عقائد ابن تيمية 1

عقائد ابن تيمية

عقائده و آراؤه

    إنّ الآراء والمعتقدات ، مقياس شخصية الإنسان ، ومستوى عقليته وثقافته ، كما أنّ ما يمت منها الى الإسلام بصلة ، مقياس عرفانه بالكتاب والسنة ، وسلامة ذوقه وصفاء ذهنه ، وقد حان تقييم شخصية ابن تيمية عن طريق عرض آرائه على المصادر الإسلامية ، ليعلم مدى صحتها وانطباقها على المصدرين وحدّ سلامة ذوقه وصفاء ذهنه في مقام الاستضاءة بهما ، وإليك البيان :

 

________________________________________

(114)

(1)

ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية (1)

    إنّ المحنة الأُولى لابن تيمية بدأت ممّا نشره باسم « العقيدة الحموية » حيث أجاب فيها عن سؤال أهل « حماه » في آيات الصفات ، مثل قوله : ( الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ استوى ) وقوله : ( ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ ) ، وأحاديث الصفات ، كقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ قلوب بني آدم بين إصبعين من اصابع الرحمن » ، وقوله : « يضع الجبار قدمه في النار » بما هذا نصه :

     « فهذا كتاب اللّه من أوله إلى آخره ، وسنة رسوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من أولها إلى آخرها ، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ، ثم كلام سائر الائمة مملوء بما هو إمّا نص وإمّا ظاهر في أنّ اللّه سبحانه وتعالى فوق كل شيء ، وعلى كل شيء ، وأنّه فوق السماء ، مثل قوله : ( إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ ، وَ العَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ، ( إنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلىَّ ) ، ( أمِنْتُم مَنْ فِي السّماءِ أنْ يَخسِفَ بِكُمُ الأرْضَ ... ) ، ( أمِنْتُم مَنْ في السّماءِ أنْ يُرسِلَ عَلَيْكُم حَاصباً ... ) ، ( بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إليْهِ ... ) ( إلَيْهِ تَعْرُجُ ... وَالرُّوحُ ... ) ( يَخَافُونَ رَبَّهم مِنْ فَوْقِهِم ... ) ( ثُمَّ استَوى عَلى العَرْشِ ) (في ستة مواضع ) . ( الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ استَوى ) ، ( يا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحاً لَعَلّي أبْلُغُ الأسبابَ ، أسْبَابَ السَّمواتِ ، فأطَّلِعَ إلى إله

________________________________________

1 ـ الصفات الخبرية ، هي الصفات الّتي أخبر عنها القرآن والسنة ، مقابل ما يدل عليه العقل كالعلم والقدرة.

________________________________________

(115)

موسى وَ إنِّي لاَظُنّهُ كاذِباً ... ) ، ( تَنزيلٌ مِنْ حكيم حميد ) ، ( مُنَزّلٌ مِنْ رَبِّك ) إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلاّ بكلفة .

    وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى ، مثل قصة معراج الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) إلى ربّه ، ونزول الملائكة من عنداللّه وصعودهم إليه ، وقوله في الملائكة : « الذين يتعاقبون بالليل والنهار ، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم ، فيسألهم وهو أعلم بهم » ، وفي الصحيح في حديث الخوارج : « ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء » وفي حديث الرقية الّذي رواه أبو داود وغيره : « ربنا اللّه الّذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء كما رحمتك في السماء ، اجعل رحمتك في الأرض. اغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت ربّ الطيبين » ، وقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ من إخوانه فليقل : « ربنا اللّه الّذي في السماء ذكره » ، وقوله في حديث الأعمال : « والعرش فوق ذلك ، واللّه فوق عرشه ، وهو يعلم ما أنتم عليه » وقوله في حديث قبض الروح : « حتّى يعرج به إلى السماء الّتي فيها اللّه ».

    وقول عبداللّه بن رواحة الّذي أنشده للنبي وأقره عليه :

شهدت بأنّ وعد اللّه حقٌوأنّ العرش فوق الماء طاف                              وأنّ النار مثوى الكافريناوفوق العرش ربّ العالمينا

    وقول أُمية بن أبي الصلت الّذي أنشده للنبي ، فاستحسنه ، وقال : آمن شعره وكفر قلبه.

مجّدوا اللّه فهو للمجد أهلبالبناء الأعلى الّذي سبق الناشرجعاً (1) ما يناله بصر الـ                          ربّنا في السماء أمسى كبيراًس وسوىّ فوق السماء سريراـعين ترى دونه الملائك صوراً (2)

    إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ اللّه ، مما هو من أبلغ التواترات اللفظية والمعنوية الّتي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية ، إنّ الرسول المبلغ

________________________________________

1 ـ الشرجع : الطويل .

    2 ـ الصور ، جمع أصور : المائل العنق.

________________________________________

(116)

عن اللّه ألقى إلى أُمته المدعوين : أنّ اللّه سبحانه على العرش استوى وأنّه فوق السماء ، كما فطر اللّه على ذلك جميع الأُمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام ، إلاّ من اجتالته الشياطين عن فطرته .

    ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو أُلوفاً ، ثم ليس في كتاب اللّه ولا في سنة رسول اللّه ، ولا عن أحد من سلف الأُمة ولا من الصحابة والتابعين ، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف ، حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً ، ولم يقل أحد منهم قط إنّ اللّه ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش ، ولا أنه ليس في كل مكان ، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا متصل ولا منفصل ، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها ، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر أن النبي لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات ، في أعظم مجمع حضره رسول اللّه ، جعل يقول : ألا هل بلّغت؟ فيقولون : نعم ، فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم فيقول : اللّهمّ اشهد ، غير مرة ، وأمثال ذلك كثيرة (1).

    وقد كرر ابن تيمية ما اختاره في باب الصفات الخبرية في غير واحد من آثاره ، فقال في العقيدة الواسطية : « وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح الّتي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها ، كذلك مثل قوله : « ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة ، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : « من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له » وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « يضحك اللّه إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر ، كلاهما يدخل الجنة ».

    وقوله : « لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتّى يضع رب العزة فيها قدمه » وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في رقية المريض : « ربنا اللّه الّذي في السماء ـ تقدس اسمك ـ أمرك في السماء والأرض ... ».

________________________________________

1 ـ العقيدة الحموية الكبرى ـ الرسالة الحادية عشرة ـ من مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية ص 429 ـ 432.

________________________________________

(117)

    وقوله : « والعرش فوق ذلك ، واللّه فوق ذلك ، واللّه فوق عرشه ، وهو يعلم ما أنتم عليه » وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) للجارية : « أين اللّه؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا؟ قالت : أنت رسول اللّه. قال : أعتقها فأنها مؤمنة » وقوله : « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبَلَ وجهه ، فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه » ، وقوله : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ».

    وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان باللّه ، الإيمان بما أخبر اللّه به في كتابه ، وتواتر عن رسوله ، وأجمع عليه سلف الأُمة من أنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، علىٌّ على خلقه ، وهو معهم سبحانه أينما كانوا » (1).

    وقال : « وقد سألوه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم : نعم ، وسأله أبو رزين : أيضحك ربنا؟ فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : نعم ، فقال : لن نعدم من رب يضحك خيراً. ثم إنهم لما سألوه عن الرؤية ، قال : إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ، فشبه الرؤية بالرؤية (2).

    وقال رداً على نُفاة الصفات (3) : إمّا أن يكون اللّه يحب منّا أن نعتقد قول النفاة ، أو نعتقد قول أهل الإثبات ، أو نعتقد واحداً منهما; فإن كان مطلوبه منّا اعتقاد قول النفاة ، وهو أنّه لا داخل العالم ولا خارجه ، وأنّه ليس فوق السماوات ربُّ ولا على العرش إله ، وأنّ محمداً لم يعرج به إلى اللّه ، وإنما عرج به إلى السماوات فقط ، لا إلى اللّه ، فإنّ الملائكة لا تعرج إلى اللّه بل إلى ملكوته ، وإنّ اللّه لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ، وأمثال ذلك. وإن كانوا يعبّرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام ، كقولهم : ليس بمتحيز ، ولا جسم ، ولا جوهر ، ولا هو في جهة ، ولا مكان ، وأمثال هذه

________________________________________

1 ـ العقيدة الواسطية ، الرسالة التاسعة ، من مجموع الرسائل الكبرى ، ص 398 ـ 400 بتلخيص.

2 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203 ، طبع لجنة التراث العربي.

3 ـ المراد : الصفات الخبرية كاليد والوجه.

________________________________________

(118)

العبارات الّتي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائص ، ومقصدهم أنّه ليس فوق السماوات ربّ ولا على العرش إله يعبد ، ولا عُرج بالرسول إلى اللّه ، ولو كان هذا هو المطلوب كان من المعلوم أنه لا بد أن يبينه الرسول ، وقد علم بالاضطرار أنّ الرسول وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة (1).

    وقال : « إنّ المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنّه قال : اللّه في السماء ، وعلمه في كل مكان ، ولأنّ علماءهم حكموا إجماع السنة والجماعة على أنّ اللّه بذاته فوق عرشه » (2).

    وقال ـ نقلا عن ابن أبي حنيفة ـ « أنّه سئل عمن يقول : لا أعرف ربّي في السماء أو في الأرض؟ قال : كفر ، لأنّ اللّه يقول : ( الرَّحمن على العرش استوى ) وعرشه فوق سبع سماواته ، فقال السائل : إنّه يقول على العرش ، ولكن لا أدري العرش في السماء أو في الأرض؟ فقال : إنّه إذا أنكر أنّه في السماء كفر ، لأنّه تعالى في أعلى عليين ، وإنّه ليدعى من أعلى لا من أسفل (3).

    ونقل عن عبداللّه بن المبارك أنّه سئل : بماذا تعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق سماواته على عرشه ، بائن عن خلقه قلت بحد لا يعلمه غيره. ثم نقل عن كثير من أئمة الحديث كالثوري ، ومالك ، وابن عيينة ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وابن المبارك ، وفضيل بن عياض ، وأحمد ، وإسحاق ، عن كون اللّه سبحانه فوق العرش بذاته ، وأنّ علمه بكل مكان (4).

    إلى غير ذلك مما نقله وأرسله على نسق واحد ، والكل يهدف إلى أن الصفات الخبرية يجب أن تجري على اللّه سبحانه بحرفيتها وظهورها التصوري ، من دون تفصيل وتأويل ، بإرجاعها إلى المعاني المجازية أو الكنائية.

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203.

2 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203.

3 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 207.

4 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 208 ـ 209.

________________________________________

(119)

الآراء المتضاربة حول الصفات الخبرية

    إنّ للمتكلمين وأهل الحديث في تفسير الصفات الخبرية مذاهب نشير إليها :

    1 ـ جريها على اللّه سبحانه كجريها على المخلوقين ، وهذا ما يعبّر عنه بالتكييف ، وعليه المجسمة وأصحاب الجهة والتشبيه ـ خذلهم اللّه سبحانه ـ وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ، أو جسمانياً جالساً على كرسي جسماني ، ناظراً من عرشه إلى تحته كنظر الملك الجبار إلى عبيده وغلمانه.

    2 ـ جريها على اللّه سبحانه بنفس المفاهيم اللغوية والمعاني الابتدائية ، والمدلولات التصوّرية ، بلا تصرف وتعليل وتدخّل فيها ، واللّه سبحانه يتّصف بها لكن بلا تكليف ، والفرق بين هذا القول و القول الأوّل هوأنّ القول الأوّل يثبت المعاني مع الكيفية ، وهذا القول يثبتها بنفس المعاني لكن بلا تكييف ، وهذا هو الّذي اختاره ابن تيمية ، ويذكر ذلك في رسائله ويقول : « والقول الفاصل هو ما عليه الأُمة الوسط من أنّ اللّه مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به ، فكما أنّه موصوف بأنّه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنّه سميع بصير ، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض الّتي لعلم المخلوقين وقدرتهم ، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ، ولوازمها » (1).

    ويقول ايضاً : « ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل ، فلا يمثلون صفات اللّه بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ، فيعطّلون أسماءه الحسنى يحرّفون الكلم عن مواضعه. أمّا المعطّلون ، فإنهم لم يفهموا من أسماء اللّه وصفاته إلاّ ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل ، مثلوا أولا وعطلوا آخراً ، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة باللّه سبحانه »(2).

________________________________________

1 ـ العقيدة الحموية ص 428 ـ 440.

2 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(120)

    3 ـ جريها على اللّه سبحانه بمفاهيمها التصديقية ، بعد الإمعان في القرائن الموجودة في نفس الآيات والروايات الصحيحة وأمّا غيرهما ، فأكثر ما ورد في ذلك من وضع الأحبار والرهبان الذين دسّوا هذه الأحاديث بين المسلمين بخداع خاص.

    وعلى ضوء ذلك فالكل قائلون باستوائه على العرش ، لكن الطائفة الأُولى يفسرونه بالجلوس والاستقرار على العرش كاستقرار الإنسان على عرشه ، الّذي له قوائم أربع.

    والطائفة الثانية يفسرونه بنفس هذه المفاهيم ، ولكن يقولون : استقراراً وجلوساً لائقاً بحاله سبحانه ، وعرشاً لائقاً بساحته ، فهو مستقر وجالس لا كجلوس الإنسان وله عرش لا كعروشه ، بل الكل ما يليق بساحته ، من غير تكييف ولا تمثيل.

    والطائفة الثالثة يفسرونه بالاستيلاء ، أخذاً بالقرائن الموجودة في نفس الآيات ، وما ورد في كلمات البلغاء والفصحاء في استعمال نظيره في كلماتهم ومحاوراتهم.

    4 ـ وهناك طائفة رابعة يقولون بالتفويض ، وأنّه ليس لنا تفسير الآية ، بل نفوّض معانيها إليه سبحانه.

    قال الشهرستاني : « اعلم إِنَّ جماعة كثيرة من السلف ، كانوا يثبتون للّه صفات خبرية مثل اليدين والوجه ، ولا يؤوّلون ذلك ، إلاّ أنّهم يقولون : إنَّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله : ( الرَّحمن على العرش استوى ) ولسنا مكلفين بمعرفة هذه الصفات » (1).

    وقال الرازي : « إنّ هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد اللّه منها شيء غير ظواهرها ، كما يجب تفويض معناها إلى اللّه تعالى ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها » (2).

________________________________________

1 ـ الملل والنحل ج 1 ص 93 بتلخيص.

2 ـ أساس التقديس ص 223.

(121)

    إلى غير ذلك من الكلمات الّتي نقلناها في هذه الموسوعة (1).

    ثم إنّ أصحاب التنابز بالألقاب وصفوا الطائفة الثالثة بالمعطّلة تارة ، والمؤوّلة أُخرى ، ولكنهم غير معطلة أبدا ، لأنهم لم يعطلوا في مقام توصيفه سبحانه شيئاً مما ورد في الكتاب ، غير أنهم قاموا بتعيين المراد من هذه الصفات فأجروها عليه ، وأمّا المؤولّة ، فإنما يصحّ توصيفهم بهذا الوصف إذا أُريد منها المعاني التصورية الابتدائية ، وأمّا المعاني التصديقية الّتي تدل عليها القرائن ، فلا يؤوّلون شيئاً منها ، والملاك في صدق التأويل هو المعاني التصديقية ، لا التصورية.

    هذه هي الأقوال المعروفة في باب الصفات على وجه الإجمال ، هلمّ معي ندرس نظرية ابن تيمية فيها ، حتّى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

 

نظرية ابن تيمية تلازم الجهة والتجسيم

    لا يشك من نظر إلى ما نقلناه عن ابن تيمية في مواضع متعددة من رسائله وكتبه في أنه صريح في التجسيم والتشبيه ، خصوصاً أنه يصرح بأنه تصحّ الإشارة الحسية بالأصابع إليه ، ولا هدف له من جمع كل ما ورد في ذلك المجال من غثّ وسمين وصحيح وزائف. إلاّ إثبات أن هذه الصفات تجري عليه سبحانه بمعانيها اللغوية ، غير أنّ تذرعه بلفظ « بلا كيف » أو « بلا تمثيل » أو ما يقاربهما ربما يوجب عدم عدّه من المجسّمة والمشبهة ، لأنّه يقول بأنّ له سبحانه هذه الصفات لا كصفات المخلوقين ، ولكن هذا التذرّع واجهة يريد به تبرير توصيفه سبحانه بها بمعانيها اللغوية ، وعدم اتهامه بالقول بالتجسيم والتشبيه ، ولكنها لا تفيد شيئاً وذلك :

    إنّ هذه الصفات كاليد والرجل والنزول والجلوس موضوعة لغةً على معانيها المتكيفة بكيفيات جسمانية ، فاليد هي الجارحة المعروفة من الإنسان والحيوان ، وهكذا الرجل والقدم ، ومثلها النزول ، فإنها موضوعة للحركة من العالي إلى السافل ، والحركة من صفات الجسم ، فالكيفية مقوّمة لمعاني هذه

________________________________________

1 ـ راجع الجزئين الثاني والثالث.

________________________________________

(122)

الألفاظ والصفات ، فاليد والرجل بلا كيفية ليستا يداً ورجلا بالمعنى اللغوي المتبادر عرفاً ، وعلى ضوء ذلك فليس هنا إلاّ سلوك أحد طريقين :

    1 ـ جريها بنفس معانيها اللغوية الّتي تتبادر منها المفاهيم المتكيفة ، فهو نفس القول بالتجسيم.

    2 ـ جريها بمفاهيمها المجازية ، ككون اليد كناية عن القدرة ، كما في قوله سبحانه : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشاء ) (1) ، فهذا هو قول المؤوّلة ، أو المعطلة باصطلاح ابن تيمية ، وليس ههنا معنى ثالث ينطبق على ما يتبنّاه ابن تيمية ، وهو إجراؤها على اللّه بنفس مفاهيمها ، لكن من غير تكييف ، وذلك لما عرفت أنّ مفاهيمها متقوّمة بالتكييف والتمثيل ، فلو حذفنا الهيئة والكيفية من اليد ، فلا يبقي منها شيء ، كما أنّا لو حذفنا الحركة الحسية من النزول لا يبقى منه شىء ، إلاّ إذا حملا على الكناية والتأويل ، وهو ما لا يقبله ابن تيمية وأتباعه.

    ولو صحّ حمل هذه المفاهيم عليه سبحانه بالتذرّع بـ « بلا تكيف » و « لا تمثيل » لصحّ توصيفه سبحانه بكل شيء فيه أدنى كمال ، ونقول : إنّه جسم لا كالأجسام ، وله قلب لا كهذه القلوب ، وله لسان ناطق لا كهذه الألسنة.

    وخلاصة القول : إنّ ابن تيمية يرى نفسه بين أمرين :

     أحدهما : القرآن بظواهره الحرفية حجة لا يصحّ لأحد تأوليها أو حملها على الكناية والمجاز .

    ثانيهما : إنَّ القرآن صريح في أنّه ليس كمثله شيء ، وأنّ المشركين ما قدروا اللّه حق قدره ، إلى كثير من آيات التنزيه.

    فعند ذلك يريد أن يجمع بين الأمرين باللجوء إلى أنّ المقصود ما يناسب ساحته ، زاعماً بأنّه ينجيه عن القول بالجهة والتجسيم ، مع أنّه ليس لنا إلاّ اختيار أحد الأمرين : الأخذ بالمفاهيم اللغوية بلا تأويل ومرجعه إلى

________________________________________

1 ـ سورة المائدة : الآية 64.

________________________________________

(123)

التجسيم ، أو الإمعان في الآيات والآثار الصحيحة وتفسيرها حسب الدلالة التصديقية ، بالمعاني الكنائية أو المجازية أو غير ذلك.

    وأمّا ما ادّعاه من أنّ ما ذكره نفس معتقد السلف فقد أجاب عنه العلامة الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي ( ت 1379 هـ ) قال : « إذا سمعت في بعض عبارات بعض السلف : إنما نؤمن بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ، فلا تظن أنهم أرادوا أنّ ذاته العلية منقسمة إلى أجزاء وأبعاض ، فجزء منها يد وجزء منه وجه ، غير أنه لا يشابه الأيدي والوجوه الّتي للخلق.

    حاشاهم من ذلك ، وما هذا إلاّ التشبيه بعينه ، وإنما أرادوا بذلك أنّ لفظ الوجه واليد قد استعمل في معنى من المعاني وصفة من الصفات الّتي تليق بالذات العلية ، كالعظمة والقدرة ، غير أنهم يتورعون عن تعيين تلك الصفة تهيباً من التهجم على ذلك المقام الأقدس ، وانتهز المجسمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام ، وخدعوا بها الأغمار من الناس ، وحملوها على الأجزاء فوقعوا في حقيقة التجسيم والتشبيه ، وتبرأوا من اسمه ، وليس يخفى نقدهم المزيف على صيارفة العلماء وجهابذة الحكماء » (1).

    وقد صرح بما ذكرنا ـ الأخذ بالمفاهيم اللغوية يلازم الجهة والتجسيم ـ ناصر ابن تيمية في جميع المواقف ( إلاّ في موقف أو موقفين ) الشيخ محمد أبو زهرة حيث لم يستطع أن يستر الحقيقة ، فقال : « ولا تتسع عقولنا لإدراك الجمع بين الإشارة الحسية بالأصابع والإقرار بأنه في السماء ، وأنه يستوي على العرش ، وبين تنزيهه المطلق عن الجسمية والمشابهة للحوادث. وإن التأويل ( حملها على المجاز و الكناية ) بلا شك في هذا يقرب العقيدة الى المدارك البشرية ، ولا يصح أن يكلف الناس ما لا يطيقون ، وإذا كان ابن تيمية قد اتسع عقله للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول في مكان والتنزيه المطلق ، فعقول الناس لا تصل إلى سعة أُفقه إن كان كلامه مستقيماً » (2).

    يقول أيضاً : « ومهما حاولوا نفي التشبيه فإنّه لاصق بهم ، فإذا جاء ابن

________________________________________

1 ـ فرقان القرآن ص 80 ـ 81.

2 ـ ابن تيمية ، حياته وعصره ص 270.

________________________________________

(124)

تيمية من بعدهم بأكثر من قرن فقال : « إنّه اشتراك في الإسم لا في الحقيقة » فإن فسّروا الاستواء بظاهر اللفظ فإنه الإقعاد والجلوس ، والجسمية لازمة لا محالة ، وإن فسروه بغير المحسوس فهو تأويل ، وقد وقعوا فيهما نهوا عنه ، وفي الحالين قد خالفوا التوقف الّذي سلكه السلف » (1).

    أقول : ليس ابن تيمية فريداً في هذا الباب ، بل المذهب الّذي أرسى قواعده شيخه ابن حنبل من التعبد بالظواهر بحرفيتها ومعانيها التصورية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه ، ومهما حاولوا الفرار عنه وقعوا فيه من حيث لا يشعرون. نعم حاول ابن الجوزي أن يدافع عن أُستاذ مذهبه فوجّه اللوم إلى تلاميذه ، فقال : « رأيت من أصحابنا من تكلم في الأُصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة : أبو عبداللّه بن حامد (2) وصاحبه القاضي ( أبو يعلي ) (3) وابن الزاغواني (4) ، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس; فسمعوا أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم ( عليه السَّلام ) على صورته ، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات ، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواءً لوجهه ، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين ، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس.

    وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات ، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة ، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا إلى

________________________________________

1 ـ ابن تيمية حياته وعصره ص 272 ـ 273.

2 ـ شيخ الحنابلة في عصره ، البغدادي ، الوراق ، المتوفى سنة 403 له كتاب في أصول الإعتقاد سماه « شرح أُصول الدين » وفيه أقوال تدل على التشبيه والتجسيم.

3 ـ القاضي أبو يعلى محمد الحسين بن خلف بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 وقد تكلم في أُصول الإعتقاد كلاماً تبع أُستاذه ابن حامد وأكثر من التشبيه والتمثيل حتّى قال فيه بعض العلماء :

     « لقد شان أبويعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار ».

4 ـ هو أبو الحسن علي بن عبيداللّه بن نصر الزاغواني الحنبلي المتوفى سنة 527 وله كتاب في أصول الإعتقاد اسمه « الإيضاح » قال فيه بعض العلماء : « إنّ فيه من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه ».

________________________________________

(125)

النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة للّه تعالى ، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتّى قالوا : صفة ذات ، ثم لمّا أثبتوا أنها صفات ، قالوا : « لا نحملها على توجيه اللغة ، مثل يد على نعمة وقدرة ، ولا مجيء وإتيان على معنى بر ولطف ، ولا ساق على شدة ، بل قالوا : نحملها على ظواهرها المتعارفة ، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين » ، والشيء إنّما يحمل على حقيقته إذا أمكن ، فإن صرفه صارف حمل على المجاز.

    ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ، ويقولون نحن أهل السنة ، وكلامهم صريح في التشبيه ، ولقد تبعهم خلق من العوام ، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت لهم : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتّباع ، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل ـ رحمة اللّه ـ يقول وهو تحت السياط : « كيف أقول ما لم يقل به » فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه.

    ثم قلتم في أن الأحاديث تحمل على ظاهرها ، فظاهر القدم : الجارحة ، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات ، وينبغي أن لا يحمل ما لا يثبته الأصل وهو العقل ، فإنّا به عرفنا اللّه وحكمنا له بالقدم ، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ، لما أنكر عليكم ، وإنما حملكم إياه على الظاهر قبيح ، فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس فيه » (1).

    أقول : عزب عن ابن الجوزي الحنبلي أنّ إمامه هو الّذي دعم هذه الفكرة في كتبه ، وأنّه هو الّذي حشا كتبه بأحاديث التجسيم والتشبيه ، ومن اراد الوقوف عليها ، فليرجع إلى كتاب السنة الّذي رواه عنه ابن عبداللّه ، وقد روينا قسماً وافراً من رواياته في الجزء الأول (2).

    نعم ، قسَّم عز بن عبدالسلام الحشوية وقال بأنهم على ضربين :

________________________________________

1 ـ ابن تيمية ، حياته وعصره ، ص 273 ـ 274 نقلا عن دفع شبهة التشبيه لابن الجوزي ، ونقله ملخصاً الشيخ سلامة في فرقان القرآن ص 82.

2 ـ بحوث في الملل والنحل ج 1 ص 130 ـ 143.

________________________________________

(126)

أحدهما « يتحاشى عن الحشو والتشبيه والتجسيم ، والآخر تستّر بمذهب السلف ، ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التشبيه والتجسيم » (1).

    والحق أنّ الحشوية بأجمعهم مجسّمة ، والتسمك بمذهب السلف واجهة ستروا بها قبح عقيدتهم ، ولو رفع الستر لبان أنهم مجسمة ومشبهة ، وفي هذاالصدد يقول الزمخشري :

ولو حنبلياً قلت قالوا بأنني                               ثقيل حلولىُّ بغيض مجسم

    ويقول أبوبكر ابن العربي في حقهم :

قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنابينوا عن الخلق لستم منهم أبداً                   عنها العدول إلى رأي ونظرما للأنام ومعلوف من البقر (2)

    نعم ، الظواهر هي الأصل ولا يجوز لأحد العدول عنه : ولكن الظواهر منها ظاهر حرفي ، ابتدائي ، تصوري ، فهو ليس بحجة أبداً ، ومنها ظاهر جملي تصديقي استمراري ، وهو الحجة قطعاً ، فإذا قلت : رأيت أسداً في الحمام ، فالظهور الإبتدائي التصوري الحرفي للفظ الأسد هو الحيوان المفترس ، ويقابله الظهور التصديقي الجملي الاستمراري وهو الرجل الشجاع ، وهؤلاء الذين يضلون العوام يغترون بالقسم الأول من الظاهر ، دون الثاني. وإذا قال المحققون : ظواهر الكتاب والسنة حجة لا يصح العدول عنها ولا يجوز لأحد تأويلها ، يريدون الظهورات التصديقية الّتي تنعقد للكلام بعد الإمعان في القرائن المتصلة أو المنفصلة ، ولكن من يتبع الظواهر الحرفية فقد ضل ، وغفل عن أن كلام العرب والبلغاء والفصحاء مليء بالمجازات والكنايات.

    وحصيلة البحث أن الجمود على الظواهر عبارة عن الجمود على ظواهرها الحرفيةو ولا شك أنه يجر إلى الكفر أحياناً ، فمن جمد على ظاهر قوله سبحانه : ( ليس كمثله شيء ) يجب عليه أن يقول : إنّ للّه مثلا وليس كهذا المثل شيء ، كما أنّ التأويل ضلال ، والمراد منه هو العدول عن الظواهر

________________________________________

1 ـ نقض المنطق ص 119 ، كما في كتاب « ابن تيمية » لمحمد أبي زهرة.

2 ـ فرقان القرآن ص 98.

________________________________________

(127)

التصديقية الّتي تتبادر إلى أذهان أهل اللغة بعد الإمعان في سياق الكلام ، والتأمّل في نظائره في كلمات العرب. فلو استقرّ ظهور جملة في شيء بهذا الشرط ، فالعدول عنه يوجب مسخ كلام اللّه ومحو الشريعة.

    فعلى العالم الباحث أن يمعن النظر في الصفات الخبرية الّتي جاءت في الكتاب والسنة ، ويتلقاها آيات متشابهة ، ويمعن في الآيات المحكمة حتّى يزيل عنها التشابه. « ومن تتبّع براهين القرآن واستقرأ آياته العظام وجد كثيراً مما تشابه فيه ، ورأى كثيراً منه محكماً ، وهو ما كان من المجاز البيّن الشائع في لغة العرب ، وعلى قدر الرسوخ في العلم يكون زوال التشابه أو أكثره عن الكثير من المتشابه ، ولما كان الراسخون في العلم متفاوتين لا جرم تفاوتت أنصباؤهم في زوال التشابه عنهم ... » (1).

    وفي الختام نذكر أُموراً :

    الأول : إنّ ابن تيمية وإن تستّر بقوله ( بما يناسب ساحته ) ونظيره ، ولكنّه أظهر عقيدته الواقعية في مجالات خاصة ، وهذا ابن بطوطة ينقل في رحلته : « وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون ، إلاّ أنه كان في عقله شيء ، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم ، ويعظهم على المنبر ، وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء.. ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة ، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر ، وتكلم شرف الدين الزوادي المالكي وقال : إنّ هذا الرجل قال كذا وكذا ، وعدّد ما أنكر على ابن تيمية ، وأحضر الشهود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة.

    قال قاضي القضاة لابن تيمية : ما تقول؟ قال : لا إله إلاّ اللّه ، فأعاد عليه فاجاب عليه بمثل قوله ، فامر الملك الناصر بسجنه ، فسجن أعواماً ، وصنّف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سماه بالبحر المحيط.

    ثم إنّ أُمه تعرضت للملك الناصر ، وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن

________________________________________

1 ـ كلام الإمام ابن دقيق العيد ، كما في فرقان القرآن ص 97.

________________________________________

(128)

وقع منه مثل ذلك ثانية ، وكنت إذ ذاك بدمشق. فحضرته يوم الجمعة ، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه أن قال : إنّ اللّه ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلم به ، فقامت العامة إلى هذا الفقيه ، وضربوه بالأيدي والمنال ضرباً كثيراً » (1).

    الثاني : إنّ ابن تيمية ومن لفّ لفّه يستدلون على مقالتهم بالقياس ، ويقولون : إنّ الوجه ، والعين ، واليدين ، والقدمين والساق صفات مثل سائر الصفات ، كالحياة والعلم والإرادة ، فكما أنّ له سبحانه حياة لا كحياة الإنسان ، فهكذا صفاته الخبرية ، فله وجه لا كالوجوه ، ويد لا كالأيدي ، ورجل لا كالرجل.

    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بالقياس في مجال العقائد أشد خطأ من الاستدلال به في المسائل الفقهية ، وعلى فرض الصحة فالقياس مع الفارق ، وذلك أنّ كلا من العلم والقدرة موضوع لمعنى غير متقيد بالجسم والمادة ، فالعلم من ينكشف لديه المعلوم ، والقادر من يستطيع على الفعل عن اختيار ، فلأجل ذلك لكل واحد منهما مراتب ودرجات ، فمنه حصولي ومنه حضوري ، فمنه زائد على الذات ، ومنه عين الذات ، وأمّا الصفات الخبرية كالوجه فإنها موضوعة على الموجود المادي الّذي له شكل خاص ، ولو كانت له مصاديق متفاوتة كوجه الإنسان والفرس والأسد فإنما هي في إطار الجسم المادي ، فالوجه بأي نحو أطلق يجب أن يكون موجوداً مادياً متهيئاً بهيئة خاصة ، فالوجه الفاقد للمادة والهيئة ، ليس وجهاً لغة ، ومثله الرجل واليد ، فالقول بأنّ له سبحان يداً لا كالأيدي ، إن أُريد منه التأويل ، أي تأويله بالقدرة ، فهذا هو الّذي ذهب إليه أهل التنزيه ، وإن أُريد به المعنى اللغوي بلا تدخل ولا تصرف ، ومع ذلك فهو يفقد المادة والهيئة والشكل فهذا أشبه بالتناقض.

________________________________________

1 ـ ابن بطوطة : الرحلة ص 95 ـ 96 طبع دار صادر ( 1384 هـ ) .

________________________________________

(129)

الثالث : إنّ ابن تيمية ينسب إلى السلف بأنّهم لا يؤوّلون ظواهر الكتاب في مجال الصفات الخبرية ، ثم يستنتج منه أنهم يحملونها على ظواهرها اللغوية ، ويقولون : إنّ للّه وجهاً ويداً ورجلا ، ونزولا ونقلة بنفس معانيها اللغوية ، غاية الأمر أنّ الكيف مجهول.

    يلاحظ عليه : أنّ ما نسب إلى السلف إذا كان صحيحاً يهدف إلى توقّفهم في تعيين المراد وتفويض الأمر إلى اللّه ، إذ في الأخذ بالظاهر اليدوي مغبة الجهة والتجسيم ، وفي تعيين المراد مظنة التفسير بالرأي ، فكانوا لا يخوضون في هذه الأبحاث الخطرة ، وأمّا أنهم يحملونها على ظواهرها ويفسرونها بنفس معانيها الابتدائية التصورية ، كما زعمه ابن تيمية ، فهو افتراء على المثبتين منهم.

    نعم ، كان أهل التحقيق يخوضون في هذه المباحث ويعينون المعنى المراد ، وهذا ما يطلق عليه التأويل ، ولكن التأويل صحيح على وجه ، وباطل على وجه آخر ، فإن كان هناك شاهد عليه في نفس الآية والحديث ، أو كان التأويل من قسم المجاز البيّن الشائع ، فالحق سلوكه من غير توقف ، وإن لم يكن في النصوص عليه شاهد ، أو كان من المجاز البعيد ، فهذا هو التأويل الباطل ، وهو يلازم الخروج عن الملة والدخول في الكفر والإلحاد.

    كما أنّ التأويل بلا قيد و شرط كفر وضلال ، كما عليه الباطنية ، فهكذا التعبد بالظواهر الابتدائية والمعاني التصورية ، وعدم الاعتناء بالقرائن المتصلة أو المنفصلة أيضاً كفر وضلال وتعبّد بالتجسيم والتشبيه.

    إنّ المتحرّي للحقيقة يتبع الحق ولا يخاف من الإرهاب والإرعاب ، ولا من التنابز بالألقاب ، فلا يهوله ما يسمع من ابن تيمية وابن عبدالوهاب من تسمية المنزهين للحق عن الجهة والمكان ، معطّلة وجهمية ، وتلقيب القائلين ببدع اليهود والنصارى بالموحدين والمثبتين ، فلا يصرفنّك النبز بالألقاب إلى الإنحراف عن الحق الصراح ، الّذي أرشدك إليه كتاب اللّه وسنة رسوله القويمة ، والعقل الّذي به عرفت اللّه سبحانه ، وبه عرفت رسله ومعاجزه وآياته.

 

________________________________________

(130)

    ومما يدل على أنّ السلف لا يحملون الصفات الخبرية على ظواهرها ، بل لا يتكلمون ويفوضون الأمر إلى اللّه ، هو ما نقل عن عالم المدينة مالك بن أنس عندما سئل عن قوله سبحانه : ( ثمَّ استوى على العرش ) أنّه كيف استوى؟ قال : الإستواء معلوم ، والكيف غير معقول (1). نعم إنّ ابن تيمية وأبناء الوهابية يحكون عنه أنّه قال : « الكيف مجهول » ، والفرق بين العبارتين واضح ، فالأول يهدف إلى التنزيه ، والثاني يناسب التجسيم ، إذ معناه أنّ لاستوائه على العرش كيفية من الكيفيات ولكنها مجهولة لنا. ويدل على أن الوارد هو « غير معقول » ما جاء في ذيل الرواية أنّ مالك بعدما سمع السؤال وأجاب بما ذكرناه ، علته الرحضاء ، أي العرق الكثير وقال : « ما أظنك إلاّ صاحب بدعة » وما ظنّه كذلك إلاّ لأنّ سؤاله كان عن الكيفية ، فأحس أن السائل يريد إثبات الكيفية لاستوائه سبحانه ، فأخذته الرحضاء من سؤاله واعتقاده.

    الرابع : إنّ ابن تيمية يكرر كثيراً استواءه سبحانه على العرش ، ويعتمد على ظاهره ، ويتخيل أنّ الإستواء بمعنى الاستقرار أو الجلوس ، ولكنّه تستراً لمذهبه ، يضيف إليه « بلا تكييف » ولأجل رفع الستر عن معنى الآية نأتي بكلام شيخ السلف من المفسرين أبي جعفر الطبري ، ولا يشك أحد في أنّه سلفي ، فهو يقول :

    الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه :

    1 ـ انتهاء شباب الرجل وقوته ، ويقال : إذا صار كذلك قد استوى الرجل.

    2 ـ استقامة ما كان فيه أود من الأُمور والأسباب. يقال : استوى لفلان أمره إذا استقام له بعد أود ، ومنه قول الطرماح :

________________________________________

1 ـ نقله الذهبي في كتابه « العلو » عن مالك وشيخه ربيعة ، كما نقله أيضاً بالسند عن أبي عبداللّه الحاكم وابن زرعة ، لاحظ فرقان القرآن ص 14 ـ 15 ونقله عن الإلكائي في شرح السنة.

(131)

طال على رسم محدد أبده                               وعفا واستوى به بلده

    يعني استقام به.

    3 ـ الإقبال على الشيء بالفعل ، كما يقال : استوى فلان على فلان ، بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.

    4 ـ الاختيار والاستيلاء ، كقولهم : استوى فلان على المملكة ، أي احتوى عليها وحازها.

    5 ـ العلو والارتفاع ، كقول القائل : استوى فلان على سريره ، يعني به علوه عليه.

    ثم قال : وأولى المعاني بقول اللّه جلّ ثناؤه : ( ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهنّ ) : علا عليهن وارتفع ، قد برهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات (1).

    وهذا الشيخ السلفي لا يفسر الاستواء على العرش ، بالجلوس ولا بالاستقرار ، بل بعلو الملك والسلطان ، كما هوالمراد من قوله سبحانه : ( وَهُوَ العَلِىّ العَظِيمُ ) (2) ، والعرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يفهمون من الاستواء إذا وقع وصفاً لموصوف بالقدرة والعظمة ، سوى العلوّ ، قال الشاعر :

قد استوى بِشْرٌ على العراقِ                               من غير سيف ودم مهراق

    وقال الآخر :

ولما علونا واستوينا عليهم                                تركناهم مرعىً لنسر وكاسر

    والأسف أنّ ابن تيمية وأتباعه إذ فسروا الاستواء بالعلو ، يفسرونه بالعلو بالمكان ، ولا يدرون أن الفضيلة والكرامة في العلو المعنوي لا العلو المكاني ، فما قيمة العلو في المكان إذا لم يكن هناك علو معنوي ، وهذا هو القرآن يركّز على العلو المعنوي ، ويقول : ( وَلاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَونَ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) (3) ، وقال سبحانه : ( ألاّ تَعْلُوا عَلَىّ وَ أْتُوني

________________________________________

1 ـ تفسير الطبري ج 1 ص 150 ، سورة البقرة الآية 29 ط دارالمعرفة.

2 ـ سورة البقرة : الآية 255.

3 ـ سورة آل عمران : الآية 139.

________________________________________

(132)

مُسْلِمينَ ) (1) وقال سبحانه : ( إنّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأرْضِ وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعاً ) (2) وقال تعالى : ( وَ أنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللّه إنّي آتِيْكُم بِسُلطَان مُبِين ) (3) وقال : ( لاَ تَخَفْ إنّكَ أَنْتَ الأعْلَى ) (4) .

    هذا كلّه حول الاستواء ، وأمّا العرش فهو سرير الملك الّذي يجلس عليه للحكم ، وهذا هو أصل الوضع ، ثم يكنّى به عن السلطة والسيطرة ، حتّى صار يستعمل في هذا المعنى ولا ينصرف إلى المعنى اللغوي ، فإذا كان الملك آخذاً بزمام الأُمور ومسيطراً على البلد وأهله يقال : استوى على العرش ، أو هو مستو عليه ، وإذا كان ضعيفاً في الإدارة غير نافذ أمره في البلد وأهله ، وكان هناك انتفاضة بعد انتفاضة ، يقال : إنّه غير مستو على عرشه.

    ومن تتبّع القرآن الكريم وأمعن النظر في الموارد الّتي ورد فيها استواؤه سبحانه على العرش في موارد متعددة يجد أنّه ذكر مقروناً بفعل من أفعاله ، دال على غناه المطلق ، مثل رفع السماوات بغير عمد ، قال سبحانه : ( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَها ، ثُمَّ استَوى عَلَى العَرْشَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ ) (5) ، أو ( خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أيّام ) .

    وإليك الآيات الّتي جاء فيها هذا الأمر ، قال سبحانه : ( إنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرضَ في سِتَّةِ أيّام ، ثُمَّ اسْتوى عَلَى العَرْشِ ، يُغشي اللَّيلَ النَّهارَ ) (6) وقال سبحانه : ( اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرضَ فِي سِتَّةِ أيّام ، ثُمّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمرَ ، ما مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إذنِهِ) (7) ، وقال سبحانه : ( اللّهُ الّذي خَلَقَ السّمواتِ وَ الأرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا

________________________________________

1 ـ سورة النمل : الآية 31.

2 ـ سورة القصص : الآية 4.

3 ـ سورة الدخان : الآية 19.

4 ـ سورة طه : الآية 68 .

5 ـ سورة الرعد : الآية 2.

6 ـ سورة الأعراف : الآية 54.

7 ـ سورة يونس : الآية 3.

________________________________________

(133)

في سِتَّةِ أيّام ، ثُمّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرّحمنُ فَسْئلْ بِهِ خَبِيراً ) (1) وقال سبحانه : ( اللّهُ الّذي خَلَقَ السّمواتِ وَ الأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أيّام ثُمّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَ لاَ شَفيع أفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ) (2) وقال سبحانه : ( هُوَ الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سَتَّةَ أيّام ثُمّ استَوى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها ) (3).

    والناظر في هذه الآيات يرى أنّه سبحانه عندما يذكر استواءه على العرش يذكر آثار قدرته وعظمته من خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وتدبيره الأمر « يدبّر الأمر » ، وأنّه لا مؤثّر ولا موجد إلاّ بإذنه « ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه » ، ومن علمه الوسيع بما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. كلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية في جميع الموارد تهدف إلى علوّه سبحانه على عالم الوجود الإمكاني ، وأنّه بجملته في سلطانه وقدرته ، ولا يخرج شيء من حيطة قدرته ، وأين هذا من تفسيره بالجلوس على العرش فوق السماوات ناظراً إلى ما دونه.( تَعَالَى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ) .

    ولو تتّبع المعاصرون المنتمون إلى السلف يجدون خير السلف كالطبري (4) يفسر « الواسع » في قوله : ( واللّهُ وَاسعٌ عَلِيم ) (5) ويقول : واللّه واسع الفضل ، جواد بعطاياه ، فزوّجوا إماءكم فإنّ اللّه واسع يوسع عليهم من فضله إن كانوا فقراء ، كما أنّ الشيخ البخاري يفسر الوجه في قوله : (كُلُّ شَىء هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ ) بالملك (6).

________________________________________

1 ـ سورة الفرقان : الآية 59.

2 ـ سورة السجدة : الآية 4.

3 ـ سورة الحديد : الآية 4.

4 ـ تفسير الطبري ج 18 ص 98.

5 ـ سورة النور : الآية 32.

6 ـ صحيح البخاري ج 6 ص 112 ، تفسير سورة القصص ، الآية 88.

________________________________________

(134)

الخامس : إنّ الفرقة المشبهة ليست وليدة عصرنا هذا ، بل لها عرق ممتدّ إلى زمن التابعين ، الّذي كثرت فيه مسلمة اليهود والنصارى ، فأدخلوا في الأحاديث ما يروقهم من العقائد ، فتأثر بهم السذّج من المسلمين والمحدثين ، فأولئك هم المعروفون بالحشوية نسبة إلى الحشو ( بسكون الشين ) وهو اللغو الّذي لا اعتبار له ، فضلا عن أن يكون منسوباً إلى اللّه ورسوله ، أو مذهباً يدان اللّه به ، وما زال أهل الحق لهم بالمرصاد.

    وقد كان القول بالتجسيم والتشبيه ردّ فعل لما كان عليه علىّ ( عليه السَّلام ) وأولاده من الدعوة إلى التنزيه ، والاجتناب عن التشبيه ، في مجال الحق وذاته وصفاته ، نعم حكي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال : « أتانا من المشرق رأيان خبيثان ، جهم معطّل ومقاتل مشبّه ، فأفرط جهم في النفي ( نفي الصفات الجسمانية ) حتّى قال : « وإنّ اللّه ليس بشيء » وافرط مقاتل في الإثبات ، حتّى جعل اللّه تعالى مثل خلقه » (1).

    ولكن الإمام أبا حنيفة تسامح في نسبة التجسيم إلى مقاتل ، بل لها جذور في الأحاديث المروية في الصحاح والمسانيد التي دسها مسلمة اليهود والنصارى في الأحاديث ، وكثير من المحدثين راقتهم تلك الأحاديث ، وبما أنّ عليّاً وابناء بيته الطاهر كانوا على التنزيه ، وهذه خُطَبهُ الرفيعة الرائعة في تنزيه الحق ، حاولت السلطة الأموية أنْ تُروّج كل حديث يتضمّن ضدّ ما كان عليه عليّ ، ويُحترم كل محدث يجنح إلى بثّ هذه الخرافات.

    السادس : إنّ أتباع ابن تيمية ومن كان على ذاك الخطّ قبله من الحشوية ، يفرّون من الاستدلال والبرهنة وعلم الكلام والمناظرة ، ويحرّمون الاستماع إلى البراهين العقلية والمجادلة بالتي هي أحسن ، ولكنّه من تمويهاتهم الّتي يريدون بها دعم مبادئهم وصيانتها عن النقد والإشكال ، وكأنهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه :

    ( ... قُلّ هَاتُوا بُرْهَانَكُم إنْ كُنْتُم صَادِقين ) (2) أو قوله سبحانه :

________________________________________

1 ـ تهذيب التهذيب ج 10 ص 281 ترجمة مقاتل.

2 ـ سورة البقرة : الآية 111.

________________________________________

(135)

( الّذين يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه ... ) (1) أو قوله سبحانه : ( ادعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بَالْحِكْمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتي هِىَ أحسنُ ) (2).

    والكل يهدف إلى أنّ المسلم الواعي إنّما يتّبع البرهان ولا يعرض عنه ، ولا يعطّل عقله حتّى يميّز الأحسن عن غيره ، ويجادل المخالف بالبرهان والدليل. نعم لو أُريد من علم الكلام ، المراء والجدال وكسب العظمة والمقام ، فلا شك أنّه مرغوب عنه.

    نعم ، ليس لهم هدف من تحريم البحث والنظر إلاّ الستر لعوار بدعهم ، وعقائدهم الباطلة ، ولا يجحد النظر في العقائد إلاّ أحد رجلين : رجل غبىّ يشق عليه سلوك أهل التحصيل والناس أعداء ما جهلوا ، ورجل يعتقد بمذاهب فاسدة يخاف من ظهور عوار مذهبه وفضائح عقيدته.

    هذا قليل مما ذكره ابن تيمية وأتباعه في الصفات الخبرية ، ولو أردنا أن نستقصي كلمات الرجل في المقام لطال بنا الكلام ، ولنكتف بهذا المقدار ، وقد عرفت الحق ، والحق أحق أن يتّبع.

________________________________________

1 ـ سورة الزمر : الآية 18.

2 ـ سورة النحل : الآية 125.

________________________________________

(136)

(2)

ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )

    ذهب ابن تيمية إلى أنّ شد الرحال إلى زيارة قبر رجل صالح حرام ، وقال : ثبت في الصحيحين عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا » ثم قال : ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ( عليه السَّلام ) أو قبر النبي لم يجب الوفاء بهذا النذر بإتفاق الأئمة الأربعة ، فإنّ السفر إلى هذه المواضع منهّي عنه لنهي النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... » فإذا كانت المساجد الّتي هي من بيوت اللّه ، الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس ، قد نهي عن السفر إليها ، فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه ، فما ظنك بغيرها؟ فقد رخص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ، ولا احتجوا بحجة شرعية ـ إلى أن قال ـ : وكل حديث يروى في زيارة قبر النبي فإنه ضعيف ، بل موضوع ، ولم يرو أهل الصحاح والسنن والمسانيد ، كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً ، ولكن الّذي في السنن ما رواه أبو داود عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « ما من رجل يسلّم عليّ إلاّ ردّ اللّه عليّ روحي حتّى أرد عليه السلام ، فهو يردّ السلام على من سلم عليه عند قبره ويبلغ [إليه] سلام من سلم عليه من البعيد ، كما في النسائي عنه أنّه قال : « إنّ اللّه وكل بقبري ملائكة يبلغون لأمتي السلام » وفي السنن عنه أنه قال : « أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة

 

________________________________________

(137)

وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علىّ (1).

    أقول : إن هنا مسألتين :

     الأولى : شد الرحال إلى زيارة الأنبياء والصالحين.

    الثانية : حكم زيارة قبر الصلحاء والأنبياء والنبي الأعظم ، وإن لم يكن هناك شد للرحال ، ونحن ندرس كلتا المسألتين في ضوء الكتاب والسنة ، فنقول :

    أفتى ابن تيمية بتحريم شدّ الرحال إلى زيارة الصلحاء والأنبياء والأئمة مستدلا بما ورد من النهي من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، والاستدلال بهذا يتوقف على الإمعان في سند الحديث ودلالته ، فنقول : روي الحديث بصور ثلاث ، والّذي يصحّ الإستدلال به إنّما هو الصورة الأولى والثانية لا الثالثة ، وإليك البيان :

    1 ـ لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى.

    2 ـ إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إليياء.

    3 ـ تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد (2).

    فلو قلنا بأنّ لفظة « إنما » تفيد الحصر ، تكون الصورة الثانية مثل الصورة الأُولى في إفادة الحصر ، وإلاّ فينحصر الاستدلال بالصورة الأُولى ، فلنفترض أنّ الحديث ورد على نمط الصورتين الأُوليين ، فنقول : إنّ الاستثناء

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 57 ـ 65 الرسالة الثالثة في زيارة بيت المقدس.

2 ـ أورد مسلم هذه الأحاديث في صحيحه ج 4 ص 126 ، كتاب الحج باب ( لا تشد الرحال ) وذكره أبو داود في سننه ج 1 ص 469 كتاب الحج ، وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي ج 3 ص 37 و 38 وقد ذكر السبكي صوراً أُخرى للحديث هي أضعف دلالة على مقصود المستدل ، لاحظ شفاء السقام ص 98.

________________________________________

(138)

لا يستغني عن وجود المستثنى منه ، وحيث لم يذكر في كلامه ، فيلزم تقديره وهو أحد الأمرين :

    أ ـ لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة.

    ب ـ لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد.

    أمّا الأول فيجب علينا ملاحظة الأمور التالية :

    الأول : إنّ الحديث لو دلّ على شيء فإنما يدلّ على النهي عن شدّ الرحال إلى مسجد سوى المساجد الثلاثة ، وأمّا شد الرحال إلى الأماكن الأُخرى فالحديث ساكت عنه ، غير متعرّض لشيء من أحكامه ، بل النفي والإثبات يتوجّهان إلى المسجد ، فالمساجد ينهى عن شد الرحال إليها غير المساجد الثلاثة ، والاستدلال به على حكم شد الرحال إلى المنتزهات و المراكز العلمية أو الصناعية أو مقابر الأولياء والشهداء أو الصديقين والصلحاء فهو ساكت عنه ، ومن العجيب أن نستدل به على تحريم شد الرحال إليها.

    الثاني : إنّ النهي عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد لا يعني تحريمه بل يعني نفي الفضيلة فيه ، وذلك لأنّ المساجد سوى الثلاثة ، لمّا كانت متساوية في الفضيلة والثواب فلا ملزم لتحمّل العبء بشد الرحال إليها ، فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة في عامة البلاد ، فلا وجه لشد الرحال إلى مسجد لإقامة الصلاة فيه ، ولكنّه إذا شدّ الرحال بقصد الصلاة فيه والعبادة لربّه ، لا يعد عمله محرماً ، بل غاية الأمر لا يترتب عليه ثواب خاص.

    وبذلك يتبين بطلان ما ذكره ابن تيمية من الاستدلال بالأولوية بأنّه إذا حرم شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة مع أنه من بيوت اللّه الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس يكون شد الرحال إلى زيارة القبور حراماً بطريق أولى ، إذ ليست ساحة القبور مراكز للعبادة ، فهي أقل درجة من سائر المساجد.

    وجه الضعف أنّ الإستدلال مبني على أنّ التحريم تحريم مولوي تعبدي ، وأما على ما استظهرناه من أن النهي إرشادي إلى أنه لا وجه لتحمل العبء في هذا الطريق ، لتساوي المساجد في الفضيلة والكرامة ، فلا وجه للإستدلال ، لترتب الثواب على زيارة القبور.

 

________________________________________

(139)

الثالث : إنّ الحديث نص أو ظاهر في الحصر ، مع أنّه ورد في الصحيح أنّ النبي كان يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً يصلّي فيه (1) فكيف يجتمع هذا العمل مع هذا الحصر ، ولسان الحديث لسان الإباء عن التخصيص؟ فلا يصحّ لنا أن نقول إنّ النهي خصّص بعمل النبي ، وهذا ربما يكشف عن كون الحديث غير صحيح من رأس ، أو أنّه نقل محرّفاً ، خصوصاً أنّه نقل عن طريق أبي هريرة ، والاستدلال بمتفرداته أمر مشكل ، وقد تنبّه ابن تيمية لهذا الإشكال فحاول أن يرفع التناقض بين الحصر ، فقال : « إنّه يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إلى مسجد قبا » ولكنّه لا يرفع الإشكال ، فإنّ الكلام في تخصيص النص الدال على الحصر ، وأنّه لا يشد إلى غيره أبداً ، سواء المقيم والمسافر.

    هذا كله على فرض كون المستثنى منه هو المسجد ، وقد عرفت كونه أجنبياً عن السفر إلى غير المساجد ، وبما أنّ المستثنى منه هو المسجد فالمناسب هو كون المستثنى من هذا القبيل.

    وأمّا على التقدير الثاني وهو تقدير الأماكن وما يقاربه ويعادله ، فلازم ذلك أن تكون كافة الأسفار محرّمة غير السفر إلى المساجد الثلاثة ، وهل يلتزم بذلك مسلم ، وهل يفتي به أحد؟ كيف ولو كان الحديث بصدد منع كافة الأسفار المعنوية ، فكيف كان النبي والمسلمون يشدّون الرحال في موسم الحج إلى عرفات والمشعر ومنى ، وهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو المساجد لا الأماكن.

    أضف إلى ذلك أنّ الذكر الحكيم والأحاديث الصحيحة حثّا على السفر إلى طلب العلم ، والجهاد في سبيل اللّه ، وصلة الرحم ، وزيارة الوالدين ، قال سبحانه : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يَحْذَرُونَ ) (2).

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ج 4 ص 127 وصحيح البخاري ج 2 ص 176 السنن للنسائي ، المطبوع مع شرح السيوطي ج 2 ص 127 .

2 ـ سورة التوبة : الآية 122.

________________________________________

(140)

    مضافاً إلى ما ورد في السفر لطلب الرزق ، فلو كان الحكم عاماً ، فما معنى هذه التخصيصات الكثيرة الوافرة الّتي تنافي البلاغة ، والّتي تزلزل الحصر ، وهناك كلمة قيّمة للغزالي في إحياء العلوم يقول :

     « القسم الثاني هو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحج أو جهاد.. ويدخل في جملة زيارة قبور الأنبياء ( عليهم السَّلام ) وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته ، يتبرك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام و المسجد الأقصى » لان ذلك في المساجد ، فإنّها متماثلة ( في الفضيلة ) بعد هذه المساجد ، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه (1).

 

تحليل آخر للنهي عن السفر

    ولنفترض أنّ المستثنى منه هو الأمكنة ، ولكن المتبادر من الحديث أن يكون الدافع إلى السفر هو تعظيم ذلك المكان ، فيختص النهي بما إذا أُريد من شد الرحال إلى مكان ، تعظيمه ولو بإيقاع العبادة فيه ، وعندئذ يخرج السفر إلى زيارة النبي عن منطوق الحديث ، لأنّه لا يسافر لتعظيم بقعته ، وإنما يسافر لزيارة من فيها مثل ما لو كان حياً. ويؤيد ذلك أمران :

    1 ـ روي عن بعض التابعين أنّه سأل ابن عمر أنّه يريد أن يأتي الطور ، فأجابه : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد ... ودع الطور فلا تأته (2).

    2 ـ أفتى الجمهور بأنّه لو نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى الثلاثة

________________________________________

1 ـ كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247 ، كتاب آداب السفر ، طبعة دار المعرفة بيروت .

2 ـ الفتاوى الكبرى ج 2 ص 24.

(141)

فلا ينعقد النذر ، فإنّه ليس في قصد مسجد بعينه غير الثلاثة قربة مقصودة ، وما لا يكون قربة ولا عبادة فهو غير ملزم بالنذر.

    كل ذلك يحدد مصب الحديث وهدفه ، وأنّ المقصود هو المنع عن تعظيم مكان تشد الرحال إليه ، وأمّا إذا كانت الغاية تعظيم من عظّمه اللّه سبحانه وأكرمه ورزقه فضلا كبيراً ـ كما قال ـ : ( وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) ، فهو خارج عن مورد الحديث.

    ومع ذلك فإنّ النهي عن شد الرحال إلى مكان خاص ليس لغاية تحريمه ، وإنما هو إرشاد إلى نفي الفضيلة. قال ابن قدامة الحنبلي : « إن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها ، قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه ، لأنّ النبي كان يأتي قبا ماشياً وراكباً ، وكان يزور القبور ، وقال : زوروها تذكركم الآخرة ، وأمّا قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ، فيحمل على نفي الفضيلة ، لا على التحريم ، فليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها (2).

    هذا كله حول الحديث وتحديد مضمونه ، وقد عرفت أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي خارج عن موضوع الحديث على كلا التقديرين ، فالاستدلال به على التحريم باطل جداً.

 

الدليل على جواز السفر إلى زيارة القبور

    ثم إنّ هنا سؤالا يثار في المقام ، وهو أنّ الحديث وإن كان قاصراً عن إثبات التحريم ، ولكن ما هو الدليل على جواز السفر لزيارة قبر النبي أو سائر

________________________________________

1 ـ سورة النساء : الآية 113.

2 ـ المغني لابن قدامة المتوفى سنة 620 ، ج 2 ص 217 ـ 218 ، وذكر في ج 3 ص 498 استحباب الزيارة ، وكيفية زيارة النبي فلاحظ ، وما نقله عن ابن عقيل غير ثابت ، لأنّ السبكي نقل عنه خلافه ، لاحظ شفاء السقام ص 113.

________________________________________

(142)

القبور ، خصوصاً إذا كان السفر دينياً ومنسوباً إلى الشرع ، فإنّ الإفتاء بجوازه بما أنّه عمل يؤتى به لأجل كونه أمراً دينياً يحتاج إلى الدليل ، وإلى الجواب :

    يدل على جواز السفر لفيف من الدلائل ، وإليك بيانها :

     الأول : ما ورد من الحث على زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وستوافيك نصوصها فإنّها بين صريح في جواز السفر أو مطلق يعم المقيم والمسافر ، فقول النبي وفعله حجتان ، أمّا قوله :

    فقد روي عن عبداللّه بن عمر أنّه قال : قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : من جاءني زائراً لا تعمله ( تحمله ) إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.

    روي أيضاً عن عبداللّه بن عمر عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.

    والثاني صريح في جواز السفر ، والأول مطلق يعم المسافر والمقيم في المدينة ، وستوافيك هذه النصوص عن أعلام المحدثين.

    وأمّا فعله ، فقد روي عن طلحة بن عبداللّه قال : خرجنا مع رسول اللّه يريد قبور الشهداء ـ إلى أن قال ـ : فلمّا جئنا قبور الشهدا ، قال : هذه قبور إخواننا (1).

    الثاني : الإجماع ، لإطباق السلف والخلف ، لأنّ الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، وإن منهم من يفعل ذلك قبل الحج ، قال السبكي : هكذا شاهدناه ، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة ، وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من

________________________________________

1 ـ أخرجه أبو داود في سننه ج 1 ص 311 ، والبيهقي في السنن الكبرى ج 5 ص 249 والمراد من الشهداء شهداء أحد ، كما هو مورد الحديث.

________________________________________

(143)

مشارق الارض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ، يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى اللّه عزّوجلّ ، ومن تأخر فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه عليه ، وودّ لو تيسّر له ، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمع على خطأ فهو المخطىء.

    وما ربما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهي الصلاة في المسجد ، باطل جداً. فإنّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة ، فمن عرف الناس أنهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة ، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلاّ ببال قليل منهم ، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه ، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرفت ، فالمقصود الأعظم في المدينة ، كما أنّ المقصود الأعظم في مكة ، الحج أو العمرة ، وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل كل من توجّه إلى المدينة ما قصد بذلك (1).

    الثالث : إنّه إذا كانت الزيارة قربة وأمراً مستحباً على الوجه العام والخاص ، فالسفر وسيلة القربة ، والوسائل معتبرة بالمقاصد ، فيجوز قطعاً.

    الرابع : ما نقله المؤرخّون عن بعض الصحابة والتابعين.

    1 ـ قال ابن عساكر في ترجمة بلال : إنّ بلالا رأى في منامه رسول اللّه وهو يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال ، اما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً ، وجلا ، خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين ـ رضي اللّه عنهما ـ فجعل يضمّهما ويقبّلهما ، فقالا له : نشتهي نسمع أذانك الّذي كنت تؤذن به لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ففعل ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الّذي كان يقف فيه ، فلمّا أن قال : « اللّه أكبر ، اللّه أكبر » ارتجّت المدينة ، فلمّا أن قال : « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه » ، ازدادت رجّتها ، فلمّا أن قال : « أشهد أنّ محمداً رسول اللّه » خرجت العواتق من

________________________________________

1 ـ شفاء السقام ، في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي ص 85 ـ 86 ط بولاق مصر.

________________________________________

(144)

خدورهن فقالوا : أبعث رسول اللّه؟ فما رئي يوماً أكبر باكياً بالمدينة بعد رسول اللّه من ذلك اليوم (1).

    2 ـ إنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىء النبي السلام ، ثم يرجع ، قال السبكي : إنّ سفر بلال في زمن صدر الصحابة ، ورسول عمر بن عبدالعزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبي ، ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك من أمر الدنيا ، ولا من أمر الدين ، ولا من قصد المسجد ، ولا غيره.

    3 ـ إنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس ، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم ، وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتّع بزيارته؟ فقال لعمر : أنا أفعل ذلك ، ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد ، سلم على رسول اللّه (2).

    4 ـ ذكر ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بأسانيدهما إلى محمد بن حرب الهلالي قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وزرته وسلمت بحذائه ، فجاءه أعرابي فزاره ، ثم قال : يا خير الرسل ، إنّ اللّه أنزل إليك كتاباً صادقاً قال فيه : (وَلَوْ أنّهمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ واستَغفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّاباً رَحيماً ) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي ، مستشفعاً فيها بك إلى ربي ، ثم بكى وأنشأ يقول :

    يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

    نفسي الفداء لقبر ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكم

    وقد ذيّله أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بأبيات وقال :

    وفيه شمس التقى والدين قد غربت من بعد ما أشرقت من نورها الظلم

________________________________________

1 ـ شفاء السقام ص 44 ـ 47 وقد نقله من مصادر كثيرة ، قال : وذكره الحافظ أبو محمد عبدالغني المقدسي في « الكمال في ترجمة بلال ».

2 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(145)

حاشا لوجهك أن يبلى وقد هديت                     في الشرق والغرب من أنواره الأُمم (1)

    وبذلك تعرف قيمة ما ذكره ابن تيمية حول السفر إلى المشاهد وقال : وقد رخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد ، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ، ولا احتجّوا بحجّة شرعية (2).

    وبما أنّك تعرّفت على الحجج الشرعية على الجواز ، هلمّ معي ندرس نصوص الأعلام من علماء الإسلام لنعرف موقف ابن تيمية في التثبّت والأمانة ، وإليك نصوصهم حول السفر للزيارة نقتطف موضع الحاجة من كلماتهم :

 

نصوص الأعلام على جواز السفر لزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )

    لعل القارىء يتصوّر أنّ لما ذكره ابن تيمية من عدم الإفتاء بجواز السفر ، مسحة من الحق والصدق ، ولكنّه إذا أمعن النظر فيما وصل إلينا من فتاواهم ، يقف على أنّ الحق على ضد ما نسب إليهم ، وإليك البيان :

    1 ـ قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي المتوفّى سنة ( 425 هـ ) في « التجريد » : ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي.

    2 ـ وقال أبو الحسن الماوردي المتوفّى سنة ( 450 هـ ) ، في الأحكام السلطانية ، ص 105 : « فإذا عاد ( ولي الحاج ) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول اللّه ، ليجمع لهم بين حج بيت اللّه عزّوجلّ وزيارة قبر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، رعاية لحرمته ، وقياماً بحقوق طاعته (3).

    3 ـ وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الفقيه البغدادي الحنبلي المتوفّى سنة ( 510 هـ ) في كتاب الهداية : « فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي وقبر صاحبيه ».

    4 ـ قال القاضي عياض المالكي ، المتوفّى سنة ( 544 هـ ) في « الشفاء » ، نقلا

________________________________________

1 ـ شفاء السقام ص 52 .

2 ـ نفس المصدر .

3 ـ مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 60.

________________________________________

(146)

عن إسحاق بن إبراهيم الفقيه : « ممّا لم يزل من شأن من حج ، المزور (1) بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول اللّه ، والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطن قدميه ، والعمود الّذي استند إليه ، ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه ، ومن عمره وقصده من الصحابة وائمة المسلمين.

    5 ـ قال أبو محمد عبدالكريم بن عطاء اللّه المالكي المتوفى سنة ( 612 هـ ) في مناسكه : فصل : إذا كمل لك حجك وعمرتك على الوجه المشروع ، لم يبق بعد ذلك إلاّ إتيان مسجد رسول اللّه للسلام على النبي والدعاء عنده ، والسلام على صاحبيه ، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين.

    6 ـ وقال نجم الدين بن حمدان الحنبلي المتوفى سنة ( 595 هـ ) في الرعاية الكبرى في الفنون الحنبلية : « ويسن لمن فرغ من نسكه ، زيارة قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقبر صاحبيه ، وله بعد فراغ حجه ، وإن شاء قبل فراغه ».

    7 ـ قال القاضي الحسين : « إذا فرغ من الحج ... ثم يأتي المدينة ويزور قبر النبي ».

    8 ـ قال الإمام ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي ، المتوفى سنة ( 737 هـ ) في ( المدخل ) في فصل زيارة القبور ( 1 : 257 ) : وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسل ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ، ويتعيّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة.

    9 ـ قال الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة ( 756 هـ ) في « شفاء السقام في زيارة خير الأنام » : « ومن روي عنه السفر إلى زيارة النبي ، بلال بن أبي رباح » ثم ذكر قصته. لاحظ الباب الثالث من كتاب شفاء السقام فقد عقده في ما ورد في السفر إلى زيارته.

 

    10 ـ ذكر شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي المتوفى

________________________________________

1 ـ مصدر ميمي بمعنى الزيارة.

________________________________________

(147)

سنة ( 925 هـ ) في « أسنى المطالب » ( 1/501 ) « فيما يستحب لمن حج » : ثم يزور قبر النبي ويسلم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة..

    11 ـ أفتى الشيخ محمد بن الخطيب الشربيني المتوفى سنة ( 977 هـ ) في مغني المحتاج ( 1/357 ) باستحباب زيارة النبي مطلقاً ، وأنّ تخصيص بعض باستحبابه بعد الفراغ عن الحج لأجل التأكيد ، وأنّه يتأكد للحاج أكثر من غيره.

    12 ـ وقال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة ( 1031 هـ ) في شرح الجامع الصغير ، ج 6 ص 140 : وزيارة القبر الشريف من كمالات الحج.

    13 ـ عقد الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي في « مراقي الفلاح بإمداد الفتاح » فصلا في زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقال : زيارة النبي من أفضل القربات فإنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حرض عليها وبالغ في الندب إليها فقال : من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني.

    14 ـ وقال القاضي شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري المتوفى سنة ( 1062 هـ ) في شرح الشفاء ( 3/566 ) واعلم أنّ هذا الحديث « لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... » هو الّذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة الّتي كفّروه بها ، وصنّف فيها السبكي مصنفاً مستقلا وهي منعه من زيارة قبر النبي وشد الرحال إليه ، وهو كما قيل :

لمهبط الوحي حقاً ترحل النجب                      وعند ذاك المرجّى ينتهي الطلب

    فتوهمّ أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها.

    15 ـ قال الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة ( 1087 هـ ) في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ( 1/157 ) : « من أحسن المندوبات ، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا وسيدنا محمد ، وقد حرض ( عليه السَّلام ) على زيارته وبالغ في الندب إليها ، ثم قال : فإن كان الحج فرضاً فالأحسن أن يبدأ به إذا لم يقع في طريق الحاج المدينة المنورة ، ثم يثني بالزيارة.

 

________________________________________

(148)

    16 ـ قال أبو الحسن السندي محمد بن عبدالهادي الحنفي المتوفي سنة ( 1138هـ ) في شرح سنن ابن ماجة ج 2 ص 268 قال الدميري : فائدة : زيارة النبي من أفضل الطاعات وأعظم القربات ، لقوله من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.

    17 ـ قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي المتوفى سنة ( 1277 هـ ) في حاشيته على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي ، ( 1/347 ) : ويسن زيارة قبره ولو لغير حاج ومعتمر كالذي قبله ، ويسن لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته أن يكثر من الصلاة والسلام عليه في طريقه.

    18 ـ قال الشيخ عبدالمعطي السقاء في الإرشادات السنية ص 260 : زيارة النبي إذا أراد الحاج أو المعتمر الانصراف من مكة ـ أدام اللّه تشريفها وتعظيمها ـ طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنورة للفوز بزيارته عليه الصلاة والسلام.

    19 ـ وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل ص 156 : ولم يخف ابن تيمية من اللّه في رواية عدّ السفر لزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام ابن الوفاء ابن عقيل الحنبلي ـ وحاشاه عن ذلك ـ راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى والتوسل به ، كما هو مذهب الحنابلة ، ثم ذكر كلامه وفيه القول باستحباب قدوم المدينة وزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وكيفية زيارته (1).

    وهذه النصوص تدل على أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي الأكرم كان أمراً متسالماً عليه ، وقد شذّ من حرّمه وسعى في منع الناس من زيارته.

    20 ـ ثم إنّ تقي الدين السبكي ذكر فروعاً فقهية عن أئمة المذاهب ،

________________________________________

1 ـ قد أخذنا هذه النصوص برمتها من كتاب الغدير للمحقق الأميني من ج 5 ص 109 ـ 125 وقد نقل أربعين كملة عن أعلام المذاهب الأربعة حول زيارة النبي الأقدس ، ونحن اقتطفنا منه ذلك ، ويدل على استحباب السفر فقط ، وأما استحباب زيارته فسيوافيك في فصل آخر .

________________________________________

(149)

تدل على محبوبية شد الرحال إليها من أرجاء الدنيا ، فمن أراد فليرجع إليه (1).

    وفيما ذكرنا من النصوص غنى ، كما أنّ فيما ذكرنا من الحجج كفاية لمن أراد الحق وتجنب عن العصبية ، فحان حين البحث حول نظريته في نفس الزيارة ، وما أثار حولها من شبهات.

    ( وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِباً أوْ كَذّبَ بآياتِهِ إنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) (2).

________________________________________

1 ـ شفاء السقام ص 42 .

2 ـ سورة الأنعام : الآية 21.

________________________________________

(150)

(2)

ابن تيمية ورأيه في زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )

    المعروف من ابن تيمية وأبناء الوهابية هو جواز زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وتحريم السفر إليها ، لكن ما نقلناه في البحث الثاني ينافي ذلك ، فإنّ الظاهر أنّه يحرّم أصل الزيارة وقد عرفت أنّه قال : كل حديث يروي في زيارة قبر النبي فإنّه ضعيف ، بل موضوع ، ولم يرو اهل الصحاح والسنن والمسانيد كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً (1).

    وقال السبكي : قد يتوهم أنّ نزاع ابن تيمية قاصر على السفر للزيارة دون أصل الزيارة ، وليس كذلك ، بل نزاعه في الزيارة أيضاً كما سنذكره من الشبهتين وهما :

    1 ـ كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة.

    2 ـ كون الزيارة من تعظيم غير اللّه المفضي إلى الشرك.

    وما كان كذلك ، كان ممنوعاً ، وعلى هاتين الشبهتين بنى كلامه ، وقد نقل السبكي فتياً بخط ابن تيمية ولكن كلامه فيها مضطرب ، ففي صدرها ما يشعر بمنع الزيارة مطلقاً ، وفي ذيلها ما يقتضي أنّه إذا كانت الزيارة بمعنى السلام عليه والدعاء له ، جازت ، ويطابق ذلك ما نقلناه عن الرسالة الثالثة.

    والحاصل أنّه يقسم الزيارة إلى الزيارة البدعية والزيارة الشرعية فيجوّز

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 65 الرسالة الثالثة.

(151)

الثانية ويقصرها في السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً ، يقول : فالزيارة لقبر المؤمن ، نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته ، يدعى له كما يدعى إذا صلى على جنازته (1).

    فاللازم البحث عن زيارة القبور أولا ، وزيارة قبر النبي الأعظم بشخصه ثانياً.

 

زيارة القبور في السنة

    لا شك أنّ زيارة القبور تنطوي على آثار أخلاقية وتربوية هامة ، لأنّ مشاهدة هذا الوادي الهادي ـ الّذي يضم في أعماقه مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في هذا الحياة الدنيا ثم انتقلوا إلى الآخرة ـ تخفّف روح الطمع والحرص على الدنيا ، ولربما يغيّر الإنسان سلوكه في هذه الحياة ، فيترك الجرائم والمنكرات ، ويتوجّه إلى اللّه والآخرة.

    ولذا يقول الرسول الأعظم :

    1 ـ « زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة » (2).

    ودل بعض الأحاديث على أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) نهى عن زيارة القبور في أول الأمر ، ولعل النهي كان لأجل أن الأموات يوم ذاك كانوا مشركين وعبدة للأصنام ، فنهى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن زيارة الأموات ، ولمّا كثر الشهداء بين المسلمين وماتت مجموعة كبيرة من المسلمين في المدينة وأطرافها ، رخّص النبي بإذن من اللّه سبحانه وقال :

    2 ـ « كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة » (3).

________________________________________

1 ـ شفاء السقام ص 107.

2 ـ سنن ابن ماجة ج 1 ص 113.

3 ـ السنن لابن ماجة ج 1 ص 114 طبعة الهند ـ باب ما جاء في زيارة القبور ، وصحيح الترمذي ، أبواب الجنائز ج 3 ص 274.

________________________________________

(152)

    3 ـ وروى مسلم في صحيحه : « زار النبي قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله ... وقال : استأذنت ربّي أن أزورَ قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنّها تذكركم الموت » (1).

    4 ـ وقالت عائشة : « إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) رخّص في زيارة القبور » (2).

    5 ـ وقالت : إنّ النبي قال : أمرني ربي أن آتي البقيع فأستغفر لهم. قلت : كيف أقول يا رسول اللّه؟ قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون (3).

    وجاء في أحاديث أُخرى نص الكلمات الّتي كان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يقولها عند زيارة القبور ، وهي :

    6 ـ « السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا وإياكم متواعدون غدا ومواكلون ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد » (4).

    وجاء في حديث آخر نص الكلمات بما يلي :

    7 ـ « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع ، أسأل الله العافية لنا ولكم » (5).

    وفي حديث ثالث :

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ج 3 ص 65 باب استئذان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ربه عزّوجلّ في زيارة قبر أُمه.

2 ـ صحيح ابن ماجة ج 1 ص 114.

3 ـ صحيح مسلم ج 3 ص 64 ، باب ما يقال عند دخول القبور ، السنن للنسائي ج 3 ص 76.

4 ـ السنن للنسائي ج 4 ص 76 ـ 77.

5 ـ السنن النسائي ج 4 ص 56 ـ 77.

________________________________________

(153)

    8 ـ « السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون » (1).

    ويستفاد من حديث عائشة أن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان يخرج إلى البقيع في آخر الليل من كل ليلة ، ويقول :

    9 ـ « السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وآتاكم ما توعدون ، غداً مؤجلون وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد » (2).

    ويستفاد من حديث آخر أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان يزور المقابر مع جماعة من أصحابه ، ويعلمهم كيفية الزيارة :

    10 ـ « كان رسول اللّه يعلمهم ـ إذا خرجوا إلى المقابر ـ فكان قائلهم يقول : السلام على أهل الديار ـ أو ـ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه لاحقون ، أسأل اللّه لنا ولكم العافية » (3).

 

النساء وزيارة القبور

    ولعل هنا من يتوهم أن الزيارة تسوغ للرجال دون النساء ، لما روي عن النبي : لعن رسول اللّه زوارات القبور (4).

    ويناقض هذا الحديث ما نقله مسلم في صحيحه والنسائي في سننه أنّ النبي زار البقيع مع حليلته عائشة ، وعلّمها كيفية الزيارة كما مرّ في الرقم ( 5 ) من الروايات ، ولأجل ذلك يجب أن يعالج هذا الحديث بشكل خاص وهو التفريق بين زائرات القبور وزواراتها ، ولعل الثاني كان مقروناً بأُمور محرّمة كالتبرّج المنهي عنه ، أو البكاء بما يقترن بالنوح المحرم ، أو غير ذلك من الوجوه الّتي يمكن الجمع بها بين المتعارضين ، وإلاّ فأىّ فرق بين الرجل والمرأة في هذا الأمر حتّى تكون لأحدهما جائزة وللاُخرى محرّمة ، لولا المحذورات الخاصة؟

________________________________________

1 ـ السنن لأبي داود ج 2 ص 196.

2 ـ صحيح مسلم ج 3 ص 63 باب ما يقال عند القبور.

3 ـ صحيح مسلم ج 3 ص 11 ، باب ما يقال عند دخول القبر.

4 ـ صحيح ابن ماجة ج 1 ص 478 ، كتاب الجنائز الطبعة الأولى بمصر.

________________________________________

(154)

    أضف إلى ذلك جريان السيرة بين المسلمين حتّى في نفس عصر الصحابة والتابعين على زيارة السيدات لقبور أعزائها ، فهذه السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السَّلام ) كانت تخرج إلى زيارة قبر عمها حمزة في كل جمعة ، أو أقلّ من ذلك ، وكانت تصلّي عند قبره وتبكي (1).

    وهذه عائشة زوجة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لما جاءت إلى مكة خرجت لزيارة قبر أخيها عبدالرحمن بن أبي بكر ، وأنشدت بيتين من الشعر في رثائه (2) .

    هذا كله في زيارة قبور المسلمين ، وأمّا زيارة أوليائهم من النبي والأئمة والشهداء والصالحين فلا شك أنّ لزيارتهم نتائج بنّاءة ، نشير إليها :

    إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هو نوع من الشكر والتقدير لتضحياتهم ، وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحق والهدى والفضيلة ، والدفاع عن المبدأ والعقيدة ، وهذا لا يدفعنا إلى زيارة قبورهم وحدها ، بل يدفعنا إلى إبقاء ذكرياتهم حيّة ساخنة ، والمحافظة على آثارهم ، وإقامة المهرجانات في ذكرى مواليدهم ، وعقد المجالس وإلقاء الخطب المفيدة في أيام رحلاتهم ، وهذا شيء مما يدركه كل ذي مسكة ، فلأجل ذلك نرى أنّ أبناء الأُمم الحية يتسابقون في زيارة مدافن رؤسائهم وشخصياتهم الذين ضحوا أنفسهم و أموالهم في سبيل إحياء الشعب و اسقلاله ، و نجاته من يد المستعمرين والظالمين ، ويقيمون الذكريات المئوية لإحياء معالمهم وآثارهم وأسمائهم ، ولا يخطر ببال أحد أنّ هذه الأُمور عبادة لهم ، فأين التعظيم والتعزيز للشخصيات من عبادتهم؟ فإنّ التعظيم تقدير لجودهم ، والعبادة رمز لألوهيتهم وربوبيتهم ، فهل منّا من يخلط بين الأمرين؟

    إذا وقفت على الآثار البنّاءة لزيارة مطلق القبور ، وزيارة قبور الأولياء والصالحين ، وتعرّفت على مجموعة من الروايات الحاثّة على زيارة قبور دار

________________________________________

1 ـ مستدرك الصحيحين للحاكم ج 1 ص 277.

2 ـ صحيح الترمذي ج 4 ص 275 ، كتاب الجنائز باب ما جاء في زيارة القبور.

________________________________________

(155)

المؤمنين ، فلنذكر خصوص ما ورد من الروايات الّتي فيها الحث على زيارة قبر النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .

    قد نقل قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن عبدالكافي السبكي 15 حديثاً في ذلك المجال وتكلم في أسنادها و صحّح كثيراً منها (1).

    كما قام العلامة السمهودي المتوفّى سنة ( 911 هـ ) في كتابه القيم ( وفاء الوفاء بأحوال دار المصطفى ) بنقل روايات كثيرة في ذلك المجال (2).

    كما أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في مصر العزيزة في العصر الحاضر أفتوا بأن زيارة قبر النبي أفضل المندوبات. ورد فيها أحاديث. وقد اعتمدوا على رواية عبداللّه بن عمر عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) (3).

    وبما أنّ العلامة الأميني قد تحمّل جهوداً جبارة في جمع الأحاديث الواردة حول زيارة النبي الأكرم ، والفحص عن مظانّها ومصادرها من أقدم العصور إلى عصرنا هذا ، فنحن ـ تقديراً لجهوده الجبارة ومثابرته الجليلة في هذا الطريق ـ ننقل عن تلك الموسوعة نفس الروايات ومصادرها. قال قدس سره :

(1)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من زار قبري وجبت له شفاعتي ».

    أخرجته أُمة من الحفاظ وأئمة الحديث ، منهم :

    1 ـ عبيد بن محمد أبو محمد الوراق النيسابوري المتوفى سنة ( 255 هـ ) .

    2 ـ ابن أبي الدنيا أبو بكر عبدالله بن محمد القرشي المتوفى سنة ( 281 هـ ) .

________________________________________

1 ـ شفاء السقام في زيارة خير الأنام ، ص 3 ـ 34 ، الباب الأول : في الأحاديث الواردة في الزيارة .

2 ـ وفاء الوفاء ج 4 ص 1336.

3 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 505.

________________________________________

(156)

    3 ـ الدولابي أبو بشر محمد الرازي المتوفى سنة ( 310 هـ ) في الكنى والأسماء ج 2 ص 64.

    4 ـ محمد بن إسحاق أبو بكر النيسابوري المتوفى سنة ( 311 هـ ) الشهير بابن خزيمة ، أخرجه في صحيحه.

    5 ـ الحافظ محمد بن عمرو أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة ( 322 هـ ) في كتابه.

    6 ـ القاضي المحاملي أبو عبداللّه الحسين البغدادي المتوفى سنة ( 330 هـ ) .

    7 ـ الحافظ أبو أحمد بن عدي المتوفى سنة ( 365 هـ ) في الكامل.

    8 ـ الحافظ أبو الشيخ أبو محمد عبداللّه بن محمد الأنصاري المتوفى سنة ( 369 هـ ) .

    9 ـ الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) في سننه.

    10 ـ أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة ( 450 هـ ) في « الأحكام السلطانية » ص 105.

    11 ـ الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) في « السنن » وغيره.

    12 ـ القاضي أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي الشافعي المتوفى سنة ( 492 هـ ) في فوائده.

    13 ـ الحافظ إسماعيل بن محمد بن الفضل القرشي الإصبهاني المتوفى سنة ( 535 هـ ) .

    14 ـ القاضي عياض المالكي المتوفى سنة ( 544 هـ ) في « الشفاء ».

    15 ـ الحافظ أبو القاسم علي بن عساكر المتوفى سنة ( 571 هـ ) ، في تاريخه في باب ( من زار قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وهذا الباب أسقطه المهذب من الكتاب في طبعه ، واللّه يعلم سر تحريفه هذا وما أضمرته سريرته.

    16 ـ الحافظ أبو طاهر أحمد بن السلفي المتوفى سنة ( 576 هـ ) .

    17 ـ أبو محمد عبدالحق بن عبدالرحمن الأندلسي المتوفى سنة

 

________________________________________

(157)

( 581 هـ ) الأحكام الوسطى والصغرى (1).

    18 ـ الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة ( 597 هـ ) في « مثير الغرام الساكن ».

    19 ـ الحافظ علي بن مفضل المقدسي الإسكندراني المالكي المتوفى سنة ( 611 هـ ) .

    20 ـ الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة ( 648 هـ ) .

    21 ـ الحافظ أبو محمد عبدالعظيم المنذري المتوفى سنة ( 656 هـ ) .

    22 ـ الحافظ أبو الحسين يحيى بن علي القرشى الأموي المالكي المتوفى سنة ( 662 هـ ) . في كتابه « الدلائل المبينة في فضائل المدينة ».

    23 ـ الحافظ أبو محمد عبدالمؤمن الدمياطي المتوفى سنة ( 705 هـ ) .

    24 ـ الحافظ أبو الحسين هبة اللّه بن الحسن.

    25 ـ أبو الحسن يحيى بن الحسن الحسيني في كتاب « أخبار المدينة ».

    26 ـ أبو عبداللّه محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج المتوفى سنة ( 737 هـ ) ، في « المدخل » ج 1 ص 261.

    27 ـ تقي الدين علي بن عبدالكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، بسط القول في ذكر طرقه في شفاء السقام ، ص 3 ـ 12 وقال في ص 8 : والرواة جميعهم إلى موسى بن هلال ثقاة لا ريبة فيهم ، وموسى بن هلال ، قال ابن عدي : أرجو أنه لا باس به ، هو من مشايخ أحمد ، وأحمد لم يكن يروي إلاّ عن ثقة ، وقد صرح الخصم بذلك في الرد على البكري.

    ثم ذكر شواهد لقوة سنده فقال : وبذلك تبين أن اقل درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن نوزع في دعوى صحته ، إلى أن قال : وبهذا بل

________________________________________

1 ـ قال في خطبة الأحكام الصغرى : أنه تخيرها صحيحة الأسناد معروفة عند النقاد ، قد نقلها الإثبات وتداولها الثقاة ، وقال في خطبة الوسطى : إنَّ سكوته عن الحديث دليل على صحته ... الخ راجع ( شفاء السقام ) ص 9.

________________________________________

(158)

بأقل منه يتبين افتراء من ادّعى أن جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة ، فسبحان اللّه! أما الستحي من اللّه ومن رسوله في هذه المقالة الّتي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل ، لا من أهل الحديث ولا من غيرهم؟ ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديثه هذا بالوضع ، ولا اتهمه به فيما علمنا ، فكيف يستجيز مسلم أن يطلق على كل الأحاديث الّتي هو واحد منها موضوعة ، ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله ، ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع ، ولا حكم متنه بما يخالف الشريعة ، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً؟ فكيف وهو حسن وصحيح.

    28 ـ الشيخ شعيب عبداللّه بن سعد المصري ، ثم المكي الشهير بالحريفيش المتوفى سنة ( 801 هـ ) في « الروض الفائق » ج 2 ص 137.

    29 ـ السيد نور الدين علي بن عبداللّه الشافعي القاهري السمهودي (1) المتوفى سنة ( 911 هـ ) في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 394.

    30 ـ الحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطي المتوفى سنة ( 911 هـ ) في « الجامع الكبير » كما في ترتيبه : ج 8 ص 99.

    31 ـ الحافظ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني (2) المتوفى سنة ( 923 هـ ) ، في « المواهب اللدنية » من طريق الدارقطني ، وقال : رواه عبد الحق في أحكامه الوسطى والصغرى وسكت عنه ، وسكوته عن الحديث فيه دليل على صحته.

    32 ـ الحافظ ابن الدبيغ أبو محمد الشيباني المتوفى سنة ( 944 هـ ) ، في « تمييز الطيب من الخبيث » ص 162.

    33 ـ الشيخ شمس الدين محمد الخطيب الشربيني المتوفى سنة ( 977 هـ ) ، في « المغني » ج 1 ص 494 عن صحيح ابن خزيمة.

    34 ـ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة ( 1031 هـ ) ، في « كنوز

________________________________________

1 ـ السمهود قرية كبيرة غربي نيل مصر.

2 ـ نسبة إلى قسطلة بلدة بالأندلس.

________________________________________

(159)

الحقائق » ص 141 ، وشرح الجامع الصغير للسيوطي ج 6 ص 140.

    35 ـ الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة ( 1078 هـ ) ، في « مجمع الأنهر » ج 1 ص 157.

    36 ـ أبو عبداللّه محمد بن عبدالباقي الزرقاني المصري المالكي المتوفى سنة ( 1122 هـ ) في « شرح المواهب » ج 8 ص 298 نقلا عن أبي الشيخ وابن أبي الدنيا.

    37 ـ الشيخ إسماعيل بن محمد الجراحي العجلونيي المتوفى سنة ( 1162 هـ ) ، في « كشف الخفاء » ج 2 ص 250 نقلا عن أبي الشيخ ، وابن أبي الدنيا ، وابن خزيمة.

    38 ـ الشيخ محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة ( 1250 هـ ) ، في « نيل الأوطار » ج 4 ص 325 نقلا عن غير واحد من أئمة الحديث.

    39 ـ الشيخ محمد بن السيد درويش الحوت البيروني المتوفى سنة ( 1276 هـ ) في « حسن الأثر » ص 246.

    40 ـ السيد محمد بن عبداللّه الدمياطي الشافعي المتوفى سنة ( 1307 هـ ) ، في « مصباح الظلام » ج 2 ص 144.

    41 ـ عدة من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر اليوم في « الفقه على المذاهب الأربعة » ج 1 ص 590.

(2)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من جاءني زائراً لا تعمله إلاّ زيارتي ، كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة. وفي لفظ : لا تحمله إلاّ زيارتي. وفي آخر : لم تنزعه حاجة إلاّ زيارتي وفي رابع : لا ينزعه إلاّ زيارتي كان حقاً على اللّه عزّوجلّ ، وفي خامس للغزالي : لا يهمه إلاّ زيارتي أخرجه جمع من الحفاظ لا يستهان بهم وبعدتهم منهم :

    1 ـ الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان السكن البغدادي المتوفى بمصر

 

________________________________________

(160)

سنة ( 353 هـ ) في كتابه « السن الصحاح » جعل في آخر كتاب الحج ( باب ثواب من زار قبر النبي ) ولم يذكر في الباب غير هذا الحديث. قال السبكي في « شفاء السقام » ص 16 : وذلك منه حكم بأنه مجمع على صحته بمقتضى الشرط الّذي شرطه في الخطبة ، وابن السكن هذا إمام حافظ ثقة كثير الحديث واسع الرحلة ... الخ.

    قال في خطبة كتابه : اما بعد : فإنك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السنن المأثورة الّتي نقلها الأئمة من أهل البلدان ، الذين لا يطعن عليهم طاعن فيما نقلوه ، فتدبرت ما سألتني عنه فوجدت جماعة من الأئمة قد تكلفوا ما سالتني من ذلك وقد وعيت جمع ما ذكروه ، وحفظت عنهم أكثر ما نقوله ، واقتديت بهم ، وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك ، وجعلته أبواباً في جميع ما يحتاج إليه من احكام المسلمين ، فأول من نصب نفسه لطلب صحيح الآثار : البخاري وتابعه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي وقد تصفحت ما ذكروه وتدبرت ما نقلوه فوجدتهم مجتهدين فيما طلبوه ، فما ذكرته في كتابي هذا مجملا فهو مما أجمعوا على صحته ، وما ذكرته بعد ذلك مما يختاره أحد من الأئمة الذين سميتهم ، فقد بينت حجته في قبول ما ذكره ، ونسبته إلى اختياره دون غيره ، وما ذكرته مما يتفرد به أحد من أهل النقل للحديث فقد بينت علته ، ودللت على انفراده دون غيره ، وباللّه التوفيق.

    2 ـ الحافظ أبوالقاسم الطبراني المتوفى سنة ( 360 هـ ) ، أخرجه في معجمه الكبير.

    3 ـ الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم المقري الإصبهاني المتوفى سنة ( 381 هـ ) ، في معجمه.

    4 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) ، أخرجه في أماليه.

    5 ـ الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى سنة ( 402 هـ ) .

    6 ـ القاضي أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي الشافعي المتوفى سنة ( 492 هـ ) صاحب « الفوائد ».

(161)

    7 ـ حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة ( 505 هـ ) ، في « إحياء العلوم » ج 1 ص 246.

    8 ـ الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة ( 571 هـ ) ، صاحب « تاريخ الشام ».

    9 ـ الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة ( 648 هـ ) .

    10 ـ الحافظ يحيى بن علي القرشي الأموي المالكي المتوفى سنة ( 622 هـ ) .

    11 ـ الحافظ أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد في كتابه.

    12 ـ تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة ( 756 هـ ) فصل القول في طرق هذا الحديث ، وأخرجه من طرق شتى وصححه في « شفاء السقام » ص 13 ـ 16.

    13 ـ السيد نور الدين علي بن عبداللّه الشافعي القاهري السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 396 ، ذكره من طرق شتى ، منها طريق الحافظ ابن السكن فقال : ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث مما أجمع على صحته ثم قال : قلت : ولهذا نقل عنه جماعة منهم الحافظ زين الدين العراقي أنه صححه ... الخ.

    14 ـ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة( 924 هـ ) ، في « المواهب اللدنية » وقال : صححه ابن السكن.

    15 ـ الشيخ محمد الخطيب الشربيني المتوفى سنة ( 977 هـ ) ، في « مغني المحتاج » شرح المنهاج ج 1 ص 494 وقال : رواه ابن السكن في سننه الصحاح المأثورة.

    16 ـ الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة ( 1078 هـ ) ، في « مجمع الأنهر » ج 1 ص 157.

(3)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي » وفي غير واحد من طرقه زيادة : وصحبني. أخرجه جمع من الحفاظ منهم :

 

________________________________________

(162)

    1 ـ الحافظ عبد الرزاق أبو بكر الصنعاني المتوفى سنة ( 211 هـ ) .

    2 ـ الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان الشيباني المتوفى سنة ( 303 هـ ) .

    3 ـ الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي المتوفى سنة ( 307 هـ ) في مسنده.

    4 ـ الحافظ أبو القاسم عبداللّه بن محمد البغوي سنة ( 317 هـ ) .

    5 ـ الحافظ أبو القاسم الطبراني المتوفى سنة ( 360 هـ ) .

    6 ـ الحافظ أبو أحمد بن عدي المتوفى سنة ( 365 هـ ) في « الكامل ».

    7 ـ الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم المقري المتوفى سنة ( 381 هـ ) .

    8 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) ، في سننه وغيرها.

    9 ـ الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) في سننه ج 5 ص 246.

    10 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة ( 571 هـ ) في تاريخه.

    11 ـ الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة ( 597 هـ ) في « مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ».

    12 ـ الحافظ أبو عبداللّه بن النجار البغدادي المتوفى سنة ( 643 هـ ) ، في كتابه « الدرة الثمينة في أخبار المدينة ».

    13 ـ الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة ( 648 هـ ) .

    14 ـ الحافظ أبو محمد عبدالمؤمن الدمياطي المتوفى سنة ( 705 هـ ) .

    15 ـ أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحداد في كتابه.

    16 ـ الحافظ أبو الحسين المصري.

    17 ـ ولي الدين الخطيب التبريزي في « مشكاة المصابيح » المتوفى سنة ( 737 هـ ) ، في باب حرم المدينة في الفصل الثالث.

    18 ـ تقي الدين السبكي المتوفي سنة ( 756 هـ ) ، بسط القول في طرقه في « شفاء السقام » ص 16 ـ 21 ورواه عن كثير من هؤلاء الحفاظ المذكورين وغيرهم.

 

________________________________________

(163)

    19 ـ الشيخ شعيب عبداللّه المصري الحريفيش المتوفى سنة ( 801 هـ ) ، في « الروض الفائق » ج 2 ص 137.

    20 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، فصل القول في طرقه في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 397.

    21 ـ الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « الجامع الكبير » كما في ترتيبه ج 8 ص 99.

    22 ـ قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المتوفى سنة ( 1069 هـ ) ، في شرح الشفاء للقاضي عياض ج 3 ص 567.

    23 ـ الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة ( 1078هـ ) ، في « مجمع الأنهر » ج 1 ص 157.

    24 ـ الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة ( 1250 هـ ) ، في « نيل الأوطار » ج 4 ص 325.

    25 ـ السيد محمد بن عبداللّه الدمياطي الشافعي المتوفى سنة ( 1307 هـ ) ، في « مصباح الظلام » ج 2 ص 144.

(4)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني » أخرجه جمع منهم :

    1 ـ الحافظ أبو حاتم محمد بن حبَّان التميمي البستي المتوفى سنة ( 354 هـ ) ، في « الضعفاء ».

    2 ـ الحافظ ابن عدي المتوفى سنة ( 365 هـ ) ، في « الكامل ».

    3 ـ الحافظ الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) ، في كتابه أحاديث مالك الّتي ليست في الموطأ.

    4 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 765 هـ ) ، من غير طريق في « شفاء

 

________________________________________

(164)

السقام » ص 22 ، وردّ حكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع.

    5 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 921 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 398.

    6 ـ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة ( 922 هـ ) ، في « المواهب اللدنية » نقلا عن ابن عدي ، وابن حبان ، والدارقطني.

    7 ـ الشيخ اسماعيل الجراحي العجلوني المتوفى سنة ( 1162 هـ ) ، في « كشف الخفاء » ج 2 ص 278 نقلا عن ابن عدي ، وابن حبان ، والدارقطني.

    8 ـ الشيخ المرتضى الزبيدي الحنفي المتوفى سنة ( 1205 هـ ) ، في « تاج العروس » ج 10 ص 74.

    9 ـ الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة ( 1250 هـ ) ، في « نيل الأوطار » ج 4 ص 325.

(5)

    عن عمر مرفوعاً : « من زار قبري ( أو من زارني ) كنت له شفيعاً ( أو شهيداً ) ومن مات في أحد الحرمين بعثه اللّه عزّوجلّ في الآمنين يوم القيامة » أخرجه :

    1 ـ الحافظ أبو داود الطياليسي المتوفى سنة ( 204 هـ ) ، في مسنده ج 1 ص 12.

    2 ـ الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى سنة ( 430 هـ ) .

    3 ـ الحافظ البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) في « السنن الكبرى » ج 5 ص 245.

    4 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة ( 571 هـ ) ، في « تاريخ الشام ».

    5 ـ الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة ( 648 هـ ) .

 

________________________________________

(165)

    6 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، في « شفاء السقام » ص 22.

    7 ـ نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 399.

    8 ـ أبوالعباس القسطلاني المتوفى سنة ( 923 هـ ) ، في « المواهب اللدنية ».

    9 ـ الحافظ ابن الدبيع المتوفى سنة ( 944 هـ ) ، في « تمييز الطيب » ص 162.

    10 ـ زين الدين عبدالرؤوف المناوي المتوفى سنة ( 1031 هـ ) ، في « كنوز الحقائق » ص 141.

    11 ـ الشيخ إسماعيل العجلوني المتوفى سنة ( 1162 هـ ) ، في « كشف الخفاء » ج 2 ص 278.

(6)

    عن حاطب بن أبي بلتعة مرفوعاً : « من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة من الآمنين ». أخرجه :

    1 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) ، في « السنن ».

    2 ـ الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) .

    3 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة ( 571 هـ ) .

    4 ـ الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة ( 648 هـ ) .

    5 ـ الحافظ أبو عبداللّه عبدالمؤمن الدمياطي المتوفى سنة ( 705 هـ ) .

    6 ـ أبو عبداللّه العبدري المالك ابن الحاج المتوفى سنة ( 737 هـ ) ، في « المدخل ».

    7 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، في « شفاء السقام » ص 25.

 

________________________________________

(166)

    8 ـ الشيخ شعيب الحريفيش المتوفى سنة ( 810 هـ ) ، في « الروض الفائق » ج 2 ص 137.

    9 ـ نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 399.

    10 ـ أبو العباس القسطلاني المتوفى سنة ( 923 هـ ) في « المواهب اللدنية » عن البيهقي.

    11 ـ الجراحي العجلوني المتوفى سنة ( 1162 هـ ) ، في « كشف الخفاء » ج 2 ص 551 عن ابن عساكر والذهبي ، وحكى عن الأخير أنّه قال : إنّ هذا الحديث من أجود أحاديث الباب إسناداً.

    12 ـ الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة ( 1250 هـ ) في « نيل الأوطار » ج 4 ص 325.

    13 ـ الشيخ محمد بن درويش الحوت البيروني المتوفى سنة ( 1276 هـ ) ، في « حسن الأثر » ص 246.

(7)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من حج حجة الإسلام وزار قبري ، وغزا غزوة وصلى علىّ في بيت المقدس لم يسأل اللّه عزوجل فيما افترض عليه ».

    أخرجه الحافظ محمد بن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي المتوفى سنة ( 374 هـ ) ، في فوائده ، ورواه عنه الحافظ السلفي أبو طاهر الإصبهاني المتوفى سنة ( 576 هـ ) بإسناده ، وأخرجه بالطريق المذكور تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) في « شفاء السقام » ص 25 ، وذكره السيد السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 400 والشيخ محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة ( 1250 هـ ) ، في « نيل الأوطار » ج 4 ص 326.

(8)

    عن أبي هريرة مرفوعاً : « من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ،

 

________________________________________

(167)

ومن زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة » أخرجه :

    1 ـ الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه المتوفى سنة ( 416 هـ ) .

    2 ـ الحافظ أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن الإصبهاني المتوفى سنة ( 540 هـ ) .

    3 ـ أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي في فوائده المتوفى سنة ( 552 هـ ) .

    4 ـ الحافظ أبو سعد عبدالكريم السمعاني الشافعي المتوفى سنة ( 562 هـ ) .

    5 ـ ابن الأنماطي إسماعيل بن عبداللّه الأنصاري المالكي المتوفى سنة ( 619 هـ ) .

    6 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) في « شفاء السقام » ص 26.

    7 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 400.

(9)

    عن أنس بن مالك مرفوعاً : « من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً ». وفي رواية أُخرى عنه أيضاً :

     « من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ، ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة ».

    وفي لفظ ثالث له زيادة : وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة. أخرجته أُمة من الحفاظ منهم :

    1 ـ ابن أبي فديك محمد بن إسماعيل المتوفى سنة ( 200 هـ ) .

    2 ـ ابن أبي الدنيا أبو بكر القرشي المتوفى سنة ( 281 هـ ) .

    3 ـ الحافظ أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري المتوفى سنة ( 405 هـ ) .

    4 ـ الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) في « شعب الإيمان ».

    5 ـ القاضي عياض المالكي المتوفى سنة ( 544 هـ ) في « الشفاء ».

 

________________________________________

(168)

    6 ـ الحافظ علي بن الحسن الشهير بابن عساكر المتوفى سنة ( 571 هـ ) .

    7 ـ الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة ( 597 هـ ) في « مثير الغرام الساكن ».

    8 ـ الحافظ عبد المؤمن الدمياطي المتوفى سنة ( 705 هـ ) .

    9 ـ أبو عبداللّه العبدري المالكي ابن الحاج المتوفى سنة ( 737 هـ ) في « المدخل » ج 1 ص 261.

    10 ـ شمس الدين أبو عبداللّه الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى سنة ( 751 هـ ) ، في « زاد المعاد ج 2 ص 47 ».

    11 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، في « شفاء السقام » ص 27.

    12 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 400.

    13 ـ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة ( 923 هـ ) في « المواهب اللدنية ».

    14 ـ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « الجامع الكبير » كما في ترتيبه ج 8 ص 99.

    15 ـ الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة ( 1078 هـ ) ، « مجمع الأنهر » ج 1 ص 157 بلفظ : « من زارني في المدينية متعمداً كان في جواري إلى يوم القيامة ».

    16 ـ الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة ( 1250 هـ ) ، في « نيل الأوطار » ج 4 ص 326.

    17 ـ أبو عبداللّه الزرقاني المالكي المتوفى سنة ( 1122 هـ ) ، في « شرح المواهب » ج 8 ص 299.

    18 ـ الجراحي العجلوني المتوفى سنة ( 1162 هـ ) ، في كشف « الخفاء » ج 2 ص 251.

 

________________________________________

(169)

    19 ـ السيد أحمد الهاشمي في مختار الأحاديث النبوية ، ص 169.

    20 ـ السيد محمد بن عبداللّه الدمياطي الشافعي المتوفى سنة ( 1307هـ ) ، في « مصباح الظلام » ج 2 ص 144.

    21 ـ الشيخ منصور علي ناصف في « التاج » ج 2 ص 216.

(10)

    عن أنس بن مالك مرفوعاً : « من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً ، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر » أخرجه :

    1 ـ الحافظ أبو عبدالله محمد بن محمود ابن النجار المتوفى سنة ( 643 هـ ) ، في كتابه « الدرة الثمينة في فضائل المدينة ».

    2 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، في « شفاء السقام » ص 28.

    3 ـ الحافظ زين الدين العراقي المتوفى سنة ( 806 هـ ) ، أشار إليه كما في « المواهب ».

    4 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) ، في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 400.

    5 ـ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة ( 923 هـ ) في « المواهب اللدنية ».

    6 ـ العجلوني المتوفى سنة ( 1162 هـ ) ، في « كشف الخفاء » ص 278.

(11)

    عن ابن عباس مرفوعاً : « من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً ، أو قال : شفيعاً ».

    أخرجه الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة ( 322 هـ ) ، في كتاب

 

________________________________________

(170)

« الضعفاء » في ترجمة فضالة بن سعيد المازني ، والحافظ ابن عساكر المتوفى سنة ( 571 هـ ) كما في « شفاء السقام » ص 21 ، و « وفاء الوفاء » ج 2 ص 401 ، و « نيل الأوطار » للشوكاني ج 4 ص 325 ـ 326.

(12)

    عن علي أميرالمؤمنين مرفوعاً وغير مرفوع : « من زار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن لم يزر قبري فقد جفاني » أخرجه :

    1 ـ أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر الحسني في كتابه « أخبار المدينة ».

    2 ـ أبو سعيد عبدالملك بن محمد النيسابوري الخركوشي المتوفى سنة ( 406 هـ ) ، في « شرف المصطفى ».

    3 ـ الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة ( 571 هـ ) .

    4 ـ الحافظ أبو عبداللّه ابن النجار المتوفى سنة ( 643 هـ ) في كتاب « الدرة الثمينة ».

    5 ـ الحافظ عبد المؤمن الدمياطي المتوفي سنة ( 705 هـ ) .

    6 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، في « شفاء السقام » ص 29.

    7 ـ الشيخ شعيب الحريفيش المتوفى سنة ( 801 هـ ) ، في « الروض الفائق » ج 2 ص 137.

    8 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة ( 911 هـ ) في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 401.

    9 ـ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة ( 1031 هـ ) في « كنوز الحقائق » ص 141.

(13)

    عن بكر بن عبداللّه مرفوعاً : « من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي

(171)

يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً ».

    أخرجه أبو الحسين يحيى بن الحسن الحسني في كتابه « أخبار المدينة » كما في « شفاء السقام » للسبكي ص 30 ، و « وفاء الوفاء » للسمهودي ، ج 3 ص 402.

(14)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي » أخرجه :

    1 ـ الحافظ سعيد بن منصور النسائي أبو عثمان الخراساني المتوفى سنة ( 227 هـ ) .

    2 ـ الحافظ أبو القاسم الطبراني المتوفى سنة ( 360 هـ ) .

    3 ـ الحافظ أبو أحمد ابن عدي المتوفى سنة ( 365 هـ ) .

    4 ـ الحافظ أبو الشيخ الأنصاري المتوفى سنة ( 369 هـ ) .

    5 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) .

    6 ـ الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) .

    7 ـ القاضي عياض المالكي المتوفى سنة ( 544 هـ ) .

    8 ـ قاضي القضاة الخفاجي الحنفي المتوفى سنة ( 1069هـ ) ، في شرح الشفاء ج 3 ص 565 نقله عن البيهقي ، والدارقطني ، والطبراني ، وابن منصور.

    9 ـ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة ( 1031 هـ ) ، في « كنوز الحقائق » ص 141 بلفظ : « من زار قبري بعد موتي ».

    10 ـ العجلوني المتوفي سنة ( 1162 هـ ) في « كشف الخفاء » ج 2 ص 251 ، نقلا عن أبي الشيخ ، والطبراني ، وابن عدي ، والبيهقي.

(15)

    عن ابن عباس مرفوعاً : « من حجّ إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان ».

    أخرجه الفردوس في مسنده كما في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 401 و « نيل الأوطار » ج 4 ص 326.

 

________________________________________

(172)

(16)

    عن رجل من آل الخطاب مرفوعاً : « من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعثه اللّه في الآمنين ( من الآمنين ) ». وزاد الشحامي عقب قوله « يوم القيامة » : « ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة » روي بأسناده. فيه من الحفاظ. :

    1 ـ الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة ( 322 هـ ) .

    2 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة ( 385 هـ ) .

    3 ـ الحافظ أبو عبداللّه الحاكم المتوفى سنة ( 405 هـ ) .

    4 ـ الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة ( 458 هـ ) ، في « شعب الإيمان ».

    5 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة ( 571 هـ ) .

    6 ـ الحافظ أبو محمد بن المؤمن الدمياطي المتوفى سنة ( 705 هـ ) ، وأخرجه من طريق هؤلاء الحفاظ.

    7 ـ ولي الدين الخطيب العمري التبريزي في « مشكاة المصابيح » المتوفى سنة ( 737 هـ ) في باب حرم المدينة في الفصل الثالث.

    8 ـ تقي الدين السبكي المتوفى سنة ( 756 هـ ) ، في « شفاء السقام » ص 24 وقال : مرسل جيد ، ورواه عنه السيد نور الدين السمهودي في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 399.

(17)

    عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً : « من زارني بالمدينة كنت له شهيداً وشفيعاً » ، أخرجه الحافظ الدارقطني بأسناده في « السنن » كما في « وفاء الوفاء » ج 2 ص 398.

 

________________________________________

(173)

(18)

    روي عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : « من وجد سعة ولم يفد « يغد » إلي فقد جفاني ».

    ذكره ابن فرحون في مناسكه ، والغزالي في « الإحياء » ج 1 ص 246 ، والقسطلاني في « المواهب اللدنية » ، والعجلوني في « كشف الخفاء » ج 2 ص 278.

(19)

    قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « من زارني بعد وفاتي وسلم علىّ رددت عليه السلام عشراً ، وزاره عشرة من الملائكة ، كلهم يسلمون عليه ، ومن سلم علىّ في بيته رد اللّه تعالى علي روحي حتّى أسلم عليه ».

    ذكره الشيخ شعيب الحريفيش المتوفى سنة ( 801 هـ ) في « الروض الفائق » ج 2 ص 137.

(20)

    عن أبي عبداللّه محمد بن العلاء رحمه اللّه قال : دخلت المدينة وقد غلب علي الجوع ، فزرت قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وسلمت عليه وعلى الشيخين رضي اللّه عنهما وقلت : يا رسول اللّه جئت وبي من الفاقة والجوع ما لا يعلمه إلاّ اللّه عزّوجلّ ، وأنا ضيفك في هذه الليلة ، ثم غلبني النوم فرأيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في المنام فأعطاني رغيفاً فأكلت نصفه ثم انتبهت من المنام وفي يدي نصفه الآخر ، فتحقق عندي قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « من رآني في المنام فقد رآني حقاً ، فإنّ الشيطان لا يتمثل بي ». ثم نوديت : يا أبا عبداللّه : « لا يزور قبري أحد إلاّ غفر له ونال شفاعتي غداً ».

    ذكره الشيخ شعيب الحريفيش في « الروض الفائق » ج 2 ص 138 فقال في المعنى

من زار قبر محمدباللّه كرر ذكرهواجعل صلاتك دائماً                            نال الشفاعة في غدوحديثَهُ يا منشديجهراً عليه تهتدي

 

 

________________________________________

(174)

فهو الرسول المصطفىوهو المشفع في الورىوالحوض مخصوص بهصلى عليه ربنا                      ذو الجود والكف النديمن هول يوم الموعدفي الحشر عذب الموردما لاح نجم الفرقد

(21)

    مرفوعاً عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « لا عذر لمن كان له سعة من أُمتي ولم يزرني ». رواه الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده في « مجمع الأنهر » في شرح ملتقى الأبحر ص 157 ، وَعَدّهُ من أدلة الباب من دون غمز فيه.

(22)

    عن أميرالمؤمنين علىّ ( عليه السَّلام ) : « من زار قبر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان في جواره » أخرجه ابن عساكر كما في « نيل الأوطار » للشوكاني ج 4 ص 326.

    وبعد هذه النصوص المتضافرة لا حاجة إلى نقل كلمات أعلام المذاهب الإسلامية حول زيارة النبي الأقدس ، وهي وافرة ، وقد نقلنا شطراً منها عند البحث عن شدّ الرحال إلى زيارته ، فمن أراد أن يقف على تلك النصوص فليرجع إلى الأثر القيم « الغدير » للعلامة الأميني (1).

    وأخيراً نذكر كلام محمد بن عبدالوهاب ، مجدد مذهب ابن تيمية في المقام قال : « تسن زيارة النبي إلاّ أن لا تشد الرحال إلاّ إلى زيارة المسجد والصلاة فيه » (2).

    انظر كيف يسير إثر أُستاذه في المنهج حذو النعل بالنعل.

    إلى هنا اتضح الحق بأجلى مظاهره ، وبقي هنا أمر وهو دفع ما أثار ابن

________________________________________

1 ـ الغدير ج 5 ص 109 ـ 129.

2 ـ الهدية السنية ، الرسالة الثانية..

________________________________________

(175)

تيمية من الشبهة في زيارة النبي الأكرم الّتي أشرنا إليها في صدر البحث وهي :

    1 ـ كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة.

    2 ـ كون الزيارة من تعظيم غير اللّه المفضي إلى الشرك.

    أمّا الشبهة الأُولى فهي باطلة من رأس ، وذلك لأنّ البدعة هي إدخال ما ليس من الدين في الدين ، فهل يمكن لأحد بعد هذه النصوص المتضافرة ، التقوّل بأنّه لم يرد في الدين شيء حول زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لم يامر بها؟ كيف وقد أمر هو بزيارة القبور؟ فهل يُتصوّر أنه لا يعادل زيارته زيارة قبر مسلم؟ ( كَبُرَت كَلِمةٌ تَخْرُجُ مِنْ أفواهِهِم ) وقد أمر النبي بزيارة قبور المؤمنين.

    وأمّا الشبهة الثانية فنقول : كيف تكون زيارة النبي مفضية إلى الشرك مع أنّ زيارة قبر نبي التوحيد ، استشعار لحقيقته ، وتقديس لمعناه؟ فإنّ التقديس الّذي يتصل بالرسل إنما هو من فكرتهم وهدايتهم. فالتقديس لمحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) تقديس للمعاني الّتي دعا إليها وَحَثَّ عليها ، فكيف يتصوّر من مؤمن عرف حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مضمراً لأي معنى من معاني الوثنية ، وهو يستعبر ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة المنيفة؟

    فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدي ذلك إلى الوثنية بمضي الأعصار والدهور فإنه خوف من غير جهة ، لأنّ الناس كانوا يزورون قبر الرسول إلى أول القرن الثامن ، ثم باتوا إلى العصور من بعده إلى يومنا هذا ، ومع ذلك لم ينظر أحد إليه نظر عبادة أو وثنية ، ولو أفرط بعض العوام فذلك لا يمنع تلك الذكريات العطرة ، بل يجب إرشادهم وتفهيمهم لا منعهم من الزيارة ولا تكفيرهم.

    قال الشيخ محمد زاهد الكوثري :

     « إنّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارته يدل على ضغينة كامنة فيه نحو الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وكيف يتصوّر الإشراك بسبب الزيارة ،

 

________________________________________

(176)

والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقّه أنّه عبده ورسوله ، وينطقون بذلك في صلاتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقل تقدير ، إدامة لذكرى ذلك ، ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شؤونهم ، ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شيء ، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل ، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية ، وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودماءهم لحاجة في النفس » (1).

    ثم إنّ آخر ما في كنانة ابن تيمية وأتباعه في عدّ الزيارة بدعة وتقسيمها إلى قسمين ، ما رواه أحمد في مسنده ، وهو أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قال : أللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد (2).

    وسيوافيك الكلام في معنى الحديث عند البحث عن الاحتفال بميلاد النبي ، ولا صلة لهذا الحديث بالزيارة ، والزائر المسلم لا يعبد النبي ولا يعبد قبره ، كما هو واضح ، بل يعبد اللّه سبحانه ، وإنما يزور قبر نبيه كما يزور قبور آبائه وأجدادهم من غير فرق ، غير أنّه يترتب على زيارة قبر نبي التوحيد ما لا يترتب على غيره.

    ( أُولَئِكَ الَّذينَ هَدَى اللّه فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه ) (3).

________________________________________

1 ـ تكملة السيف الصقيل ص 158.

2 ـ مسند أحمد ج 3 ص 248.

3 ـ سورة الأنعام : الآية 90.

________________________________________

(177)

(4)

ابن تيمية والبناء على القبور

    إنّ إبن تيمية هو أول من أفتى بحرمة البناء على القبور ، سواء أكان صاحب القبر صالحاً أم طالحاً ، وإليك نصه :

    قال : وقد اتفق أئمة الإسلام على :

    1 ـ أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد الّتي على القبور.

    2 ـ ولا يشرع اتخاذها مساجد.

    3 ـ ولا تشرع الصلاة عندها.

    4 ـ ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة واعتكاف ، أو استغاثة وابتهال ، ونحو ذلك ، وكرهوا الصلاء عندها ، ثم كثير منهم قال : الصلاة باطلة لأجل النهي عنها ... إلى أن قال : وإنما دين اللّه تعالى تعظيم بيوت اللّه وحده ، وهي المساجد التي تشرع فيها الصلاة جماعة وغير جماعة ، والاعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء له.. وذكر بعض الآيات الواردة في تعظيم المساجد ، وعدّ منها قوله تعالى :

     ( في بُيُوت أذنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فيها اسْمُهُ ، يُسَبّحُ لَهُ فيها بِالغُدُوِّ والآصالِ* رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهم تِجارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإقامِ الصّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيه القُلُوبُ وَ الأبْصَارُ ) (1).

________________________________________

1 ـ سورة النور : الآية 36 ـ 37 وقد أفتى في كلامه هذا بحرمة أمور اربعة ، سنبحث عنها واحداً بعد واحد إلاّ مسألة قصد المشاهد ، لما استوفينا الكلام فيه عند البحث عن قصد السفر إلى زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .

________________________________________

(178)

    وأمّا اتّخاذ القبور أوثاناً فهو من دين المشركين (1).

    يقول تلميذه ابن القيم : يجب هدم المساجد الّتي بنيت على القبور ، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً (2).

    وعلى هذا الأصل لمّا استولى السعوديون على الحرمين الشريفين هدموا المراقد المقدسة في البقيع ، وبيوت أهل البيت ، بعدما رفعوا سؤالا إلى علماء المدينة المنورة ، وإليك السؤال والجواب :

    السؤال : ما قول علماء المدينة المنورة ـ زادهم اللّه فهماً وعلماً ـ في البناء على القبور ، واتخاذها مساجد ، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً ، فهل يجب هدمها ، ومنع الصلاة عندها أم لا؟.

    وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع ، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليه ، فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟

     الجواب : أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً ، لصحة الأحاديث الواردة في منعه ، ولذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه ، مستندين بحديث علىّ ( رضي اللّه عنه ) أنّه قال لأبي الهياج :

     « ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه ، أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته » (3).

    والامعان في الاستفتاء يعرب عن أنه لم تكن الغاية منه الوقوف على حكم

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 59 ـ 60 طبع مصر ، تحت إشراف السيد محمد رشيد رضا.

2 ـ زاد المعاد في هدى خير العباد ، ابن القيم ص 661.

3 ـ جريدة أم القرى ، وقد نشرت نص الإستفتاء وجوابه في العدد الصادر بتاريخ 17 شوال سنة 1344 هـ.

________________________________________

(179)

اللّه ، سواء أكان جائزاً أم حراماً ، وإنما كانت الغاية هي أخذ الاعتراف منهم على الحظر ، ولأجل ذلك أدرج المستفتي الجواب في السؤال وقال : « بل هو ممنوع منهي عنه نهياً شديداً » وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على أن المستفتي قام على رأس المفتين فأخذ منهم الجواب بالتخويف والتهديد.

    ثم إنّ المستفتي أي الشيخ النجدي المعروف بسليمان بن بليهد ، يقول في مقال نشرته جريدة « أم القرى » في عددها الصادر في شهر جمادى الآخرة من شهور سنة 1245 هجرية :

     « إنّ بناء القباب على مراقد العلماء صار متداولا منذ القرن الخامس الهجري ».

    وهذا ما يكرره علماء الوهابية في دعاياتهم ، ويضيفون إلى حديث « أبي الهياج » حديث « جابر » عن النبي الّذي سيوايك بيانه ونقده سنداً ومتناً.

    ولأجل إيضاح الحال ، نحلل ما جاء في الجواب ، من الاستدلال بالإجتماع تارة ، والحديث ثانياً ، فنقول :

 

هل هناك إجماع على التحريم؟

    إنّ للإجماع الوارد في كلامه احتمالات :

    1 ـ الإجماع التقديري ، بحجة وجود الحديث الصحيح في الصحاح ، بمعنى أنه لو وقف العلماء عليه لأفتوا بمضمونه كما أفتى به المجيب ، ولا يخفى أنه غير مفيد ، إذ هو فرع كون الحديث صحيحاً سنداً وكاملا من حيث الدلالة على مقصوده عند غيرهم ، وكلا الأمرين غير ثابت ، بل ثبت خلافهما كما سيوافيك بيانه.

    2 ـ الإجماع المحقق ، وأنّ العلماء أفتوا في كتبهم بالتحريم حدوثاً وبقاءً ، وهذا خلاف نصوصهم; ونكتفي بالنص الوارد في الفقه على المذاهب الأربعة الّذي اتفق عليه علماء أهل السنة في العصر الحاضر ، حيث قالوا بكلمة واحدة :

 

________________________________________

(180)

     « يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبة أو مدرسة أو مسجد » (1) :

    وهذا شارح صحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج : أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه ، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام ، نص عليه الشافعي والأصحاب (2).

    وتحريم البناء ـ عندئذ ـ لأجل عنوان عرضي لا ذاتي ، وهو المزاحمة لأهداف الواقف وأغراضه.

    3 ـ سيرة المسلمين وعملهم منذ أن ارتحل النبي الأكرم إلى يومنا هذا ، سوى الوهابيين.

    أما سيرة المسلمين فحدّث عنها ولا حرج ، فقد دفن النبي الأكرم في بيته الرفيع ، ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أن البناء على القبر حرام ، وأنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) نهى عنه نهياً شديداً ، ولما كان البيت متعلّقاً بزوجته ( عائشة ) جعلوا في وسطه ساتراً ، ولما توفي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) تبرّكاً بذاته ومكانه ، ولم تسمع من أيّ ابن أُنثى نعيرة أنّه حرام ولا مكروه ، وعلى ذلك استمرت سيرة المسلمين في حق الصلحاء والأولياء والعلماء ، يدفنونهم في البيوت المعدة لذلك ، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفاً بعد الدفن تكريماً لهم وتقديراً لتضحياتهم ، ولم يخطر ببال أحد أنه على خلاف الدين والشرع.

    وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار ، ملء المسامع والأبصار على اختلاف نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى هذا العصر من الشيعة والسنة ، وأىّ بلاد من بلاد الإسلام من مصر أو العراق أو الحجاز أو سوريا ، وتونس ومراكش وإيران ، وهلمٌ جرّاً ليس فيها قبور مشيدة ، وضرائح منجدة وهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب ،

________________________________________

1 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 421.

2 ـ صحيح مسلم بشرح النووي ج 7 كتاب الجنائز طبع مصر.

(181)

شامخة المباني غير أنّ الوهابيين لما استولوا على المدينة هدموا قبر مالك. وهذه القبور قد شيدت وبنيت في الأزمنة الّتي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى ، وزعماء المذهب ، فما أنكر منهم ناكر ، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط ، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم ، بل يعد تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقي ، فكل هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك ، ولو لم تكن تلك السيرة المسلمة بين المسلمين والعقلاء عامة غير مفيدة في المقام ، فلا يصحّ الاستناد إلى أية سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس.

وليس يصحّ في الأذهان شيء                           إذا احتاج النهار إلى دليل

 

النتائج المحمودة لحفظ الآثار الإسلامية

    إنّ المحافظة على آثار الأنبياء وخاصة آثار النبي الأكرم من قبره وقبور زوجاته وأولاده وأصحابه والشهداء الذين ضحوا بانفسهم في سبيل دينه ، نتائج محمودة لا تستغني عنها الأُمة الإسلامية في وقت من الزمن ، فإنّ الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب ، ونبيه خاتم الأنبياء ، فهي حجة على الناس إلى قيام الساعة الّتي لا يحيط بوقتها إلاّ اللّه تعالى ، قال سبحانه :

     ( قُلْ إنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ، لاَ يُجَلِّيَها لِوَقْتِهَا إلاّ هُوَ ) (1).

    فمن الممكن أن تمر على عمر الدنيا ، وبالتالي على عمر الشريعة الإسلامية آلاف السنين ، فالقضاء على آثار الشريعة ومعالم وجود نبيها يجعلها في معرض التشكيك والتردد ، وأنه هل لما يدّعيه المسلمون من الرجة الكبرى ببعث النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ومواقفه وقضاياه وتشريعاته مسحة حق؟ بل ربما تحولها بعد مدة إلى أُسطورة تاريخية ، حيث لا يجد الناس بعد حقب من الدهر آثاراً ملموسة من صاحب الشريعة ، وليس هذا شيئاً غريباً ، وهذه هي المسيحية قد مضى من عمرها عشرون قرناً ، وقد تحول المسيح وأُمه العذراء

________________________________________

1 ـ سورة الأعراف : الآية 187.

________________________________________

(182)

وكتابه الإنجيل وتلاميذه إلى أساطير تاريخية ، وصار بعض المستشرقين يشككون مبدئياً في وجود رجل اسمه المسيح واسم اُمه مريم وكتابه الإنجيل ، وكادوا يعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه اُسطورة ( المجنون العامري وليلاه ) وما هذا إلا لعدم وجود أثر ملموس منه ، ولا من كتابه الواقعي وأصحابه وحوارييه.

    وأمّا المسلمون فهم يواجهون العالم مرفوعي الرؤوس ، ويقولون : يا أهل العالم قد بعث نبي في ارض الحجاز قبل ألف وأربعمائة سنة ، وقدحقق نجاحاً في مهمته ، وهذه آثار وجوده وحياته ، فهذه هي الدار الّتي ولد فيها ، وهذا هو غار حراء ، مهبط وحيه في بدء الأمر ، وهذا هو البيت الّذي دفن فيه ، وهذه مدارس أولاده و ...

    فالإبقاء على الآثار الإسلامية وصيانتها من الزوال ، صغيرة أو كبيرة ، دعم لاستمرار رسالة هذا الدين وبقائه على مدى العصور والأزمان ، وتدميرها سبب رئيس لتعريضها للشك والإنكار ، وإعانة على أهداف المخالفين.

    وقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي وسيرته وسلوكه ، حتّى أنهم سجلوا دقائق أُموره وخصائص حياته و مميزات شخصيته إلى درجة أنهم سجلوا حتّى ما يرتبط بخاتمه وحذائه ، وسواكه وسيفه ، ودرعه ، ورمحه ، وجواده وإبله وغلامه ، والآبار الّتي شرب منها الماء ، والأراضي التى وقفها لوجه اللّه سبحانه ، و مشيته ، وأكله ، وشربه ، وما يرتبط بلحيته المقدسة وخضابه لها وغير ذلك ، ولا زالت آثار البعض باقية إلى يومنا هذا.

    ولو كان ابن تيمية موجوداً في تلك الأعصار ، وكان ينظر إلى الموضوع بالفكرة التي نشأ عليها ، لرمى الصحابة الأجلاء والسلف الصالح بالشرك والوثنية ، وزعم أنهم اتخذوا نبيهم وثناً يعبد ، ولكن من حسن الحظ أنه لم يكن موجوداً فيها ، ولكن كتب السير حافلة بذكرها فليقض عليهم بالحق.

    وما أشبه عمل من يدمر الآثار النبوية تحت واجهة قلع الشرك بعمل الصبيان النوكى الذين يتلاعبون بميراث آبائهم بالتمزيق والتدمير ، أوالبيع بثمن بخس.

 

________________________________________

(183)

    ولأجل أن تعرف مدى شيوع هذه السيرة فارجع إلى ما يكتبه أحد الكتاب الوهابيين ويقول :

     « وهذا أمر عمّ البلاد ، وطبق الأرض شرقاً وغرباً ، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ فيها قبور ومشاهد ، بل مساجد المسلمين غالباً لا تخلو من قبر ومشهد ، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام » (1).

    فلو كانت هذه سيرة المسلمين ، فما معنى ادّعاء الإجماع على حرمة البناء ووجوب هدمه؟

    فلو كان الهدم واجباً فلماذا لم يأمر الخليفة عمر بهدم قبور الأنبياء عندما فتح المسلمون بيت المقدس؟.

    فهل الخليفة تسامح في هذا الأمر الخطير ، أم أنه وسائر الصحابة الحضور في الواقعة ، وجدوه أمراً مطابقاً للفطرة والشريعة الإسلامية ، فلأجل ذلك أبقوها على حالها ، وقام المسلمون بصيانتها وحفظها طوال القرون؟.

    إلى هنا تبين أنه لا إجماع في المسألة ، بل لم تكن المسألة خلافية إلى عصر ابن تيمية ، وقد خالف هو وحده وتبعه تلميذه ابن القيم ، وكانت الفتوى مدفونة في الكتب إلى أن أحياها تلميذه في المنهج محمد بن عبدالوهاب ، فنبش تلك الدفائن واستخرج هاتيك الكوامن والبذور المهلكة ، فأثمرت قتل النفوس ، وقطع الرؤوس كما سيوافيك تفصيل هذه الكوارث.

    وقد استند ابن تيمية وأتباعه في ادّعاء الحرمة لحديث أبي الهياج ، ونحن نذكر متن الحديث بالسند الّذي رواه مسلم في صحيحه.

     « حديثنا يحيى بن يحيى ، وأبوبكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، قال يحيى : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا وكيع عن سفيان ، عن حبيب بن أبي

________________________________________

1 ـ تطهير الاعتقاد ص 17 طبع مصر. ثم إنه حاول أن يجيب عن هذا الأمر بما الإعراض عن ذكره أحسن.

________________________________________

(184)

ثابت ، عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علىّ بن أبي طالب : ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه ، أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته (1).

    زعم المستدل أن معناه : ولا قبراً عالياً إلاّ سوّيته بالأرض.

    والاستدلال به باطل ، لأنه ضعيف السند ، قاصر الدلالة.

    وأمّا السند فيكفي أن علماء الرجال ضعفوا هؤلاء الأربعة الواقعين في السند :

    1 ـ وكيع.

    2 ـ سفيان الثوري.

    3 ـ حبيب بن أبي ثابت.

    4 ـ أبو وائل الأسدي (2).

    ويكفي في ضعف الحديث أنه رواه أبو الهياج وليس له في الصحاح والمسانيد حديث غير هذا ، فكيف يستدل بسند يشتمل على المدلسين والمضعفين والذين لا يحتج بحديثهم ، كما ذكره ابن حجر في ترجمة هؤلاء الأربعة.

    وإليك نقل اقوال العلماء في حقهم :

    1 ـ وكيع : هو وكيع بن الجراح بن مليح ، الرواسي ، الكوفي ، روى عن عدة منهم سفيان الثوري ، وروى عنه جماعة منهم يحيى بن يحيى ، وهو مع ما مدحوه نقلوا فيه أيضاً قدحاً كثيراً ، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب :

    قال عبداللّه بن أحمد عن أبيه ( أحمد بن حنبل ) قال : سمعت أبي يقول : كان وكيع أحفظ من عبدالرَّحمن بن مهدي كثيراً كثيراً ، وقال في

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ، ج 3 كتاب الجنائز ص 61 ، السنن للترمذي ج 2 ص 256 ، باب ما جاء في تسوية القبور ، السنن للنسائي ج 4 باب تسوية القبر ص 88.

2 ـ لاحظ تهذيب التهذيب للعسقلاني الأجزاء 3 ، 4 ، 11 ص 179 ، 115 ، 130 ، 125.

________________________________________

(185)

موضع آخر : ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع : ووكيع أكثر خطأ منه.

    وقال في موضع آخر : أخطأ وكيع في خمسائة حديث.

    وقال ابن عماد : قلت لوكيع : عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث غلطت فيها ، فقال : حدثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة ، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة.

    وقال علي بن المديني : كان وكيع يلحن ، ولو حدث بألفاظه لكان عجباً.

    وقال محمد بن نصر المروزي : كان يحدث بآخره من حفظه ، فيغيّر ألفاظ الحديث كأنه كان يحدث بالمعنى ، ولم يكن من أهل اللسان (1).

    وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعدما مدحه :

    قال ابن المديني : كان وكيع يلحن ، ولو حدث بألفاظه كان عجباً (2).

     2 ـ سفيان الثوري : وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، أكثروا المدح في حقه ، وقال الذهبي : مع أنه كان يدلس عن الضعفاء ، ولكن كان له نقد وذوق ، ولا عبرة بقول من قال : يدلس ويكتب عن الكذابين (3).

    وقال ابن حجر : قال ابن المبارك : حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلس ، فلما رآني استحيى ، وقال : نرويه عنك؟ (4).

    وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ قال : أبوبكر ، وسمعت يحيى يقول : جهد الثوري أن يدلس علي رجلا ضعيفاً فما أمكنه (5).

________________________________________

1 ـ تهذيب التهذيب ج 11 ص 123 ، 131.

2 ـ ميزان الإعتدال ج 4 ص 336.

3 ـ ميزان الإعتدال ج 2 ص 169 برقم 3322.

4 ـ تهذيب التهذيب ج 4 ص 115 في ترجمة سفيان.

5 ـ تهذيب التهذيب ج 11 ص 218.

________________________________________

(186)

    والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه ، وبينه وبينه واسطة فلا يذكر الواسطة.

    وقال أيضاً في ترجمة سفيان : قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد : لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ، ولا حيان بن أياس ، ولم يسمع من سعيد بن أبي بردة ، وقال البغوي : لم يسمع من يزيد الرقاشي. وقال أحمد : لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية ، يضع ماله حيث يشاء ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ، ولا من ابن عون إلاّ حديثاً واحداً (1).

    وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مدلساً ، وعندئذ يكون فاقداً لملكة العدالة ، لأنه كان يصور غير الواقع واقعاً.

    وقال الإمام الذهبي : قال صاحب الحلية : أخبرنا أبو أحمد الفطريفي ، أخبرنا محمد بن أحمد بن مكرم ، أخبرنا علي بن عبد الحميد ، أخبرنا موسى بن مسعود ، أخبرنا سفيان ، دخلت على جعفر بن محمد وعليه جبة خز وكساء خز دخاني ، فقلت : يابن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ليس هذا من لباس آبائك قال : كانوا على قدر اقتار الزمان ، وهذا زمان قد اسبل عزاليه ثم حسر عن جبّة صوف تحته ، وقال : لبسنا يا ثوري هذا للّه وهذا لكم ، فما كان للّه أخفيناه وما كان لكم أبديناه (2).

    إنّ هذا الإعراض يدل على عدم فهمه للأُمور ، وعدم معرفته بها.

    3 ـ حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار : تابعي ، وثقه بعض ، ولكن قال ابن حبان في الثقات : كان مدلساً ، وقال العقيلي : غمزه ابن عون ، وقال القطان : له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه ، وليست محفوظة.

    وقال ابن خزيمة في صحيحة : كان مدلساً.

    وقال العقيلي : وله عن عطاء أحاديث لا يتابع (3).

________________________________________

     1. تهذيب التهذيب ج 4 ص 115 والمسائية : العبد المعتق.

2 ـ تذكرة الحفاظ ج 1 ص 167.

3 ـ تهذيب التهذيب ج 2 ص 179.

________________________________________

(187)

    وقال ابن حجر ايضاً في تقريب التهذيب :

    حبيب بن أبي ثابت : قيس ، ويقال : هند بن دينار الأسدي ، مولاهم أبو يحيى الكوفي ، ثقة فقيه جليل ، وكان كثير الإرسال والتدليس ، من الثالثة ، مات سنة تسع عشرة ومائة (1).

    ونقل ابن حجر عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخط المنذري أنه نقل فيه حديثاً عن أبي كعب في قول جبرئيل : لو جلست معك مثل ما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر ، وقال ، ولم يعله ابن الجوزي إلاّ بعبد اللّه بن عامر الأسلمي شيخ حبيب بن أبي ثابت (2).

    4 ـ أبو وائل الأسدي : وهو شقيق بن سلمة الكوفي ، كان منحرفاً عن علىّ بن أبي طالب ، قال ابن حجر : قيل لأبي وائل : أيهما أحب إليك : علىّ أم عثمان؟ قال : كان علىّ أحبّ إلىّ ثم صار عثمان (3).

    ولفظة « أحب » هناك ليست صيغة التفضيل بل المراد أنه كنت علوياً ثم صرت عثمانياً ، وكان الحزبان يومذاك يبغض أحدهما الآخر.

    ويشهد لذلك ما ذكره ابن أبي الحديد حيث قال : ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة ، كان عثمانياً يقع في علىّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ويقال إنّه كان يرى رأي الخوارج ، ولم يختلف في أنّه خرج معهم ، وأنّه عاد إلى علي ( عليه السَّلام ) منيباً مقلعاً. روى خلف ابن خليفة ، قال : قال أبو وائل : خرجنا أربَعة آلاف فخرج إلينا علىّ فما زال يكلّمنا حتّى رجع منّا ألفان.

    وروى صاحب كتاب « الغارات » عن عثمان بن أبي شيبة ، عن الفضل بن دكين ، عن سفيان الثوري قال : سمعت أبا وائل يقول : شهدت صفين وبئس الصفوف كانت!.

________________________________________

1 ـ تقريب التهذيب ج 1 ص 148 تحت رقم 106.

2 ـ لسان الميزان ج 2 ص 168 في ترجمة حبيب بن ثابت.

3 ـ تهذيب التهذيب ج 4 ص 362.

________________________________________

(188)

    قال وقد روى أبوبكر بن عاصم بن أبي النجود قال : كان أبو وائل عثمانياً (1).

    ويكفي أنّه كان من ولاة عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه.

    قال ابن ابي الحديد : وقال أبو وائل : استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة (2).

    هذا كله حول سند الرواية ، وقد عرفت أنّ سندها يشتمل على ضعاف ، وعلى فرض ورود المدح في حقهم فو معارض بما عرفت من الجرح ، وعند التعارض يقدّم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاعتبار ، و يرجع إلى أدلة أُخرى ، وسيوافيك أنّ الأصل في المقام الجواز ، كما سيأتي ذلك في آخر البحث.

    وأمّا ضعفه دلالةً فإليك البيان.

    إنّ تبيين ضعف دلالة الحديث يتوقف على توضيح معنى اللفظين الواردين في الحديث المذكور :

    1 ـ « قبراً مشرفاً ».

    2 ـ « إلاّ سوّيته ».

    أمّا الأول فقد قال صاحب القاموس : والشرف محركة : العلو. ومن البعير سنامه ، وعلى ذلك فيحتمل أن يراد منه مطلق العلو ، أو العلو الخاص كسنام البعير ولا يتعين ذلك إلاّ بالقرينة.

    أمّا الثاني ، أعني قوله : « سوّيته » فهو يستعمل على وجهين :

    أ ـ يطلق ويراد منه مساواة شىء بشىء ، فيتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه ( إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ ) (3).

________________________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 99.

2 ـ شرح نهج البلاغة ج 12 ص 223.

3 ـ سورة الشعراء : الآية 98.

________________________________________

(189)

    أي نعدّ الآلهة المكذوبة متساوين مع رب العالمين ، فنضيف إليكم ما نضيف إلى رب العالمين. وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة ( يَوْمَئِذ يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوِّى بِهِمُ الأرْضُ وَ لاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (1) أي يودّون أن يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض.

    ب ـ يطلق ويراد منه ما هو وصف لنفس الشيء ، لا بملاحظة شيء آخر ، فيكتفي بمفعول واحد ، قال سبحانه : ( الّذي خَلَقَ فَسَوَّى ) (2) وقال سبحانه : ( بَلَى قَادرينَ عَلَى أنْ نُسَوِّي بَنَانَهُ ) (3) وقال سبحانه : ( فَإذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهَ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدينَ ) (4) في هذه الموارد وقعت التسوية وصفاً لنفس الشيء بلا إضافة إلى غيره. ويراد منه حسب اختلاف الموارد تارة كمال الخلقة واستقامتها في مقابل نقصها واعوجاجها ، وهذا هو المقصود في الآيات الكريمة ، وأُخرى تسطيحه مقابل اعوجاجه ، وبسطه مقابل كونه كالسنام.

    إذا عرفت ذلك فلنعد إلى الحديث ولنطبق الضابطة عليه ، فبما أنّه استعمل مع مفعول واحد فلا يراد منه المعنى الأول ، أي مساواته بالأرض ، وإلاّ كان عليه أن يقول « سويته بالأرض » بل يراد منه ما هو وصف لنفس القبر والمعنى المناسب هو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه ، وبسطه في مقابل اعوجاجه ، وهذا هو الّذي فهمه شراح الحديث ، وبما أنّ السنة هي التسطيح ، والتسنيم بدعة ، أمر علىّ ( عليه السَّلام ) بأن تكافح هذه البدعة ، ويسطّح كل قبر مسنم.

    ويؤيد ما ذكرناه أنّ المحققين من أهل السنة لم يفهموا من الحديث إلاّ ما ذكرنا ، وإليك نقل كلماتهم :

    1 ـ قال القرطبي في تفسير الحديث : « قال علماؤنا : ظاهر حديث أبي

________________________________________

1 ـ سورة النساء : الآية 42.

2 ـ سورة الأعلى : الآية 2.

3 ـ سورة القيامة : الآية 4.

4 ـ سورة الحجر : الآية 29.

________________________________________

(190)

الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة » (1).

    إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهرة ، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها فغير ظاهر ، بل مردود باتفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر (2).

    2 ـ قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصه :

    (مسنَّماً بضم الميم وتشديد النون المفتوحة أي : مرتفعاً. زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبوبكر وعمر كذلك واستدل به على أنّ المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية.

    وقال أكثر الشافعية ونص عليه الشافعي : التسطيح أفضل من التسنيم ، لأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) سطح قبر إبراهيم ، وفعله حجة لا فعل غيره ، وقول السفيان التمار « رأى قبر النبي مسنّماً في زمان معاوية » لا حجة فيه ، كما قال البيهقي ، لاحتمال أنّ قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة ـ إلى أن قال ـ : ولا يخالف ذلك قول علىّ( عليه السَّلام ) أمرني رسول اللّه أن لا أدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته ، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب (3).

    3 ـ وقال النووي في شرح صحيح مسلم : إنّ السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها ، وهو مذهب مالك (4).

    ويؤيد ذلك أنّ صاحب الصحيح ( مسلماً ) عنون الباب بـ ( باب تسوية القبور ) ثم روى بسنده إلى تمامه قال : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ،

________________________________________

1 ـ تفسير القرطبي ج 2 ص 380 تفسير سورة الكهف.

2 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 42.

3 ـ إرشاد الساري ج 2 ص 468.

4 ـ صحيح مسلم بشرح النووي ج 7 ص 36 الطبعة الثالثة ـ دار إحياء التراث العربي.

(191)

فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضال بن عبيد بقبره فسوي ، قال : سمعت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يأمر بتسويتها ، ثم أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدم (1).

    وفي الختام نذكر أُموراً :

    1 ـ القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة ، وكلهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر (2) ولو أخذنا بالتفسير الّذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه.

    2 ـ لما عجز الوهابيون في مقابل سيرة المسلمين ، حيث دفنوا النبي في بيته فصار القبر عليه بناء ، عمد بعضهم إلى التفريق بين الأمرين فقال : الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء ، وقد دفنوا النبي تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً (3) ولكنّه تفريق بلا وجه ، لأنّ حديث أبي الهياج مطلق يعم الصورتين.

    3 ـ حديث أبي الهياج ـ على فرض صحة سنده ودلالته ـ يهدف إلى تخريب القبر ومساواته بالأرض ، لا هدم البناء الواقع عليه ، فالاستدلال به على الثاني استدلال عجيب.

 

ب ـ حديث جابر وتحليله سنداً ومتناً

    إنّ الوهابيين يستدلون بحديث جابر على حرمة البناء على القبور ، وقد ورد بنصوص مختلفة ، ونحن نذكر نصاً واحداً منها :

    روى مسلم في صحيحه : حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص

________________________________________

1 ـ المصدر السابق .

2 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 42.

3 ـ رياض الجنة ، بقلم مقبل بن الهادي طبع الكويت.

________________________________________

(192)

ابن غياث ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : نهى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أن يجصّص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه (1).

    والاستدلال بحديث جابر غير صحيح سنداً ومتناً.

    أمّا الأول فلأنّ جميع أسانيده مشتملة على رجلين هما في غاية الضعف :

    1 ـ ابن جريج : وهو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج.

    2 ـ أبو الزبير. وهو محمد بن مسلم الأسدي.

    أمّا الأول فإليك كلمات أئمة الرجال في حقه :

    سئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج قال : فقال : ضعيف ، فقيل له إنّه يقول : أخبرني قال : لا شيء.. كله ضعيف ، وقال أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريج : قال فلان وقال فلان جاء بمناكير.

    وقال مالك بن أنس : كان ابن جريج حاطب ليل.

    وقال الدارقطني : يجنب تدليس ابن جريج فإنّه قبيح التدليس ، لا يدلس إلاّ في ما سمعه من مجروح.

    وقال ابن حبان : كان ابن جريج يدلس في احاديث (2).

    وأمّا الثاني : فإليك أقوال علماء الرجال فيه :

    فعن إمام الحنابلة عن أيوب إنّه كان يعتبر أبا الزبير ضعيف الرواية.

________________________________________

1 ـ لاحظ للوقوف على متون الحديث المختلفة وأسانيده : صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ج 3 ص 62 ، والسنن للترمذي ج 2 ص 208 ، طبع المكتبة السلفية ، وصحيح ابن ماجة ، ج 1 كتاب الجنائز ، ص 473 ، وصحيح النسائي ج 4 ص 87 إلى 88 ، وسنن أبي داود ج 3 ص 216 ، باب البناء على القبر ، ومسند أحمد ج 3 ص 295 و 332 ورواه أيضاً مرسلا عن جابر ص 399 .

2 ـ تهذيب التهذيب ج 6 ص 2 ـ 4 و ص 5 ـ 6 طبع دار المعارف العثمانية. ولاحظ ما ذكرناه في الجزء الأول ص 96.

________________________________________

(193)

    وعن شعبة : لم يكن في الدنيا أحبّ إلىّ من رجل يقدم فأسأله عن أبي الزبير ، فقدمت مكة فسمعت منه فبينا أنا جالس عنده ، إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فردّ عليه ، فافترى عليه فقلت : يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال : إنّه أغضبني ، قلت : ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئاً.

    وعن ورقاء قال : قلت لشعبة : مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال : رأيته يزن ويسترجع في الميزان.

    وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن أبي الزبير ، فقال : يكتب ولا يحتج به قال : وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال : يروي عنه الناس قلت : يحتج بحديثه؟ قال : إنما يحتج بحديث الثقات (1).

    باللّه عليك أيصحّ الاستدلال بهذا الحديث؟ أفهل يصحّ هدم آثار النبوة والرسالة والصحابة بهذه الرواية؟.

    على أنّ بعض الأسانيد مشتمل على عبد الرحمن بن أسود المتّهم بالكذب والوضع.

    هذا كله ما يتعلّق بالسند ، وأمّا المتن ففيه ملاحظتان :

    الأُولى : إنّ الحديث روي بِصوَر سبع ، مع أنّ النبي نطق بصورة واحدة ، ولو رجعت إلى متونه المبعثرة في المصادر الّتي أوعزنا إليهاترى فيها الاضطراب العجيب ، وإليك صورها :

    1 ـ نهي رسول اللّه عن تجصيص القبر والاعتماد عليه.

    2 ـ نهي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن الكتابة على القبر.

    3 ـ نهي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن تجصيص القبر ، والكتابة والبناء عليه ، والمشي عليه.

________________________________________

1 ـ تهذيب التهذيب ، ترجمة أبي الزبير ج 9 ص 442 طبع حيدرآباد ـ دكن عام 1326 ، ولاحظ : الطبقات الكبرى ج 5 ص 481.

________________________________________

(194)

    4 ـ نهي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن الجلوس على القبر ، وتجصيصه ، والبناء والكتابة عليه.

    6 ـ نهي عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن الجلوس على القبر ، وتجصيصه والبناء عليه.

    7 ـ نهي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه ، والزيارة عليه ، والكتابة عليه (1).

    مضافاً إلى اختلافات أُخرى في أداء مقصود واحد ، فيعبّر عنه تارة بالاعتماد ، وأُخرى بالوطء ، وثالثة بالقعود.

    ومن المعلوم إِنَّ الاعتماد غير الوطء ، وهما غير القعود ، فمع هذا الاضطراب والاختلاف في المضمون لا يمكن لأي فقيه أن يعتمد عليه؟!.

     الثانية : إنّ الحديث على فرض صحته لا يثبت سوى ورود النهي من النبي ولكن النهي منه تحريمي ومنه تنزيهي ، وبعبارة أُخرى : نهي تحريم ، ونهي كراهة ، وقد استعمل النهي في كلمات الرسول في القسم الثاني كثيراً ولأجل ذلك حمله الفقهاء على الكراهة ، فترى الترمذي يذكر هذا الحديث في صحيحة تحت عنوان كراهية تجصيص القبور ، والسندي شارح صحيح ابن ماجة ينقل عن الحاكم النيسابوري أنّه لم يعمل بهذا النهي ( بالمضمون التحريمي ) أحد من المسلمين ، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور .

    وأمّا الكراهة فربما تكون مرتفعة بالنسبة إلى المصالح العظيمة المترتبة عليه ، كما إذا صار البناءعلى القبر سبباً لحفظ الآثار الإسلامية ، وإظهار المودة لصاحب القبر الّذي فرض اللّه مودته على الناس (2) ، أو يكون لاستظلال الزائر وتمكّنه من تلاوة القرآن وإهداء ثوابه إلى صاحب القبر ، إلى غير ذلك من الأُمور

________________________________________

1 ـ لاحظ في الوقوف على المتون المختلفة للحديث مضافاً إلى المصادر الّتي أوعزنا إليها ، كتابنا ( الوهابية في الميزان ) ص 88 ـ 89.

2 ـ قال سبحانه : ( قل لا أسألكم عليه أجراً الاّ المودة في القربى ) ( الشورى / 23 ) .

________________________________________

(195)

الّتي يتمكّن الإنسان منها تحت الظل لا تحت الشمس ولا في برد الليل ، فالنهي التنزيهي أشبه بالمقتضيات الّتي ترتفع بأقوى منها.

 

أحاديث ثلاثة في الميزان

    فقد ورد في ذلك المجال أحاديث أُخر نذكرها بسندها ومتنها :

    روى ابن ماجة في صحيحه ما يلي :

    1 ـ حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن عبد اللّه الرقاشي ، حدثنا وهب ، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ، عن القاسم بن مخيمرة ، عن أبي سعيد أنّ النبي نهى أن يبنى على القبر (1).

    ويذكر ابن حنبل حديثاً آخر بسندين هما :

    2 ـ حدثنا حسن ، حدثنا بريد بن أبي حبيب ، عن ناعم مولى أُم سلمة عن أُم سلمة قالت : نهى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أن يبنى على القبر أو يجصّص.

    3 ـ علي بن إسحاق ، حدثنا عبد اللّه بن لهيعة ، حدثني بريد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أُم سلمة : أنّ النبي نهى أن يجصّص قبر أو يبنى عليه أو يجلس (2).

    فسند الحديث الأول يشمل على ( وهب ) وهو مردد بين سبعة عشر رجلا ، وفيهم الوضّاعون والكذّابون (3).

    والحديث الثاني والثالث لا يحتج بهما لاشتمالهما على ( عبداللّه بن لهيعة ) الّذي يقول فيه ابن معين :

    ضعيف لا يحتج به ، ونقل الحميدي عن يحيى بن سعيد أنّه كان لا يراه شيئاً (4).

________________________________________

1 ـ صحيح ابن ماجة ج 1 ص 474.

2 ـ مسند أحمد ج 6 ص 299.

3 ـ ميزان الاعتدال ج 3 ص 350 ـ 355.

4 ـ ميزان الاعتدال ج 2 ص 476 ، وتهذيب التهذيب ج 1 ص 444.

________________________________________

(196)

    هذه حال الأحاديث الّتي صارت ذريعة بيد الوهابيين لتدمير الآثار الإسلامية منذ أن استولوا على الحرمين الشريفين ، حيث لا تمر سنة إلاّ ويدمّر أثر من الآثار الإسلامية بحجة توسيع الحرم الشريف ، حتّى المكتبات وبيوتات بني هاشم ومدارسهم ، وبيت مضيف النبي أبي أيوب الأنصاري ، وفي الوقت نفسه يعكفون على حفظ آثار اليهود في خيبر وغيرهم باسم الحفاظ على الآثار التاريخية.

    ثم إنّ القاضي ابن بليهد قد أعوزته الحجة فتمسّك بكون البقيع مسبلة موقوفة ، وأنّ البناء على القبور مانع عن الانتفاع بأرضها. سبحان اللّه ما أتقنه من برهان؟ من أين علم أنّ البقيع كانت أرضاً حية وقفها صاحبها على دفن الأموات؟.

    ومن أراد أن يقف على حال البقيع ، وأنه لم يكن فيها يوم أُعِدَّت للتدفين أي أثر من الحياة ، فليرجع إلى كتاب ( وفاء الوفاء ) .

 

آخر ما في كنانة المستدل

    ذكر البخاري في صحيحه في باب كراهة اتّخاذ المساجد على القبور الخبر التالي :

    لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبّة على قبره سنة ، ثم رفعت ، فسمعوا صالحاً يقول :

    ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر : بل يئسوا فانقلبوا (1).

    إنّ هذا الخبر لو صحّ فهو على نقيض المطلوب أدل ، فهو يدل على جواز نصب المظلّة على القبر ، ولو كان ذلك حراماً لما صدر من امرأة الحسن بن الحسن( عليهما السَّلام ) لأنه كان بمرأى ومسمع من التابعين وفقهاء المدينة ، ولعلها نصبت تلك القبة لأجل تلاوة القرآن في جوار زوجها وإهداء ثوابها إلى روحه.

    وأمّا قول الصالح فهو أشبه بقول غير الصالح ، كما أنّ الجواب أيضاً

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري كتاب الجنائز ج 2 ص 111 ، السنن للنسائي ج 2 كتاب الجنائز ص 171.

________________________________________

(197)

مثله ، لأنه بصدد الشماتة على امرأة افتقدت زوجها وهي مستحقة للتعزية والتسلية لا الشماتة ، لأنها ليست من أخلاق المسلمين ، ولم تكن المرأة تأمل عودة زوجها إلى الحياة حتّى يقال إنها يئست ، بل كان نصبها للمظلة للغايات الدينية والأخلاقية.

    ترى هؤلاء الأغبياء يدمّرون آثار الرسالة وهم يتمسكون في ذلك بركام من الأوهام ، ويسخرون من الذين أظهروا حباً لأهل بيت رسول اللّه الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وفرض مودّتهم وولاءهم وقال : ( قُلْ لاَ أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (1).

    إلى هنا تبين أنّه ليس للقوم دليل ، بل ولا شبهه على حرمة البناء على القبور ، وأنهم لم يدرسوا صحاحهم ومسانيدهم حسبما درس السلف الصالح. والآن هلمّ معي أتلو عليك أدلة القائلين بالجواز ، سواء أكان صاحب القبر رجلا عادياً أم كان عظيماً من عظماء الدين ، وإليك بيانها :

 

عرض المسألة على الأدلة المحكمة

    إذا وقفت على ضعف ما استدل به القوم على تحريم البناء على القبور ، وسقوطه عن الاعتبار ، فيجب عرض المسألة على الأدلة المحكمة الّتي لا يصحّ لأحد النقاش في اعتبارها وحجيتها.

    فإذا دلت تلك الأدلة على الجواز ، فلا محيص من طرح هذه الأحاديث الضعاف ، أوحملها على الكراهة ، أو غير ذلك. وإليك بيان تلك الأدلة :

 

1 ـ الكتاب والبناء على القبور

    يظهر من الكتاب أنّ البناء على القبور ، بل بناء المسجد عليها كان جائزاً في الشرائع السابقة ، وأنّ الناس عندما وقفوا على قبور أصحاب الكهف ،

________________________________________

1 ـ سورة الشورى : الآية 23.

________________________________________

(198)

اختلفوا على قولين : فمن قائل : ( ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً ) (1).

    ومن قائل آخر : ( لَنَتَّخِذَنّ عَليْهِم مَسْجداً ) (2).

    والاستدلال بالآية واضح لمن يرى القرآن قدوة وأُسوة.

    فإنّ القرآن ينقل كلا القولين ، من دون أن ينتقدهما أو يعترض عليهما ويردع عنهما بل الظاهر أنّه ينقلهما بصورة التحسين ، وأنّ أصحاب الكهف بلغ بهم ثباتهم في طريق العقيدة إلى حد لما عثر عليهم الناس اجتمعوا على تكريمهم واحترامهم ، بل التبرك بهم ، فمن قائل بلزوم البناء عليهم. وآخر باتخاذ مراقدهم مسجداً ، وليس القرآن كتاب قصة وأُسطورة ، وإنما هو كتاب إرشاد وقدوة وإمام. فلو كانوا في عملهم هذا ضالين لعلق على قولهم بشىء أو عابه ، كما هو الحال فيما ينقل عن المشركين ، والكافرين ، عملا ، أو رأياً.

    قال سبحانه حاكياً كيفية غرق فرعون : ( حَتّى إذَا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلهَ اَلاّ الّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إسرائيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) (3) ولأجل إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد ، عقّب عليه بقوله : ( ألآن وَقَد عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفسِدِينَ ) (4).

    فلأجل ذلك يكون القرآن قدوة في كل ما ينقله من أعمال الماضين ، إلاّ إذا عقّب عليه بالرد ، أو دلّت القرائن على كونه عملا غير مقبول.

 

2 ـ السيرة المستمرة بين المسلمين

    لم يزل الإلهيون من أهل الكتاب والمسلمين في قاطبة الأعصار يهتمون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير ، ثم التطهير والتنظيف ، حتّى نرى أنّ كثيراً من المتمكّنين يخصصون أموالهم ويوقفونها في هذا المجال.

    فهذه القباب الشاهقة ، والمنائر الرفيعة ، والساحات الوسيعة حول

________________________________________

1 ـ سورة الكهف : الآية 21.

2 ـ سورة الكهف : الآية 21.

3 ـ سورة يونس : الآية 90.

4 ـ سورة يونس : الآية 91.

________________________________________

(199)

مراقد الأنبياء والأولياء ، في مختلف البلاد شرقها وغربها ، وهذا دليل قاطع على أنّ هذه السيرة كانت مرضية عن صاحب الشريعة وخلفائه وأصحابه ، وإلاّ كان عليهم رفضها وردها بالبنان والبيان ، والسلطة والقوة ، فالسكوت في بعض الفترات ودعمها في بعض الأحايين أدلّ دليل على كونها سيرة مرضية.

    نعم ، إذا كان اتّخاذ المقابر مساجد على النحو الرائج عند اليهود والنصارى فهو محرّم ، وقد نصّ الرسول على تحريمه ، كما تأتي الروايات مع توضيحها ، وهو مسألة أُخرى غير مجرّد البناء على القبور الّذي هو مسألتنا.

    هذا هو السلف الصالح قد وقفوا ـ بعد ما فتحوا الشام ـ على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ ... فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أن تهدم ، وهكذا الحال في سائر القبور المشيدة عليها الأبنية في أطراف العالم ، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم ، وإليك نص ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية :

    إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة من قبيلة « لخم » النصرانية يقومون على حرم إبراهيم بـ « حبرون » ولعلهم استغلوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجاج هذا الحرم.. وربما يكون توصيف تميم الداري نسبة إلى الدار ، أي : الحرم ، وربما كان دخول هؤلاء اللخميين للإسلام ، لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الّذي قدّسه المسلمون تقديس اليهود والنصارى من قبلهم (1).

    وجاء أيضاً في دائرة المعارف الإسلامية في مادة « الخليل » : ويقول المقدسي ، وهو أول من أسهب في وصف الخليل : إنّ قبر إبراهيم كانت تعلوه قبة بنيت في العهد الإسلامي ، ويقول مجير الدين : إنها شيدت في عهد الأمويين ، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضه ، وقبر يعقوب قباله ، وكان المقدسي أول من ذكر تلك الهبات الثمينة الّتي قدّمها الأُمراء الورعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح ، وذلك الاستقبال الكريم الّذي يلقاه الحجاج من جانب

________________________________________

1 ـ دائرة المعارف الإسلامية ج 5 ص 484 مادة تميم الداري.

________________________________________

(200)

التميميين (1).

    ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام ، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان ، لجاء بكتاب فخم ضخم ، يعرب عن أنّ السّنة السنية الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده ، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا ، هي مشروعية البناء على القبور ، والعناية بحفظ آثار رجال الدين ، ولم ينبس أىّ ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة ، وما اعترض عليها ، بل تلقوها إظهاراً للمحبة والود لأصحاب الرسالات والنبوات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين قال سبحانه :

     ( وَمَنْ يَشَاقَقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلَ الْمؤْمِنينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (2) .

    وقد وارى المسلمون جسد النبي الأكرم في بيته المسقف ، ولم يزل المسلمون مذ أن وورِيَ جثمانه ، على العناية بحجرته الشريفة بشتى الأساليب ، وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً وقد جاء تفصيل كل ذلك مع ذكر وصف الأبنية الّتي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلقة بتاريخ المدينة ، لا سيما وفاء الوفاء للعلامة السَّمهودي المتوفى عام ( 911 هـ ) (3) والبناء الأخير الّذي شيّد عام ( 1270 هـ ) قائم لم يمسه سوء ، وسوف يبقى بفضل اللّه تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء.

    وأمّا المشاهد والقباب المبنية في المدينة في العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج ، ولا سيما في بقيع الغرقد ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة.

    هذا هو المسعودي المتوفى عام ( 345 هـ ) يقول : « وعلى قبورهم في هذا

________________________________________

1 ـ دائرة المعارف الإسلامية ج 8 ص 420 مادة خليل.

2 ـ سورة النساء : الآية 115.

3 ـ وفاء الوفاء ج 2 الفصل التاسع ص 458 إلى آخر الفصل.

(201)

الموضع من البقيع رخامة مكتوبه عليها : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمدللّه مبيد الأُمم ومحي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) سيدة نساء العالمين ، وقبر الحسن بن علىّ بن أبي طالب ، وعلىّ بن الحسين بن أبي طالب ، ومحمد بن علىّ و جعفر بن محمد » (1).

    وذكر السبط ابن الجوزي المتوفى عام 654 هـ في تذكرة الخواص ص 311 نظير ذلك ، وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله : « وقبر الحسن بن علىّ عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلا ، عليه مكتوب : هذا قبر الحسن بن علىّ ، دفن إلى جنب أُمه فاطمة رضي اللّه عنها وعنه (2).

    ويقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار المتوفى عام 643 هـ في أخبار مدينة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : .. في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة ، رضي اللّه عنهم (3).

    يقول ابن جبير ذلك السائح الطائر الصيت المتوفى عام 614 هـ في رحلته في وصف بقيع الغرقد : مقابل قبر مالك ، قبر السلامة الطاهرة إبراهيم ابن النبي عليه قبة بيضاء وعلى اليمين منها تربة ابن عمر بن الخطاب ( رضي الّه عنه ) ... وبإزائه قبر عقيل ابن أبي طالب ( رضي اللّه عنه ) . وعبداللّه بن جعفر الطيار ( رضي اللّه عنه ) ، وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ويليها روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي ( رضي اللّه عنه ) ، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور ، وعن يمين الخارج من ، رأس الحسن إلى رجلي العباس ( رضي اللّه عنهما ) ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع ، إلصاق ، مرصعة بصفائح الصفر ، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر ، وعلى هذا

________________________________________

1 ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ج 2 ص 288.

2 ـ مجلة العرب رقم 5 ـ 6 المؤرخ 1393.

3 ـ أخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال ـ طبع مكة المكرمة 1366.

________________________________________

(202)

الشكل قبة إبراهيم ابن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ويعرف ببيت الحزن ... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين ( رضي اللّه عنه ) ، وعليه قبة صغيرة مختصرة ، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُم علىّ ( رضي اللّه عنها ) وعن بنيها (1).

    روى البلاذري أنّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلى عليها « عمر » وكان دفنها في يوم صائف ، ضرب « عمر » على قبرها فسطاطاً (2) ولم يكن الهدف من ضربه تسهيل الأمر لمن يتعاطى دفنها ، بل لأجل تسهيله لأهلها حتّى يتفيّأوا بظلّه ويقرأوا ما تيسّر من القرآن والدعاء ، فلاحظ.

 

حصيلة البحث

    إنّ سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين ، إلى عصرنا هذا أقوى حجة على الحكم الشرعي ـ فإنّ اتفاق العلماء في عصر و « إجماعهم على حكم » حجة شرعية عليه ، فكيف اتفاقهم عليه طيلة قرون ، ولا سيما الصحابة العدول.

    فالصحابة واروا جسد النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في بيته ، ولم يخطر ببال أحد أن البناء على القبور محرّم ، ولا أظن أنّ جاهلا متنسّكاً يفرق بين البناء المتقدم على الدفن والمتأخر عنه ، فضلا عن عالم ، فإنّ كون قبر الميت تحت بناء تكريم له وتعظيم ، والقوم يتلقونه شركاء لأنّه تعظيم لغير اللّه ، فلا يفرق بين البناء على القبور أو دفن الميت تحت بناء.

    وليس هذا شيء ينكره أحد من المسلمين.

    والعجب أنّ الوهابيين لما واجهوا هذه السيرة المستمرة عمدوا إلى تفسير هذه السيرة بأنّ النبي إنما دفن في بيته ، لأجل حديث رواه أبوبكر ، قال ابن كثير : إنّ أصحاب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لم يدروا أين يقبرون

________________________________________

1 ـ رحلة ابن جبير ، بيروت دار صادر. وقد زار المدينة المنورة عام 578 هـ.

2 ـ أنساب الأشراف ج 1 ص 436.

________________________________________

(203)

رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حتّى قال أبوبكر : سمعت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : : لم يقبر نبىّ إلاّ حيث يموت (1).

    ثم أضاف المؤلف : فعلمنا من هذه الأحاديث أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) دفن في بيته كما أمر بذلك ، فعلى هذا فلا حجة فيه للقبوريين في البناء على القبور ، إذ لم يبن على قبره ، وإنّما دفن في بيته (2).

    ولا يخفى وجود التهافت في عبارته ، فصدرها يدل على أنّ دفن النبي في بيته كان بأمره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو لم يكن أمره لما دفنوه فيه ، لأنّ الدفن في البناء حرام ، وذيل العبارة يدل على التفريق بين الدفن تحت البناء القائم والبناء على القبر.

    فلو أراد الوجه الأول كما هو ظاهره حيث استقصى مصادر الحديث المذكور قرابة ست صفحات ، فهو مردود بدفن الشيخين في البيت ، مع أنّه لم يرد في حقهما ما ورد في حق النبي.

    ولو أراد الثاني فهو تفريق لا يجنح إليه ذو مسكة ، بعد وحدة الملاك والاشتراك في المفسدة المزعومة.

    وبعد دلالة الذكر الحكيم والسيرة على الجواز ، لا مناص عن طرح هذه الروايات أو تأوليها.

 

3 ـ البناء تعظيم لشعائر اللّه

    إنّ تعظيم قبور الأنبياء والأولياء وتنظيفها وحفظها عن تطرق الفساد والانهدام مظهر لتعظيم شعائر اللّه قال سبحانه :

     ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظَّم شَعَائِرَ اللّهِ فإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوبِ ) (3).

________________________________________

1 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 266 ، وقد جاءت مصادر هذه الرواية في كتاب رياض الجنة ص 264.

2 ـ رياض الجنة 269 .

3 ـ سورة الحج : الآية 32.

________________________________________

(204)

    والاستدلال بالآية يتوقف على ثبوت صغرى وكبرى :

    الغصرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر اللّه ... والكبرى عبارة عن كون البناء والتنظيف وصيانة المقابر تعظيم لشعائر اللّه.

    ولا أظن أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان ، إنما المهم بيان الصغرى ، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر اللّه ، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر اللّه من الآيات :

    1 ـ ( إنَّ الصّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه ) (1).

    2 ـ ( يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهَ وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامِ وَلا الهَدْيَ وَ لاَ القَلاَئِدَ وَ لاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رضْوَاناً ) (2).

    3 ـ ( وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِر اللّه لَكُمْ فِيْهَا خَيْرٌ ) (3).

    4 ـ وفي رواية أُخرى جعل مكان شعائر اللّه ، حرمات اللّه وقال :

     ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعامُ إلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنِ الأوثَانِ ... ) (4) .

    ما هو المقصود من ( شعائر اللّه ) ؟

    هنا احتمالات :

    1 ـ تعظيم آيات وجوده سبحانه.

    2 ـ معالم عبادته وأعلام طاعته.

    3 ـ معالم دينه وشريعته وكل ما يمتإليهما بصلة.

________________________________________

1 ـ سورة البقرة : الآية 158.

2 ـ سورة المائدة : الآية 2.

3 ـ سورة الحج : الآية 36.

4 ـ سورة الحج : الآية 30.

________________________________________

(205)

    أمّا الأول فلم يقل به أحد ، إذ كل ما في الكون آيات وجوده ، ولا يصحّ تعظيم كل موجود بحجة أنه دليل على الصانع.

    وأمّا الثاني فهو داخل في الآية قطعاً ، وقد عدّ الصفا والمروة والبدن من شعائر اللّه ، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعنه ، إنما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام طاعته ، الظاهر المتبادر هو الثالث ، أي معالم دينه سبحانه ، سواء أكانت أعلاماً لعبادته وطاعة أم لا ، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبوية كلها من شعائر دين اللّه وأعلام شريعته ، فمن عظمها فقد عظم شعائر الدين.

    قال القرطبي : فشعائر اللّه : أعلام دينه ، لا سيما ما يتعلق بالمناسك (1) ولقد أحسن حيث عمّم أولا ، ثم ذكر مورد الآية ثانياً ، ومما يعرب عن ذلك أنّ إيجاب التعظيم تعلق بـ ( حرمات اللّه ) في آية أُخرى.

    قال سبحانه : ( وَمَنْ يُعظَّمْ حُرُماتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ ربّه ) ، والحرمات ما لا يحل انتهاكه ، فأحكامه سبحانه حرمات اللّه ، إذ لا يحل انتهاكها ، وأعلام طاعته وعبادته وحرمات اللّه ، إذ يحرم هتكها وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات اللّه ، يحرم هتكهم ، فلو عظّمهم المؤمن أحياء وأمواتاً فقد عمل بالآيتين : « وَمَن يَعظّم حرمات اللّه » « ومن يعظّم شعائر اللّه ».

 

4 ـ الإذن في ترفيع بيوت خاصة

    لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت الّتي يذكر فيها اسمه فقال : ( في بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوَّ وِ الآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاّبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه ) (2) وقد عرفت أنّ ابن تيمية جعل الآية دليلا على تكريم المساجد ، ولكنّه غفل عن أنّ البيوت غير المساجد ، فهناك بيت وهناك مسجد ، والبيت هو البناء الّذي يتشكّل من جدران أربعة وعليها

________________________________________

1 ـ تفسير القرطبي ، طبع دار إحياء التراث العربي ، ج 12 ص 56.

2 ـ سورة النور : الآية 36 ـ 37.

________________________________________

(206)

سقف قائم ، ولأجل ذلك يقال للكعبة بيت اللّه ، وللساحة المحيطة به ( المسجد الحرام ) وأيضاً يستحب أن تكون المساجد غير مسقّفة ، وترى المسجد الحرام مكشوفاً تحت السماء من دون سقف يظلّه ، دون البيت فالسقف من مقوماته.

    قال سبحانه : ( وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بَالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُون ) (1).

    فالبيوت غير المساجد ، ولو تنزلنا فهي أعمّ منها تشمل المسجد وغيره. هذا كله حول البيوت ، وأمّا الرفع الوارد في الآية الكريمة فسواء أفسّر بالرفع الحسي بإرساء القواعد وإقامة الجدران كما في قوله سبحانه : ( وَإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسماعِيلُ ) (2) ، أَمْ فسّر بالرفع المعنوي كما هو الحال في قوله سبحانه : ( وَرَفَعَنَاه مَكَاناً عَلياً ) (3). أي منحناه مكانة عالية. فلو فسرّ بالرفع الحسّي يكون دليلا على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء ، وتعميرها في حياتهم وبعد وفاتهم حسب إطلاق الآية ، وقد كان بيوت كثير من الأئمة الصالحين هي مقابرهم ، فتشييد هذه البيوت عمل جائز بنص الآية ، وأمّا لو فسّر بالرفع المعنوي ، وأنّ من وظائف المسلمين تكريم هذه البيوت كما هو المتبادر ، فتعمير بيوتهم من مظاهر ذلك التعظيم المعنوي ، كما أنّ تدميرها وجعلها معرضة لما لا يناسب ساحتهم ، تجاهل لهذه الآية وتولٍّ عنها.

    ومن لطيف ما روي في المقام ما رواه الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك ، وبريدة ، أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قرأ قوله : ( في بيوت أذن اللّه أن ترفع ) فقام إليه رجل وقال : أي بيوت يا رسول اللّه؟ فقال : « بيوت الأنبياء » فقام إليه أبوبكر وقال : يا رسول اللّه وهذا البيت منها؟ ـ مشيراً إلى بيت علىّ وفاطمة ـ فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : نعم من أفاضلها (4).

________________________________________

1 ـ سورة الزخرف : الآية 33.

2 ـ سورة البقرة : الآية 127.

3 ـ سورة مريم : الآية 57.

4 ـ الدر المنثور : ج 5 ص 50.

________________________________________

(207)

    فهذه الآية وحدها كافية في جواز تعظيم بيوت الأنبياء والأوصياء وأهل بيت النبي مطلقاً ، ومقابرهم ومراقدهم إذا كانت بيوتهم.

 

5 ـ إظهار المودة للنبي والقربى

    إنّ القرآن الكريم ـ يأمرنا ـ بكل صراحة ـ بحب النبي وأقربائه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول :

     ( وَمَنْ يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ) (1) .

    ( قُل لا أسْالُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ فِي القُرْبَى ) (2).

    ومن الواضح لدى كل من يخاطبه اللّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبي وأهل بيته ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو نوع من إظهار الحب والمودة لهم ، وبذلك يخرج عن كونه بدعة لوجود أصل له في الكتاب والسنة ، ولو بصورة كلية.

    وهذه العادة متبعة عند كافة الشعوب ، والاُمم في العالم ، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودة لصاحب ذلك القبر ، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ، ويزرعون أنواع الأزهار والأشجار حولها.

    إلى هنا تمّ الكلام حول جواز البناء على القبور مطلقاً ، وقبور الأنبياء والأوصياء والصالحين خاصة ، على وجه لم يبق لمتدبّر فيه شكّ ، ولا لمكابر إنكار ، إلاّ من أعمى اللّه بصره وبصيرته.

    هذه هي الآيات الواضحة الدلالة على جواز البناء ، وهذه هي سيرة المسلمين المشرقة طوال القرون.

________________________________________

1 ـ سورة المائدة : الآية 56.

2 ـ سورة الشورى : الآية 23.

________________________________________

(208)

    فلو فرضنا تعارض الأدلة من الجانبين ، فالأصل هو الإباحة كما سيوافيك.

 

6 ـ الأصل هو الإباحة

    إنّ القائل بالحرمة يجب أن يستدل عليها ، والقائل بالإباحة يكفيه الأصل ( عدم الحرمة إلاّ ما قام الدليل على تحريمه ) وقد عرفت أنّه ليس هناك شبه دليل على الحرمة ، والآيات أدل دليل على أنّه سبحانه لا يعذب أُمَّةً إلاّ بعد إرسال الرسل و بعثهم ، وهو كناية عن وصول البيان والتشريع إلى الناس ، فلو لم يصل ـ وإن بلغه الرسول ـ لا يكون منجزاً في حق العبد. قال سبحانه :

     ( وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا ) (1).

    وظاهر الآيات يعطي أن وظيفة التشريع تبيين المحرمات لا المباحات. قال سبحانه :

     ( قَلْ تَعَالُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم ) (2) .

    وقال : ( قُلْ لاَ أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَىّ مُحَرّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ.. ) (3).

    فإذا كان صعيد التشريع فارغاً عمّا يدل على التحريم فهو حجة على كون الشيء مباحاً محللا.

    وإليك البحث عن بناء المساجد على قبور الصالحين ، وهو الموضوع الخامس فيما طرحه ابن تيمية.

________________________________________

1 ـ سورة الإسراء : الآية 15.

2 ـ سورة الأنعام : الآية 151.

3 ـ سورة الأنعام : الآية 145.

________________________________________

(209)

(5)

ابن تيمية وبناء المساجد على القبور

    قال ابن تيمية : « ولا يشرع اتّخاذها ـ أي القبور ـ مساجد » (1).

    وقال أيضاً : « لا يجوز بناء المسجد على القبور ».

    وقد استدلّ الوهابيون على ما يتبنّونه بالحديث التالي المروي بعبارات مختلفة :

    1 ـ « قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».

    2 ـ « لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».

    3 ـ « ألا ومن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إنّي أنهاكم عن ذلك ».

    4 ـ « أخرجوا أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ، واعلموا أنَّ شرار الناس الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».

    5 ـ « لعن اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (2).

________________________________________

1 ـ مضى مصدرها.

2 ـ راجع للوقوف على مصادر هذه الأحاديث صحيح البخاري كتاب الجنائز ج 2 ص 111 ، السنن للنسائي ج 2 كتاب الجنائز ص 871 ، صحيح مسلم ج 2 ص 568 كتاب المساجد وغيرها ، وقد جمع مصادر الحديث وصوره المختلفة محمد ناصر الدين الألباني في كتابه تحذير الساجد ص 11 ـ 28 فذكر للحديث 14 صورة كما جمعها أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي في كتاب رياض الجنة ص 278 ـ 281.

________________________________________

(210)

    إنّ الوهابيين استغلوا هذا الحديث وخرجوا بهذه النتيجة بأنّ مفادها :

    أ ـ حرمة بناء المساجد على القبور.

    ب ـ وحرمة قصد الصلاة فيها.

    حتّى قال ابن تيمية : إنّ المسجد والقبر لا يجتمعان (1).

    وهذا هو الكلام الّذي يجتره ويكرره كل من جاء بعده ، فنظروا إلى الروايات بعقيدة مسبقة ، وتركوا إجماع الأُمة ودلالة الكتاب على الجواز كما بيّناه ، فنقول : إنّ لهذه الروايات محتملات :

    1 ـ الصلاة على القبور بالسجود عليها تعظيماً.

    2 ـ الصلاة باتّجاه القبور واتّخاذها قبلة.

    3 ـ بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها تبركاً بالمقبور.

    4 ـ إقامة الصلاة عند مراقد الأنبياء ومقابرهم فقط.

    فهل للحديث إطلاق يعم هذه الصورة والمحتملات كما ادّعاه الألباني تبعاً لشيخه ابن تيمية ، وزعم أنّ هذا الحديث من جوامع كلمه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .

    أو أنّ الحديث ينصرف ـ بشهادة القرائن المتصلة والمنفصلة ـ إلى بعض الصور مما يلازم كون العمل شركاً ، والمصلي مشركاً وخارجاً عن الحدود الّتي حددها الكتاب والسنة ، كما هو الحق بشهادة القرائن العشر التالية؟ وإليك البيان :

    1 ـ إنّ الحديث يركّز على عمل اليهود والنصارى ، وأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، وينهى المسلمين عن متابعتهم في ذلك.

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 59 ـ 60 وزاد المعاد تأليف ابن القيم ص 661.

(211)

    وبما أنّ أهل الكتاب معروفون بالشرك وعبادة غير اللّه طيلة الأجيال والقرون ، فالمسيحية تعبد ـ المسيح وأمه ـ كما أنّ كثيراً منهم اتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون اللّه ، يحرّمون ما أحلّ اللّه ويحلّلون ما حرّم اللّه.

    اليهود هم الذين طلبوا من نبيهم أن يجعل إلهاً كما أنّ لغيرهم آلهة ، وهم الذين عبدوا العجل ، بل عبدوا بعد رحلة الكليم أرباباً وآلهة ، فهم كأنهم مفطورون على الوثنية وعبادة البشر ـ فعند ذلك ـ ينصرف الحديث إلى عمل يلحق المسلم بهم ، ولا يمكن أن يدّعى أنّ الحديث يعم ما إذا كان عمل اتخاذ القبور مساجد مجرّداً عن أىّ شرك ، أو إذا كانت إقامة الصلاة عند قبورهم من باب التبرك بهم.

    2 ـ نرى أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يصف هؤلاء الجماعة بكونهم شرار الناس. فقد روى مسلم في كتاب المساجد أنّ أُم حبيبة وأُم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة فيها تصاوير ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجد ، وصَوّر فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند اللّه (1).

    إنّ توصيفهم بأنهم شرار الخلق عند اللّه ، يميط الستر عن حقيقة عملهم ، إذ لا يوصف الإنسان بالشر المطلق ، إلاّ إذا كان مشركاً. قال سبحانه : ( إنَّ شَرَ الدَّوابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) (2) ، وقال تعالى : ( إنَّ شَرَّ الدّوَابِّ عِندَ اللّهِ الّذينَ كَفَرُوا فَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ ) (3).

    كل ذلك يكشف عن مرمى الحديث ، وأنّ عملهم لم يكن عملا مجرداً مثل صرف بناء المسجد على القبر والصلاة فيه ، أو إقامة الصلاة عند القبور ، بل كان عملا مقترناً بالشرك بألوانه وصوره المختلفة ، كاتخاذ القبر إلهاً ومعبوداً أو قبلة عند الصلاة ، أو السجدة عليها بمعنى اتخاذها مسجوداً.

    3 ـ إنّ الروايات الناهية الواردة في المقام على قسمين :

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ج 2 كتاب المساجد ص 666.

2 ـ سورة الأنفال : الآية 22.

3 ـ سورة الأنفال : الآية 55.

________________________________________

(212)

    قسم يشتمل على اللعن ، وهذا مختص باتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.

    وقسم آخر مشتمل على مجرد النهي من دون اقتران باللعن ، وقد ورد ذلك في مطلق القبور.

    1 ـ عن أبي مرصد الغنوي قال : قال رسول اللّه : لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها (1).

    2 ـ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة و الحمّام (2) وغير ذلك.

    3 ـ عن عبداللّه بن عمر : نهى عن الصلاة في المقبرة (3).

    فعندئذ يجب التأمل في هذا التفريق ، لماذا اقترن الأول ( اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ) باللعن دون الآخر ، وإنّما ورد فيه مجرد النهي ، ( المحمول على الكراهة مطلقاً ، أو في ما إذا كان القبر بحيال المصلي ، أو كانت الصلاة بين القبرين ) وما هذا إلاّ لأنّ القسم الأول ناظر إلى عمل اليهود والنصارى في مورد قبور أنبيائهم.

    وبما أنه كان مقترناً بالشرك بالسجود لها تعظيماً لهم ، أو باتخاذها قبلة ، استحقوا اللعن ، وعرفوا بأنهم شرار الناس ، ووهي المسلمون عن اتّباعهم.

    وأمّا القسم الآخر فلم يكن مقترناً بذلك أبداً ، فجاء فيه النهي مجرداً عن اللعن.

    وبهذا لا يمكن القول بإطلاق الحديث و عموميته لكل الأحوال.

    4 ـ إنّ السيدة عائشة ، قالت : قال رسول اللّه : « لعن اللّه اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ». قالت : فلولا ذاك لأبرز قبره ،

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ج 7 ص 38.

2 ـ سنن أبي داود ج 1 ص 184.

3 ـ موارد الضمآن ص 10 كما في رياض الجنة.

________________________________________

(213)

غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً (1)

    إنّ المسلمين بعدما دفنوا الّنبي في بيته سوّروه بحائط مستدير ، لا مربّع ، لئلا يشابه الكعبة.

    ومن المعلوم أنّ التسوير بالجدران وعدم إبراز قبره إنما يمنع عن اتخاذه مسجوداً له أو قبلة ، وأمّا الصلاة في جنبه فلم يكن الجدار مانعاً عن إقامة الصلاة.

    ومراد السيدة عائشة : إنّ عدم إبراز القبر وستره بالحيطان منع المسلمين عن أن يرتكبوا ما كان اليهود والنصارى يرتكبونه.

    ومن المعلوم أنّ الجدران منعت عن الصور الشركية كصورة اتخاذه مسجوداً له أو قبلة ، لا إقامة الصلاة المجردة من هذه الضمائم.

    وهذا دليل واضح على أنّ الحديث كان بصدد نهي المسلمين عن اتخاذ القبر مسجوداً له أو قبلة.

    والعجب من الشيخ الالباني حيث أراد استغلال الحديث لتأييد مذهبه ، وموقفه ، وفسِّر قولها : « فلولا ذاك لأبرز قبره » بأنّ المقصود هو الدفن خارج بيته ، مع أنّ العبارة لا تتحمّل هذا ، لانها تركزّ على ا لقبر الموجود ، فيكون المقصود : ولو لا ذاك لكشف قبره ولم يتخذ عليه حائط.

    5 ـ قال أبو هريرة : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : أللّهمّ لا تجعل قبري وثناً ، لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

    إنّ العلاقة بين الجملتين تكشف عن أنّ المقصود هو : اتخاذ قبور الأنبياء مساجد على نحو يعود القبر وثناً يعبد ، أو يصلى إليه.

    وأمّا الصلاة للّه تبارك وتعالى وإلى الكعبة عند القبر تبركاً به فلا تجعل القبر وثناً يعبد ، وهذا هو قول اللّه تعالى وهو يأمر الحجيج باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى ، ويقول : ( وَاتَّخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى ) (2)

________________________________________

1 ـ البخاري ج 3 ص 159 ومسلم ج 2 ص 76.

2 ـ سورة البقرة : الآية 125.

________________________________________

(214)

    وليست الصلاة عند القبر إلاّ كمثل الصلاة عند مقام إبراهيم.

    غير أنّ جسد النبي إبراهيم قد لامس هذا المكان مرة أو مرات عديدة ، ولكن مقابر الأنبياء احتضنت أجسادهم الّتي لا تبلى دائماً.

    6 ـ إنّ علماء الحديث وجهابذته فهموا من هذه الأحاديث نفس ما قلناه ، وإن لم يذكر الألباني وغيره شيئاً من هذه التفاسير.

    أ ـ يقول العسقلاني : إنّما صوّروا أوائلهم الصور ليستأنسوا بها ، ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم ، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها ... إلى أن يقول : قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشانهم ، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثاناً ، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه ، لا للتعظيم ولا للتوجه نحوه ، فلا يدخل في الوعيد المذكور (1).

    ب ـ ويقول النووي في شرح صحيح مسلم : قال العلماء إنما نهى النبي عن اتخاذ قبره و قبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به ، فربما أدّى ذلك إلى الكفر ، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية. ولما احتاجت الصحابة والتابعون إلى زيادة في مسجد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حين كثر المسلمون ، وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمهات المؤمنين فيه ، ومنها حجرة عائشة ، مدفن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وصاحبيه ، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلاّ يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويعود المحذور. ولهذا قالت عائشة في الحديث عنه : ولو لا ذلك لأبرز قبره ، غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً (2).

    ج ـ وقال السندي شارح الصحيح للنسائي : اتخذوا قبور أنبيائهم

________________________________________

1 ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 1 ص 525 ط دار المعرفة ، وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ج 2 ص 437 باب بناء المساجد على القبور.

2 ـ صحيح مسلم بشرح النووي ، ج 5 ص 13 ـ 14.

________________________________________

(215)

مساجد ، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها ، أو بنوا مساجد يصلون فيها ، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يقضي إلى عبادة نفس القبر.

    إلى أن يقول : يحذّر النبي أُمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد ، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها ، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها (1).

    د ـ وقال شارح آخر : إنّ حديث عائشة يرتبط بالمسجد البنوي قبل الزيادة فيه ... أمّا بعد الزيادة وإدخال حجرتها فيه فقد بنوا الحجرة بشكل مثلث كي لا يتمكّن أحد من الصلاة على القبر ، إنّ اليهود والنصارى كانوا يعبدون أنبياءهم بجوار قبورهم أو يجعلونهم شركاء في العبادة (2).

    هــ ـ قال الشيخ علي القاري : سبب لعنهم إمّا لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لهم ، وذلك هو الشرك الجلي ، وإمّا لأنهم كانوا يتخذون الصلاة للّه تعالى في مدافن الأنبياء ، والسجود على مقابرهم ، والتوجه إلى قبورهم حال الصلاة ، نظراً منهم بذلك إلى عبادة اللّه ، والمبالغة في تعظيم الأنبياء ، وذلك هو الشرك الخفي. فنهى النبي أُمته عن ذلك إمّا لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود ، أو لتضمنه الشرك الخفي. كذا قال بعض الشراح من أئمتنا ويؤيده ما جاء في رواية. يحذر مثل الّذي منعوا (3).

    و ـ إنّ المروي عن أئمة أهل البيت هو ما فهمه أولئك الشراح.

    1 ـ روى الصدوق مرسلا قال : وقال النبي : لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً ، فإنّ اللّه لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4). والمراد من قوله « مسجداً » بقرينة « قبلة » هو السجود عليه تعظيماً.

    روى الشيخ الطوسي بأسناده عن معمر بن خلاد ، عن الرضا ( عليه السَّلام )

________________________________________

1 ـ السنن للنسائي ج 2 ص 41 طبع الأزهر.

2 ـ صحيح مسلم ج 22 ص 66.

3 ـ مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ج 1 ص 456.

4 ـ الوسائل : الجزء الثاني الباب 65 من أبواب الدفن. الحديث 2.

________________________________________

(216)

قال : لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة (1).

    3 ـ روى الصدوق في علل الشرائع بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر ( الباقر ) ( عليه السَّلام ) قال : قلت له : الصلاة بين القبور ، قال : بين خللها ، ولا تتخذ شيئاً منها قبلة ، فإنّ رسول اللّه نهى عن ذلك وقال : لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً ، فإنّ اللّه عزّوجلّ لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2).

    ولو كان المراد هو اتخاذ القبر قبلة حقيقة ، بأن يصلى عليه من كل جانب كالكعبة ، يكون حراماً لكونه بدعة ، ولو كان المراد كون القبر أمامه وحيال وجهه ، فيحمل على الكراهة لجريان سيرة المسلمين على الصلاة في الصفة في مسجد النبي ، والقبر بحيال المصلي.

    7 ـ روى المفسرون في تفسير قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلاَ تَذَرُنَّ وُدّاً وَلاَ سُواعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) (3).

    عن ابن عباس : هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قومهم ، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، فلمّا طال عليهم الأمد عبودهم.

    قال القرطبي : روى الأئمة عن أبي مرصد الغنوي قال : سمعت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها ( لفظ مسلم ) أي لا تتخذوها قبلة ، فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى (4).

    8 ـ روى مسلم في صحيحه عن النبي الأكرم أنّه قال حينما قالت أُم حبيبة وأُم سلمة بأنهما رأتا تصاوير في إحدى كنائس الحبشة : إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً ، وصوروا فيه تلك الصورة ،

________________________________________

1 ـ الوسائل الجزء الثالث ، الباب 25 من أبواب مكان المصلي ، الحديث 3 والباب 26 الحديث 3 .

2 ـ نفس المصدر .

3 ـ سورة نوح : الآية 23.

4 ـ تفسير القرطبي ج 10 ص 380.

________________________________________

(217)

أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة (1).

    إنّ الهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إمّا لغاية اتخاذها قبلة أو عبادة ذويها ، كالصنم المنصوب ، ومعه لا يمكن أن يستدل به على تحريم مطلق اتخاذ القبور ، مساجد.

    9 ـ إنّ أقصى ما يدل عليه الحديث لو قلنا بإطلاقه هو أن يتّخذ مدفن الأنبياء مساجد ، وأمّا بناء مسجد في جنب مدافنهم بحيث يكون المسجد وراء المدفن كما هو الحال في المشاهد المشرفة لأئمة الشيعة فلا يعمه النهي أبداً.

    10 ـ وعلى فرض وجود الإطلاق فإذا دار الأمر بين الأخذ بالكتاب (2) والسنة الرائجة بين المسلمين من عهد التابعين إلى يومنا هذا ، حيث يصلون في مسجد النبي وقبره في وسطه ، وبين إطلاق هذه الرواية فالأول هو المتعين.

    إذا تبين عدم صلاحية الحديث للاستدلال على التحريم ، فيجب علينا عرض المسألة على سائر الأدلة ، وإليك البيان.

 

عرض المسألة على القرآن

    كان الواجب على الوهابيين الذين يدمّرون الآثار الإسلامية بهذه الأحاديث عرض المسألة على القرآن الكريم الّذي هو تبيان لكل شيء.

    قال سبحانه :

     ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيء ) (3) .

    والقرآن صادق مصدّق لا يكذب ـ يذكر سبحانه ـ في قصة أصحاب الكهف أنّ القوم لما عثروا على أجسادهم المطرية في الغار اختلفوا على قولين : تذكرهما الآية التالية :

     ( وَكَذَلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَأنَّ السّاعَةَ لاَ رَيبَ

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ج 2 ص 66 كتاب المساجد.

2 ـ سيوافيك بيان دلالة الكتاب على الجواز.

3 ـ سورة النحل : الآية 89.

________________________________________

(218)

فيها إذْ يَتنازَعُونَ بَيْنَهُم أمْرَهُم فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَبُّهُم أعْلَمُ بِهِم قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم لَنَتَّخِذَنّ عَلَيْهِم مَسْجداً ) (1) .

    فالآية صريحة في أن القوم بعد ما عثروا عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم على قولين :

    1 ـ البناء على قبورهم « ابنوا عليهم بنياناً ».

    2 ـ بناء المسجد على قبورهم « لنتخذن عليهم مسجداً ».

    وكلتا الطائفتين يريدان التعظيم والتكريم على اختلاف منهجهم ، والمعروف بين المفسرين أنّ القائلين بالقول الأول كانوا هم المشركين ، وأنّ القائلين بالقول الثاني هم الموحدون والمسلمون ، وسواء أثبت ذلك أم لا فإنّ العاثرين عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم ، وعلى كل تقدير فالآية حجة على جواز بناء المسجد على القبور أولا ، وعلى جواز بناء المسلمين عليها ثانياً ، وذلك لأنّ القرآن يذكر القولين من دون رد وطعن ، ولو كان كل من القولين ـ وخصوصاً القول الثاني ـ على خلاف الهداية وفي جانب الضلالة ، لأشار إلى ردّه وطعنه ، وليس القرآن كتاب قصة وإنما هو كتاب هداية ، فلو كان يذكر شيئاً من الأُمم السالفة ، فإنما هو للعبرة والاعتبار ، ولأجل ذلك كثيراً ما يردّ عليهم بعد نقل كلامهم ، فسكوت القرآن تجاه هذين القولين ونقلهما عن القوم بصورة كونه عملا مستحسناً ، أقوى دليل على جواز العمل المذكور في الأُمة المحمدية.

    قال الطبري في تفسير قوله تعالى : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِه إلى المَدينةَ ) :

     « إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم ، فزاده فزعاً ، ورأى أنّه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه : أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل ، أمّا الغداة فاسمعهم ، وكل

________________________________________

1 ـ سورة الكهف : الآية 21.

________________________________________

(219)

إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف ، ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة الّتي أعرف ... » (1).

    وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحدة مؤمنة متدينة بشريعة المسيح ، رغم ما كانوا على ضده قبل ثلاثمائة سنة.

    وقال في تفسير قوله تعالى : ( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْياناً ) فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف : ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم يقول : رب الفتية أعلم بشأنهم وقوله : « قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم » يقول جلّ ثناؤه : قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لنتخذنّ عليهم مسجداً.

    وقد نقل عن عبداللّه بن عبيد بن عمير : فقال المشركون نبني عليهم بنياناً ، فإنهم آباؤنا ، ونعبد اللّه فيها. وقال المسلمون : نحن أحق بهم ، هم منّاً ، نبني عليهم مسجداً ونعبد اللّه فيه (2).

    وبذلك يعلم أنّ ما ذكره الألباني في الرد على الاستدلال بالآية ، من أنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة ولا دليل على حجية فعلهم ، رجم بالغيب ، فإنّ ما ذكره الطبري يدل على أنّ المراد هو الغلبة في مجال الدين ، وتدهور الوثنية وازدهار التوحيد.

    وهذا يدلّ على أنّ سيرة العقلاء في العالم تكريم موتاهم ، وأنّ سيرة المؤمنين الموحدين اتخاذ مقابر الصالحين مساجد ليتبركوا بوجودهم وأجسادهم الذين كرسوا حياتهم في إشادة قوائم التوحيد ورفعوا صرحه ، وكيف يتصور ممن قام بتكريم إمام الموحدين وسيدهم ، أن ينحرف عن خطه الأصيل ( التوحيد ) ويعبد غيره سبحانه ويكون مشركاً ، إلاّ إذا كان منحرفاً وأشرب في قلبه العجل ـ أعادنا اللّه من وساوسهم.

________________________________________

1 ـ تفسير الطبري ج 15 ص 219 طبع مصطفى الحلبي بمصر ، سورة الكهف الآية 19.

2 ـ تفسير الطبري ج 15 ص 225 ، ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية.

________________________________________

(220)

(6)

ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء

    هذا هو الموضوع السادس الّذي قال في حقه ابن تيمية : « ولا تشرع الصلاة عندها ، ولا يشرع قصدها لأجل التعبّد عندها بصلاة واعتكاف ، أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك ، وكرهوا الصلاة عندها ، ثم كثير منهم قال : الصلاة باطلة لأجل النهي عنها ، إلى أن قال : وإنما دين اللّه تعالى تعظيم بيوت اللّه وحدها التي تشرّع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة ، والاعتكاف ، وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء له (1).

    يقول محمد بن عبد الوهاب : لم يذكر أحد من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة ، ولا أنّ الصلاة والدعاء هناك أفضل ، بل اتفق الكل على أنّ الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأولياء والصالحين (2).

    وجاء في الجواب المنسوب إلى علماء المدينة : « أمّا التوجه إلى حجرة النبي عند الدعاء فالأولى منعه ، كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب ، لأنّ أفضل الجهات جهة القبلة ».

    وقد تجاوزت هذه المسألة على مر الزمان مرحلة المنع إلى مرحلة الشرك ،

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 60.

2 ـ زيارة القبور ص 159 ـ 160.

(221)

حتّى أنهم اليوم يعتبرون ذلك شركاً ، وكل من فعل ذلك يكون عندهم مشركاً ، وإليك توضيح المسألة :

    1 ـ لا شك أنّ إقامة الصلاة عند القبور لغاية عبادة صاحب القبر أو اتخاذه قبلة شرك ، ولكن لاتجد على وجه البسيطة مسلماً يفعل ذلك ، بل لا يحوم حوله البعداء من الأوساط الإسلامية ، فضلا عن المتحضّرين منهم ، المتواجدين في الأوساط الدينية.

    2 ـ إنّ هدف المسلمين من إقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء ، هو التبرك بالمكان الّذي احتضن جسد حبيب من أحبّاء اللّه ، فيتمتع ذلك المكان بمنزلة سامية ، فالصلاة والدعاء هناك يعودان بثواب أكثر على فاعلهما.

    إنّ لمشاهد الأولياء ومراقدهم شرفاً وفضيلة خاصة لا توجد في غيرها ، ولأجل ذلك أوصى الشيخان بدفنهما في جوار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فالمصلي لدى قبورهم لا يقصد سوى ما قصده الشيخان لا غير. فلو كان قصد التبرك بمكان شركاً فلماذا أوصى الشيخان بالدفن بجوار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ؟.

    3 ـ إنّ القرآن الكريم يأمر حجاج بيت اللّه الحرام بإقامة الصلاة عند مقام إبراهيم ، وهو الصخرة الّتي وقف عليها إبراهيم لبناء الكعبة ، فيقول : ( وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وَأمْناً وَاتَّخذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهيمَ مُصَلّىً ) (1).

    إنّ الصلاة في مقام إبراهيم لأجل التبرك بمقام النبي إبراهيم ، فلو كانت عبادة اللّه تبارك وتعالى مقرونة بالتبرك بمكان المخلوق شركاً ، فلماذا أمر به سبحانه ، فهل هناك فرق بين مقامهم ومثواهم؟ .

    4 ـ سأل المنصور العباسي مالك بن أنس وهما في مسجد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا أبا عبد اللّه ، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللّه؟ فقال مالك : لم تصرف عنه ، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه (2).

________________________________________

1 ـ سورة البقرة : الآية 125.

2 ـ وفاء الوفاء ج 4 ص 1376.

________________________________________

(222)

    والعجب أنّ الكاتب الوهابي ( الرفاعي ) حاول أن يكذب القصة ، قال : « إنّ أبا جعفر المنصور كان من أعلم علماء عصره ، فلا يصح أن يكون جاهلا فيستفسر ».

    يا للعجب! من أين علم أنه كان مثل مالك بن أنس إمام المدينة المنورة؟

    وهل له آثار في الفقه والحديث مثل مالك؟

    ماهذه الكلمة الساقطة؟ وأي دليل على أنه لم يكن جاهلا بهذه المسألة فيستفسر مثله أو من هو أعلم منه ؟

    5 ـ روى السيوطي في أحاديث المعراج أنّ النبي الأكرم نزل في المدينة وطور وسيناء وبيت لحم ، وصلّى فيها ، فقال له جبرائيل : يا رسول اللّه أتعلم أين صلّيت؟ إنّك صليت في طيبة ، وإليها مهاجرتك ، وصلّيت في طور سيناء ، حيث كلم اللّه موسى تكليماً ، وصليت في بيت لحم حيث ولد عيسى (1).

    ولا أظن أن يتوهم أحد وجود الفرق بين المولد والمرقد بالتجويز في الأول دون الثاني.

    6 ـ إنّ المسلمين جميعاً يصلّون في حجر إسماعيل ، مع أنّ الحجر مدفنه ومدفن أُمه هاجر ، فأيٌ فرق بين مرقد النبي ومدفن أبيه إسماعيل؟

    7 ـ ولقد بلغت هاجر أُم إسماعيل مرتبة عند اللّه بسبب صبرها وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه سبحانه ، فجعل اللّه موضع أقدامها محلا للعبادة ، وأوجب على حجاج بيته الحرام أن يسعوا فيها كما سعت هاجر بين جبلي الصفا والمروة ، فنسأل إذا كان صبرها على المكاره ، وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه تعالى قد منحا الكرامة لموضع أقدمها ، وأوجب اللّه على المسلمين أن يعبدوه سبحانه في ذلك المكان بالسعي بين الصفا والمروة ، فلماذا لا يكون قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ

________________________________________

1 ـ الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي ج 1 ص 154.

________________________________________

(223)

مباركاً ومقدساً ، في حين أنّه تحمّل أنواع المصاعب والمصائب والمكاره من أجل إصلاح المجتمع وإرشاده.

    قال ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ : « إنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبّدات لهم إلى يوم القيامة ، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه » (1).

    8 ـ إذا كانت الصلاة عند القبر محرّمة في الشريعة الإسلامية ، فلماذا قضت عائشة عمرها في البيت الّذي دفن فيه الرسول؟.

    9 ـ إنّ السيدة فاطمة الزهراء الّتي قال في حقها النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ اللّه يرضى برضى فاطمة ويغضب بغضبها » (2) كانت تزور قبر عمّها حمزة في كل جمعة أو في كل أسبوع مرتين ، وكانت تبكي وتصلّي عند قبره.

    يقول البيهقي : كانت فاطمة ( رضي اللّه عنها ) تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة ، فتصلّي وتبكي عنده (3).

    10 ـ إنّ مراقد الأنبياء ومشاهدهم تعدّ جزءاً من مطلق الأرض الّتي جعلها اللّه سبحانه محلا لعبادته ، وقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » (4).

    فما الدليل على إخراج مشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين عن إطلاق الحديث المتفق عليه ، أفيزعم الوهابي ان الصلاة في مشاهد الأنبياء ومراقدهم أقل ثواباً من مطلق الأرض؟!

________________________________________

1 ـ زاد المعاد في هدى خير العباد طبع مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة بإشراف طه عبدالرؤوف 1390 هـ ق .

2 ـ صحيح البخاري ج 5 باب مناقب قرابة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ص 20 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 154.

3 ـ السنن للبيهقي ج 4 ص 78 مستدرك الصحيحين للحاكم ج 1 ص 377.

4 ـ صحيح البخاري ج 1 ص 91 ، مسند أحمد ج 2 ص 222.

________________________________________

(224)

    وأخيراً نرى أنّ المسلمين يقيمون الصلاة طيلة أربعة عشر قرناً عند قبر النبي والخليفتين ، من دون أن يختلج ببال أحد من أنّ إقامة الصلاة عند القبور حرام أو مكروه.

    كيف ، ولو كان مكروهاً أو حراماً لما أوصى الإمام الحسن بن علي بدفن جسده المطهر عند قبر جده المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حتّى حالت بنو أُمية دون إنفاذ وصيته.

    هذه الوجوه العشرة كافية لمن أراد اتباع الحق ، ولا أظنّ أنّ المنصف المتحرّي للحقيقة ـ إذا تجرّد عن الهوى ـ ينبذ هذه الأدلة وراء ظهره.

    وفي الختام نذكر حكم الإضاءة عند القبور ، فربّما يحكم بالحرمة لما رواه النسائي عن ابن عباس أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج (1).

    إنّ هذا الحديث وأمثاله يهدف إلى ما إذا كانت الإضاءة تبذيراً للمال ، أو تشبّهاً ببعض الأُمم والشعوب ، وإلاّ فالإضاءة إذا كانت لغاية قراءة القرآن والدعاء لا تكون محرمة.

    بل يقول العلامة السندي في شرحه على الحديث : « والنهي عنه لأنّه تضييع مال بلا نفع » (2).

    أضف إلى ما في الحديث من لعن زائرات القبور ، مع أنّ عائشة زارت البقيع مع النبي ، وقد علّمها كيفية الزيارة كما تقدم حديثه.

________________________________________

1 ـ السنن للنسائي ج 3 ص 77.

2 ـ السنن للنسائي ج 3 ص 77 طبع مصر وج 4 ص 95 طبع بيروت شرح الجامع الصغير ج 2 ص 198.

________________________________________

(225)