاب السنة : 49.

4 ـ الإبانة : 21 ، ولاحظ مقالات الإسلاميين : 321.

5 ـ الإبانة : 69 ، وقد ذكر في : ص 76 أسماء المحدثين القائلين بأنّ القرآن غير مخلوق.

________________________________________

(258)

    مخلوق حدث ، أنزله الله على نبيّه ليكون علماً ودالاً على نبوته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام ، لنرجع إليه في الحلال والحرام واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر ، وإذاً هو الذي نسمعه اليوم و نتلوه ، وإن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن. (1)

    وقبل الخوض في تحليل المسألة نقدّم أُموراً :

    1. إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كلّ منهما عقيدة الآخر فإمام الحنابلة يقول : إنّ من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. وقالت المعتزلة : إنّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم ، شرك بالله سبحانه ، فيجب تحليلها على ضوء العقل والكتاب والسنة بعيداً عن كلّ هياج ولغط. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة قد طرحت في أجواء خاصة ، عزّ فيها التفاهم وساد عليها التناكر ، وإلاّ فلا معنى لمسلم يؤمن بالله ورسوله ، وكتابه وسنته ، التنازع في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنّه ملاك الكفر وأنّ التوحيد في خلافه ، وتزعم الطائفة الأُخرى عكس ذلك.

    ولو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي ، التصريح بأحد القولين ، ورفع الستار عن وجه الحقيقة ، مع أنّا نرى أنّه ليس في الشريعة الإسلامية نصّ في المسألة ، وإنّما طرحت في أوائل القرن الثاني. نعم ، استدلت الأشاعرة ببعض الآيات ، غير أنّ دلالتها خفية ، لا يقف عليها ـ على فرض الدلالة ـ إلاّ الأوحدي. وما يعد ملاك التوحيد والشرك يجب أن يرد فيه نصّ لا يقبل التأويل ، ويقف عليه كلّ حاضر وباد ...

    2. قد عرفت أنّ بعض السلف كانوا يتحرّجون من وصف القرآن بأنّه قديم ، وقالوا فقط إنّه غير مخلوق. ثمّ إنّ القائلين بهذا القول تدرّجوا فيه ووصفوا كلام الله بأنه قديم ، ومن المعلوم أنّ توصيف شيء بأنّه غير مخلوق أو قديم ممّا لا يتجرّأ عليه العارف ، لأنّ هذين الوصفين من خصائص ذاته

________________________________________

1 ـ شرح الأُصول الخمسة : 258.

________________________________________

(259)

    سبحانه ، فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أن يتصف بكونه غير مخلوق ، أو كونه قديماً. ولو فرضنا صحّة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام ، فكيف يمكن أن تكون هذه المسألة الغامضة ممّا يجب الاعتقاد به على كلّ مسلم ، مع أنّ الإنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أن يحلل ويدرك كون شيء غير الله سبحانه ، وفي الوقت نفسه غير مخلوق.

    إنّ سهولة العقيدة ويسر التكليف من سمات الشريعة الإسلامية وبهما تفارق سائر المذاهب السائدة على العالم ، مع أنّ تصديق كون كلامه تعالى ـ و هو غير ذاتهـ غير مخلوق أو قديم ، شيء يعسر فهمه على الخاصة ، فكيف على العامة.

    3. إنّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن المقروء ، الأمر الذي تنكره البداهة والعقل ونفس القرآن. وقد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال : « والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً وأضلّ اعتقاداً عن كلّ ملّة جاء القرآن نفسه بتضليلها والدعوة إلى مخالفتها ». (1)

    ولمّا رأى ابن تيمية الذي يظن نفسه مروّجاً لعقيدة أهل الحديث ، أنّها عقيدة تافهة ، صرح بحدوث القرآن المقروء وحدوث قوله تعالى : يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ و يا أَيُّهَا المُدَّثِّر وقوله : قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتي تُجادِلُكَ في زَوْجِها ... إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على حدوث النداء والسمع من حينه لا من الأزل. (2)

    والعجب أنّه استدلّ بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء ، وقال : إنّ ترتيب حروف الكلمات الجمل يستلزم الحدوث آنَ تحقُّقِ كلمة « بسم الله » ، يتوقف على حدوث الباء وانعدامها ، ثمّ حدوث السين كذلك إلى آخر

________________________________________

1 ـ رسالة التوحيد ، الطبعة الأُولى وقد حذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة لاحظ : ص 49 من طبعة مكتبة الثقافة العربية.

2 ـ مجموعة الرسائل الكبرى : 3/97.

________________________________________

(260)

    الكلمة ، فالحدوث والانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها ، وذلك حتى يمكن أن توجد كلمة ، فإذاً كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع الله تعالى؟!

    4. لمّا كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث وسمتهم ، ومن جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم ، جاءت الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول بعدم خلق القرآن وقدمه ، والتجأوا إلى أنّ المراد من كلام الله ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي ، وقد عرفت مدى صحّة القول بالكلام النفسي. وليس هذا أوّل مورد تقوم الأشاعرة فيه بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشكل يقبله العقل ، وعلى كلّ تقدير فالقول بقدم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بقدم القرآن المقروء.

    5. كيف يكون القول بخلق القرآن وحدوثه ملاكاً للكفر مع أنّه سبحانه يصفه بأنّه محدث أي أمر جديد. قال سبحانه : اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ* ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحَدَث إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون (1). والمراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه : إِنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون ) (2). وقال سبحانه : وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِك . (3)

    والمراد من « محدث » هو الجديد ، وهو وصف للذكر ، ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل. كما أنّ الإنجيل جديد لأنّه أتاهم بعد التوراة. وكذلك بعض سور القرآن وآياته « ذكرجديد » أتاهم بعد بعض. وليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله ، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنّه وصف ل ـ « ذكر » فالذكر ـ بذاته وشؤونهـ محدث ، فلا معنى لإرجاع الوصف إلى النزول ، بعد كونه محدثاً بالذات.

________________________________________

1 ـ الأنبياء : 1 ـ 2.

2 ـ الحجر : 9.

3 ـ الزخرف : 44.

(261 )

    وكيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنّه سبحانه يقول في حقّه : وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنَّ بِالَّذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكيلاً (1). فهل يصحّ توصيف القديم بالإذهاب والإعدام؟

    6. العجب أنّ محط النزاع لم يحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه ، فهاهنا احتمالات نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل والقرآن :

    أ. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها ، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم وقرأها الرسول فتلقتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة.

    ب. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والأدب أو غيرها.

    ج. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجمله.

    د. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.

    هـ . الكلام النفسي القائم بذاته.

    و. كون القرآن ليس مخلوقاً للبشر « وما هو قول البشر ».

    وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم بل تطَّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله ، وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم :

    أمّا الأوّل : فلا أظن إنساناً يملك شيئاً من الدرك والعقل يعتقد بكونه غير مخلوق أو كونه قديماً ، كيف وهو شيء من الأشياء ، وموجود من الموجودات ، ممكن غير واجب. فإذا كان غير مخلوق وجب أن يكون واجباً

________________________________________

1 ـ الإسراء : 86.

________________________________________

(262)

    بالذات ، وهو نفس الشرك بالله سبحانه. حتى لو فرض أنّه سبحانه تكلم بهذه الألفاظ والجمل ، فلا يخرج تكلمه عن كونه فعله ، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟

    وأمّا الثاني : فهو قريب من الأوّل في البداهة ، فإنّ القرآن يشتمل ـ و كذا سائر الصحف ـ على الحوادث المحقّقة في زمن النبي من محاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أوالمسرّة ، فها يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه : قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَول الَّتي تُجادِلُكَ في زَوجِها وَتَشْتَكي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُركُما إِنَّ اللّهَ سَميعٌ بَصيرٌ (1) ، قديمة؟

    وقد أخبر الله تبارك و تعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث ، وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب ، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير ، فهذه الحقائق واردة في القرآن الكريم ، حادثة بلا شك لا قديمة.

    وأمّا الثالث : فلا شكّ أنّ ذاته وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لاإله إلاّ هو ، قديم بلا إشكال ، وليس بمخلوق بالبداهة ، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن ، بل كلّما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق. فحقائقه المشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة ، وفي الوقت نفسه ما يشير به من الكلام والجمل ، حادث.

    وأمّا الرابع : أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها ـ فلا شكّ أنّه قديم بنفس ذاته ، ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين ـ إلاّمن شذّ من الكرامية ـ بحدوث علمه.

    وأمّا الخامس : أعني كونه سبحانه متكلماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف ولا أصوات ، مغاير للعلم والإرادة ـ فقد عرفت أنّ ما أسماه الشيخ

________________________________________

1 ـ المجادلة : 1.

________________________________________

(263)

    الأشعري بكلام نفسي لا يخرج عن إطار العلم والإرادة ، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.

    وأمّا السّادس : أعني كون الهدف من نفي كونه غير مخلوق القرآن غير مخلوق للبشر ، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه ، فهذا أمر لا ينكره مسلم ، فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه ، والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله قال سبحانه : قُلْ لَئِنِ اجَتَمَعتِ الإِنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً. (1)

    وقد نقل سبحانه عن بعض المشركين الألداء أنّ القرآن قول البشر وقال : فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر* اِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَر ـ ثمّ أوعده بقوله : ـ سَأُصليه سَقَر* وَما أَدْراكَ ما سَقَر* لا تُبْقي ولا تَذرَ . (2)

    وهذا التحليل يعرب عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مشوّشة اختلط فيها الحابل بالنابل ، ولم يكن محط البحث محرراً على وجه الوضوح حتى يعرف المثبت عن المنفي ، ويمخّض الحقّ من الباطل ، ومع هذا التشويش في تحرير محل النزاع ، نرى أهل الحديث والأشاعرة يستدلّون بآيات وغيرها على قدم كلامه ، وكونه غير مخلوق ، وإليك هذه الأدلة واحداً بعد واحد :

 

أدلّة الأشاعرة على كون القرآن غير مخلوق

    استدلّ الأشعري على قدم القرآن بوجوه :

    الأوّل : قوله سبحانه : إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) (3) قال الأشعري : وممّا يدلّ من كتاب الله على أنّ كلامه غير مخلوق قوله عزّوجلّ : إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أَرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون. فلوكان القرآن مخلوقاً لوجب أن يكن مقولاً له : « كن فيكون ». ولو كان الله عزّوجلّ

________________________________________

1 ـ الإسراء : 88.

2 ـ المدثّر : 24 ـ 28.

3 ـ النحل : 40.

________________________________________

(264)

    قائلاً للقول« كن » لكان القول قولاً ، وهذا يوجب أحد أمرين :

    إمّا أن يؤول الأمر إلى أنّ قول الله غير مخلوق.

    أو يكون كلّ قول واقعاً بقول لا إلى غاية ، وذلك محال ، وإذااستحال ذلك ، صحّ وثبت أنّ لله عزّ وجلّ قولاً غير مخلوق. (1)

    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الاستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية ونظائرها أمراً لفظياً مؤلّفاً من الحروف والأصوات ، وأنّه سبحانه كالسلطان الآمر ، فكما أنّه يتوسل عند أمر وزرائه وأعوانه باللفظ فهكذا سبحانه يتوسل عند خلق السماوات والأرض باللفظ والقول ، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة « كن ».

    ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال باطل جدّاً ، إذ لا معنى لخطاب المعدوم. وما يقال في تصحيحه بأنّ المعدوم معلوم لله تعالى ـ فهو يعلم الشيء قبل وجوده ، وأنّه سيوجد في وقت كذا ـ غير مفيد ، لأنّ العلم بالشيء لا يصحح الخطاب الجدي ، وإنّما المراد من الأمر في الآية كما فهمه جمهور المسلمين ، هو الأمر التكويني المعبر به عن تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد الشيء ، والمقصود من الآية : إنّ تعلّق إرادته سبحانه بشيء يستعقب وجوده ، ولا يأبى عنه الشيء ، وأنّ ما قضاه من الأُمور وأراد كونه ، فإنّه يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. وبذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب والسنّة ، والأمر التكويني ، فالأوّل يخاطب به الإنسان العاقل القابل للتكليف ولا يخاطب به غيره فضلاً عن المعدوم ، وهذا بخلاف الأمر التكويني فإنّه رمز إلى تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد المعدوم.

    وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) يفسر الأمر التكويني بقوله : « يقول لمن أراد كونه ، كن ، فيكون لا بصوت يقرع ، ولا بنداء

________________________________________

1 ـ الإبانة : 52 ـ 53.

________________________________________

(265)

    يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه ، أنشأه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً ». (1)

    وثانياً : نحن نختار الشق الثاني ، ولا يلزم التسلسل ، ونلتزم بأنّ هنا قولاً سابقاً على القرآن هو غير مخلوق ، أوجد به سبحانه مجموع القرآن وأحدثه ، حتّى كلمه « كن » الواردة في تلك الآية ونظائرها ، فتكون النتيجة حدوث القرآن وجميع الكتب السماوية وجميع كلمه وكلامه إلاّ قولاً واحداً سابقاً على الجميع ، فينقطع التسلسل بالالتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد ، فتدبر.

    وثالثاً : كيف يمكن أن تكون كلمة « كن » الواردة في الآية وأمثالها قديمة ، مع أنّها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة. يقول سبحانه مخبراً عن المستقبل : ( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) و لأجل ذلك التجأ المتأخرون من الأشاعرة إلى أنّ لفظ « كن » حادث ، والقديم هو المعنى الأزلي النفساني. (2)

    الثاني : قوله سبحانه : إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَيَطْلُبُهُ حَثيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَوَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمينَ . (3)

    قال الأشعري : « فالخلق » جميع ما خلق داخل فيه ، ولما قال« الأمر » ذكر أمراً غير جميع الخلق. فدلّ ما وصفناه على أنّ الله غير مخلوق. وأمّا أمر الله فهو كلامه.

    وباختصار : انّه سبحانه أبان الأمر من الخلق ، وأمر الله كلامه ، وهذا

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 186.

2 ـ دلائل الصدق حاكياً عن ابن روزبهان الأشعري : 1/153.

3 ـ الأعراف : 54.

________________________________________

(266)

    يوجب أن يكون كلام الله غير مخلوق. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أنّ « الأمر » في الآية بمعنى كلام الله ، وهو غير ثابت ، بل القرينة تدلّ على أنّ المراد منه غير ذلك ، كيف وقد قال سبحانه في نفس الآية : والنُّجُوم مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْق وَالأَمْر والمراد من اللفظين واحد ، والأوّل قرينة على الثاني. وهدف الآية هو أنّ الخلق بمعنى الإيجاد وتدبير الموجد كلاهما من الله سبحانه ، وليس شأنه سبحانه خلق العالم والأشياء ثمّ الانصراف عنها وتفويض تدبيره إلى غيره ، حتّى يكون الخلق منه ، والتدبير على وجه الاستقلال من غيره ، بل الكلّ من جانبه سبحانه.

    وباختصار : المراد من الخلق هو إيجاد ذوات الأشياء ، والمراد من الأمر ، النظام السائد عليها : فكأنّ الخلق يتعلّق بذواتها ، والأمر بالأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها. وتدلّ على ذلك بعض الآيات التي يذكر فيها « تدبير الأمر » بعد الخلق.

    يقول سبحانه : إِنَّ رَبّكُمُ الله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ما مِنْ شَفيع إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه. (2)

    وقال تعالى : اللّهُ الَّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونها ثُمَّ اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري لأَجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ . (3)

    فليس المراد من الأمر ما يقابل النهي ، بل المراد الشؤون الراجعة إلى التكوين ، فيكون المقصود إنّ الإيجاد أوّلاً ، والتصرف والتدبير ثانياً ، منه سبحانه ، فهو الخالق المالك لا شريك له في الخلق والإيجاد ، ولا في الإرادة والتدبير.

________________________________________

1 ـ الإبانة : 51 ـ 52.

2 ـ يونس : 3.

3 ـ الرعد : 2.

________________________________________

(267)

    وفي الختام نضيف أنّه سبحانه يصف الروح بكونه من مقولة الأمر ويقول : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (1) فهل الأشعري يسمح لمسلم أن يعتقد بكون الروح ( بأيّ وجه فسر ) المسؤول عنه في الآية غير مخلوق؟!

    الثالث : قوله سبحانه : إِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَرِ (2) قال الأشعري : فمن زعم أنّ القرآنمخلوق فقد جعله قولاً للبشر ، وهذا ما أنكره الله على المشركين. (3)

    يلاحظ عليه : أنّ من يقول بأنّ القرآن مخلوق لا يريد إلاّ كونه مخلوقاً لله سبحانه. فالله سبحانه خلقه وأوحى به إلى النبي ، ونزّله عليه نجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة ، وجعله فوق قدرة البشر ، فلن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

    نعم ، كون القرآن مخلوقاً لله سبحانه لا ينافي أن يكون ما يقرأه الإنسان مخلوقاً له ، لبداهة أنّ الحروف والأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم ، وهذا كمعلّقة امرئ القيس وغيرها ، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر ، لكن المقروء مثال له ، ومخلوق للقارئ.

    والعجب أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده لم ينقّحوا موضع النزاع ، فزعموا أنّه إذا قيل « القرآن مخلوق » فإنّما يراد منه كون القرآن مصنوعاً للبشر ، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه ، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن ويقرأ هتاف الباري سبحانه فيه : نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقِّ (4)أن يتفوّه بأنّ القرآن مخلوق للبشر. بل المسلمون جميعاً يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في

________________________________________

1 ـ الإسراء : 85.

2 ـ المدثر : 25.

3 ـ الإبانة : 56.

4 ـ آل عمران : 3.

________________________________________

(268)

    حقّه ، غير أنّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم ، فيكون مثال ما نزّله سبحانه مخلوقاً للإنسان. وكون المثال مخلوقاً ليس دليلاً على أنّ الممثَّل مخلوق لهم. والناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن ، ولكنّهم قادرون على إيجاد مثاله ، فلاحظ وتدبّر.

    وبذلك تقف على أنّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب « الإبانة » غير تام من جهة الدلالة ، ولا نطيل المقام بإيراده ونقده ، وفيما ذكرنا كفاية.

    بقيت هنا نكتة ننبه عليها وهي : أنّ المعروف من إمام الحنابلة أنّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السلف الصالح ، لأنّه ما كان يرى علماً إلاّ علم السلف. فما يخوضون فيه يخوض فيه ، وما لا يخوضون فيه من أُمور الدين يراه ابتداعاً يجب الإعراض عنه. وهذه مسألة لم يتكلم فيها السلف فلا يتكلّم فيها. والمبتدعون هم الذين يتكلمون ، وعلى هذا ، كان عليه أن يسير وراءهم ، وكان من واجبه حسب أُصوله ، التوقّف وعدم النبس في هذا الموضوع ببنت شفة. نعم ، نقل عنه ما يوافق التوقف ـ رغم ما نقلناه عنه من خلافهـ وأنّه قال : من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن زعم أنّه غير مخلوق فهو مبتدع.

    ويرى المحقّقون أنّ إمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن ـ بأنّه مخلوق أو غير مخلوق ـ بدعة ، ولكنّه بعد ما زالت المحنة وطلب منه الخليفة العباسي المتوكل ، المؤيد له ، الإدلاء برأيه ، اختار كون القرآن ليس بمخلوق. ومع ذلك لم يؤثر عنه أنّه قال إنّه قديم. (1)

 

موقف أهل البيت ( عليهم السَّلام )

    إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدد فيه لم يكن بهدف إحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك. بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت

________________________________________

1 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 300.

________________________________________

(269)

( عليهم السَّلام ) منعوا أصحابهم عن الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الريان بن الصلت ، الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) وقال له : ما تقول في القرآن؟ فقال : « كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضّلوا ».

    وروى علي بن سالم ، عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد فقلت له : يابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقال : « هو كلام الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ووحي الله ، وتنزيله ، وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل حكيم حميد ».

    وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال : « قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهم السَّلام ) : يابن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا ، فقال قوم إنّه مخلوق ، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟ فقال ( عليه السَّلام ) : « أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول إنّه كلام الله ».

    فإنّا نرى أنّ الإمام ( عليه السَّلام ) يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لمّا رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم ( عليهم السَّلام ) عندما أحسّوا بسلامة الموقف ، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله ، وغيره مخلوق ، والقرآن ليس نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتحاد المنزل ( بالكسر ) والمنزل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

    فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا ( عليهم السَّلام ) إلى بعض شيعته ببغداد : « بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة ، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله عزّوجلّ ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين ، جعلنا الله وإيّاك من الّذين

 

________________________________________

(270)

    يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ». (1)

    في الروايات المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون ، فقد كان أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كتب إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن ، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة ، وبلغت المحنة أشدّها على المحدثين ، وبقي أحمد بن حنبل ثمانية عشر شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. ولماجاء المتوكل العباسي نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم ، فعند ذلك أحس المحدّثون بالفرج ، وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

    فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً ، وقرآنياً ، لمعرفة الحقيقة وتبيينها ، أو أنّه كان وراءه شيء آخر. والله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.

________________________________________

1 ـ توحيد الصدوق ، باب القرآن ما هو ، الأحاديث : 2و 3و 4و 5.

(271)

(15)

عموم إرادته لكلّ شيء

    إنّ من آرائه هو عموم إرادة الله سبحانه لكلّ شيء ، ويعد ذلك من المسائل الرئيسية في مذهبه ، وحاصله : أنّ كلّ ما في الكون من جواهر وأعراض حتى الإنسان وفعله ، مراد لله سبحانه ، تعلّقت إرادته بوجوده ، وليس شيء في صفحة الوجود خارجاً عن سلطان إرادته ، ولا يقع شيء من صغير وكبير إلاّ بإرادة منه سبحانه. ويقابل ذلك مذهب المعتزلة حيث جعلوا أفعال العباد خارجة عن حريم إرادته ، فإيمان العبد وكفره وعصيانه وإطاعته لم تتعلّق بها إرادته سبحانه ، وإنّما خلقه وفوض إليه إرادته. وإنّما اختلف المذهبان في عموم الإرادة وعدمه ، لأجل التحفّظ على عدله سبحانه والتخلّص عن الجبر وعدمهما ، فالأشعري ومن حذا حذوه لا يتحاشون عن الاعتقاد بالأصل أو الأُصول التي تساند الجبر وتستلزمه ، بناءً على ما أسّسه من كون الحسن ما حسّنه الشرع ، والقبح ما قبّحه الشارع ، وليس للعقل دور في تشخيص الحسن والقبح. وهذا بخلاف المعتزلة فإنّ للتحسين والتقبيح دوراً عظيماً في تكييف مذهبهم ، وعلى هذا الأساس ذهب الأشعري إلى عموم إرادته سبحانه لكلّ شيء من وجوده وفعله ، من غير فرق بين الإنسان وفعله ، سواء أوافق العدل أم خالفه ، استلزم الجبر أم لا.

    وزعمت المعتزلة أنّ القول بعموم الإرادة يستلزم الجبر في أفعال البشر ، وهو ينافي عدله سبحانه. ولا معنى لأن يريد سبحانه كفر العبد وهو يأمر بالإيمان به ، ويعذبه على ما أراده منه ، وسيوافيك الكلام في استلزام عموم

 

________________________________________

(272)

    إرادته الجبر وعدمه. وعلى كلّ تقدير فقد استدل الأشعري على مقالته بوجوه عقلية ونقلية ، نشير إلى أُمهاتها :

الأدلّة العقلية على عموم إرادته

    1. إنّ الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة لكلّ ما يجوز أن يراد على حقيقته. (1)

    يلاحظ عليه : أنّه لم يبيّن وجه الملازمة بين كون الإرادة من صفات الذات وعموميتها لجميع المحدثات ، فكون الإرادة من صفات الذات لا يستلزم تعلّقها بكلّ ما يجوز أن يراد.

    اللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى وجه آخر ، وهو كون الإرادة من صفاته الذاتية ، والذات علّة تامّة بلا واسطة لكلّ شيء ، فيستنتج عموم إرادته لكلّ شيء من عموم علّيّة ذاته لكلّ شيء كما سيذكره.

    2. دلّت الدلالة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء حادث ، ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده. (2)

    3. قد دلّت الدلالة على أنّ كلّ المحدثات مخلوقات لله تعالى ، فلمّا استحال أن يفعل الباري تعالى مالا يريده ، استحال أن يقع من غيره ما لا يريده ، إذ كان ذلك أجمع أفعالاً لله تعالى. (3)

    ويلاحظ على الوجهين : أنّهما مبنيان على أصل غير مسلَّم عند المعتزلة وهو أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، وأنّه سبحانه علّة تامة لها ، وفاعل مباشري لكلّ شيء ، وقائم مقام جميع العلل والأسباب.

    4. إنّه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى مالا يريده ، لأنّه لو كان في سلطان الله تعالى مالا يريده لوجب أحد أمرين : إمّا إثبات سهو وغفلة ، أو

________________________________________

1 ـ اللمع : 47.

2 ـ نفس المصدر.

3 ـ نفس المصدر.

________________________________________

(273)

    إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده ، فلمّا لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه مالا يريده. (1)

    5. لو كان في العالم مالا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه ، ولو كان ما يكره كونه ، لكان يأبى كونه. وهذا يوجب أنّ المعاصي كانت ، شاء الله أم أبى. وهذه صفة الضعيف المقهور. وتعالى ربّنا عن ذلك علوّاً كبيراً. (2)

    يلاحظ على الوجهين : أنّ عدم تعلّق إرادته ليس بمعنى تعلّق إرادته بعدمه ، فلا يكون صدور الفعل عن الغير دليلاً على سهوه أو عجزه كما زعم ، كما لا يكون دليلاً على كونه مقهوراً ، إذ عدم كراهية وجود المعاصي لا يلازم كراهية عدمه ، حتى يستدلّ بوقوعها على المقهورية.

    وفي الختام ، إنّ القول بعموم إرادته سبحانه لكلّ ما لا يجوز أن يراد عند الأشاعرة ، يتفرع على أصل آخر ، وهو أنّه سبحانه خالق لكلّ شيء مباشرة ، وأنّه لا سبب ولا علّة في دار الوجود إلاّ هو ، وليس لغيره أي سببية وتأثير استقلالاً وتبعاً. فلازم ذلك القول إنكار النظام السببي والمسببي ، والاعتراف بعلة واحدة قائمة مقام جميع العلل الطبيعية والمجردة ، وهذا القول لا ينفك عن عموم إرادته لكلّ شيء ، فكان الأصل هو مسألة خلق الأعمال عندهم ، ويترتب عليها القول بعموم إرادته. ويشهد لذلك بعض ما مرّ من أدلّة الشيخ الأشعري كالدليل الثاني.

    قال الرازي في المحصل : « إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات خلافاً للمعتزلة.[وسبق] لنا أن بيّنا أنّه تعالى خالقها ، وقد تقدّم أنّ خالق الشيء مريد لوجوده ». (3)

    وقال القاضي عضد الدين الإيجي في المواقف : إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون لنا ، أمّا أنّه مريد للكائنات فلأنّه خالق

________________________________________

1 ـ اللمع : 49.

2 ـ اللمع : 57 ـ 58.

3 ـ تلخيص المحصل : 334.

________________________________________

(274)

    الأشياء كلّها لما مرّ من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة. (1)

    ثمّ إنّ الأشاعرة زعمت أنّ في ذلك القول تعظيماً لقدرة الله تعالى وتقديساً لها عن شوائب النقصان والقصور في التأثير ، ولكن غفلوا عن أنّ تفسير إرادته عن طريق خلق الأعمال مباشرة وبلا واسطة ، وإنكار سلسلة العلل والمعاليل في دار الوجود ، يستلزم نسبة كلّ عيب وشين إلى الله سبحانه ، فكفر الكافر مراد لله سبحانه لأنّه خالقه ، وإن كان المسؤول هو الكافر المجبور المكتوف الأيدي.

    نعم ، تفسير عموم إرادته بهذا الوجه في جانب الإفراط ، كما أنّ قول المعتزلة بإخراج أفعال العباد عن حريم إرادته في جانب التفريط ، حيث زعموا أنّه سبحانه أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال ، ففوض إليهم الأمر ، فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على طبق مشيئتهم وقدرتهم متمسكين بالقول المعروف : « سبحان من تنزّه عن الفحشاء » ناسين القول الآخر : سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء » وقد ندّد أئمّة الإمامية بكلا الرأيين فقد سأل محمد بن عجلان الصادق ( عليه السَّلام ) فقال له : فوض الله الأمر إلى العباد؟ فقال : « الله أكرم من أن يفوّض إليهم ». قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال : « الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه ». (2)

    وقال الإمام موسى الكاظم ( عليه السَّلام ) في ذم المفوضة :

    « مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله عزّوجلّ بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه ». (3)

    وعلى ضوء ذلك فيجب تفسير عموم إرادته على وجه يليق بساحته ، مع

    التحفّظ على الأُصول المسلّمة العقلية فنقول :

________________________________________

1 ـ شرح المواقف : 8/174.

2 ـ التوحيد للصدوق : 361 ، الحديث6.

3 ـ بحار الأنوار : 5/54 ، الحديث93 ، ط طهران.

________________________________________

(275)

التفسير الصحيح لعموم إرادته

    لا شكّ أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي عرّفناك به عند البحث عن « خلق الأعمال » هو كون ما في الوجود مخلوقاً لله سبحانه ، لكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب ، بل بمعنى انتهاء كلّ الأسباب والمسببات إليه سبحانه ، كانتهاء المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، وقيام الممكن بالذات ، بالواجب بالذات.

    هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّ إرادته سبحانه من صفات ذاته ، وإن لم نحقّق كنهها ، لأنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، غير أنّ الإرادة في الإنسان طارئة حادثة ، وفيه سبحانه ليست كذلك.

    فإذا كانت إرادته نفس ذاته ، والذات هي العلّة العليا للكون فلا يكون هناك شيء خارج عن حريم إرادته ، فكما تعلّقت قدرته بكلّ شيء ، تعلّقت إرادته به ، ولا يكون في صفحة الوجود شيء خارج عن سلطان إرادته.

    ولكن وزان عمومية إرادته لكلّ شيء ، وزان عمومية قدرته لكلّ شيء ، فكما أنّ عمومية الثانية لا تسلتزم الجبر ، فهكذا عمومية الإرادة ، وذلك لأنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل كلّ شيء عن فاعله على وجه الإلجاء والاضطرار ، بل تعلّقها به على قسمين : قسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله على نحو الاضطرار ، ولكن لا عن شعور ، كالحرارة بالنسبة إلى النار; أو عن شعور ، ولكن لا عن إرادة واختيار ، كحركة المرتعش. وقسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله عن اختيار.

    فمعنى تعلّق إرادته بفعل الإنسان هو تعلّق إرادته بكونه فاعلاً مختاراً يفعل ما يشاء في ظل مشيئته سبحانه ، فقد شاء أن يكون مختاراً ، وفي وسعه سبحانه سلب اختياره وإلجاؤه إلى أحد الطرفين من الفعل والترك.

    وباختصار : إنّه كما تعلقت إرادته بصدور فعل كلّ فاعل عنه ، كذلك تعلّقت إرادته بصدور فعله عن المبادئ الموجودة فيها.

 

________________________________________

(276)

    فالفواعل الطبيعية غير المختارة تعلّقت إرادته بصدور آثارها عنها بلا علم أو بلا اختيار ، وأمّّا غيرها فقد تعلّقت بصدور أفعاله ( الإنسان ) عن المبادئ الموجودة فيه ، ومن المبادىء كونه مختاراً في تعيين الفعل وترجيحه على الترك.

    وعموم الإرادة بهذا المعنى لا يستلزم الجبر بعد التأمل والإمعان. وأمّا النقل فيشهد على عمومية إرادته بعض الآيات ، وإليك قسماً منها :

    1. قال سبحانه : وَما تَشاءُونَ إِلاّ أنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمينَ . (1)

    وهو صريح في أن تعلّق مشيئة الإنسان بعد تعلّق مشيئة الله ، لا قبله ولا معه.

    2. وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله . (2)

    وهذا أصل عام في عالم الوجود وإنّما ذكر الإيمان من باب المثال.

    3. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقينَ. (3)

    فقطع الأشجار أو إبقاؤها على أُصولها من أفعال الإنسان كان مشمولاً لإذنه سبحانه ومتعلّقاً به.

    هذا إجمال ما أوضحناه في الأبحاث الكلامية ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مظانّها.

________________________________________

1 ـ التكوير : 29.

2 ـ يونس : 100.

3 ـ الحشر : 5.

________________________________________

(277)

(16)

التحسين والتقبيح العقليان

    قد عنون الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم « التعديل والتجوير » وهذه المسألة ، تعد الحجر الأساس لكلام الأشعري وعقيدة أهل الحديث والحنابلة. فالشيخ تبعاً لأبناء الحنابلة صوّر العقل أقلّ من أن يدرك ما هو الحسن وما هو القبيح ، وما هو الأصلح وما هو غيره ، قائلاً بأنّ تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية ، وتقيدها بقيد وشرط ، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل ، كما عليه الاجتناب عمّا هو القبيح عنده. فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهية قالوا : لا حسن إلاّما حسّنه الشارع ، ولا قبيح إلاّ ما قبّحه ، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسناً.

    أقول : الإنسان المتحرر عن كلّ عقيدة مسبقة ـ وعن كلّ عامل روحي يمنعه عن الاعتناق بحكم العقل في ذلك المجال ـ يصعب عليه الإذعان بصحّة عقوبة الطفل المعصوم ، وتصويره حسناً وعدلاً. ولا تجد إنساناً على أديم الأرض ينكر قبح الإساءة إلى المحسن. فعند ذلك يتوارد السؤال عن العلة التي دفعت الأشعري إلى هذه العقيدة ، ولم يكن ذلك إلاّ لمواجهة المعتزلة في تحكيمهم العقل على الشرع ، وإخضاعهم الدين له ، حتى صاروا يؤوّلون بعض ما لا ينطبق من الشرع على أُصولهم العقلية. فصار ذلك الإفراط دافعاً للشيخ إلى التفريط والتورط في مغبة إعدام العقل ورفضه عن ساحة الإدراك على الإطلاق.

 

________________________________________

(278)

    ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من تفكير الأشعري في هذا الباب ننقل بعض عباراته من كتابه « اللمع » :

    يقول : فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟

    قيل له : لله تعالى ذلك ، وهو عادل إن فعله ـ إلى أن قال ـ : ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان. وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك ، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين ، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. (1)

 

دليل الأشعري على نفي التحسين والتقبيح العقليين

1. هو المالك القاهر

    استدلّ الأشعري على مقالته ، بقوله : والدليل على أنّ كلّ ما فعله ، فله فعله ، أنّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ولا زاجر ، ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم ، وحد له الحدود.

    فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا ، لأنّا تجاوزنا ما حُدَّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلمّا لم يكن البارئ[مملوكاً ]ولا تحت أمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه ، قيل له : أجل ، ولوحسّنه لكان حسناً ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض. فإن قالوا : فجوّزوا عليه أن يكذب ، كما جوّزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم : ليس كلّ ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به. (2)

    يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فإنّنا نسأل الشيخ الأشعري إنّه سبحانه إذا آلم طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب ، ورأى ذلك بأمّ عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، ونفس الحسن ، أو أنّه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً منكراً؟ ومثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله ، مع

________________________________________

1 ـ اللمع : 116 ـ 117.

2 ـ نفس المصدر.

________________________________________

(279)

    كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل ، غير متجاوز عنه ، بحجّة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟

    وأمّا ثانياً : فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت ، يقدر على كلّ أمر ممكن كما عرفت من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه ، نوع تدخل في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحقّ غير ذلك.

    توضيحه : إنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كلّ زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه ، وإنّ أيّ فعل يصدر منه تعالى وأيّ منه لا يصدر ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه بل هو ـ بالنظر إلى الله وصفاته التي منها الحكمة والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.

    وبعبارة أُخرى : إنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكلّ الكمال ، والغني عن كلّ شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقق الصارف عنه وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً. وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح ، ولا تهدف به إلى تحديد فعله

 

________________________________________

(280)

    من جانب العقل ، بل الله ، بحكم أنّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح ، وليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.

    وباختصار : إنّ فعله سبحانه ـ مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضوياً ، ومتحرّراً عن كلّ سلب وإيجاب ، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، وإنّما هو واقعية وحقيقة يكشف عنها العقل ، كما يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتصور أنّ فعله سبحانه متحرر من كلّ قيد وحدّ ، بحجّة حفظ شأن الله سبحانه وسعة قدرته ، أشبه بالمغالطة ، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعله عن كلّ قيد وشرط.

    وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليّين ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري. 2. لو كان التحسين والتقبيح ضرورياً لما وقع الاختلاف

    قالوا : « لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه و بين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، لكن التالي باطل بالوجدان ».

    وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : « ويجوز التفاوت في العلم لتفاوت التصور ». (1)

    توضيحه : أنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصور أطرافها. وقد قرر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب ، فالأوّليات أبدَهُ من المشاهدات بمراتب ، والثانية أبده من التجريبيات ، والثالثة أبده من الحدسيات ، والرابعة أبده من المتواترات ، والخامسة أبده من الفطريات.

________________________________________

1 ـ كشف المراد : 186 ـ 187 ، ط صيدا.

(281)

    والضابط في ذلك أنّ مالا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره ، وذلك مثل الأوّليات ، وهكذا.

    فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

    وباختصار : إنّ العلوم اليقينية ، مع كثرتها ، ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب ودرجات ، وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته. 3. لو كان الحسن والقبح عقليّين لما تغيّرا

    إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لمّا اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن. والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح. وذلك فيما إذا تضمّن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك ، والصدق إهلاكه.

    وباختصار : لو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما توقفت عليه عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله.

    وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : « وارتكاب أقلّ القبيحين مع إمكان التخلّص ». (1)

    توضيحه : أنّ الكذب في الصورة الأُولى على قبحه ، وكذاالصدق على حسنه ، إلاّ أنّ ترك إنقاذ النبي أقبح منه ، فيحكم العقل بارتكاب أقل القبيحين تخلّصاً من ارتكاب الأقبح. على أنّه يمكن التخلص عن الكذب بالتعريض ( أي التورية ).

    وباختصار : إنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق ، فيكون تركه أقبح من الكذب ، فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.

________________________________________

1 ـ كشف المراد : 187.

________________________________________

(282)

    أضف إلى ذلك : أنّ الاستدلال مبني على كون قبح الكذب وحسن الصدق ، كقبح الظلم وحسن العدل ، ذاتيين لا يتغيران ، لا على القول بأنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على أقسام. منها ما يكون الفعل علّة تامة لأحدهما ، فلا يتغير حسنه ولا قبحه بعروض العوارض لحسن الإحسان وقبح الإساءة ، ومنها ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، وهكذا في جانب القبح. وحسن الصدق وقبح الكذب من هذا القبيل. ومنها ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، جزاءً أو إيذاءً.

    ثمّ إنّ لنفاة الحسن والقبح العقليين دلائل واهية لا تليق أن تطرح على بساط البحث ، فلنضرب صفحاً عنها.

    إلى هنا تم استعراض أدلّة المنكرين للحسن والقبح العقليين ، فيناسب ـ تكميلاً للبحث ـ استعراض أدلّة المثبتين وهو يتوقف على تبيين ما هو الملاك عند العقل للحكم بأنّ الفعل الكذائي حسن أو قبيح ، ولنقدم البحث في ذلك ، ثمّ نتبعه بذكر براهين المثبتين.

 

ما هو الملاك لدرك العقل في هذا المجال؟

    إنّ الملاك لقضاء العقل هو أنّه يجد بعض الأفعال موافقاً للجانب الأعلى من الإنسان والوجه المثالي في الوجود البشري ، كما يجد بعضها الآخر غير موافق معه ، وإن شئت قلت : إنّه يدرك أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحي المختار ، وبعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحسن الأوّل ولزوم الاتصاف به ، وقبح الثاني ولزوم تركه.

    توضيح ذلك : أنّ الحكماء قسّموا العقل إلى عقل نظري وعقل عملي ، فقد قال المعلم الثاني : « إنّ النظرية هي التي بها يجوز الإنسان علم ما ليس من شأنه يعمله إنسان والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته ».

    قال الحكيم السبزواري في توضيحه : إنّ العقل النظري والعقل

 

________________________________________

(283)

    العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري ، شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل ، مثل : « الله موجود واحد » ، و« أنّ صفاته عين ذاته » ونحو ذلك ، والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل : « التوكّل حسن » و« الرضى والتسليم والصبر محمودة ». وهذا العقل هو المستعمل في علم الأخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أوكضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة. (1)

    ثمّ ، كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضرورية ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية ، فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظرية من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.

    مثلاً : إنّ كلّ القضايا النظرية يجب أن تنتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا ، ولذا تسمى ب ـ « أُمّ القضايا »; مثلاً : لا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين ، قائمتين ، إلاّ إذاحصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما ، وإلاّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النظرية إنّما تتم إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضاياالتي قد عرفت ، وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أنّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوّلية تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّلية وواضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صحّ التصديق بقضية من القضايا فيها.

    فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا ، مثل قولنا : « العدل حسن » و « الظلم

________________________________________

1 ـ تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة : 310.

________________________________________

(284)

    قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن وبالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العملية ، والعقل يدركها من ملاحظة القضية بنفسها ، وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، التي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانية ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضية التحسين والتقبيح في قسم من الأفعال ، قضية كلية لا تختص بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختص ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان ، بل تعم الموجود الحي المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضية عامة شاملة لكلّ من يمكن أن يتصف بهذه الأفعال ، كالعدل والظلم فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عن الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للإنسان خصوصية في ذلك القضاء.

    وبذلك يصبح المدعي للتحسين والتقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك.

    والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، وإلاّ عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ، ولم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية وبديهية ، أو نظرية وضرورية ، كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.

    فالمسائل المطروحة في الأخلاق ، التي يجب الاتصاف بها والتنزّه عنها ، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبر عنهاب تدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.

    فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العملية إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية

 

________________________________________

(285)

    واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية ، حتى يحصل الجزم بها ، ويرتفع الإبهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين في غنى عن التوسع في طرح أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح ، ولا نذكر إلاّ النزر اليسير ، وإليك بعض أدلّتهم :

 

أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليَّين

    الأوّل : ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : « ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً » (1) مفاده : إنّه لو قلنا بأنّ الحسن والقبح يثبتان شرعاً يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.

    توضيحه : انّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب ، فلا إشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسناً ، وما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح ، والشارع لا يرتكب القبيح ، ولا يتصور في حقّه ارتكابه.

    وأمّا لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه ، حتى نعتقد بمضمونه ، لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو إخباره ، فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب ، لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار ، فيلزم على قول الأشعري أن لا يتمكن الإنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلاً ولا شرعاً.

    وإن شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر ، كالصدق والكذب ، فلا يستقل بقبح صدور الكذب من الله سبحانه. فإذا أخبرنا عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

    ثمّ إنّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الاستدلال بقوله :

________________________________________

1 ـ كشف المراد : 186.

________________________________________

(286)

    إنّا لا نجعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ليرد ما ذكر ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح ، والقبح عبارة عن كونه متعلّق النهي والذم. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ البحث تارة يقع في التسمية والمصطلح ، فيصحّ أن يقال : إنّ ما وقع متعلّق الأمر والمدح حسن ، وما وقع متعلّق النهي والذم قبيح. والعلم بذلك لا يتوقّف إلاّ على سماعهما من الشرع. وأُخرى يقع في الوقوف على الحسن أو القبح الواقعيين عند الشرع ، فهذا ممّا لا يمكن استكشافه من مجرّد سماع تعلّق الأمر والنهي بشيء ، إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثاً في أمره ونهيه.

    ولو قال إنّه ليس بعابث ، لا يثبت به نفي احتمال العابثية عن فعله وكلامه ، لاحتمال كونه هازلاً أو كاذباً في كلامه ، فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه وقبحه على شيء ، وأن يكون العقل مستقلاً في دركه ، وهو حسن الصدق وقبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك ، على أنّ كلّ ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله ، فيثبت عندئذ أنّ ما تعلّق به الأمر حسن شرعاً ، وما تعلّق به النهي قبيح شرعاً. وهذا ما يهدف إليه المحقّق الطوسي من أنّه لولا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن ولا قبح بتاتاً.

    الثاني : ما أشار إليه المحقّق الطوسي أيضاً بقوله : « ولجاز التعاكس في الحسن والقبح ». (2)

    توضيحه : أنّ الشارع على القول بشرعية الحسن والقبح يجوز له أن يحسّن ما قبّحه العقل أو يقبّح ما حسّنه.

    وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كلّ إنسان يقضي بأنّه لا يصحّ أن يذم المحسن أو يمدح

________________________________________

1 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : 442.

2 ـ كشف المراد : 186.

________________________________________

(287)

    المسيء. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء » (1). والإمام يهدف بكلمته هذه إلى إيقاظ وجدان عامله ، ولا يطرحه بما أنّه كلام جديد غفل عنه عامله.

    الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، ولكن يحكمون بذلك مستندين إلى العقل. وهؤلاء الماديون والملحدون في الشرق والغرب يرفضون الشرائع والدين من أساسه ، ومع ذلك يعترفون بحسن أفعال وقبح بعضها الآخر.

    ولأجل ذلك يغرون شعوب العالم بطرح مفاهيم خداعة ، بدعاياتهم الخبيثة ، من قبيل دعم الصلح والسلام العالمي ، وحفظ حقوق البشر والعناية بالأسرى والسجناء ونبذ التمييز العنصري ، إلى غير ذلك ممّا يستحسنه الذوق الإنساني والعقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون ذلك ليصلوا من خلال هذه الدعايات الفارغة إلى أهدافهم ومصالحهم الشخصية. ولولا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية والإلحاد في العالم.

    والحاصل : انّ هناك أفعالاً لا يشك أحد في حسنها سواء أورد حسنها من الشرع أم لم يرد ، كما أنّ هناك أفعالاً قبيحة عند الكلّ ، سواء أورد قبحها من الشرع أم لا. ولأجل ذلك لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع ، ولا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي خالي الذهن من العقائد كلّها ، بين أن يصدق و يعطى ديناراً ، أو يكذب ويعطى ديناراً ، ولا ضرر عليه فيهما فإنّه يرجح الصدق على الكذب ، ولولا قضاء الفطرة بحسن الصدق وقبح الكذب لما فرق بينهما ، ولما اختار الصدق دائماً.

    وهذا يعرب عن أنّ العقل له القدرة على الحكم والقضاء في أُمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم ، وقبح مخالفته ، وأنّ المحسن والمسيء ليسا بمنزلة سواء ، ونحو ذلك.

    الرابع : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة قسم الرسائل برقم : 53.

________________________________________

(288)

    شيء ولو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين ، وتجويز ذلك سدّ لباب معرفة الأنبياء ، فإنّ أي نبي أتى بالمعجزات عقيب الإدّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

    وباختصار : لو جاز منه سبحانه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب ـ الذي يسمّيه العقل قبيحاً أو إخلالاً بالواجب ـ لارتفع الوثوق بنبوة مدّعيها وإن أظهر الإعجاز ، لتسويغ إظهار الإعجاز على يد الكاذب على الله سبحانه ، ولارتفع الوثوق بوعده ووعيده ، لإمكان تطرّق الكذب عليه ، وذلك يفضي إلى الشكّ في صدق الأنبياء ، والاستدلال بالإعجاز على صدق مدّعي النبوة.

    وهذه النتيجة الباطلة من أهمّ وأبرز مايترتب على إنكار القاعدة وبذلك سدّوا باب معرفة النبوة.

    والعجب أنّ الفضل بن روزبهان حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله : عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمراً قبيحاً عقلاً ، بل لعدم جريان عادة الله ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك ، فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء ، لأنّ العلم العادي حكم باستحالة هذا الإظهار. (1)

    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه من أين وقف على تلك العادة ، وأنّ الله لا يجري الإعجاز على يد الكاذب؟

    وثانياً : أنّه لو كان التصديق متوقفاً على إحراز تلك العادة ، لزم أن يكون المكذّبون لنبوة نوح أو من قبله و من بعده ، معذورين في إنكارهم لنبوة الأنبياء ، إذ لم يثبت عندهم تلك العادة ، لأنّ العلم بتلك العادة يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.

    وباختصار : انّ تحصيل جريان عادة الله على أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب يجب أن يستند إلى مصدر ، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة ، وإن كان هو السمع فالمفروض أنّه يحتمل أن يكون الشرع كاذباً في هذا الادّعاء.

________________________________________

1 ـ دلائل الصدق : 1/369.

________________________________________

(289)

    وبعبارة أُخرى : لا سمع قبل ثبوت نبوة النبي.

    وحصيلة البحث : إنّ منكر الحسن والقبح ، منكر لما هو من البديهيات ، ولا يصحّ الكلام معه ، لأنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء ينازعون في نفس المقدّمات الضرورية ، وليت شعري ، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله سبحانه العبد عن الفعل ويخلق فيه اضطراراً ويعاقبه عليه ، فقل : لو لم يدركه العقل فأي شيء يدركه؟

    قيل : اجتمع النظّام والنجار للمناظرة ، فقال النجار : لم تدفع أن يكلّف الله عبادَهُ ما لا يطيقون؟ فسكت النظام ، فقيل له : لم سكت؟ قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح ، فبم ألزمه؟

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز

    إنّ التدبر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّّه يسلم وجود التحسين والتقبيح العقليين خارج إطار الوحي ، ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبيح :

    1. قال سبحانه : انَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (1)

    2. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّي الْفَواحِشَ . (2)

    3. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ . (3)

    4. وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء . (4)

________________________________________

1 ـ النحل : 90.

2 ـ الأعراف : 33.

3 ـ الأعراف : 157.

4 ـ الأعراف : 28.

________________________________________

(290)

    فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف ، قبل تعلّق الأمر أو النهي بها ، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاًمن صميم ذاته ، كما يعرف سائر الموضوعات من الماء والتراب ، وليس عرفان الإنسان لها موقوفاً على تعلّق حكم الشرع ، وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

    أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يتخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته.

    يقول سبحانه : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسدينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار . (1)

    6. يقول سبحانه : أََفَنَجْعَلُ المُسْلِيمنَ كَالْمُجْرِمينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . (2)

    7. يقول سبحانه : هَلْ جَزاءُ الإِحْسان إِلاّ الإِحسانُ . (3)

    فالتدبّر في هذه الآيات لا يدع مجالاً لتشكيك المشكّكين في كون التحسين والتقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنية ، من دون حاجة إلى حجّة ظاهرية.

 

دور التحسين والتقبيح العقليّين

    إنّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين تحتل مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية إذ بها ينحل كثير من المشاكل في الكلام وغيره ، وإليك بيان بعضها :

________________________________________

1 ـ ص : 28.

2 ـ القلم : 35 ، 36.

3 ـ الرحمن : 60.

(291)

1. وجوب المعرفة

    اتّفق المتكلّمون ـ ما عدا الأشاعرة ـ على لزوم معرفة الله سبحانه لزوماً عقلياً ، بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة وقبح تركها ، لما في المعرفة من أداء شكر المنعم ، وهو حسن. وفي تركها الوقوع في الضرر المحتمل. هذا إذا قلنا باستقلال العقل في ذلك المجال ، ولولاه لما ثبت وجوب المعرفة لا عقلاً ـ لأنّه حسب الفرض معزول عن الحكم ـ ولا شرعاً ، لأنّه لم يثبت الشرع بعد. 2. لزوم النظر في برهان النبوة

    لا شكّ أنّ الأنبياء الحقيقيين بعثوا بمعاجز وبيّنات ، فإذا ادّعى أحدهم السفارة من الله إلى الناس ، فهل يجب على الناس النظر في دعواه وبرهانه؟ فعلى استقلال العقل في مجال التحسين والتقبيح يجب النظر والإصغاء دفعاً للضرر المحتمل. وأمّا على القول بعدمه فلا يجب ذلك لا عقلاً ولا شرعاً ، كما عرفت في سابقه. ونتيجة ذلك إنّ التارك للنظر معذور ، لأنّه لم يطّلع على حقيقة الأمر. 3. العلم بصدق دعوى النبوة

    إذا اقترنت دعوة المتنبي بالمعاجز والبيّنات الواضحة ، فلو قلنا باستقلال العقل في مجال الحسن والقبح ، حكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب ، لما فيه من إضلال الناس. وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم في المقام ، فلا دليل على كونه نبيّاً صادقاً ، والشرع بعد لم يثبت حتى يحكم بصدقه. 4. قبح العقاب بلا بيان

    اتّفق الأُصوليون على قبح العقاب بلا بيان ، وعليه بنوا أصالة البراءة في الشبهات غير المقترنة بالعلم الإجمالي. وهذا يتم بالقول بالتحسين والتقبيح العقليين. نعم هذا إنّما يفيد إذا لم تثبت البراءة من الشرع ، بواسطة الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّ البحث فيها بعد ثبوت الشرع.

 

________________________________________

(292)

5. الخاتمية

    إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ، بالمعنى الذي عرفت من الملاءمة للفطرة العلوية أو المنافرة لها ، أساس الخاتمية ، وبقاء أحكام الإسلام وخلودها إلى يوم القيامة. فإنّ الحكم بالحسن والقبح ـ على ما عرفت ـ ليس إلاّكون الشيء موافقاً للفطرة العلوية أو منافراً لها. وبما أنّ الفطرة مشتركة بين جميع الأفراد ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة.ولأجل ذلك لا يتطرق التبدل والتغيّر إلى أحكامه وإن تبدّلت الحضارات وتطورت المدنيات ، فإنّ تبدلها لا يمس فطرة الإنسان ولا يغير جبلّته. 6. لزوم بعث الأنبياء

    إنّ مسألة لزوم إرسال الرسل تبتني على تلك المسألة ، فالعقل يدرك بأنّ الإنسان لم يخلق سدى ، بل خلق لغاية ، ولا يصل إليها إلاّ بالهداية التشريعية الإلهية. فيستقل بلزوم بعث الدعاة من الله لهداية البشر دفعاً للّغو. 7. ثبات الأخلاق أو تطورها

    إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها ، ممّا طرحت مؤخراً عند الغربيين ، ودارت حولها مناقشات وأبديت فيها الآراء. فمن قائل بثبات أُصولها ، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب الأنظمة والحضارات. ولكن المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين والتقبيح العقليين ، الناشئين من قضاء الجبلة الإنسانية العالية ، فعند ذلك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود ، في ضوء ثبات الفطرة ، وأمّا ما يتغير بتغير الحضارات ، فإنّما هو العادات والتقاليد العرفية.

    خذ على ذلك مثلاً« إكرام المحسن » فإنّه أمر يستحسنه العقل ويضفي عليه سمة الخلود ، وليس هذا الحكم متغيراً أبداً ، وإنّما المتغير وسائل الإكرام وكيفياته ، فإذاً الأُصول ثابتة ، والعادات والتقاليد متغيّرة ، وليست الأخيرة إلاّ ثوباً للأُصول.

 

________________________________________

(293)

8. عادل لا يجور

    إنّ مقتضى التحسين والتقبيح العقليين ـ على ما عرفت ـ هو أنّ العقل ـ بما هوهو ـ يدرك أنّ هذا الشيء ـ بما هوهو ـ حسن أو قبيح ، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء ـ بما هوهو ـ من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود ، ومن دون دخالة درك مدرك خاص ، بل الشيء يتمتع بأحد الوصفين بما هوهو.

    وعلى ذلك فالعقل في تحسينه وتقبيحه يدرك واقعية عامة ، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن ويمدح فاعله عند الجميع ، والظلم قبيح ويذم فاعله عند الجميع ، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصفهـ أعني : استحقاق الفاعل للمدح أو الذم من غير خصوصية للفاعل ـ كيف يقوم بفعل يحكم هو نفسه بأنّ فاعله مستحق للذم ، أو يقوم بفعل يحكم هو بأنّه يجب التنزّه عنه؟

    وعلى ذلك فهو سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح والعدل حسن ، ولا يصدر القبيح من الحكيم. فالاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي له.

    وإن شئت قلت : إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال مطلق لكلّ أحد ، وارتكاب الظلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك ـ حسب إدراك العقل ـ عنده سبحانه. ومعه : كيف يمكن أن يرتكب الواجب تعالى خلاف الكمال ويقوم بما يجرّ النقص إليه؟

دفع إشكال

    ربما يقال إنّ كون الشيء حسناً عند الإنسان أو قبيحاً عنده ، لا يدل على كونه كذلك عند الله سبحانه. فكيف يمكن استكشاف أنّه لا يترك الواجب ولا يرتكب القبيح؟

 

________________________________________

(294)

    والإجابة عنه واضحة ، لأنّ مغزى القاعدة السالفة هو أنّ الإنسان يدرك حسن العدل وقبح الظلم من كلّ مدرك شاعر ، ولكلّ عاقل حكيم ، من غير فرق بين الظروف و الفواعل. وهذا نظير درك الزوجية للأربعة ، فالعقل يدرك كونها زوجاً عند الجميع ، لا عند خصوص الممكن. فليس المقام من باب إسراء حكم الإنسان الممكن إلى الواجب تعالى. بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامة ضرورية بديهية عند جميع المدركين ، من غير فرق بين خالقهم ومخلوقهم. ولا يختص هذا الأمر بهذه القاعدة ، بل جميع القواعد العامة في الحكمة النظرية كذلك.

    وعلى هذا يثبت تنزّهه سبحانه عن كلّ قبيح ، واتّصافه بكلّ كمال في مقام الفعل ، فيثبت كونه تعالى حكيماً عادلاً لا يرتكب اللغو وما يجب التنزّه عنه ، كما لا يرتكب الجور والعدوان.

 

مكانة العدل في العقائد الإسلامية

    إنّ هذا البحث الضافي حول التحسين والتقبيح العقليين ، وما يترتب عليهما من الآثار ، التي عرفت بعضها ، يوقفنا على مكانة العدل في العقائد الإسلامية ، إذ الاعتقاد بالعدل من شعب الاعتقاد بالتحسين والتقبيح العقليين ، وقد عرفت أنّه لولا القول به لارتفع الوثوق بوعده ووعيده ، وامتنع حصول الوثوق بمعاجز مدعي النبوة ، وعزل العقل في درك التحسين والتقبيح في الأفعال يستلزم انخرام كثير من العقائد الإسلامية ، ولأجل هذه الأهمية والمنزلة تضافرت الآيات والروايات مركزة على قيامه سبحانه بالقسط.

    العدل في الذكر الحكيم

    قال سبحانه : شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ. (1)

    وكما شهد على ذاته بالقيام بالقسط ، عرّف الغاية من بعثة الأنبياء بإقامة القسط بين الناس.

    قال سبحانه : لَقَدْأَرْسَلْنا رُسُلنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاس بِالقِسْطِ . (2)

    كما صرح بأنّ القسط هو الحجر الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : وَنَضَعُ الْمَوازينَ القِسْط لِيَوم القِيامَة فَلا تُظْلَمُ نَفسٌ شَيْئاً (3). إلى غير ذلك من الآياتالواردة حول العدل والقسط.

    وهذه الآيات إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته ، بأنّ العدل كمال لكلّ موجود

________________________________________

1 ـ آل عمران : 18.

2 ـ الحديد : 25.

3 ـ الأنبياء : 47.

________________________________________

(295)

    حي ، مدرك مختار ، وأنّه يجب أن يوصف الله به في أفعاله في الدنيا والآخرة ، وأنّه يجب أن يقوم سفراؤه به.

العدل في التشريع الإسلامي

    وهذه المكانة التي يحتلها العدل هي التي جعلته سبحانه يعرف أحكامه ويصف تشريعاته بالعدل. وأنّه لا يشرع إلاّما كان مطابقاً له.

    يقول سبحانه : وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُون . (1)

    فالجزء الأوّل من الآية ناظر إلى عدله سبحانه بين العباد في تشريع الأحكام ، كما أنّ الجزء الثاني ناظر إلى عدالته يوم الجزاء في مكافأته ، وعلى كلّ تقدير فإنّ شعار الذكر الحكيم هو : وَما ظَلَمهُمُ الله وَلكِن كانُوا أَنفُسَهُم يَظْلِمُون. (2)

________________________________________

1 ـ المؤمنون : 62.

2 ـ النحل : 33.

________________________________________

(296)

    وهذا يكشف عن عدالته في التشريع والجزاء ، كما يكشف عن تعلّق إرادته بإقامة العدل ورعاية القسط. (1)

    ويتفرع على هذا الأصل مسألة نفي الجبر عن أفعال البشر ، وبما أنّ تحقيق هذه المسألة يحتاج إلى إسهاب في أدلّة الطرفين نرجئ البحث عنها إلى وقت تبيين عقائد المعتزلة.

________________________________________

1 ـ إنّ توصيفه سبحانه بالعدل ربما يثير أسئلة حول عدله ، وقد أخذتها الملاحدة ذريعة للتشكيك :

1. إذا كان عادلاً فما معنى المصائب والبلايا التي تحل بالإنسان في حياته؟

2 ـ ما هذا الاختلاف في المواهب والقابليات لدى الأفراد؟

3 ـ ما هي الحكمة في خلق العاهات الجسمية أو العقلية؟

4 ـ ما هي الحكمة في الفقر والشقاء والجوع التي تعاني منها مجموعات كبيرة من البشر؟ إلى غير ذلك ممّا يشابه هذه الأسئلة. وقد أجبنا عنها في كتاب « الله خالق الكون » فلاحظ : ص 97 ـ 99 و ص 269 ، 281.