الظاهرية

 

الظاهرية

الحركات الرجعية

    وهذا المسلك الفقهي منسوب إلى داود بن علي الاصفهاني الظاهري ( ت 200 ـ م 270 ) وسمع من سليمان بن حرب و أبي ثور.

    قال الخطيب: « كان إماماً ورعاً ، زاهداً ناسكاً ، وفي كتبه حديث كثير لكنّ الرواية عنه عزيزة جدّاً » (2).

    وقال ابن خلّكان: « كان من أكثر النّاس تعصّباً للإمام الشافعي وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين ، وكان صاحب مذهب مستقلّ و تبعه جمع كثير ـ يعرفون بالظّاهرية ـ وكان ولدهـ أبوبكر محمّد ـ على مذهبه ، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد » (3).

    وقد بسط الخطيب الكلام في تأريخه ونقل بعض ما رواه وأشار إلى جوانب من حياته (4).

________________________________________

     1 ـ التعرّض للمذهب الظاهري في المقام مع أنّه مذهب فقهي لا كلامي ، لاشتراكه مع الحركات الرجعية الكلامية في طرد العقل والتفكير عن ساحة العلم ، وقد ظهر ذلك المذهب في نفس الوقت الذي ظهرت فيه سائر المناهج الفكرية الكلامية والكل يحمل طابعاً واحداً وهو اعدام العقل واقصاؤه عن الأوساط العلمية فناسب ذكره في المقام.

    2 ـ ميزان الاعتدال ج 2 ص 15.

    3 ـ وفيات الأعيان ج 2 ص 255.

    4 ـ تاريخ بغداد للخطيب ج 8 ص 369.

________________________________________

(154)

    وما أسّسه من المذهب يرتبط بالفروع و الأحكام ، لا العقائد والاُصول فالمصدر الفقهي عنده هو النّصوص ، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع ، فهم يأخذون بالنصوص وحدها و إذا لم يكن النصّ أخذوا بالاباحة الأصليّة.

    أقول: إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى ، لأنّ أساسه هو التعبّد بالنصوص ، وعدم الافتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة ، لكنّ الجمود على حرفيّة النصوص شيء والتعبّد بالنصوص و عدم الافتاء في مورد لا يوجد فيه أصل و دلالة في المصدرين الرئيسيين شيء آخر. فالظاهرية على الأوّل ، والفقهاء على الثّاني ، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

    1 ـ إنّ الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروريّ الإنتاج من غير فرق بين الاُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة ، فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتميّة لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر ، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فالفقاع حرام. لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين و لكن لا يفتي بالنتيجة بحجّة أنّها غير مذكورة في النصوص.

    2 ـ ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب و إن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب ، لكنّه من اللوازم البيِّنة له ، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه ، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلا تَقُلْ لَهُما اُفّ ) ( الإسراء / 23 ) يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما و شتمهما بطريق أولى ، ولكنّ الفقيه الظّاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

    قال سبحانه: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ ) ( الأنفال / 38 ) فالموضوع للحكم « مغفرة ما سلف عند الانتهاء » و إن كان هو الكافر ، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر لازم لهذا الحكم بالضّرورة و هو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد. ولكنّ الظّاهري يتركه بحجّة أنَّه غير مذكور في النصّ.

 

________________________________________

(155)

    وهذا النوع من الجمود يجعل النُّصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع و التقنين ، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور ، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتمية نبوّة نبيّنا محمدصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وكتابه وسنتّه و....

    وهؤلاء بين السنّة كالاخباريين بين الشيعة ، غير أنّ الظاهرية ظهرت في القرن الثالث وقد عمل فيما لا نصّ فيه بالإباحة الأصليّة ، والأخباريّة ظهرت في الشيعة في القرن العاشر وهم يعملون فيما لانصّ فيه بالاحتياط.

    إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص له تفسيران; أحدهما صحيح جدّاً ، والآخر باطل ، فإن اُريد منه نفي الظنون الّتي لم يدلّ على صحّة الاحتجاج بها دليل ، فهو نفس نصّ الكتاب العزيز. قال سبحانه: ( قُلْ ءَاللّهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) ( يونس / 59 ) ، فالشيعة الإماميّة بفضل النصوص الوافرة عن أئمّة أهل البيت المتصلة أسنادها إلى الرسول الإكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها ، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنّية الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها ، بل قام الدّليل على حرمة العمل على بعضها كالقياس وقد ورد فى نصوص أئمّتهم ( عليهم السلام ) : « و إنّ السنّة إذا قيست محق الدين » (1).

    و إن اُريد بها لوازم الخطاب أي ما يكون في نظر العقلاء كالمذكور أخذاً بقولهم: « الكناية أبلغ من التصريح » ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح ، فليس ذلك عملاً بغير النصوص. نعم ليس عملاً بالظّاهر الحرفي ، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

    وعلى ذلك الأساس يكون لوازم الخطاب حجّة إذا كانت الملازمة ثابتة بيّنة في نظر العقلاء الّذين هم المعنيّون بهذه الخطابات ، كادّعائها بين وجوب الشيء و وجوب

________________________________________

    1. الوسائل ج 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10.

________________________________________

(156)

     مقدّمته ، أو حرمة ضدّه ، أو امتناع اجتماع وجوبه مع حرمته ، إلى غير ذلك من المداليل الالتزامية كمفاهيم الجمل الشرطية أو الوصفيّة أو المغيّاة بغاية.

    ولأجل كون هذه المداليل على فرض ثبوت الملازمة ، بحكم المنطوق ، ذهب المحقّقون في باب « المفاهيم » إلى أنّ النزاع في باب « حجّية المفاهيم » صغروي ، أي في ثبوت أصل المفهوم والملازمة ، وأنّه إذا قال المولى: إن سلّم زيد فأكرمه ، هل يتبادر منه إلى الأذهان الصافية وجوب الاكرام عند التسليم ، وارتفاعه عند انتفائه أو لا؟ لا كبروي ، بمعنى البحث عن حجّية هذه الملازمة بعد ثبوتها ، إذ لا كلام في الحجية بعد ثبوتها.

    وبذلك يتبيّن الحقّ الصراح في مسألة « تبعية النصوص الشرعية » و عدم الخروج عن إطارها ، وأنّ أهل السنّة فيها بين مفرط و مفرّط. والطريق الوسطى هي الجادة (1).

    فأصحاب القياس والاستحسان مفرطون في الخروج عن النُّصوص الشرعيّة ، ويعملون بما لم يدلّ على الاحتجاج به دليل.

    كما أنّ الظاهرية مفرِّطة فى عدم الخروج عن ظواهر النصوص بحرفيتها ، وإن كان العقلاء على خلافهم في محاوراتهم العرفيّة ، ومن المعلوم أنّه ليست للشارع طريقة للمفاهمة غير الطريقة الدارجة.

تلاميذه ومدى سلطان مذهبه

    قال الخطيب في تأريخه: « روى عنه ابنه محمّد ، وزكريّا بن يحيى الساجي ، ويوسف بن يعقوب بن مهران الداودي ، والعباس بن أحمد المذكّر ، وهؤلاء رووا عنه و انتحلوا مذهبه » (2).

________________________________________

    1. اقتباس من كلام الامام علي عليه السلام في النهج قال: اليمين والشمال مضلة ، والطريق الوسطى هي الجادة. نهج البلاغة قسم الخطب الرقم 15 ط عبده.

    2. تاريخ بغداد ج 8 ص 370.

________________________________________

(157)

     « ولكن عامّة الفقهاء والمحدّثين تركوا الرّواية عنه كما تركوا مذهبه ، وكثرت المعارضة ، وقلّ التأييد ، ولم يكن لمذهبه سلطان إلاّ في بلاد الشرق ( نيسابور وضواحيها ) في القرنين الثالث والرابع. و نقل عن صاحب « أحسن التقاسيم » أنّه كان رابع مذهب في القرن الرابع في الشرق ، وكان الثّلاثة الّتي هو رابعها:مذهب الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة ، ومالك ، فكأنّه كان في الشرق أكثر انتشاراً أو تابعاً من مذهب أحمد إمام السنّة في القرن الرابع الهجري ، ولكن في القرن الخامس جاء أبو يعلى وجعل المذهب الحنبلي مكانه ، و بذلك زحزح المذهب الظاهري و حلّ محلّه » (1).

 

ابن حزم ( ت 384 ـ م 458 ) آخر تلميذ فكري لداود الظاهري

    قد عرفت أنّ أبا يعلى الحنبلي ( م 458 ) قد زحزح المذهب الظاهري ، وأحلّ محلّه مذهب إمامه أحمد في أواسط القرن الخامس و بذلك خبا ضوءه وانحسر عن المدارس الفقهيّة ، ولم يبق له وجود إلاّ في ثنايا الكتب ، لولا أنّ عليّ بن أحمد بن حزم الأندلسي أعاد ذكره بلسانه و قلمه ، وألّف حول ذلك المذهب كتباً و رسائل و انتقل المذهب الظاهري من الشرق إلى الغرب ، ودخل الأندلس وقد حمل العبء وحده وخدم المذهب الظاهري بتأليفه:

    1 ـ الاحكام في اُصول الأحكام: بيّن فيه اُصول المذهب الظاهري.

    2 ـ النبذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

    3 ـ المحلّى: وهو كتاب كبير انتشر في عشرة أجزاء ، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار. طبع في بيروت ، بتحقيق أحمد محمّد شاكر.

نزر من آرائه الشاذّة

    1 ـ أفتى ببطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهيّة مستدلاً بقوله سبحانه:

________________________________________

    1. تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ص 351 نقلاً عن مقدمة « النبذ » للشيخ الكوثري.

________________________________________

(158)

     ( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيء ) ( الأنعام / 38 ) ولو كان ثمّة موضع للرأي لكان الكتاب قد فرّط في شيء ، وقوله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوه إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) ( النساء / 59 ) (1).

    يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بهاتين الآيتين يعرب عن كون ابن حزم فقيهاً ظاهريّاً بحتاً ، ينظر إلى الظّواهر بحرفيّتها ولا يتأمّل حتّى في القرائن الموجودة في نفس الآيات.

    أمّا الآية الاُولى; فالمراد من الكتاب فيها ، هو صحيفة الكون لقوله سبحانه في صدرها: ( وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ... ) ( الأنعام / 38 ). لأنّ التفريط في المقام بمعنى التضييع و التقصير ، والمعنى أنّ الدوابّ والطيور ل ـ مّا كانت أُمماً أمثال الإنسان ، فما قصّر سبحانه في حقّهم من إعطاء الكمال بمقدار ما لها من اللّياقة والشأن.

    وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ المراد منه ، هو اللّوح المحفوظ الّذي يسمّيه سبحانه في موارد من كلامه كتاباً مكتوباً فيه كلّ شيء ، وأمّا تفسيره بالقرآن فضعيف لا يركن إليه بعد ملاحظة جمل الآية.

    وأمّا الآية الثانية; فهي راجعة إلى القضاء في المنازعات و المرافعات فالمرجع هو الله سبحانه و رسوله ، ولا صلة للآية بحصر المصادر في الكتاب والسنّة.

    ولأجل ذلك لم يذكر فيه الإجماع الّذي هو حجّة عند ابن حزم و مؤٌسّس منهجه ، وما هذا إلاّ أنّ الآية وردت في مجال القضاء في المرافعات ، دون الافتاء في الأحكام الكلّية.

    توضيح ذلك: أنّ القضاء في المنازعات يشترك مع الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة في أنّ كلاّ ً من القاضي والمجتهد يسعى لكسح الجهل و رفع الشبهة ، غير أنّ الشّبهة في

________________________________________

    1. تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ص 388.

________________________________________

(159)

     مجال القضاء ، موضوعيّة على الأغلب مع كون الحكم الكلّي معلوماً ، كاختلاف الناس في الأموال والديون ، بخلاف الشبهة في مجال الاجتهاد فإنّ الحكم الكلّي مشتبه غير معلوم ، والمجتهد يسعى بكلّ حول وقوّة رفع الشبهة ، و إراءة مُحيّا الحقيقة.

    والآية كما هو صريح سياقها ، ناظرة إلى المقام الأوّل ، ولا صلة لها بالمقام الثاني. يقول سبحانه بعد هذه الآية ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) ( النساء / 60 ) وقد ورد في أسباب نزولها ما يؤيّد ما ذكرناه فلاحظ.

2 ـ يجوز للجنب مسُّ المصحف

    قال في المحلّى: « وأمّا مسّ المصحف ، فإنّ الآثار الّتي احتجّ بها من لم يجز للجنب مسّه ، فإنّه لا يصحّ منها شيء ، لأنّها إمّا مرسلة ، وإمّا ضعيفة لا تسند ، وإمّا عن مجهول... فإن ذكروا قول الله: ( فِي كِتَاب مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ ) ( الواقعة / 78 ـ 79 ). فهذا لا حجّة لهم فيه ، لأنّه ليس أمراً ، وإنّما هو خبره والله تعالى لا يقول إلاّ حقّاً ، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلاّ بنصّ جلي أو إجماع متيقّن. فلمّا رأينا المصحف يمسّه الطّاهر و غير الطّاهر علمنا أنّه عزّوجلّ لم يعن المصحف و إنّما عنى به كتاباً آخر » (1).

    واستدلّ على الجواز بعمل النّبي و أنّه كتب كتاباً إلى عظيم « بصرى » ليدفعه إلى هرقل وفيه قوله سبحانه: ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَواءٌ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً ) ( آل عمران / 64 ). وقد أيقن أنّهم يمسّون ذلك الكتاب (2).

________________________________________

    1. المحلى: ج 1 ص 83.

    2. الدر المنثور: ج 1 ص 40.

________________________________________

(160)

    يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ قوله ( في كِتاب مَكْنُون ) وصف ثان للقرآن في قوله: ( بَل هوَ قُرآنٌ مجِيدٌ ) والمراد أنّ القرآن في كتاب محفوظ من التّغيير و التبديل ، والمراد من الكتاب هو اللّوح المحفوظ بشهادة قوله: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ ) ( البروج / 21 ـ 22 ). وليس المراد منه المصحف ، لاستلزامه وحدة الظرف و المظروف.

    وثانياً: أنّ الظّاهر من ابن حزم الظاهري ، أنّ الاستدلال على حرمة مسّ المصحف للجنب مبنيّ على تعيين المراد من الكتاب في قوله: ( في كِتاب مَكْنُون ) فهل المراد منه هو المصحف أو غيره؟ فعلى الأوّل يثبت حرمة مسّ المصحف لغير المتطهّر بخلاف الثاني.

    فرجّح كون المراد منه هو غيره ، لما ذكر من الدّليل ولكن خفى عليه أنّ الاستدلال ليس مبنيّاً على ما ذكره ، بل الاستدلال مبنيّ على كون الضمير في قوله: ( لا يمسّه ) هل هو عائد إلى القرآن ، أو إلى الكتاب ، المتقدّمين عليه في الآية؟ فإن قلنا بالأوّل يكون المراد من المسّ هو مسّ كتابة القرآن ، ومن التّطهير هو الطهارة من الخبث والحدث. ولا مناص عندئذ من حمل النّفي على النّهي لصيانة كلامه عن الكذب نظير قوله سبحانه: ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَ لا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) ( البقرة / 197 ). وقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: « لا ضرر ولا ضرار » على القول الحق (1).

    وإن قلنا بالثّاني ، يكون المراد من المسّ ، هو العلم به ويكون المراد من المطهّرين ، من طهّر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي و أقذار الذنوب.

    وأمّا تعيين أحد الاحتمالين فخارج عن موضوع البحث ، وإنّما الهدف إراءة نماذج من تفكير ابن حزم.

    أمّا الاستدلال بكتابة الآية و بعثها إلى عظيم « بصرى » والنبيّ يعلم أنّ الكافر سيمسّها.

________________________________________

1.       لاحظ محاضرات المؤلف باسم « قاعدتان فقهيتان » تقف على اسناد الحديث ومضمونه.

(161)

    فيلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاستدلال مبنيّ على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هم مكلّفون بالاُصول وهو بعدُ أمر متنازع فيه.

    وثانياً: أنّ التسبيب إنّما يحرم إذا كان مؤدّياً إلى مسّ الجاهل القاصر ، كما إذا وضع الإنسان يد غير المتطهّر على كتابة القرآن وهو جاهل أو غافل ، لا ما إذا كان غير معذور كعظيم « بصرى » و غيره من الطغاة غير المعذورين في ترك الاُصول و مخالفة الفروع ، إذ في وسعهم أن يعتنقوا الإسلام و يدخلوا تحت السلم و يتعرّفوا على اُصوله و يعملوا بفروعه ويجتنبوا محرّماته. وهذا الجواب سائد في تمكين الكافرين من الكتب الّتي فيها أسماؤه سبحانه بعد إتمام الحجّة عليهم وإن كان في جريانه في المقام خفاء.

    وثالثاً: أنّ المصالح الكبرى الّتي تتبلور في بثّ الدّعوة الإسلاميّة في المناطق المعمورة و إنقاذ الأجيال عن الوثنيّة و عبادة الطغاة ربّما ترخّص للرسول أن يقوم بعمل ربّما ينتهي إلى مسّ غير المتطهّر آية من الكتاب العزيز وله نظائر في الشّريعة الإسلاميّة.

3 ـ قاتل الإمام عليّ ( عليه السلام ) كان مجتهدا

    وهذا هو النموذج الثالث من آراء الرّجل نأتي بنصّه من كتاب المحلّى ، فقال: « مسألة ، مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون اختلف الناس في هذا: فقال أبو حنيفة: إذا كان للمقتول بنون وفيهم واحد كبير وغيرهم صغار ، أنّ للكبير أن يقتل ولا ينتظر بلوغ الصغار. ثمّ أورد على الشافعيّة القائلة بعدم الجواز بأنّ الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ قد قتل عبدالرحمن بن ملجم ، ولعليّ بنون صغار. ثمّ قال: هذه القصة ( يعني قتل ابن ملجم ) عائدة على الحنفيّين بمثل ما شنّعوا على الشافعيين سواء سواء ، لأنّهم والمالكيّين لا يختلفون في أنّ من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك ، ولا خلاف بين أحد من الاُمّة في أنّ عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل عليّاً ـ رضي الله عنهـ إلاّ متأوّلاً مجتهداً مقدّراً أنّة على صواب و في ذلك يقول عمران بن حطّان شاعر الصفرية:

 

________________________________________

(162)

يا ضربة من تقي ما أراد بهاإنّي لأذكره حيناً فأحسبه              إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناأوفى البريّة عندالله ميزانا

    أي لاُفكّر فيه ثمّ أحسبه ، فقد حصل الحنفيّون من خلاف الحسن بن عليّ على مثل ما شنّعوا به على الشافعيّين و ما ينقلون أبداً في رجوع سهامهم عليهم ، ومن الوقوع فيما حفروه (1).

    يلاحظ عليه: أنّ الفقيه الأندلسي قد خرج في فتياه هذه عن مسلكه وهو التقيّد بالنصوص الشرعية تعبّداً حرفيّاً غير معتمد على العقل والاجتهاد ، مع أنّه هو طرح النصّ ولجأ إلى الاجتهاد الخاطئ. فهذا هو النّبيّ الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول لعليّ: ألا أخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله قال: فإنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود و خاضب لحيتك بدم رأسك (2).

    وقد وصف النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قاتل عليّ في غير واحد من أحاديثه بأنّه أشقى الآخرين وأشقى هذه الاُمّة (3).... إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا السياق.

    والحقّ أنّ الاجتهاد الّذي يؤدّي إلى وجوب قتل الإمام المفترض طاعته بالنصّ ، اجتهاد يهتزّ منه العرش ونحن أيضاً نصافق ابن حزم واُستاذه داود الاصفهاني في ردّ هذا القسم من الاجتهاد الّذي تكون نتيجته نجاح الخوارج المارقين عن الدين ، وما ذكره من الشعر هو لعمران بن حطّان رأس الخوارج في عصره وقد أجابه معاصره القاضي أبوالطيب طاهر بن عبدالله الشافعي قائلاً:

يا ضربة من شقي ما أراد بهاإنّي لأذكره يوما فألعنه                إلاّ ليهدم للاسلام أركاناًديناً وألعن عمراناً و حطّاناً

________________________________________

    1 ـ المحلى: ج 10 ص 482 ـ 484.

    2 ـ العقد الفريد: ج 2 ص 298.

    3 ـ مسند أحمد: ج 4 ص 263.

________________________________________

(163)

عليه ثم عليه الدّهر متّصلافأنتما من كلاب الدّهر                  لعائن الله إسراراً و إعلاناجاء به نصّ الشريعة برهاناً وتبيانا (1)

 

    وله في كتابه « الفصل » كلام يشبه ما ذكره في قاتل الإمام حيث عدّ فيه قاتل عمّار وهو أبو الغادية يسار بن سبع السلمي متأوّلاً مجتهداً مخطئاً مأجوراً بأجر واحد ، وعدّ عمّاراً الثائر على الخليفة فاسقاً محارباً سافكاً دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان (2).

    وما تلك المذاهب إلاّ نتيجة تقاعس العلماء الأخيار عن وظيفتهم ، ونتيجة طرد العقل الصحيح الفطري عن مناهج الحياة.

    ولا أظنّ أنّ إنساناً منصفاً يفكّر في هذه المناهج والمسالك ، يعدّ دعاة الحرية والاختيار والتعقّل ضلاّلاً كفّارا ، ودعاة الجبرية والتشبية والتجسيم والجمود الفكري علماء وعاة.

     ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَاب فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْم هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف / 52 ).

تمّ الكلام حول الحركات الرجعية الثلاث

________________________________________

    1 ـ مروج الذهب: ج 2 ص 415.

    2 ـ الفصل: ج 4 ص 161.