الشيعة: تكونهم وتاريخهم وتكونهم

الشيعة لغةً واصطلاحاً

    الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم ، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا ، وربّما يطلق على مطلق التابع ، قال سبحانه : ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ ) (1) وقال تعالى : ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْراهيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم ) (2) فالشيعة هم الجماعة التابعة لرئيس لهم.

    وأمّا اصطلاحاً فلها إطلاقات عديدة بملاكات مختلفة :

    1 ـ الشيعة : من أحبّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبىّ الذين فرض اللّه سبحانه مودّتهم قال عزّوجلّ : ( قُلْ لا أسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرَاً إلاّ المَوَدَّةَ فِى القُربَى ) (3) والشيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين إلاّ النواصب ، بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً ، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله :

________________________________________

1 ـ القصص / 15.

2 ـ الصافّات / 83 ـ 84.

3 ـ الشورى / 23.

________________________________________

(8)

يا أهلَ بيتِ رسولَ اللّهَ حبُّكُمكَفاكُمُ من عَظيم الشّأن أنّكمُ                 فَرضٌ من اللّهِ في القرآن أنْزلهمن لم يُصلِّ عليكم لا صلاة لَهُ (1)

    وأمّا النواصب فهم الذين نصبوا لعلي وأهل بيته العداء وتلقّوه فريضة دينية وأعانهم على ذلك مرتزقة أصحاب البلاط ، وترجع جذور هذه الفكرة إلى معاوية حيث سنّ سبّ علىّ على المنابر وتبعه أولاده وعشيرته إلى أواخر الدولة الأموية ، وكتب ابن أبي سفيان إلى عمّاله في جميع الآفاق : « اُنظروا إلى من اُقيمت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ثمّ كتب نسخة اُخرى إلى عمّاله وشدّد الأمر فيها وقال : « من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به و اهدموا داره ».

    وعلى هذا المنشور قام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يَلعَنون عليّاً ويبرأون منه و يقعون فيه وفي أهل بيته ... (2).

    2 ـ من يفضّل عليّاً على عثمان أو على الخلفاء عامّة مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء وإنّما يقدّم لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم ، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم وهي تُلزم الإنسان الاعتقاد بأنّه أفضل الصحابة ، وعلى ذلك معتزلة بغداد وقليل من أهل الحديث ، وعلى ذلك الاصطلاح جرى أكثر من كتب في الرجال والتراجم والمقالات حيث يصفون قليلاً من الصحابة وكثير أمن التابعين بأنّه يتشيّع أو أنّه شيعي ، وربّما يعدّونه من أسباب الجرح وكأنّ حبّ أهل البيت عمل اجرامي أو أنّ تقدّم الخلفاء على عليّ أصل من اُصول الدين لا يجوز تجاوزه ، مع أنّ الإمامة من الفروع عند أهل السنّة فكيف درجات الخلفاء ورتبهم.

    وربّما يختلط الأمر على من ليس له إلمام بالاصطلاح ، فلا يفرّق بينهما ،

________________________________________

1 ـ الصواعق 148 ط 1385 الطبعة الثانية.

2 ـ وسيوافيك مصدره وبيان عداء ابن أبي سفيان للإمام وعترته وشيعته.

________________________________________

(9)

وأكثر من يستعمل هذا الاصطلاح هو الذهبي في « ميزان الاعتدال » و « سير أعلام النبلاء » فيصف بعض التابعين والمحدّثين بالتشيّع ملمّحاً بذلك إلى ضعفهم ، وقد رُمي أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري بالتشيّع كمعتزلة بغداد ، والمقصود تفضيلهم عليّاً على سائر الخلفاء لا أنّه الإمام المنصوص بالخلافة.

    3 ـ الشيعة : من يشايع عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمّة الناس بعده ، نصبهم لهذا المقام بأمر من اللّه سبحانه ، وذكر أسماءهم وخصوصيّاتهم ، والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنها في المقام ، وقد اشتهر بأنّ عليّاً هو الوصي حتّى صار من ألقابه ، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم (1) وهو يقول في بعض خطبه :

    « لا يقاس بآل محمّد من هذه الاُمّة أحد ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ... » (2).

    ومجمل القول : إنّ هذا اللفظ يشمل كل من قال : انّ قيادة الاُمة لعلي بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأنّه يقوم مقامه في كل ما يمت إليه سوى النبوة ونزول الوحي عليه. كل ذلك بتنصيص من الرسول ، وعلى ذلك فالمقوّم للتشيّع وركنه الركين هو القول بالوصاية والقيادة بجميع شؤونها للإمام ( عليه السلام ) فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك ، وأمّا ما سوى ذلك فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع ولا يدور عليه اطلاق الشيعة.

________________________________________

1 ـ خطب الإمام أبو محمّد : الحسن السبط حين قتل أميرالمؤمنين خطبته الغرّاء فقال : أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي أخرجه الحاكم في مستدركه 1 / 172 ، وقد ذكر ابن أبي الحديد أشعاراً وأراجيز تتضمّن توصيف الإمام بالوصاية عن الصحابة والتابعين ، لاحظ شرح النهج 1 / 143 ـ 150 باب ما ورد في وصاية عليّ من الشعر.

2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة الثانية.

________________________________________

(10)

    لا شك أنّ للشيعة عقائد وآراء في مجاري الاُصول والفروع وربّما يشاركون غيرهم فيها وربّما يخالفونهم ، ولكنّها ليست من سماتهم وأعرافهم وإنّما هي اُصول وأحكام دعاهم الدليل إلى تبنّيها من الكتاب والسنّة والعقل.

    مثلا إنّ الشيعة تقول باتّحاد الصفات الذاتية للّه سبحانه معها ، وكونه سبحانه غير مرئي في الدارين ، وأنّ كلامه مخلوق له ، و أنّه لا يكلّف ما لا يطاق ، وأنّ حقيقة الأمر في أفعال العباد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، وأنّ الأنبياء معصومون إلى غير ذلك من الآراء ، ولكنّها آراء كلامية للشيعة لا أنّها المقوّم للتشيّع بحيث لو خالف فيها رجل منهم ، ولكنّه قال بالوصاية لعلي وبالقدوة لعترته ، لخرج عن اطار التشيّع واُصوله.

    إنّ التشيّع بهذا المعنى عبارة عن الاعتقاد باستمرار القيادة الإسلامية في قالب الوصاية لعلي وعترته ، والشيعة تدّعي أنّ هذه الفكرة غرست بيد النبي في أيّام حياته ، وتبنّاها لفيف من المهاجرين في عصره ، وبقوا عليها بعد حياته واقتدى بهم لفيف من التابعين لهم بإحسان وتواصل الاعتقاد به من تلك العصور إلى زماننا الحاضر ، وهذا هو الّذي تدّعيه الشيعة وعليه بُني صرح التشيّع ونحن في غنى عن الاتيان بنصوص أعلامهم وأكابرهم في المقام التي تدل على أنّ الوصاية للإمام بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فالأولى طرح الموضوع على بساط البحث وعرضه على المرتكزات العقلية ، ولأجل تسليط الضوء على المسائل المهمة نبحث عن الجهات التالية وكل واحدة منها في فصل خاص بها :

    1 ـ في تبيين متطلّبات الظروف في عصر النبي ، فهل كانت تقتضي أن تكون صيغة الحكم هي التنصيص أو كانت تقتضي تفويض الأمر إلى اختيار الاُمّة لتنتخب الحاكم والقائد عليها ؟

    2 ـ ما هو المرتكز في الأذهان في عصر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبعده في أمر القيادة ؟

(11)

    3 ـ ما هو مقتضى الكتاب والسنّة في القيادة بعد الرسول ؟

    4 ـ ما هو السر في مخالفة الجمهور لنصّ الرسول وتصريحه ؟

    5 ـ مبدأ التشيّع وتاريخه ورواد التشيّع في عصر الرسول والصحابة والتابعين.

    6 ـ افتراضات وهميّة حول تاريخ الشيعة.

    7 ـ صيغة الحكومة الإسلامية عند أهل السنّة.

    8 ـ نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع.

    9 ـ الشيعة في عصر الدولتين الأموية والعبّاسية.

    10 ـ عقائد الشيعة الامامية الاثنا عشرية.

    11 ـ أئمّة الشيعة الاثنا عشر ونبذة عن حياتهم.

    12 ـ دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وتطوير العلوم.

    13 ـ دول الشيعة وبلدانهم عبر التاريخ.

    14 ـ مصادر علوم الشيعة.

    فالذي نعتقد أنّ تحليل هذه الجهات يكشف الواقع للمحقّق ولا يُبقي له شكاً في أصالة التشيّع وأنّه استمرار للإسلام عبر الحقب والأعوام.

 

________________________________________

(12)

________________________________________

(13)

الفصل الأول

بيان متطلبات الظروف في عصر الرسول

في مجال القيادة الإسلامية

 

________________________________________

(14)

________________________________________

(15)

    لاشك أنّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة من شؤون النبي الأكرم مادام على قيد الحياة ، ثمّ إنّه وقع الاختلاف بين أصحاب المقالات والفرق في صيغتها بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فهل كانت متبلورة في صيغة النص أو في انتخاب الاُمّة.

    الشيعة ترى أنّ القيادة منصب تنصيصي والذي ينصّ على خليفة الرسول هو اللّه سبحانه عن طريقه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، بينما يرى أهل السنّة غير ذلك ولكل من الاتّجاهين دلائل وبراهين ، و المقصود هنا دراسة متطلّبات الظروف وتقييمها في عصر الرسالة ، فهل كانت المصالح تكمن في تعيين القائد أو كانت تكمن في خلافه ؟ فدراستها تُسلّط الضوء على البحث الثالث و هو وجود النص من الرسول وعدمه ، وإليك بيان ذلك :

    إنّ الظروف السياسية التي كانت سائدة في المنطقة كانت توجب على الرسول أن يعيّن القائد ، وكانت المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك ، لأنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثُلاثي ، الروم ، الفرس ، المنافقين ، وخطرهم يتمثّل بشنّ هجوم مفاجىء كاسح أو إلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

    فمصالح الاُمّة كانت توجب توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر

 

________________________________________

(16)

الخارجي والداخلي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها ، وبذلك يخسر الذين كانوا يتآمرون على ضرب الإسلام بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

    أمّا العدوّ الأوّل فقد كان الامبراطورية الرومانية التي كانت تشكّل إحدى أضلاع الخطر المثلّث الذي كان يحيط بالكيان الإسلامي ويهدّده من الخارج.

    وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على الدوام ، حتّى انّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

    وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبداللّه بن رواحة ».

    ولقد أدّى انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

    من هنا خرج رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في السنة التاسعة للهجرة ( غزوة تبوك ) على رأس جيش كبير جدّاً إلى حدود الشام ليقود بنفسه المواجهة العسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد للاُمّة الإسلامية هيبتها من جديد.

 

    غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنع رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فأعدّ قبيل ارتحاله جيشاً كبيراً من المسلمين. وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام والحضور في تلك الجبهة.

 

________________________________________

(17)

    أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدّد الكيان الإسلامي ، فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ومعاداتها لدعوته ، أن أقدم امبراطور إيران ، « خسرو پرويز » على تمزيق رسالة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، وتوجيه الاهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه ، والكتابة إلى واليه وعميله في اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أو يقتله إن امتنع.

    و « خسرو » هذا و إن قتل زمن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إلاّ أنّ استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلا من الزمن ـ لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك ، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوّة الجديدة ( القوّة الإسلامية ) لهم.

    والخطر الثالث وهو الأعظم ( لأنّ القلعة الحصينة لا تهزم إلاّ من داخلها ) كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس ، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل ، إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

    فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخَطِر يقول في نفسه : إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ورحيله ، وبذلك يستريح الجميع (1).

    ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الإسلامية من الداخل ، وذلك عندما أتى عليّاً ( عليه السلام ) وعرض عليه أن يبايعه ضدّ عُيِّن في السقيفة ، ليستطيع بذلك

________________________________________

1 ـ الطور / 30.

________________________________________

(18)

شطر الاُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين ، فيتمكّن حينها من الصيد في الماء العكر.

    ولكنّ الإمام عليّاً ( عليه السلام ) أدرك بذكائه المفرط نوايا أبي سفيان الخبيثة فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة :

    « واللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّاً. لاحاجه لنا في نصيحتك » ومع أنّ الإمام ردّه خائباً لكنّه استمرّ في فتنته لشقّ عصا الاُمّة فأخذ يتردّد في أزقّة المدينة منادياً :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكمفما الأمر إلاّ فيكم وإليكم                ولا سيما تيم بن مرّة أو عديوليس لها إلاّ أبو حسن علي (1)

    ولقد بلغ دور المنافقين الهدّام في الشدة بحيث تعرّض القرآن الكريم لذكرهم في سور عديدة هي : سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمّد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقون ، والحشر.

    فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه ، يصحّ أن يترك رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) اُمّته الحديثة العهد بالإسلام ، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً ؟

    إنّ المعطيات الاجتماعية توحي بأنّه كان من الواجب أن يدفع رسول الإسلام ـ بتعيين قائد للاُمّة ـ ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، ويضمّن بذلك استمرار وبقاء الاُمّة الإسلامية وإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حولها.

________________________________________

1 ـ الكامل 2 / 325 ، العقد الفريد 2 / 249.

________________________________________

(19)

    إنّ تحصين الاُمّة وصيانتها من الحوادث المشؤومة والحيلولة دون مطالبة كل فريق الزعامة لنفسه دون غيره وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة ، لم يكن متحقّقاً إلاّ بتعيين قائد للاُمّة وعدم ترك الاُمور للأقدار.

    إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحّة نظرية « التنصيص على القائد بعد الرسول » ولعلّ لهذه الجهة ولجهات اُخرى طرح الرسول مسألة الخلافة في بدء الدعوة واستمر بذلك إلى آخر ساعة من عمره الشريف كما ستوافيك نصوصها.

    ثمّ إنّي بعد ما حرّرت ذلك في سالف الأيّام وأوردته في بعض محاضراتي الكلامية (1) وقفت على تقرير للمحقّق الشهيد السيد الصدر المغفور له فقد بيّن متطلّبات الظروف في تقديمه على كتاب تاريخ الشيعة للدكتور عبداللّه فياض بنحو آخر وهو تقرير رصين نقتطف منه ما يلي :

    كان النبي الأكرم يدرك منذ فترة أنّ أجله قد دنى وأعلن ذلك بوضوح في حجّة الوداع ولم يفاجئه الموت مفاجأة ، وهذا يعني أنّه كان يملك فرصة كافية للتفكير في مستقبل الدعوة ، وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أنّه كانت أمام النبي ثلاثة طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة.

    الطريق الأوّل : أن يقف من مستقبل الدعوة موقفاً سلبياً ويكتفي بممارسة دوره في قيادة الاُمّة وتوجيهها فترة حياته ويترك مستقبلها للظروف والصدف ، وهذه السلبية لا يمكن افتراضها في النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لأنّها انّما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه.

________________________________________

1 ـ الإلهيات 2 / 554 ـ 584 ، لولدنا الفاضل الروحاني الشيخ حسن مكّي العاملي ـ حفظه اللّه ـ.

________________________________________

(20)

    1 ـ « الاعتقاد بأنّ هذه السلبية والاهمال لا تؤثّر على مستقبل الدعوة ، وأنّ الاُمّة قادرة على التصرّف بالشكل الذي يحمي الدعوة ، ويضمن عدم الانحراف ».

    وهذا الاعتقاد لا مبرّر له من الواقع اطلاقاً ، لأنّ الدعوة الإسلامية بما أنّها كانت تغييراً انقلابياً في بدايته ، تستهدف بناء اُمّة ، واستئصال كل جذور الجاهلية منها ، تتعرّض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها ، وتركها دون أي تخطيط. فهناك الأخطار تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي تخطيط سابق ، فإنّ الرسول إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة ، فسوف تواجه الاُمّة لأوّل مرّة ، مسؤولية التصرّف بدون قائدها ، تجاه مشاكل الدعوة وهي لا تملك أي مفهوم مسبق بهذا الصدد. وسوف يتطلّب منها الموقف تصرّفاً سريعاً آنيّاً بالرغم من خطورة المشكلة ، لأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر.

    فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبي شيئاً يمكن أن يخفى على أي قائد مُمارس للعمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء.

    2 ـ الذي يمكن أن يفسّر سلبية القائد تجاه مستقبل الدعوة ومسيرها بعد وفاته ، أنّه بالرغم من شعوره بخطر هذه السلبية لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ ذلك الخطر ، لأنّه ينظر إلى الدعوة نظرة مصلحيّة فلا يهمّه إلاّ أن يحافظ عليها مادام حيّاً ليستفيد منها ويستمتع بمكاسبها ولا يعني بحماية مستقبلها بعد وفاته.

    وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي حتّى لولم نلاحظه بوصفه نبيّاً ومرتبطاً باللّه سبحانه وتعالى في كل ما يرتبط بالرسالة ، وافترضناه قائداً رسالياَ كقادة الرسالات الاخرى ، لأنّ تاريخ القادة الرساليين لا يملك نظيراَ للقائد الرسول ، في اخلاصه لدعوته ، وتفانيه فيها ، وتضحيته من أجلها إلى آخر لحظة من حياته ، وكل تاريخه يبرهن على ذلك.

    الطريق الثاني : أن يخطّط الرسول القائد لمستقبل الدعوة بعد وفاته ويتّخذ

(21)

موقفاً إيجابياً فيجعل القيمومة على الدعوة ممثّلة على أساس نظام الشورى الذي يضم مجموع المهاجرين والأنصار ، فهذا الجيل الممثّل للاُمّة هو الذي سيكون قاعدة للحكم ومحوراً لقيادة الدعوة في خط نُمُوّها. وفيما يلي ما يرد تلك الفكرة :

    1 ـ لو كان النبي قد اتّخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً ايجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق بعد وفاته مباشرة ، واسناد زعامة الدعوة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام ، لكان من أبده الأشياء التي يتطلّبها هذا الموقف الايجابي ، أن يقوم الرسول القائد بعملية توعية للاُمّة والدعاة ، على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله واعطائه طابعاً دينياً مقدّساً ، واعداد المجتمع الإسلامي اعداداً فكريّاً وروحيّاً لتقبّل هذا النظام ، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر لم تكن قد عاشت قبل الإسلام وضعاً سياسياً على أساس الشورى وانّما كانت تعيش في الغالب وضع زعامات قبليّة وعشائريّة تتحكّم فيها القوّة والثروة وعامل الوراثة إلى حدّ كبير.

    ونستطيع بسهولة أن نُدرك أنّ النبيّ لم يمارس عمليّة التوعية على نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكرية لأنّ هذه العملية لو كانت قد اُنجزت لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسّد في الأحاديث المأثورة عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، وفي ذهنية الاُمّة وعلى أقل تقدير في ذهنية الجيل الطبيعي منها ، الذي يضمّ المهاجرين والأنصار بوصفه ، وهو المكلّف بتطبيق نظام الشورى ، مع أنّنا لانجد في الأحاديث المأثورة عن النبي أيّ صورة تشريعية محدّدة عن نظام الشورى ، وأمّا ذهنية الاُمّة أو ذهنية الجيل الطبيعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محدّدة لتوعية من ذلك القبيل.

    ثمّ إنّه ( رحمه اللّه ) استشهد بفعل الخليفة الأوّل حيث لم يمارس نظام الشورى في حال حياته وقام بتنصيب عمر مكانه ، كما فعل ذلك أيضاً الخليفة الثاني في نطاق

 

________________________________________

(22)

خاص فجعله محصوراً في ستّة أشخاص ، وسيوافيك تفصيل ذلك في الفصل الثاني.

    الطريق الثالث : وهو الطريق الوحيد الذي بقى منسجماً مع طبيعة الأشياء ومعقولاَ على ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبيّ. وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ايجابياً فيختار بأمر من اللّه سبحانه وتعالى شخصاً يرشّحه عمق وجوده في كيان الدعوة ، فيعدّه اعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً تتمثّل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية ، وليواصل بعده ( بمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار ) ، قيادة الاُمّة وبناءها عقائدياً وتقريبها باستمرار نحو المستوى الذي يؤهّلها لتحمّل المسؤوليات القيادية.

    وهكذا نجد أنّ هذا هو الطريق الوحيد الذي كان بالامكان أن يضمن سلامة مستقبل الدعوة وصيانة الحكم من الانحراف في خط نموّها وهكذا كان (1).

    وعلى ذلك فالقول بالتشيّع عبارة عن القول بوجود ضمان لاستمرار الدعوة بتعيين الوصيّ من جانب الرسول بأمر من اللّه ، وقد عرفت أنّ طبيعة الظروف في عصر الرسول كانت تقتضي ذلك على الوجه الكلّي ، أي كان يتطلّب تعيين القائد وأن لا يترك الأمر إلى الاُمّة ، وعدم اهماله وتركه للصدف ، وستعرف في الفصل الثالث أنّه قد صدّق الخبرُ الخبرَ ، وأنّ الرسول قد قام بتلك الوظيفة التي تضمن استمرار الدعوة وسلك هذا الطريق سلوكاً واضحاً.

    وهناك بيان ثالث يعطي نفس ما أعطاه الوجهان وهو دراسة طبيعة الحكم من زاوية طرؤ الفراغ الهائل بعد رحلة الرسول فيما يمت إلى صلب الدين وهداية الاُمّة إلى الحق والحقيقة :

________________________________________

1 ـ مقدّمة تاريخ الامامية 5 / 16 بتلخيص.

________________________________________

(23)

    لقد درسنا متطلّبات الظروف ومقتضيات عصر النبي في مجال القيادة وإدارة دفّة الحكم ووصلنا إلى أنّ مصالح المسلمين كانت تكمن في تعيين القائد دفعاً للأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين بوفاة النبيّ ، ومفاجأة الاُمّة بفراغ مكانه القيادي.

     ;ويمكن لنا دراسة طبيعة الحكم من زاوية اُخرى وهي ملاحظة الفراغات الهائلة الحاصلة بعد رحلة القائد ، لا من جهة القيادة السياسية والاجتماعية ، بل في جانب حاجة الاُمّة إلى قائد رسالي يسد تلك الفراغات المعنوية فيما يمت إلى صلب الدين وأمر هداية الاُمّة في مجال تفسير الكتاب وشرح مقاصده أوّلاَ ، وتبيين ما لم يبيّنه الرسول في مجال الأحكام ثانياً ، وصيانة الدين الحنيف من محاولات التحريف ثالثاً فالاُمّة تواجه وتفاجئ هذه الفراغات الثلاثة ، فمن الذي يسدّها ، فهل الاُمّة جميعاً أو المهاجرون والأنصار أو أهل الحل والعقد ؟ والجواب : لا ، لأن المفروض ـ كما سيأتي ـ قصورهم عن ملء الفراغ ، فما هو الحل لهذا المشكل ؟ وهذا هو الذي يستهدفه هذا البحث. فنقول :

    إنّ الرسول الأكرم لم تقتصر مسؤولياته علي تلقّي الوحي الإلهي وابلاغ الآيات النازلة عليه بل كانت تتجاوز عن ذلك كثيراً فقد كانت وظائف ثلاث تقع على عاتقه بالاضافة إلى ما يقوم به من سائر الوظائف :

    1 ـ كان النبي الأكرم يفسّر الكتاب العزيز ويشرح مقاصده ويبيّن أهدافه ويكشف رموزه وأسراره.

    2 ـ وكان يبيّن أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع الاسلاميّ عن طريق القرآن الكريم وسنَّته.

    3 ـ وكان يصون الدين من التحريف والدس ، فكان وجوده مدار الحق وتميزه عن الباطل ، وكانت حياته ضماناً لعدم تطرّق الدس والترحيف إلى دينه.

 

________________________________________

(24)

    ولا شك أنّ موت النبيّ وفقدانه سيوجدان فراغات هائلة في المجالات الثلاثة فيجب اعداد قائد له القابلية والصلاحية في سد تلك الفراغات ، ولا يقوم به إلاّ من كان يتمتّع بما كان يتمتّع به الرسول عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي ، فيكون وعاء علم النبي ومخزن أسراره ، ومودع حكمته ، حتّى يقوم بتلك الوظيفة العظيمة.

    ومن الواضح أنّ هذه الكفاءات والمؤهّلات المعنوية لاتحصل لشخص بطريق عادي ولا بالتربية البشرية المتعارفة ، بل لابدّ من إعداد إلهي خاص وتربية إلهية خاصّة هذا من جانب ، ومن جانب آخر لا يمكن للاُمّة أن تتعرّف بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفّر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات بالطرق العادية.

    كل ذلك يثبت نظرية التنصيص وأنّه لا محيص عن تعيين القائد بتنصيص الرسول بأمر من اللّه سبحانه ، أي تنصيب من يتّصف بتلك الكفاءات التي لا يكتسبها إلاّ من تربّى في حضن الرسالة والرسول. وإليك تفاصيل هذه الفراغات ، ونكتفي في كل مورد بموجز القول :

 

    1 ـ القرآن الكريم والابهامات الطارئة :

    إنّ اللّه سبحانه يصف القرآن بأنّه نزل إلى النبيّ ليبيّن للناس ما نزل إليهم فيقول : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للِنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ ) (1) وقال : ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (2) فقد وصف النبي في هاتين الآيتين بأنّه مبيّن بما في الكتاب لا قارئ فقط ، فكم فرق بين أن يقول : « لتقرأ

________________________________________

1 ـ النحل / 44.

2 ـ النحل / 64.

________________________________________

(25)

للناس » وبين : ( لتبيّن لهم ).

    إنّ هذه الآيات تكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى ورغم أنّه منزّه عن مشابهة كتب الألغاز والطلاسم ، يحتاج إلى مبيّن ومفسّر بسببين :

    1 ـ وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

    2 ـ غياب القرائن الحالية التي كانت الآيات محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومة للمخاطبين في ذلك الوقت.

    وقد كان النبيّ بنفسه يقوم بتفسير القرآن الكريم وتبيين مجمله وتقييد مطلقه وما أشبه ذلك. وكانت القرائن الحالية معلومة وواضحة لدى الأصحاب. ولمّا ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى وحصل الفصل الطويل بينه وبين اُمّته ، حدث هناك فراغ هائل في تفسير القرآن فلاترى آية من الآيات إلاّ وفي تفسيرها آراء متضاربة إلى حدّ اختلفوا في تفسير الآيات التي تتعلّق بأعمالهم اليومية :

    1 ـ قال سبحانه في آية الوضوء : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاَيْدِيَكُمْ إِلى المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُسِكُمْ وَاَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبِيْنِ ) (1) وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية وصارت الاُمّة إلى قولين : فمن عاطف لفظ « أَرجلكم » على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح ، ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

    ومن المعلوم أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟

    2 ـ لقد حكم اللّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال :

________________________________________

1 ـ المائدة / 6.

________________________________________

(26)

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (1) وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضعه : فمن قائل إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكف وترك الابهام كما عليه الإمامية ، وجماعة من السلف. ومن قائل إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكف والذراع كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. ومن قائل إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (2).

    3 ـ سئل أبوبكر عن الكلالة في قوله تعالى : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الكَلالَةِ إنِ امْرُؤاٌْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) (3) فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن اللّه وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان ، واللّه ورسوله بريئان ، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر قال : إنّي لأستحيي اللّهَ أن أردّ شيئاً قاله أبوبكر.

    4 ـ أمر اللّه سبحانه الورثة باعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِد مِنْهُمَا السُّدُسُ ) (4) وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه باعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَمْ

________________________________________

1 ـ المائدة / 38.

2 ـ راجع الخلاف للطوسي ( كتاب السرقة ) 184. أحكام القرآن للجصاص 421 : روي عن أبي هريرة انّ رسول اللّه قطع يد سارق من الكوع. ونقل ابن قدامة الخلاف إذا سرق ثانياً : فعن عطاء وربيعة وداود أنّه تقطع يده اليسرى ، وعن الآخرين : تقطع رجله اليسرى. المغني 10 / 264 ـ 265.

3 ـ النساء / 176.

4 ـ النساء / 12.

________________________________________

(27)

يَكُن لَهَا وَلَدٌ فَإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ ) (1).

    فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟ لا شك انّه لم يكن ثمّة ابهام في مورد هاتين الآيتين ، بل حدث الابهام في ذلك فيما بعد.

    ألا يدل هذا على ضرورة من يخلف النبي حتّى يرفع الستار عن وجه الحقّ بما عنده من علوم مستودعة.

 

    2 ـ الرسالة الإسلامية والحوادث المستجدّة :

    إنّ اتّساع رقعة الدولة الإسلامية ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة جعلهم أمام موضوعات مستجدّة ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة ولا معروفة في عهد النبي الأكرم الذي لم تكن فيه الدولة الإسلامية قد توسّعت كما توسّعت بعد وفاته ، والتحاقه بالرفيق الأعلى.

    وكان من الأمر المشكل أن يتحدّث النبي عن أحكام موضوعات لم يعرف المسلمون شيئاً من ماهياتها وتفصيلاتها ، ولم يشاهدوا لها نظيراً في حياتهم ، ولأجل ذلك كانوا يجهلون أحكام الموضوعات المستجدّة من دون أن يجدوا لها حلولا وأجوبة ، هذا من جانب.

    ومن جانب آخر أنّ الأحاديث التي رواها الصحابة والتابعون عن النبي الأكرم في مجال الأحكام لاتتجاوز عن خمسمائة حديث (2) حتّى قال الإمام الرازي : إنّ المنصوص حكمه من الموضوعات قليل جدّاً (3) ولنذكر للموضوع نماذج :

________________________________________

1 ـ النساء / 176.

2 ـ الوحي المحمدي 212 الطبعة السادسة.

3 ـ المنار 5 / 189.

________________________________________

(28)

    1 ـ شغلت مسألة العول بال الصحابة فترة من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول التي واجهها جهاز الحكم ، ويعنى منه قصور التركة عن سهام ذوي الفروض. مثال ذلك : إذا ترك الميّت زوجة وأبوين وبنتين ، ولمّا كان سهم الزوجة ـ حسب نص القرآن ـ الثمن وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثين ، والتركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين ، فلمّا عرضت المسألة على عمر ابن الخطاب قال : واللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه وأيّكم أخّر ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن اُقسّم المال عليكم بالحصص ، وأدخل على كلّ ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة (1).

    رجل طلّق امرأته قبل الإسلام مرّتين وفي الإسلام مرّة فهل تحرم عليه أو لا ؟ فقال عمر بن الخطاب للسائل : لا آمرك ولا أنهاك ، وقال عبدالرحمان بن عمر : ولكنّي آمرك ليس طلاقك قبل الإسلام بشيء (2).

    2 ـ إنّ الجيل المعاصر للرسول لم يكن يملك تصوّرات واضحة محدّدة حتّى في مجال القضايا الدينية التي كان يمارسها النبي مئات المرّات وعلى مرأى ومسمع من الصحابة ونذكر على سبيل المثال لذلك ، الصلاة على الميّت ، فإنّها عبادة ، كان النبي قد مارسها عادة مئات المرّات وأدّاها في مشهد عام من المشيّعين والمصلّين وبالرغم من ذلك يبدو أنّ الصحابة كانوا لا يجدون ضرورة لضبط صورة هذه العبادة مادام النبي يؤدّيها وماداموا يتابعون فيها النبي فصلاً بعد فصل ، ولهذا وقع الاختلاف بينهم بعد وفاة النبي في عدد التكبيرات في صلاة الميّت ، فقد أخرج الطحاوي عن إبراهيم قال : قبض رسول اللّه والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم )

________________________________________

1 ـ أحكام القرآن للجصاص 2 / 109 ، مستدرك الحاكم 4 / 340.

2 ـ كنز العمال 5 / 161.

________________________________________

(29)

يكبّر سبعاً ، وآخر يقول : سمعت رسول اللّه يكبّر خمساً ، وآخر يقول : سمعت رسول اللّه يكبّر أربعاً ، فاختلفوا في ذلك حتّى قبض أبوبكر ، فلمّا ولّى عمر ورأى اختلاف الناس في ذلك شقّ عليه جدّاً فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول اللّه ، فقال : إنّكم معاشر أصحاب رسول اللّه متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه فانظروا أمراً تجتمعون عليه ، فكأنّما أيقظهم ، فقالوا : نعم ما رأيت يا أميرالمؤمنين الخ (1).

    و لأجل هذا القصور ترى أنّ الخلفاء و من بعدهم تمسّكوا بمقاييس لاتمت إلى الكتال و السنّة ، فروى ميمون بن مهران أنّه : إذا ورد الخصم على أبي بكر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول اللّه ، جمع رؤوس الناس و خيراهم فاستشارهم ، و إذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (2).

    فقد لمس الخليفة أنّ الكتاب والسنّة النبوية غير وافيين بالحاجات الفقهية ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

    فهذه تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولا في الكتاب والسنّة أو فيما تلقّوه من النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ولذلك كانوا يحاولون استنباط قواعد ومقاييس لاتستند على أىّ دليل ، فهل يصحّ هذا ؟ مع أنّه سبحانه يصرّح بأنه أكمل دينه ، وأتمّ نعمته فكيف يجتمع هذا الفراغ الفقهي في المسائل المستجدّة مع الإكمال ؟

________________________________________

1 ـ عمدة القارىء 4 / 129 ، ولاحظ مقدمة السيد الصدر على كتاب تاريخ الإمامية ، للدكتور عبداللّه فيّاض.

2 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 3 \ 212 (مادة جهد).

________________________________________

(30)

     3 ـ المسلمون وصيانة الدين من التحريف :

    إنّ أبرز ما كان يتمتّع به المسلمون في عصر الرسول هو صيانة الدين من الدسّ والتحريف وهو الخطر الذي تعرّضت له جميع المذاهب السالفة ، قال سبحانه : ( مِنَ الَّذِيَنَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَللِمَ عَن مَواضِعِه ) (1).

    إنّ الاُمّة الإسلامية قد وصلت عند رحلة الرسول بفضل جهود صاحب الدعوة إلى درجة مرموقة من الوعي حفظت كتابها عن محاولات الزيادة والنقصان ، نرى أنّ الصحابي الجليل أُبي بن كعب له موقف عظيم من عثمان في كيفيّة كتابة آية الكنز أعني قوله : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم ) (2) فإنّ عثمان اراد اثبات الآية في المصحف بلا واو فقال أُبي : « لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي » ، فألحقوها (3).

    ومع هذه المقدرة لم تستطع حفظ مفاهيمه وصيانة دينها عن الدس والتحريف فتفرّقت إلى مشبّهة ، تتخيّل أنّ لربّها أعضاءً كأعضاء الإنسان ، إلى جبري يرى الإنسان مسيّراً لامخيّراً ، ويصوّر بعث الأنبياء أمراً لاجدوى فيه ، إلى مرجئة لا ترى للعمل قيمة وتعطي للإيمان تمام القيمة ، إلى ناصبيّ ينصب العداء للعترة الطاهرة ، إلى إلى ... ، حتّى تفرّقت اُمّة النبي الأكرم كتفرّق الاُمم السالفة ، وهذا دليل واضح على أنّ الاُمّة الإسلامية ما بلغت يومذاك في الكفاءة والمقدرة العلمية إلى المستوى الذي يؤهّلها لحفظ الإسلام أصله ولبّه ، وقد مرّ في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة أنّ الوضّاعين والدجّالين من الأحبار والرهبان ، والمغترّين بهم

________________________________________

1 ـ النساء / 46.

2 ـ التوبة / 34.

3 ـ الدر المنثور 3 / 232.

(31)

دسّوا بين المسلمين أحاديث موضوعة واسرائيليات ومسيحيات ومجوسيات كثيرة ، ولقد عرفت الموضوعات الهائلة في عصر البخاري وشيوخه وتلاميذه ، حتّى انّه أخرج صحيحه من ستمائة ألف حديث (1).

    جاء في مسند أحمد ثلاثون ألف حديث وقد انتخبها من سبعمائة وخمسين ألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (2).

    نحن نفترض أنّ متوسّط عدد الكلمات في الحديث عشرون كلمة فيكون مجموع ما صدر عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عشرين مليون كلمة في هذه الفترة القصيرة أي العشرة أعوام بالاضافة إلى ما كان لديه من أعمال ووظائف ، وحروب وغزوات ، واتفاقيات مع شيوخ القبائل ، وارتياد إلى الأرياف ، وتسيير دفّة الحكم ، فهل كان بإمكانه أن يتكلّم بهذا العدد من الكلمات ، سبحان اللّه ، ما أجرأهم على البهتان! ولو رجعت أنت إلى قائمة الموضوعات والمقلوبات الّتي عرضناها لك في الجزء الأوّل (3) لجزمت بعدم كفاءة الاُمّة لصيانة الدين من الدس والتحريف.

    هذه هي الفراغات الحاصلة بعد وفاة النبي الأكرم ، فمقتضى الحكمة وتجسيد اكمال الدين الذي جاء به الكتاب الكريم في قوله : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) (4) أن تعالج هذه المشاكل أي تفسير الكتاب العزيز برفع الستار والابهامات الطارئة على مفاهيمه ، والإجابة على المسائل المستجدّة ، والدفاع عن حمى الشريعة ولاتحل عقدة المشكلة ولا

________________________________________

1 ـ الهدى الساري ، مقدمة فتح الباري 54.

2 ـ طبقات الذهبي 9 / 17.

3 ـ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة / 74.

4 ـ المائدة / 3.

________________________________________

(32)

تسدّ تلك الفراغات إلاّ بإمام تمتّع بتربية إلهية ، وإعداد غيبي ، ولا تصل إليه الاُمّة إلاّ بتعيين الرسول أو بتعيين من عيّنه كما في الأئمة الباقين ، فعندئذ يتجسّد قوله سبحانه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً ) وإلاّ لبقيت تلك الفراغات الهائلة وجرّت على الاُمّة الويل والويلات كما جرّتها ـ وللأسف ـ لأجل اعراض الاُمّة عن الإمام المنصوب.

    هذا هو الذي نفهمه من معنى الإمام وهو ميزان الحق والباطل وأنّه يرجع إليه في التعرّف على الصحيح والزائف.

    وأمّا إذا كان الرجل على حدّ يقول : ولّيتكم ولست بخيركم فإن استقمت فأعينوني وإن زِغْت فقوّموني فلا يصلح أن يكون إماماً بل يكون مأموماً فتصبح الرعية إماما ، والامام ماموما ، ونعم ما يقول الشاعر الشيعي ابن حماد العبدي :

وقالوا رسول اللّه ما اختار بعدهأقمنا إماماً إن أقام على الهدىفقلنا إذا أنتم إمام إمامكمولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا              إماماً ولكنّا لأنفسنا اخترناأطعنا وإن ضلّ الهداية قوَّمنابحمد من الرحمن تُهْتم وما تُهْنالنا يوم خم ما اعتدينا ولا جُرنا

    وهناك كلمة قيّمة للفيلسوف ابن سينا تشير إلى فائدة تنصيب الإمام فيقول : « ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبي ليس ممّا يتكرّر وجود مثله في كل وقت ، فإنّ المادّة الّتي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً (1) ـ إلى أن قال ـ والاستخلاف بالنص أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب (2) والتشاغب

________________________________________

1 ـ اشارة إلى سدّ الفراغات الحاصلة بعد وفاته.

2 ـ اشارة إلى أنّ مصالح الإسلام تكمن في النص.

________________________________________

(33)

والاختلاف » (1).

    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : انّ مصالح الإسلام والمسلمين كانت تكمن في تعيين الإمام ، لا تفويض الأمر إلى الاُمّة ، وترك الأمر للظروف والصدف لترسيه على أي شاطىء تختاره.

________________________________________

1 ـ الشفاء 2 ( الفن الثالث عشر من الالهيات الفصل الثالث والخامس ) 558 ـ 564 طبع ايران.

________________________________________

(34)

________________________________________

(35)

الفصل الثاني

ماهو المرتكز في أمر القيادة في

ذهن الرسول والاُمّة

 

________________________________________

(36)

________________________________________

(37)

    قد عرفت أنّ مقتضيات الظروف ومتطلّباتها كانت تستدعي تعيين الإمام من جانب الرسول ، كما أنّ كمال الدين في أبعاده الثلاثة المختلفة المذكورة آنفاً تستدعي ذلك أيضاً ، فهلمّ معي ندخل في الموضوع الثاني الذي ألمحنا إليه في بداية البحث ضمن الاُمور الّتي لا مناص للمحقّق إلاّ دراستها ، وهو تبيين المرتكز في الأذهان في أمر الزعامة يوم بعث الرسول وبعده.

    إنّ النصوص التاريخية تشهد بأنّ الرسول الأكرم خيّب آمال الطامحين في تولّي الخلافة من بعده وقال بأنّه بيد اللّه ، يعني لابيدي ولا بيد الناس ، ويكفي في ذلك ما نتلوه :

    1 ـ لمّا عرض الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) نفسه على بني عامر في موسم الحج ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم : « أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ » فقال النبي : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء » (1).

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2 / 424 فلو كان الأمر ملقىً على عاتق الاُمّة فما معنى كون الأمر إلى اللّه ؟

________________________________________

(38)

    ولم يكن ذلك الأمر مختصّاً بالنبي الأكرم ، بل الامعان في تاريخ أصحابه والخلفاء الذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبي يدلّ على أنّهم انتهجوا أيضاً نهج تنصيب الخليفة ، لا تفويض أمره إلى الاُمّة. فلو أغمضنا النظر عن خلافة أبي بكر وما جرى حولها من لغط وشغب ، وضرب وشتم وارعاب وارهاب وغير ذلك من الاُمور الّتي تجعلها بعيدة كل البعد عن الشورى والانتخاب النزيه ، فلنا في انتخاب الخليفتين الآخرين دليل واضح على أنّ المتصوّر من الخلافة عندهم هو تعيين الخليفة شخصاً لا تفويض أمر انتخابه للظروف والاُمّة.

    2 ـ قال ابن قتيبة : دعا أبوبكر عثمان بن عفّان فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا نازحاً عنها و أوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، انّي أستخلف علكيم عمر بن الخطاب ... (1).

    ويظهر من ابن الأثير في كامله أنّه غشي على الخليفة أثناء الاملاء وانّما أكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثم أفاق أبوبكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبوبكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي (2).

    فهل يمكن للخليفة أن يلتفت إلى الخطر الكامن في ترك الاُمّة دون خليفة ، ولا يلتفت إليه النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

    3 ـ وأمّا استخلاف عثمان ، فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّ عمر طلب ستة أشخاص من أصحاب النبي وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيداللّه ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقّاص ،

________________________________________

1 ـ الامامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 18 طبع مصر.

2 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 292 ، الطبقات الكبرى 3 / 200 طبع بيروت.

________________________________________

(39)

وعبدالرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.

    فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، انّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً ، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ، فتشاوروا ثلاثة أيّام فإن جاءكم طلحة إلى ذلك ، وإلاّ فأعزم عليكم باللّه أن لا تتفرّقوا في اليوم الثالث حتّى تستخلفوا (1). حتّى قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... وإن رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس » (2).

    وهناك كلمات صدرت من الصحابة في ثنايا خلافة الخلفاء وبعدهم تعرب عن أنّ الرأي السائد والمرتكز في أذهانهم هو تعيين الخليفة وانّ مسألة نظام الشورى شعار رفعه معاوية مقابل علي ( عليه السلام ) على الرغم من أنّه استخلف عندما مات ، ولم يعتدّ بمنطقه وإنّما جرّده سلاحاً على عليّ ، وإن كنت في ريب من هذا الأمر نتلو عليك كلماتهم الّتي صدرت عفواً وارتجالاً عند موت الخليفة وارتحاله :

    4 ـ نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحسّ بالموت قال لابنه عبداللّه : اذهب إلى عائشة وأقرأها منّي السلام ، واستأذن منها أن اُقبر في بيتها مع رسول اللّه ومع أبي بكر ، فأتاها عبداللّه بن عمر فأعلمها ... فقالت : نعم وكرامة. ثمّ قالت : يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له : لا تدع اُمّة محمّد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم

________________________________________

1 ـ الامامة و السياسة 1 / 23 ـ

2 ـ الكامل لابن الأثير 3 / 35.

________________________________________

(40)

بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة (1) فأتى عبداللّه ( إلى أبيه ) فأعلمه (2).

    5 ـ نقل الحافظ أبو نعيم الاصفهاني المتوفّى عام 430 انّ عبداللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا أنّك غير مستخلف ، وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثم جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد(3).

    6 ـ قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر فأتاه و خلا به فكلّمه بكلام وقال : إنّي كرهت أن أدع اُمّة محمّد بعدي كالضأن لاراعي لها (4).

    هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتّفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدّمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين ، وسيوافيك الكلام في استخلاف الصحابة بعضهم لبعض.

    ولو دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الأصل الذي كان يعتقد به جميع الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة كان هو التنصيص والتعيين وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

________________________________________

1 ـ وهل يمكن أن تلتفت اُمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) !

2 ـ الامامة و السياسة للدينوري 1 / 32.

3 ـ حلية الأولياء 1 / 44.

4 ـ الامامة والسياسة 1 / 168 طبع مصر.

(41)

الفصل الثالث

ماهومقتضى الكتاب والسنّة

في صيغة الخلافة بعد الرسول

 

________________________________________

(42)

________________________________________

(43)

    إنّ مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة القيادة بعد الرسول هوالتخصيص لا التفويض إلى الاُمّة ولا ترك الأمر إلى الظروف والصدف ، فنقدّم الكلام في السنّة فإنّها صريحة في التعيين وأمّا الكتاب فسيأتي البحث عنه.

    فنقول : إنّ سيرة النبيّ الأكرم ونصوصه في موافق مختلفة تثبت بوضوح أنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غرس النواة الاُولى في أمر القيادة منذ أن أصحر بالدعوة وتعاهدها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

    وهذه النصوص من الكثرة والوفرة بحيث إنّه لا يمكن استيعابها ولا ذكر كثير منها ، ويكفينا مؤونة ذلك ، الموسوعات الحديثية في المناقب والفضائل والمؤلّفات الكلامية في أمر الولاية ، ونحن نكتفي بالقليل من الكثير.

 

     1 ـ التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة :

    بُعث الرسول الأكرم لهداية الناس وإخراجهم من الوثنية إلى التوحيد ، ومن الشرّ إلى الخير ، ومن الشقاء إلى السعادة ،وكانت الظروف المحدقة به قاسية جدّاً ، لأنّه بعث في اُمّة عريقة في الوثنية ، ويخاطبهم سبحانه : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً

 

________________________________________

(44)

ما أُنذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) (1) ، فأخذ بالدعوة سرّاً ونشر دينه خفاءً سنوات عديدة إلى أن نزل قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (2) فعند ذلك أمر الرسول علي بن أبي طالب وهوشاب يافع يتراوح عمره بين ( 13 سنة إلى 15 ) أمره رسول اللّه أن يعد طعاماً ولبناً ثمّ دعا ( 45 ) رجلاً من سُراة بني هاشم ووجوههم ، وبعد أن فرغوا من الطعام قال رسول اللّه : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ، واللّه الذي لا إله إلا هوإنّي رسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، واللّه لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، وانّها الجنّة أبداً والنار أبداً ـ ثمّ قال : ـ يا بني عبدالمطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، انّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عزّوجلّ أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

    ولمّا بلغ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إلى هذا الموضع وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم ، قام علي ( عليه السلام ) فجأة وقال : أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه ، فقال له رسول اللّه : اجلس ، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة ، ففي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته ويقوم علي ويعلن استعداده لمؤازرة النبي ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كان في المرّة الثالثة ، أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين وقال : « إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » (3).

________________________________________

1 ـ يس / 6.

2 ـ الشعراء / 214.

3 ـ مسند أحمد 1 / 111 ، تارخ الطبري 2 / 62 ـ 63 ، تاريخ الكامل 2 / 40 ـ 41 ، إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة يقف عليها من سبر كتب السيرة ـ عند سرد حوادث بدء الدعوة ـ وكتب التفسير في تفسير الآية الآنفة في سورة الشعراء.

________________________________________

(45)

    نحن لا نُريد أن نحوم حول الرواية ونعرض عن الإشارة إلى ماجنى عليها بعض المؤرّخين والكتّاب الجدد (1) ولكن نذكر نكتة أنّ النبي أعلن وزيره وخليفته ووصيّه يوم أعلن رسالته وكأنّهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان ، وما القيادة بعد النبي إلا استمرار لوظائف النبوّة ، وإن كانت النبوّة مختومة ولكن الوظائف والمسؤوليات كانتا مستمرّتين.

 

    2 ـ حديث المنزلة :

    روى أصحاب السير والحديث أنّ رسول اللّه خرج إلى عزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي : « أخرج معك » ؟ فقال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « لا » ، فبكى علي فقال له رسول اللّه : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي ، انّه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي » ، أخرجه البخاري في صحيحه (2) والاستثناء يدل على ثبوت ما لهارون من المناصبت لعلي سوى النبوّة سيأتي توضيحه.

    وروى مسلم في صحيحه انّ إمام الفئة الباغية قال لسعد بن أبي وقاص : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : امّا ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول اللّه يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه بعد ما شكى إليه علي بقوله : « يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان » : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه

________________________________________

1 ـ كالدكتور حسنين هيكل في حياة النبي ، لاحظ محاضراتنا في سيرة النبي وقد طبعت باسم ( سيّد المرسلين 1 / 394 ـ 397 ).

2 ـ صحيح البخاري 5 باب فضائل أصحاب النبي باب مناقب علي 24 وغيره.

________________________________________

(46)

لا نبوّة بعدي ».

    وسمعته يقول يوم خيبر : « لاُعطينّ الراية رجلاً يحبّ اللّه ورسول ، ويحبّه اللّه ورسوله » قال : فتطاولنا لها ، فقال : « اعدوا لي عليّاً ، فاُتي به أرمد العين ، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح عليه.

    ولمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وَ أبْناءَكُمْ ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : « اللّهمّ هؤلاء أهلي » (1).

 

    3 ـ حديث الغدير :

    إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كل عصر وجيل ، ولسنا بصدد اثبات تواتره وذكر مصادره فقد قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة ، وانّما الهدف ايقاف القارىء على نصوص الخلافة في حقّ علي حتى يقف على أنّ النبيّ الأعظم هوالباذر الأوّل لبذرة التشيّع والدعوة إلى علي بالامامة والوصاية ، وعلى أنّ مسألة التشيّع قد نشأت قبل رحلته ، ونذكر في المقام ما ذكره ابن حجر وقد اعترف بصحّة سنده ، يقول : إنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) خطب بغدير خم تحت شجرات ، فقال : « أيّها الناس انّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله ، وانّي لأظن أنّي يوشك أن اُدعى فاُجيب وانّي مسؤول وانّكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون ؟ » قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك اللّه خيراً ، فقال : « أليس تشهدون أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ ناره حقّ وأنّ الموت حق وأنّ البعث حق بعد الموت وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم 6 باب فضائل علي 120 ـ 121 طبعة محمّد علي صبيح.

________________________________________

(47)

اللّه يبعث من في القبور ؟ » قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال : « اللّهمّ اشهد » ثمّ قال : « يا أيّها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولا فهذا ـ يعني عليّاً ـ مولاه اللّهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه » ثمّ قال : « يا أيّها الناس انّي فرطكم وانّكم واردون عليّ الحوض ، حوض أعرض ممّا بين بصري إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة » وانّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّوجلّ سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي ، فإنّه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتى يردا عليّ الحوض » (1).

    وأخرجه غير واحد من أئمّة الحديث منهم الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم قال : نزلنا مع رسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بواد يقال له وادي خم ، فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير ، قال : « فخطبنا وظُلِّل لرسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فقال : « ألستم تعلمون ، أولستم تشهدون ، أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه ؟ » قالوا : بلى ، قال : « فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » (2).

    وأخرجه الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن طريق زيد بن أرقم من طريقين صحّحها على شرط الشيخين قال : لمّا رجع رسول اللّه من حجّة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، فقال : « إنّي دعيت فأجبت ، قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه وعترتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ،

________________________________________

1 ـ الصواعق 43 ـ 44 ، وأخرجه عن طريق الطبراني وغيره ، وحكم بصحّته.

2 ـ مسند الامام أحمد 4 / 372 ، وأخرجه الامام أيضاً في مسنده من حديث البراء بن عازب من طريقين ، لاحظ الجزء الرابع الصفحة 281.

________________________________________

(48)

فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ـ ثمّ قال : ـ إنّ اللّه عزّوجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن ـ ثمّ أخذ بيد علي فقال : ـ من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاده ... » (1).

    وأخرجه النسائي في خصائصه عن زيد بن أرقم قال : لمّا رجع النبي من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثمّ قال : « كأنّي دعيت فأجبت ، وانّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه وأهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ـ ثمّ قال : ـ إنّ اللّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن ـ ثمّ أخذ بيد علي فقال : ـ من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » قال أبوالطفيل : فقلت لزيد : سمعته من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ؟ فقال : وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه باُذنه (2).

    إنّ سؤال أبي الطفيل يعرب عن حقيقة مرّة ، وهوأنّه يرى التنافي بين مضمون الحديث وعمل الاُمّة ، فإنّ الحديث نصٌّ على ولايته وخلافته والاُمّة صرفتها عن علي ، فلأجل ذاك عاد يتعجّب ويسأل ، وليس التعجّب مختصّاً به ، فهذا هوالكميت يصرّح به في هاشمياته ويقول :

 

ويوم الدوح دوح غدير خمولكن الرجال تبايعوهاولم أر مثل ذال اليوم يوماً                أبان له الخلافة لواُطيعافلم أر مثلها خطراً مبيعاولم أر مثله حقّاً اُضيعا (3)

________________________________________

1 ـ المستدرك 3 / 109. مع أنّ الذهبي في تعليقته على المستدرك يعلّق على مواضع من تصحيحات الحاكم صرّح في هذا المقام بصحّة الحديث.

2 ـ الخصائص العلوية 21.

3 ـ الهاشميات طبعت غير مرّة وشرحها غير واحد من اُدباء العصر كالرافعي المصريّ ، والاُستاذ محمّد شاكر الخياط وقد دبَّ إليها الدسّ والتحريف ، لاحظ الغدير 2 / 181.

________________________________________

(49)

    ولوأردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته من الصحابة والتابعين والعلماء لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد ، وقد قام بحمد اللّه أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود (1).

    والمهم هودلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعلي بعد الرسول ، ويكفي في ذلك التدبّر في الاُمور التالية :

    1 ـ إنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال في خطبته : « أنا أولى بهم من أنفسهم ـ ثمّ قال : ـ فمن كنت مولاه » وهذا قرينة لفظية على أنّ المراد من المولى هوالأولى ، فالمعنى أنّ اللّه أولى بي من نفسي ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ومن كنت أولى به من نفسه ، فعلي أولى به من نفسه. وهذا هومعنى الولاية الكبرى للإمام.

    2 ـ ذيل الحديث وهوقوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » وفي بعض الطرق « وانصر من نصره واخذل من خذله » فإنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لمّا نصّبه إماماً على الاُمّة بعده ، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال ، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده وفيهم من يحقد عليه ، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء ، فعاد يدعولمن والاه ونصره ، وعلى من عاداه وخذله ، ليتمّ أمر الخلافة ، ولِيُعْلم الناس أنّ موالاته موالاة لله وأنّ عداءه عداؤه ، والحاصل أنّ هذا الدعاء لا يناسب إلا من نصب زعيماً للإمامة والخلافة.

    3 ـ إنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أصدر كلامه بأخذ الشهادة من الحضّار بأن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه ، ثمّ قال : إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا

________________________________________

1 ـ العبقات للسيد مير حامد حسين ( ت 1306 ) ، والغدير للعلامة الفذ عبد الحسين الأميني ( ت 1390 ) ، وكلاهما من حسنات الدهر.

________________________________________

(50)

أولى بهم من أنفسهم ، فقال : « فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ».

    4 ـ إنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ذكر قبل بيان الولاية قوله : « كأنّي دعيت فأجبت » أوما يقرب من ذلك ، وهويعرب أنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لم يبق من عمره إلا قليل يحاذر أن يدركه الأجل ، فأراد سد الفراغ الحاصل بموته ورحلته بتنصيب عليّ إماماً وقائداً من بعده.

    هذه القرائن وغيرها الموجودة في كلامه ، توجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد العظيم ليس إلا إكمال الدين واتمام النعمة من خلال ما أعلن عنه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) انّ علياً قائد وإمام الاُمّة ، ومن أراد التوسع في الاطلاع على هذه القرائن فليرجع إلى الأثر القيّم الغدير(1).

    لا يشك من درس مضمون حديث الغدير وما حوله من القرائن يقف على أنّ المراد منه هونصب علي للامامة والخلافة وهذا هوالذي فهمه الحضّار من المهاجرين والأنصار في ذلك المحفل كما فهمه من بلغه النبأ بعد حين ممّن يُحتجّ بقوله في اللغة ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجال الأدب إلى العصر الحاضر ، وهذا هوحسّان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير وقد استأذن رسوله اللّه أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله :

وقال له قم يا علي فانّني                   رضيتك من بعدي إماماً وهاديا (2)

    حتى أنّ عمروبن العاص الذي لا يخفى عداؤه لعلي على أحد يقول في قصيدته التي أرسلها إلى معاوية شاكياً إيّاه :

وكم قد سمعنا من المصطفى             وصايا مخصّصة في علي

________________________________________

1 ـ الغدير 1 / 370 ، وقد ذكر هناك ما يقرب من عشرين قرينة على ما هوالمراد من الحديث.

2 ـ رواة غير واحد من حفاظ الفريقين لاحظ الغدير 2 / 35 ـ 37.

(51)

وفي يوم خم رقى منبراًفأمنحه إمرة المؤمنينوفي كفّه كفّه معلناًوقال : فمن كنت مولى له                  وبلّغ والصحب لم ترحلمن اللّه مستخلف المنحلينادي بأمر العزيز العليعلي له اليوم نعم الولي (1)

    شبهتان واهيتان :

    وقد توالى فهم الاُدباء والعلماء على ذلك في طيّات القرون عبر النظم والنثر.

    غير أنّ هناك لفيفاً من الناس ممّن يعاند الحقيقة ولا يرضى بقبولها ، أبدى شبهتين ضعيفتين نذكرهما على وجه الإجمال :

 

    الشبهة الاُولى :

    إنّ المولى يراد به معان مختلفة فمنها ، المحبّ والناصر ، فمن أين علم أنّ المراد بها المتولّي والمالك للأمر والأولى بالتصرّف ؟

    يلاحظ عليه : أنّ لفظ المولى ليس له إلاّ معنى واحد وهو: الأولى. قال سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يُؤخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُم النَّارُ هِي مَوْلاكُمْ وَبِئسَ المَصير ) (2) وقد فسّره غير واحد من المفسّرين بأنّ المراد أنّ النار أولى بكم ، غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هوأنّ الاُولى هوالمعنى الوحيد للمولى

________________________________________

1 ـ والقصيدة تربوعلى 66 بيتا ، نقل قسماً منها ابن أبي الحديد في شرحه 10 / 56 ـ 57 ونقلها برمتها الأميني في الغدير 2 / 115 ـ 117.

2 ـ الحديد / 15.

________________________________________

(52)

وانّ كلّما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته ، فقد ذكروا له من المعاني سبعة وعشرين معنى ، خلطوا فيها المتعلّق بالمعنى ، ومورد الاستعمال بالموضوع له ، فقد قيل إنّ من معانيه الرب ، والعم ، والمعتق ، والعبد ، والمالك ، والتابع ، والمحب ، والناصر وكلّها متعلّقات للمعنى ، وليس له إلاّ معنى واحد وهوالجامع لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ بمناسبة.

    1 ـ فالربّ سبحانه هوأولى بخلقه من أي قاهر عليهم ، خلق العالمين كما شاءت حكمته يتصرّف فيه بمشيئته.

    2 ـ والعم أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والعطف عليه وهوالقائم مقام والده الذي كان أولى به.

    3 ـ و« المعتِق » أولى بالتفضّل على من أعتقه ، كما أنّ المعتق أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه.

    4 ـ والمالك أولى بالتصرّف في ماله وكلاءة مماليكه.

    5 ـ والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.

    6 ـ والمحب والناصر أولى بالدفاع عمّن أحبّه أوالتزم بنصرته.

    فإذن ليس للمولى إلاّ معنى واحد ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في الموارد المختلفة.

 

    الشبهة الثانية :

    المراد أنّه أولى بالإمامة مآلاً وإلاّ كان هوالإمام مع وجود النبي ولا تعرض فيه لوقت المآل ، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له ، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمّة

 

________________________________________

(53)

الثلاثة عليه (1).

    وهذه الشبهة من الوهن بمكان ، وذلك لأنّه لا يجتمع مع حكمة المتكلّم وبلاغته ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة ، وهويستلزم أن لا تعم ولايته جميع الناس والحضّار ، فيخرج عن ولايته الخلفاء الثلاثة ، مع أنّ الشيخين ـ حينما سمعا قول رسول اللّه ـ قالا له : بخ بخ لك يا علي ، أمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (2).

 

    حصيلة البحث :

    إنّ من سبر غضون السير والتواريخ يقف على أنّ النبي الأكرم لم يبرح يدعوالناس إلى علي بالتصريح تارة ، والاشارة اُخرى من بدء الدعوة إلى ختامها. فتارة يعرّفة بأنّه خليفته ووصيّه ووزيره ، واُخرى بأنّ منزلته منه منزلة هارون من موسى ، وأنّ له كل المناصب الثابتة لهارون إلاّ منصب واحد وهوالنبوّة ، والدليل على ذلك هوالاستثناء « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » وقد كان هارون وزيراً لموسى وشريكاً له في النبوّة قال سبحانه : ( وَ أَخِى هَارُونُ هُوَ أفْصَحُ مِنِّى لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنا أَنتَُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ ) (3) وقال سبحانه حاكياً عن موسى : ( وَاجْعَل لِى وَزيراً مِنْ أَهْلِى * هَارُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ

________________________________________

1 ـ الصواعق المحرقة 44.

2 ـ مسند أحمد 4 / 281.

3 ـ القصص / 34 ـ 35.

________________________________________

(54)

بِنا بَصيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) (1).

    وثالثة ينصبه قائداً وإماماً في هواء حار وأرض جافة في محتشد عظيم مبتدئاً كلامه بما يرجع إلى اُصول الدين من أخذ الشهادة من الناس على ولاية اللّه وولاية الرسول ثم يأخذ بيد علي وهوعلى المنبر محرّكاً شعور الحاضرين وليشد القلوب نحوعلي ويقول : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ».

    ودلالة هذه الأحاديث على خلافة من عيّنه الرسول على وجه لا ينكره إلاّ مكابر ولا يردّه إلاّ معاند ، وكفانا في الموضوع ما ألّفه أصحابنا حول هذه الأحاديث الثلاثة.

 

    مرجعية أهل البيت الفكرية بعد الرسول :

    دلّت الأحاديث السابقة على أنّ الزعامة السياسية والخلافة بعد الرسول تتمثّل في علي وعترته ، وهناك أحاديث متوفّرة تسوقنا إلى مرجعيتهم الفكرية وأنّهم الأئمة والأوصياء بعد الرسول وأنّه لابدّ للمسلم أن يرجع إليهم في دينه ، ويأخذ عنهم اُصوله وفروعه ، وأنّ النبي الأكرم جعلهم المفزع بعده ، والعترة والكتاب توأمان لايفترقان ، وإليك بعض ما ورد عن الرسول في المقام :

 

    4 ـ حديث الثقلين :

    إنّ النبي الأكرم أيقظ الغافلين وبيّن مرجع الاُمّة بعد رحلته بهتافه الدوي وقال : « يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي

________________________________________

1 ـ طه / 29 ـ 36.

________________________________________

(55)

أهل بيتي » (1).

    وقال : « إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الارض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (2).

    وقال : « إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (3).

    وقال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وأهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (4).

    وقال : « إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّوجلّ وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (5).

    وقال في منصرفه من حجّة الوداع ونزوله غدير خم : « كأنّي دعيت فاجبت ، انّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (6).

________________________________________

1 ـ كنز العمال 1 / 44 ، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.

2 ـ كنز العمال 1 / 44 ، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

3 ـ مسند أحمد 5 / 182 ، 189.

4 ـ المستدرك للحاكم 3 / 148.

5 ـ مسند أحمد 3 / 17 ـ 26 ، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.

6 ـ المستدرك للحاكم 3 / 109 ، أخرجه من حديث زيد بن أرقم.

________________________________________

(56)

    5 ـ حديث السفينة :

    إنّ النبي الأكرم يشبّه أهل بيته بسفينة نوح ويقول : « ألا انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق » (1). وفي حديث آخر يقول : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق ، و انّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له » (2) وفي حديث ثالث : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس » (3).

    ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج اللّه ولفيف من أهل بيته ، وقد فهمه ابن حجر وقال : يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان ، علماؤهم ، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم ، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ، ـ وقال في مقام آخر ـ انّه قيل لرسول اللّه : « ما بقاء الناس بعدهم ؟ » قال : « بقاء الحمار إذا كسر صلبه » (4).

    والمراد من تشبيههم ( عليهم السلام ) بسفينة نوح : أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه واُصوله عن أئمّتهم الميامين نجا من عذاب اللّه ، ومن تخلّف عنهم كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء ، وهذا غرق في الحميم.

    والوجه في تشبيههم بباب حطة هوأنّ اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله ، والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سبباً للمغفرة ، وقد جعل انقياد

________________________________________

1 ـ مستدرك الحاكم بسنده إلى أبي ذر 3 / 151.

2 ـ الأربعون حديثاً للنبهاني 216 ، نقله عن الطبراني في الأوسط.

3 ـ مستدرك الحاكم بسنده إلى ابن عباس 3 / 149.

4 ـ الصواعق لابن حجر ( الباب الحادي عشر ) : 91 ، 142.

________________________________________

(57)

هذه الاُمّة لأهل بيت نبيّها وأتباعهم ، مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سبباً للمغفرة.

    ثمّ إنّ ابن حجر قد أوضح حقيقة التشبيه في كلامه وقال : « ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم ، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعيم ، وهلك في مفاوز الطغيان ـ إلى أن قال : ـ وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ انّ اللّه جعل دخول ذلك الباب الذي هوباب أريحا أوبيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة ، وجعل لهذه الاُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها » (1).

    وفي هذه الأحاديث الخمسة غنى وكفاية لطلاّب الحق.

 

    الائمّة الاثنا عشر في حديث الرسول :

    إنّ هناك روايات تحدّد وتعيّن عدد الأئمّة بعد الرسول ، وإن لم تذكر أسماءهم ، ولكنّها تذكر سماتهم وهذه هي أحاديث الأئمة الاثني عشر رواها أصحاب الصحاح والمسانيد نذكرها إكمالاً للبحث ، وهي على وجه لا ينطبق إلاّ على من عيّنهم الرسول ووصفهم بالخلافة والزعامة ، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة. والإمعان فيها يرشد القارىء إلى الحق ، ويأخذ بيده حتّى يرسي مركبه على شاطىء الأمان والحقيقة.

________________________________________

1 ـ لاحظ الصواعق ( الباب الحادي عشر ) : 91 ، وقد علّق سيّدنا الإمام شرف الدين على كلام ابن حجر وقال : قل لي لماذا لم يأخذ بهدي أئمّتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا شيء من اُصول الفقه وقواعده ، ولا شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب فلماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان ( المراجعات 25 ).

________________________________________

(58)

    ويطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص فإنّها تؤكّد بعضها بعضاً وإليك البيان :

 

    الائمة الاثنا عشر :

    1 ـ روى البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول اللّه يقول : « يكون اثنا عشر أميرا » فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : أنّه قال : « كلّهم من قريش » (1).

    2 ـ روى مسلم عنه أيضاً قال : دخلت مع أبي على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فسمعته يقول : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » قال ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ ، قال فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : « كلّهم من قريش ».

    3 ـ وروى مسلم عنه أيضاً قال : سمعت النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يقول : « لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً » ثمّ تكلّم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بكلمة خفيت عليّ فسألت أبي : ماذا قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ؟فقال : « كلّهم من قريش ».

    4 ـ وروى عنه أيضاً نفس الحديث إلاّ أنّه لم يذكر : « لا يزال أمر الناس ماضياً ».

    5 ـ وروى مسلم عنه أيضاً يقول : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يقول : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : « كلّهم من قريش » (2).

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 9 / 101 ، كتاب الأحكام ، الباب 51 ( باب الاستخلاف ).

2 ـ صحيح مسلم 6 / 3.

________________________________________

(59)

    6 ـ وروى مسلم عنه ايضاً قال : انطلقت إلى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ومعي أبي فسمعته يقول : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة » فقال كلمة صمَّنيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال ؟ ، قال : « كلّهم من قريش ».

    7 ـ وروى مسلم عنه أيضاً قال : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول : « لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » (1).

    8 ـ روى أبوداود عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول اللّه يقول : « لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر » فكبّر الناس وضجّوا ، ثمّ قال كلمة ، خفيت ، قلت لأبي : يا أبه ما قال ؟ قال : « كلّهم من قريش » (2).

    9 ـ روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه : « يكون من بعدي اثنا عشر أميراً » ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الذي يليني ، فقال : قال : « كلّهم من قريش » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن جابر ، ثمّ ذكر طريقاً آخر إلى جابر (3).

    10 ـ روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي يقول : « يكون لهذه الاُمّة اثناعشر خليفة » ورواه عن 34 طريقاً (4).

    11 ـ روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمّي عند النبي فقال : « لا يزال أمر اُمّتي

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم 6 / 3 ـ 4.

2 ـ صحيح أبي داود 2 ، كتاب المهدي 207 ( طبع مصر ) وروى أيضاً نحوه بطريقين آخرين.

3 ـ صحيح الترمذي 2 / 45 ( طبع عام 1342 ).

4 ـ مسند أحمد 5 / 86 ـ 108.

________________________________________

(60)

صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة » ثمّ قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمّي ـ وكان أمامي ـ : ما قال يا عم ؟ قال : قال : « كلّهم من قريش » (1).

    12 ـ وروى أيضاً بسنده عن جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر قال : كنت عند رسول اللّه فسمعته يقول : « لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً حتى يقوم اثناعشر خليفة » و قال كلمة خفيت عليّ و كان أبي أدنى إليه مجلساً منّي فقلت : ما قال ؟ فقال « كلّهم من قريش »(2).

    ونحن نكتفي في حديث « الأئمة الاثنا عشر » بالأحاديث الاثنا عشر ولا نتجاوز عنها تيمّناً وتبرّكاً ، ورواه كثير من أعلام الاُمّة في مجامعهم الحديثية والتاريخية.

    1 ـ رواه أحمد بسنده عن مسروق قال : كنّا جلوساً عند عبداللّه بن مسعود وهويقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبدالرحمان هم سألتم رسول اللّه كم يملك هذه الاُمّة من خليفة ؟ فقال عبداللّه بن مسعود : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثمّ قال : نعم ، ولقد سألنا رسول اللّه فقال : « اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل (3).

    2 ـ رواه الخطيب في تاريخه بسند عن جابر بن سمرة (4).

    3 ـ وقال المتّقي الهندي في منتخب كنز العمّال : يملك هذه الاُمّة اثناعشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل ، وأخرجه عن أحمد والطبراني في المعجم الكبير ، والحاكم في المستدرك (5).

________________________________________

1 ـ المستدرك على الصحيحين ( كتاب معرفة الصحابة ) 3 / 617 ـ 618 ( طبع الهند ).

2 ـ المصدر نفسه.

3 ـ مسند أحمد 1 / 398.

4 ـ تاريخ بفداد 14 / 353 برقم 7673.

5 ـ منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد 5 / 312.

(61)

    4 ـ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود ، انّه سئل كم يملك هذه الاُمّة من خليفة ؟ فقال : سألنا عنها رسول اللّه فقال : « اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل » (1).

    5 ـ قال ابن حجر في الصواعق : أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة انّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : « يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش » (2).

    إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمة بعد النبي الأكرم اثنا عشر ، وقد جاء فيها سماتهم وصفاتهم وعددهم ، غير أنّ المهم هوتعيين مصاديقها والاشارة إلى أعيانها وأشخاصها ، ولا تعلم إلاّ بوجود السمات الواردة في هذه الأحاديث فيهم ، وأمّا السمات الواردة فيها فإليك مختصرها :

    1 ـ لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.

    2 ـ لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً.

    3 ـ لا يزال الدين قائماً.

    4 ـ لا يزال أمر اُمّتي صالحاً.

    5 ـ لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً.

    6 ـ حتّى يمضي فيهم اثنا عشر.

    7 ـ ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.

    8 ـ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل.

    وهذه السمات والخصوصيات لا توجد مجتمعة إلاّ في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين ، وتلك الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرم

________________________________________

1 ـ تاريخ الخلفاء 10.

2 ـ الصواعق 189 ط تخريج عبدالوهاب وعبداللطيف.

________________________________________

(62)

خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، وسيوافيك تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة.

    فالأئمّة الاثناعشر المعروفون بين المسلمين ، أوّلهم علي أميرالمؤمنين ، وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم ، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنّهم هم المثل العليا في سماء الاخلاق وفي القمّة والذروة في العلم والاحاطة بالقرآن والسنّة ، وانّه سبحانه بهم حفظ دينه عن التحريف وبهم اعتزّ الدين.

    وأمّا ما ورد في بعض هذه الطرق : « كلّهم تجتمع عليهم الاُمّة » على فرض الصّحة ، فالمراد تجتمع على الاقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم ، وـ على فرض الابهام ـ لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث.

    هلمّ معي نقرأ ماذا يقول غير الشيعة في حق هذه الأحاديث ، فكيف يفسّرها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرم ؟ وإليك نقل كلامهم :

    1 ـ إنّ قوله اثنا عشر اشارة إلى عدد خلفاء بني اُميّة وأوّل بني اُميّة يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدتهم اثنا عشر ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير لكونهم صحابة ، ولا مروان بن الحكم لكونه صحابياً أولأنّه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبداللّه بن الزبير ، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثم عبدالملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبدالعزيز ثم يزيد بن عبدالملك ثم هشام بن عبدالملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد ، ثم إبراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمّد (1).

________________________________________

1 ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 212 ط دار المعرفة. وفي المصدر : عدتهم ثلاثة عشر.

________________________________________

(63)

    يلاحظ عليه : إذا كان الرسول أراد هذا ولم يكن في مقام مدحهم فأي فائدة في الأخبار بذلك. ثمّ كيف يقول انّها صدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح فيقول : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً » ، أو« أمر اُمّتي صالحاً » والعجب انّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة مع أنّه كيف استتبّت له السلطنة وقد ثار عليه العراق في السنة الاُولى وثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية وكان مجموع أيّامه مؤلّفة من حروب دامية بين قتل ونهب وتدمير.

    2 ـ « إنّ المراد أنّه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي » وهذا من أغرب التفاسير لأنّها ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرم ولأجل تبادر ذلك سأل الناس عبداللّه بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الاُمّة (1).

    3 ـ ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض انّ المراد الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس وهم أبوبكر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية ، ويزيد ، وعبدالملك ، وأولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام ، وعمر بن عبدالعزيز بين سليمان ويزيد ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هوالوليد بن يزيد بن عبدالملك (2).

    ولا يكاد ينقضي تعجّبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرّفان هؤلاء بمن عزّ بهم الإسلام والدين وصار منيعاً وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة ، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة بالمنجنيق

________________________________________

1 ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 213 ومثله ما نقله أيضاً : اثنا عشر خليفة في جميع مدة الاسلام إلى يوم القيامة.

2 ـ المصدر نفسه ولاحظ تاريخ الخلفاء 11.

________________________________________

(64)

وأباح المدينة ثلاثة أيّام بأعراضها وأموالها وأنفسها.

    وهل اعتزّ الإسلام بعبد الملك وكفى في مساويه تنصيبه الحجاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى (1).

    كيف اعتزّ الدين بالوليد بن يزيد بن عبدالملك المنتهك لحرمات اللّه الذي حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فخرج ( فَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيد ) فألقاه ورماه بالسهام وقال :

تهددني بجبّار عنيدإذا ماجئت ربّك يوم حشر            فها أنا ذاك جبّار عنيدفقل يا رب مزّقني الوليد

    ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الذي اسودّت صفحاته بسبب أفعالهم الشنيعة.

    إنّ للكاتب القدير السيد محمّد تقي الحكيم كلاماً في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال : والذي يستفاد من هذه الروايات :

    1 ـ أنّ عدد الاُمراء أوالخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر وكلّهم من قريش.

    2 ـ أنّ هولاء الاُمراء معيّنون بالنص كما هومقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : ( وَلَقَد أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً ) (2).

    3 ـ أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي أوحتّى تقوم الساعة كما هومقتضى رواية مسلم « انّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة » وأصرح من ذلك روايته الاُخرى في نفس الباب : « لا يزال هذا الأمر في قريش

________________________________________

1 ـ تاريخ الخلفاء 250 وغيره.

2 ـ المائدة / 12.

________________________________________

(65)

ما بقى من الناس اثنان ».

    إذا صحّت هذه الاستفاده فهي لا تلتئم إلاّ مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهي منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقاؤهما حتّى يردا عليه الحوض.

    وصحّة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة ـ بالاستحقاق ـ لا بالسلطة الظاهرية لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من اللّه ، وهي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية ، لأنّ هذا النوع من السلطة هوالذي تقتضيه وظيفته كمشرع ، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلّط الآخرين عليهم ، على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لوتخلّينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة أنّ السلطة الظاهرية قد تولاّها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد ، فضلاً عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم ـ أمويين وعباسيين ـ باتّفاق المسلمين.

    ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة فلا يحتمل أن يكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور ، على أنّ جميع رواتها من أهل السنّة ومن الموثوقين لديهم ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التأريخي كان منشؤها عدم تمكّنهم من تكذيبها ، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.

    والسيوطي ـ بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة ـ خرج برأي غريب وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز في بني اُمية وكذلك الظاهر لما اوتيه من العدل ، وبقي الاثنان منتظران ، أحدهما المهدي لأنّه من أهل بيت محمّد ولم يُبيّن

 

________________________________________

(66)

المنتظر الثاني ، ورحم اللّه من قال في السيوطي : انّه حاطب ليل ».

    يستفاد من حديث الثقلين اُمور مهمة لواهتمّت بها الاُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت واستغنت عن غيرهم ، وهاهي :

    1 ـ إنّ اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم إشارة إلى أنّ عندهم علم القرآن وفهمه علماً لائقاً بشأنه.

    2 ـ إنّ التمسّك بالكتاب والعترة يعصم من الضلالة ولا يغني أحدهما عن الآخر.

    3 ـ يحرم التقدّم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم.

    4 ـ إنّ العترة لا تفارق الكتاب ، وانّهما مستمرّان إلى يوم القيامة.

    أفيصحّ بعد هذه التصريحات والاشارات ترك العترة والأخذ بقول غيرهم ؟

 

    مقتضى الكتاب في صيغة القيادة بعد الرسول :

    قد تعرّفت على مقتضى السنّة النبوية في مجال القيادة بعد الرسول ، وكلّها تدل على أنّ الرسول قام بتعيين الوصي بعده ، وعيّن خليفة المسلمين تعييناً شخصياً ، وقد كرّر وأكّد ذلك في مواقف متعدّدة ـ حتّى لا يبقى شكّ ـ وحاول تأكيد الأمر في آخر ساعة من حياته الشريفة عن طريق الكتابة ، ولكن حال بعضهم دون تحقق اُمنية الرسول ، فلم يكتب شيئاً ، وأمرهم بالخروج عن مجلسه ، ونردف ذلك البحث بما وعدناه سابقاً من تبيين مقتضى الكتاب في مسألة الخلافة ، وقد نزلت آيات أوضحها آية الولاية في سورة المائدة ، فنحن نأتي بها مع ما يتقدّمها حتّى تتّضح دلالتها : ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُم أَولِيَاءُ بَعْض وَ مَن يَتَوَلَّهُم مَنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمينَ *

________________________________________

(67)

فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأَتِىَ بِالْفَتْحِ أوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أهَؤلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنيِنَ أَعِزَّة عَلى الكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشآءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ) (1) ، وموضع الاستدلال هوالآيتان الأخيرتان.

    وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها :

    روى المفسّرون عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلا أتى المسجد وهويقول : من يقرض المليّ الوفي ، وعلي راكع يشير بيده للسائل : اخلع الخاتم من يدي. فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل بـ : ( إنَّما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) فأنشأ حسّان بن ثابت يقول :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتيأيذهب مدحي والمحبين ضايعافأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعبخاتمك الميمون يا خير سيّد              وكل بطيء في الهدى ومسارعوما المدح في ذات الإله بضايعفدتك نفوس القوم يا خير راكعويا خير شارٍ ثمّ يا خير بايع

________________________________________

1 ـ المائدة / 51 ـ 56.

________________________________________

(68)

فأنزل فيك اللّه خير ولاية                 وبيّنها في محكمات الشرايع (1)

    وإليك تفصيل الآية حرفياً :

    1 ـ الولي والمولى والأولى بمعنى واحد ، قال رسول اللّه : « أيّما امرأة نكحت بغير اذن وليّها فنكاحها باطل ... » (2) وقال : « يا علي أنت ولي كل مؤمن من بعدي » (3) ولواُطلق على الناصر والمحب فهوكاطلاق المولى عليهما ، وقد عرفت أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهوالأولى ، فلوأُطلق على الناصر والمحب فلأجل أنّ المحب أولى بالدفاع عن محبوبه والتزامه بنصرته ، والصديق أولى بحماية صديقه ، فتفسير الولي بالمحب والناصر والصديق من باب خلط المتعلّق بالمفهوم.

    2 ـ لوكان المراد من الولي هوالناصر وما أشبهه يلزم الاكتفاء بقوله ( إنّما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا ) من دون حاجة إلى التقييد بإيتاء الزكاة حال الركوع.

    3 ـ لوكان الولي بمعنى الناصر أوالمحب يلزم وحدة الولي والمولّى عليه في قوله : ( والذين آمنوا ) وما هذا إلاّ لأنّ كل مؤمن ناصر لأخيه المؤمن ومحبّ له (4). مع أنّ ظاهر الآية أنّ هناك أولياء ثلاثة : 1 ـ اللّه ، 2 ـ رسوله ، 3 ـ المؤمنون بالشروط الثلاثة ، وأنّ هناك مولى عليه ، وهوغير الثلاثة ولا يتحقّق

________________________________________

1 ـ رواه الطبري في تفسيره 6 / 186 والجصاص في أحكام القرآن 2 / 446 والسيوطي في الدر المنثور 2 / 293 وغيرهم.

2 ـ مسند أحمد 6 / 66 روتها عائشة عن النبي الأكرم.

3 ـ مسند أحمد 4 / 437 ، مستدرك الحاكم 3 / 111.

4 ـ اللّهمّ أن يقول القائل انّ المؤمنين الموصوفين بالأوصاف الثلاثة أولياء المؤمنين غير الموصوفين بها وهوكماترى تفسير ساقط.

________________________________________

(69)

ذلك المعنى إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شؤون المولّى عليه ، فهؤلاء الثلاثة أولياء وغيرهم مولّى عليهم.

    4 ـ فإذا كانت الحال كذلك فلماذا أفرد الولي ولم يجمعه ؟ والجواب عنه واضح ، وهوأنّه أفرده لإفادة أنّ الولاية للّه على طريق الأصالة وللرسول والمؤمنين على سبيل التبع ، ولوقيل إنّما أولياؤكم اللّه ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع.

    5 ـ إنّ قوله ( الذين يقيمون ) بدل من ( الذين آمنوا ) كما أنّ الواوفي قوله ( وهم راكعون ) للحال ، وهوحال من قوله ( يؤتون الزكاة ) معنى ذلك انّهم يؤتونها حال ركوعهم في الصلاة.

    6 ـ إذا كان المراد من قوله : ( الذين آمنوا ) هوالإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فلماذا جيئ بلفظ الجماعة ؟ والجواب : جيئ بها ليرغّب الناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقّد الفقراء حتّى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروا إلى الفراغ منها (1).

    وهناك وجه آخر ، وهوأنّه أتى بلفظ الجمع دون المفرد لأجل أنّ شانئي علي وأعداء بني هاشم ، وسائر المنافقين من أهل الحسد والحقد ، لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد ، إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في تمويهٍ ، ولا ملتمس في التضليل ، فيكون منهم ـ بسبب يأسهم ـ حينئذ ما تُخشى عواقبه على الإسلام ، فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتّقاء من معرّتهم ، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعدّدة وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجاً تدريجاً

________________________________________

1 ـ الكشاف 1 / 468 طبع مصر الحلبي.

________________________________________

(70)

حتّى أكمل اللّه الدين وأتمّ النعمة ، جرياً منه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم (1).

    وهناك وجه ثالث أشار إليه الشيخ الطبرسي في تفسير الآية ، وهوأنّ النكتة في اطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين ، تفخيمه وتعظيمه ، وذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه (2).

    7 ـ إنّما ذكر من صفات الولي من الذين آمنوا إقامة الصلاة ، وايتاء الزكاة ، لأنّهما ركنان عظيمان للإسلام ووظيفتان رئيسيتان للقائد ، وهوأن يقيم الصلاة ( لا أن يصلّي وحده ) ويؤتي الزكاة.

    وعلى كل تقدير فتقييد الولي من المؤمنين بالاُوصاف الثلاثة ، وتقييد إيتاء الزكاة بحال الركوع يجعل الكلّي مخصّصاً في فرد واحد ، وهومثل قولك : « رأيت رجلاً سلّم عليّ أمس قبل كل أحد » وهووإن كان كلّياً قابلاً للانطباق على كثيرين قبل التطبيق ، لكنّه بعده ينحصر في فرد.

    ثمّ إنّ إمام المشكّكين فخر الدين الرازي استشكل على الاستدلال بالآية بوجوه رديئة ساقطة نذكر بعضها ونترك الباقي صيانة للوقت عن الضياع ، ولعلّه لأجل هذه التشكيكات لمّا دنا أجله أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الاصفهاني وصيّة في الحادي والعشرين من محرّم سنة 606 ، وجاء في الوصيّة قوله : فاعلموا أنّي كنت رجلا محبّاً للعلم ، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً لا أقف على كمّيته وكيفيته ،

________________________________________

1 ـ المراجعات 146.

2 ـ مجمع البيان 2 / 211.

(71)

سواء أكان حقّاً أو باطلا أو غثّاً أو سميناً ... (1).

    ألف ـ إنّ المراد من الولي في الآية ليس هو المتصرّف ، بل المراد الناصر والمحب ، بشهادة ما قبلها وما بعدها ، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنّه تعالى قال :(إنما وليّكم اللّه ورسوله والذّينَ آمنوا) وأما بعد هذه الآية فلقوله : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) وليس المراد لاتتّخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرّفين في أرواحكم وأموالكم ، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم. بل المراد لا تتّخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ، ثمّ لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذوُا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) ـ المائدة/57 ـ (2).

    حاصل التشكيك هو أنّ الولي في الآية المتقدّمة والمتأخّرة بمعنى المحب والناصر فلو فسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك.

    والجواب أنّ الولي في الآية المتقدّمة عليها والمتأخّرة عنها ، وفي نفسها بمعنى واحد ليس له في جميع المقامات إلاّ معنى واحد وهو الأولى ، غير أنّه يختلف متعلّق الولاية جوهراً أوّلا وسعة وضيقاً ثانياً ، حسب اختلاف موصوفها ومن قامت به الولاية. فلو كان الولي هو اللّه والرسول فيكون متعلّق الولاية هو النفس والنفيس ، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فكيف بأموالهم ، فهما أولى بالتصرّف في كل مايمت إلى المؤمنين.

    ولو كان الولي من الأب والجد ، يكون المتعلّق شؤون الصغير ومصالحه ،

________________________________________

1 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 4 / 148.

2 ـ مفاتيح الغيب 12 / 28.

________________________________________

(72)

من حفظ نفسه وعرضه وماله. فيكون أولى بالتصرّف من الصغير في أمواله وشؤونه ، ومنها تزويجه بالغير.

    ولو كان الموصوف رئيس القبيلة ، حيث كان الرائج في عهد الجاهلية ، عقد ولاء الدفاع بين القبيلتين ، فيكون هو أولى بالدفاع عن المنتمي في النوائب والنوازل ، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة حسب الموصوف.

    وبذلك يظهر أنّ المراد من الأولياء في قوله ( لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) هو الأولى لما ستعرف من أنّها نزلت في حق ( عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبيّ ) واليهود ، وكان بينهما وبين اليهود عقد ولاء الدفاع فكان كل من الطرفين وليّاً للآخر ، أي أولى بالدفاع والذب عن المولى عليه من غيره. قال المفسّرون : نزلت في حق عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبي بعد غزوة بدر ، حيث لمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : آمنوا قبل أن يُصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر ، فقال مالك بن ضيف ( اليهودي ) : أغرّكم أن اصبتم رهطاً من قريش لاعلم لهم بالقتال ، أما لو أمرونا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يدان لقتالنا ، فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه إنّ لي أولياء من اليهود ، كثير عددهم قويّة أنفسهم ، شديدة شوكتهم ، وانّي أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلاّ اللّه ورسوله. فقال عبداللّه بن اُبي : لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأنّي أخاف الدوائر فلابد لي منهم. فقال رسول اللّه : « يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه » قال : اذن اقبل ، وأنزل اللّه الآية (1).

    فقد اتّخذ الرجلان اليهود أولياء ليتفرّع عليه النصرة والذبّ كما أنّه سبحانه

________________________________________

1 ـ مجمع البيان 2 / 206 وغيره.

________________________________________

(73)

جعل الأب والجد أولياء ليتفرّع عليه حفظ شؤون المولى عليه ، وعلى ضوء ذلك فالولي في جميع المقامات بمعنى واحد ، والاختلاف انّما هو فيما يتفرّع على الولاية ، لا أنّه تارة بمعنى الأولى وثانياً بمعنى الناصر وثالثاً بمعنى المحب.

    ب ـ والّذي يرشدك على أنّ الولي في قوله سبحانه : ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتََّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) ليس بمعنى الحب والمحبّة كما احتمله الرازي ، انّه ورد نظير هذا النص في قوله سبحانه : ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) وليس الولي بمعنى المحبوب. وذلك لأنّ حب الآباء والاخوان أمر فطري ، فطرالناس عليه من غير فرق بين الكافر والمسلم ، ولو كان المراد من التولّي هو الحب يلزم النهي عن أمر جبلّيّ ولأجل ذلك لا محيص عن تفسيره باتخاذهم أولياء على غرار اتخاذ الرسول والإمام أولياء ، بأن تكون ولايتهم على أعناق المؤمنين ، كما أنّه ليس أيضاً بمعنى النصرة لجواز طلب النصرة من الكافر وهذا هو القرآن يجعل شيئاً من الزكاة للمؤلّفة قلوبهم.

    ج ـ إنّ قوله ( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم ) يحكي عن أنّ التولّي على وجه يلحق المتولّي باليهود والنصارى ، وهو لا ينطبق على مجرّد الحب وطلب النصرة والحبّ لا لأجل كونهم كافرين ، بل لأسباب اُخرى من حسن الجوار وغيره.

    د ـ إنّه سبحانه يندّد ببعض المؤمنين بقوله : ( يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه ... ) وهذا يعرب عن أنّ التولّي كان على وجه ينتهي إلى ارتداد المتولّي.

________________________________________

1 ـ التوبة / 23.

________________________________________

(74)

    أفبعد هذه القرائن يصح للرازي أن يفسّر التولّي في هذه الآيات بالحب والنصرة. على أنّ تفسير ولاية اللّه والرسول بالحبّ والنصرة تفسير بأمر واضح لا يحتاج إلى زيادة تأكيد.

    هذه هي الشبهة المهمّة في كلامه ، وأمّا باقي الشبهات ، فليس بشيء ذي بال.

    مثلا يقول : لو نزلت الآية في حق علي ، يجب أن يكون نافذ التصرّف حال حياة الرسول ، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال (1).

    والجواب : انّ هذا المقام كان ثابتاً لعلي كثبوته للّه سبحانه والرسول ، غير أنّه لا يقوم بتطبيقه على صعيد الحياة إلاّ عند الحاجة ، وهو عند ارتحال الرسول ومفارقته الاُمّة ، وهذا هو المفهوم من تعيين ولي العهد عند الاُمم.

    وأنت إذا قارنت الآية وما ورد حولها من شأن النزول ، وما نزل في حق علي من الآيات التي تعرّف طهارته من الذنب (2) ، وكون حبّه ومودّتهم أجراً للرسالة (3) ، وانّه نفس النبي الأكرم (4) ، وانّ بيته من أفضل البيوت التي قال في حقّها سبحانه : ( فِي بُيُوتٍ أِذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ ) ـ النور / 36 ـ (5) لوقفت على أنّ الذكر الحكيم يواكب السنّة في تعيين مصير الاُمّة الإسلامية في مجال القيادة

________________________________________

1 ـ مفاتيح الغيب 12 / 28.

2 ـ اشاره إلى نزول قوله سبحانه : ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) في حق علي وأهل بيته ـ الأحزاب / 33 ـ.

3 ـ اشاره إلى قوله سبحانه : ( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة فى القربى ) ـ الشورى / 23 ـ.

4 ـ إشاره إلى قوله سبحانه في أمر المباهلة مع نصارى نجران : ( فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) ـ آل عمران / 61 ـ.

5 ـ إشاره الى ما رواه السيوطي في الدر المنثور من قول أبي بكر للنبىّ بعد نزول الآية : قال يا رسول اللّه أهذا البيت منها ـ أي بيت علي وفاطمة ـ ؟ قال : هم من أفاضلها 5 / 50.

________________________________________

(75)

والخلافة وأنّه سبحانه ألقى مقاليد الزعامة إلى الإمام أميرالمؤمنين ، وبذلك أخرج الاُمّة من التنازع والاحتكاك بعد الرسول الأعظم.

    ونحن نكتفي من البرهنة على خلافة الإمام بهذه الآية ، وهناك آيات استدلّ بها الأصحاب على ولاية الإمام ، ونفي ولاية الغير ، أوضحنا مداليلها في مؤلفاتنا الكلامية ، فمن أراد فليرجع (1).

________________________________________

1 ـ الإلهيات 2 / 618 ـ 632.

________________________________________

(76)

________________________________________

(77)

الفصل الرابع

ما هو السرّ

في مخالفة الجمهور نص الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم )

 

________________________________________

(78)

________________________________________

(79)

    لقد ظهرت الحقيقة بأجلى صورها وثبت أنّ الرسول لم يرحل عن أُمّته إلاّ بعد أن نصّب علياً للخلافة والقيادة ، ولكن هناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه لو كان الحق كما نطقت به النصوص كتاباً وسنّة ، فلماذا أعرض الجمهور عن ما اُمروا أن يتمسّكوا به ؟ وهذه هي الشبهة المهمّة في الباب وهذا هو السؤال الذي ترك العقول متحيرة تبحث عن جواب مقنع ، وقد اعتمد على ذلك بعض المنصفين من أهل السنّة في ردّه لمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقال : اُنظر إلى جمهور أهل القبلة والسواد الأعظم من ممثّلي هذه الملّة فإذا هم مع أهل البيت على خلاف ما توجبه ظواهر تلك الأدلّة ، فانا اُؤامر منّي نفسين ، نفساً تنزع إلى متابعة الأدلّة واُخرى تفزع إلى الأكثرية من أهل القبلة (1).

    والاجابة عن الشبهة سهلة لمن راجع التاريخ وسيرة الصحابة في عصر الرسول وبعده. فإنّ القرآن الكريم رغم أمره باتباع الرسول وعدم التقدّم عليه (2) ، ورغم أمره

________________________________________

1 ـ من كلام شيخ الأزهر الشيخ سيلم البشري في رسالته إلى السيد شرف الدين ، لاحظ المراجعات ص 25 ، رقم المراجعة 11.

2 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ـ الحجرات / 1 ـ.

________________________________________

(80)

بالتسليم له وأنّ الايمان رهنه (1) ، ورغم أنّه يندّد ببعض المسلمين الذين كانوا يتمنّون طاعة الرسول لهم في بعض المواقف وقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِِ لَعَنِتُّمْ ) (2). رغم كل ذلك نشاهد رجالاًٍ يقفون أمام النبي في غير واحد من المواقف ويخالفونه بعنف وقوّة ويقدّمون الاجتهاد والمصالح الشخصية على أوامر الرسول في مواطن كثيرة ، وإليك نزراً يسيراً منها وبالالمام بها تسهل عليك الاجابة عن السرّ في مخالفة عدّة من الأصحاب لأمر النبي في مسألة الوصاية والقيادة :

 

    1 ـ اختلافهم مع النبي في الأنفال والاُسرى :

    انتصر المسلمون في غزوة بدر وجمع غير واحد من المسلمين ما في معسكر العدو فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين يقاتلون العدوّ ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الذين يحرسون رسول اللّه : ما أنتم بأحقّ به منّا واللّه لقد رأينا أن نقتل العدوّ إن منحنا اللّه أكتافهم ، و قد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه فخفنا على رسول اللّه كرّة العدوّ فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منّا. فنزل قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للّهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِِن كُنتُم مُؤمِنينَ ) ـ الأنفال / 1 ـ (3).

    وأمّا اختلافهم في الأسرى فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أنْ

________________________________________

1 ـ ( فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوْا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ـ النساء / 65 ـ.

2 ـ الحجرات / 7.

3 ـ السيرة النبوية لابن هشام 1 / 641 ـ 662.

(81)

يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللّهُ عِزِيزٌ حَكِيمٌ * لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظيمٌ ) (1). نحن نضرب الصفح عمّا ذكره المفسّرون حول الآية من القصص غير أنّ قوله سبحانه ( لولا كتاب ... ) يعرب عن أنّهم اختلفوا إلى حدّ كانوا مستحقّين لنزول العذاب لولا سبق كتاب من اللّه ، ومن الجرأة ما يظهر عن بعض المفسّرين (2) من أنّ العتاب يعم النبي أيضاً مع أنّ نبيّ العظمة أجلّ من أن يشاركهم في العتاب فضلاًً عن العقاب وحاشا ساحة الحق أن يهدّد نبيّه بعذاب عظيم وقد عصمه من المعاصي ، والعذاب العظيم لا ينزل إلاّ على عمل اجرامي كبير ، ونحن لا نفسّر الآية ولا نريد أن نخوض في خصوصيّات القصة ويكفينا أنّها تكشف عن تباعد المؤمنين عن النبىّ في مسألة الأسرى إلى حدّ استحقّوا هذا التنديد.

 

    2 ـ مخالفتهم الأمر الرسول في اُحد :

    ورد رسول اللّه اُحد حين بلغه أنّ أباسفيان يريد شنّ هجوم على المدينة ، واستقبل الرسول المدينة وجعل جبل عينين عن يساره ، ونصب خمسين رجلاً نبّالاً على جبل عينين وأمَّر عليهم عبداللّه بن جبير وقال له : « انضح الخيل عنّا بالنبل ، لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك لا تؤتين من قبلك ».

    ولمّا صار الانتصار حليف المسلمين وأخذ العدو بالانسحاب عن ساحة القتال مولّياً نحو مكّة ، خالف الرماة أمر الرسول وأخلوا مكانهم طمعاً في الغنائم ، فكلّما نصحهم أميرهم بالبقاء وعدم ترك العينين خالفوه.

________________________________________

1 ـ الأنفال / 67 ـ 68.

2 ـ لاحظ الأقوال في الميزان 9 / 137.

________________________________________

(82)

    ولمّا رأى العدو المنهزم أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة ، وكان جبل العينين يقع على ضفتين يتخلّلهما معبر ، فاستغل العدو الفرصة فأدار خالد بن الوليد من معه من وراء المسلمين ، فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة منهم ، فوضع السيوف فيهم فقتل منهم لفيفاً إلى أن تحوّل النصر إلى هزيمة ، وكان ذلك نتيجة مخالفة المسلمين لوصيّة الرسول ، وتقديماً للاجتهاد على النص ، والرأي الخاطئ على الدليل ، وكم له من نظير في حياة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وبعد وفاته.

 

    3 ـ مخالفتهم في صلح الحديبية :

    دخلت السنة الثالثة للهجرة واشتاق النبي إلى زيارة بيت اللّه فأعدّ العدّة للعمرة ومعه جمع من أصحابه وليس معهم من السلاح إلاّ سلاح المسافر فلمّا وصلوا إلى أرض الحديبية ، منعوا من مواصلة السير ، فبعد تبادل الرسل بينه وبين رؤساء قريش اصطلحوا على وثيقة ذكرها أصحاب السيرة في كتبهم. فكانت نتيجة تلك الوثيقة رجوع النبي إلى المدينة ومجيئه في العام القابل للزيارة ، وقد ذكر فيها شروط للصلح أثارت حفيظة بعض المسلمين ، حتّى أنّ عمر بن الخطاب وثب فأتى أبابكر فقال : « أليس برسول اللّه ؟ قال : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ، قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ، قال : فعلان نعطى الدنيّة في ديننا » (1).

    فقد زعم الرجل أنّ البنود الواردة في صلح النبي تعني اعطاء الدنية في الدين ، حتّى أنّ النبي أخبرهم حين الشخوص من المدينة أنّ اللّه سبحانه أراه في المنام أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فلمّا انصرفوا ولم يدخلوا مكّة ، قالوا : ما حلقنا ولا

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2 / 316 ـ 317.

________________________________________

(83)

قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه سبحانه قوله : ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الَحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنينن ) (1).

    ولو أراد المتتبّع أن يتعمّق في السيرو التفاسير يجد أنّ مخالفة القوم للرسول لم تكن مختصّة بموضوع دون موضوع ، فكان تقديم الاجتهاد على النص شيئاً رائجاً عندهم ولنكتف في المقام بالمخالفتين الأخيرتين أيّام مرض وفاته.

 

    4 ـ مخالفتهم في تجهيز جيش اُسامة :

    اتّفق المؤرّخون على أنّ النبي الأكرم أمر بتجهيز جيش اُسامة فقال : « جهّزوا جيش اُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه » فقال قوم : « يجب علينا امتثال أمره » واُسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : « قد اشتدّ مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه ، فنصبر حتّى ننظر أي شيء يكون من أمره » (2).

    هذا ما يذكره الشهرستاني ملخّصاً ، وذكره المؤرّخون على وجه التفصيل ، فقال الطبري في أحداث سنة احدى عشرة : « وضرب على الناس بعثاً وأمّر عليهم اُسامة بن زيد ، وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشام الأرض بالأردن ، فقال المنافقون في ذلك ، وردّ عليهم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إنّه لخليق لها أي حقيق بالامارة وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل ، وإن كان لخليقاً لها » فطار الأخبار بتحلل السير بالنبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (3).

    ويقول أيضاً : « لقد ضرب بعث اُسامة ، فلم يستتبّ لوجع رسول اللّه وقد أكثر

________________________________________

1 ـ الفتح / 27.

2 ـ الملل والنحل للشهرستاني 1 / 29 ـ 30 ( تحقيق محمّد بن فتح اللّه بدران ).

3 ـ تاريخ الطبري 2 / 429.

________________________________________

(84)

المنافقون في تأمير اُسامة ، فخرج النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك وقال : « وقد بلغني أنّ أقواماً يقولون في أمارة أُسامة ، ولعمري لئن قالوا في أمارته لقد قالوا في أمارة أبيه من قبله ، وإن كان أبوه لخليقاً للامارة وانّه لخليق لها بعد اُسامة » وقال : « لعن اللّه الذين يتّخذون قبور أنبيائهم مساجد » (1) فضرب بالجرف وأنشأ الناس في العسكر ، ونجم طليحة وتمهّل الناس وثقل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فلم يستتم الأمر ينظرون أوّلهم آخرهم حتّى توفّى اللّه نبيّه » (2).

    وقد ذكر القصة ابن سعد في طبقاته (3) ، والحلبي في سيرته (4) ، ومن أراد التوسّع فليرجع إليهما.

 

    5 ـ مخالفتهم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في احضار القلم والدواة :

    عن ابن عباس قال : « لمّا اشتدّ بالنبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وجعه ، قال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده » قال عمر : إنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع » فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وبين كتابه (5).

________________________________________

1 ـ لا يخفى أنّه لاصلة لهذه الجملة لما قبل القصة وما بعده ولعلّه تحريف لما نقلناه عن الشهرستاني من أنه لعن المتخلّفين فبدّله الراوي بهذا.

2 ـ تاريخ الطبري 2 / 430.

3 ـ الطبقات 2 / 189 ـ 190.

4 ـ السيرة 3 / 227 ـ 228.

5 ـ صحيح البخاري 1 باب كتابة العلم 30 ، الطبقات الكبرى 2 / 242 وجاء فيه : فقال بعض من كان عنده انّ نبي اللّه ليهجر.

________________________________________

(85)

    إنّ الراوي نقل الرواية بالمعنى كي يخفف من شدة الصدمة التي تحصل فيما لو نقل الرواية بألفاظها والشاهد على ما نقول أنّ البخاري نفسه روى الرواية بشكل آخر أيضاً ، فروى عن ابن عباس إنّه كان يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ثمّ بكى حتّى بلّ دمعه الحصى قلت : ياابن عباس ما يوم الخميس ؟ قال : اشتدّ برسول اللّه وجعه فقال : « ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً » فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما له ؟ أهجر ، استفهموه ، فقال : « ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه » فأمرهم بثلاث قال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم » والثالثة خير إمّا أن سكت عنها وإمّا أن قالها فنسيتها » (1).

    ولعلّ الثالثة التي نسيها الراوي هو الذي كان أراد النبي أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال ولكن ذكره شفاهاً عوض كتابته ، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى ادّعاء نسيانه.

    ولعلّ النبي أراد أن يكتب في مرضه تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين وتشهد بذلك وحدة لفظهما ، حيث جاء في الثاني : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي ».

    وقد فهم الخليفة ما يريده رسول الإسلام وحدّث به بعد مدة من الزمن لابن عباس فقال له يوماً : يا عبداللّه إنّ عليك دماء البدن إن كتمتها ، هل بقي في نفس علي شيء من الخلافة ؟ قال ابن عباس : قلت : نعم ، قال : أو يزعم أنّ رسول اللّه نصّ عليه ؟ قلت : نعم ، فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه في أمره ذروة من قول لا تثبت حجّة ، ولا تقطع عذراً ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 4 باب اخراج اليهود من جزيرة العرب 99.

________________________________________

(86)

فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام ، فعلم رسول اللّه انّي علمت ما في نفسه فأمسك (1).

    والعجب أنّ أحمد أمين مع ما يكن على الشيعة من عداء وقسوه يعترف بما ذكرنا بصراحة.

    أراد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في مرضه الذي مات فيه أن يعيّن من يلي الأمر بعده ففي الصححين : البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه لمّا اصفرّ قال : هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال عمر : إنّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع(2) وعندكم القرآن. حسبنا كتاب اللّه فاختلف القوم واختصموا فمنهم من قال : قرّبوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من قال القول ما قاله عمر فلمّا أكثروا اللغو (3) والاختلاف عنده ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : قوموا فقاموا. وترك الأمر خصوصاً لمن جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة حتّى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين (4).

    هذه نماذج من مخالفة القوم لصريح النصوص الصادرة عن النبي الأكرم ، وكل ذلك يعرب عن فقدانهم روح التسليم للنبي ولأحكامه ، فلم يكونوا ملتزمين بما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم من النصوص ، نعم ، ربّما يوجد بينهم من كان أطوع

________________________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة 3 / 17 ، وكأنَّ الرجل كان أشفق على الإسلام من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

2 ـ وفي موضع آخر في صحيح البخاري : أنّه قال « إنّ الرجل ليهجر ».

3 ـ والصحيح : اللغط.

4 ـ أحمد أمين يوم الإسلام : 41.

________________________________________

(87)

للنبي من الظل لذي الظل ، ولكن المتنفّذين لم يكونوا متعبّدين بالنصوص فضلاًً عن تعبّدهم بالاشارات والرموز ، وربّما كانوا يقابلون النبي بكلمات عنيفة يقابل بها من هو أقل منه شأناً.

    وياليت انّهم اكتفوا في مجال المخالفة للنصوص أثناء حياته ، ولكنّهم خالفوها بعد وفاته أكثر ممّا خالفوها أيّام حياته ، يقف على ذلك من سبر التاريخ وسيرة الخلفاء في غير واحد من المجالات.

    ولقد حاول الشهرستاني في ملله ونحله (1) ، والسيد الشريف في شرح المواقف (2) تحديد بدء الخلاف بين المسلمين بأيّام مرض النبي عندما كان طريح فراشه. ولكن ذلك التحديد من حسن ظنّهما بالصحابة وأنّهم كلّهم عدول ، غير أنّك عرفت أنّ تاريخ الخلاف يرجع إلى بدايات الهجرة ، وقد اكتفينا بموارد خمسة وضربنا الصفح عن ذكر موارد اُخرى.

    هذا كلّه يرجع إلى مخالفتهم الرسول فيما يأمر وينهى أيّام حياته ، وأمّا مخالفتهم لنصوص الرسول بعد رحلته فحدّث عنها ولا حرج.

 

    1 ـ التصرّف في أذان الفجر :

    أخرج الإمام مالك في موطئه : انّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح ، فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

    وقال الزرقاني في تعليقته على هذه الكلمة من شرحه للموطأ ما هذا لفظه : هذا

________________________________________

1 ـ الملل و النحل 1 / 29 ، ولاحظ التبصير في الدين للاسفرائيني 19.

2 ـ شرح المواقف 8 / 372.

________________________________________

(88)

البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنّفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنّه قال لمؤذّنه : إذا بلغت حيّ على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم (1).

 

    2 ـ الحيلولة بين فاطمة وميراثها :

    استفاضت الآيات باطلاقاتها تارة ونصوصها تارة اُخرى على أنّ أولاد الأنبياء يرثون آباءهم كسائر الناس أمّا الاطلاقات فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِى أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ ) (2) وأمّا النصوص فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُدَ ) (3) وقال سبحانه ناقلا عن زكريا : ( فَهَبْ لِى مِن لَدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (4).

    إنّ طلب زكريا من اللّه سبحانه أن يهبه ولداً وأن يجعله رضيّاً لأوضح دليل على أنّ المراد من الوراثة ، الوراثة في المال لا النبوّة ، لبداهة أنّ الانسان لا يكون نبيّاً إلاّ أن يكون رضيّاً ، على أنّ لفظ الوراثة وما يشتق منه ظاهر في الوراثة في المال ولا يستعمل في غيره إلاّ توسّعاً ومجازاً ومع ذلك فقد خالفت القيادة بعد رسول اللّه هذا النص وحرّمت فاطمة من ميراث أبيها بحجّة أنّه سمع من النبي قوله : نحن الأنبياء لا نورث ، مع أنّه لو صحّ هذا الحديث لكان على النبي أن يذكره لورّاثه حتّى لا يقعوا في الخطأ ولا يطلبوا شيئاً ليس لهم ، فهل أنّ النبي أهمل هذا البيان اللازم وذكره لغير

________________________________________

1 ـ الموطأ باب ما جاء من النداء في الصلاة الحديث 8 ، والموطأ مع شرح الزرقاني 1 / 150 طبع مصر.

2 ـ النساء / 11.

3 ـ النمل / 16.

4 ـ مريم / 5 ـ 6.

________________________________________

(89)

وارثه ؟

    روى البخاري عن عائشة : انّ فاطمة ـ عليها السلام ـ بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبوبكر : « إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : « لا نورث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال » ، وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللّه ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه » فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر ، فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلا ، فلم يؤذِن بها أبابكر ، وصلّى عليها (1).

    وقال ابن قتيبة : قال عمر لأبي بكر ـ رضى اللّه عنهما ـ : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها فانطلقاجميعاً فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّاً فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها حوَّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها فلم ترد السلام ، فتكلّم أبوبكر وقال : يا حبيبة رسول اللّه ، واللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ اليّ من قرابتي ، وانّك لأحبّ اليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا ابقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنَعْك حقّك وميراثك من رسول ، إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللّه يقول : « لا نورث ما تركنا فهو صدقة » (2).

    يلاحظ عليه أوّلا : أنّ الرسول الأعظم وكذا كل من يتولّى الحكومة الإسلامية تكون له ملكيتين : ملكية شخصية تتعلّق بنفسه ويتصرّف فيها بما أنّها ماله الشخصي ، وملكية تتعلّق بمقام الرسالة ويتصرّف فيها بما أنّه رسول وممثّل

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 5 باب غزوة خيبر 139.

2 ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 13.

________________________________________

(90)

الدولة الإلهية ، والقسم الثاني من الملكيتين لا تورث بل تنتقل إلى من يمارس المسؤولية بعده. ونحن نربأ بفاطمة أن تطالب أبابكر بالأموال التي تعد من شؤون الدولة الإسلامية وانّما جاءت لتطلب ما كان ملكاً خاصّاً لأبيها ، بما أنّه أحد الناس والمسلمين ، يملك ما شاء باحدى الطرق الشرعية ويرثه أولاده بعده.

    ثانياً : أنّ ما يرويه البخاري عن الخليفة أنّه قال : « وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها » واقع في غير محلّه لأن حبيبة رسول اللّه لم تطلب منه صدقات أبيها حتّى تجاب بأنّ الصدقة لا تتغيّر ولا تتبدّل و إنّما سألته أن يدفع لها ما ملكه رسول اللّه ونحله لبنته أعني فدك أيّام حياته عندما نزل قوله سبحانه : ( وَآتِ ذَالقُرْبى حَقَّهُ وَ المِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (1).

    نحن نفترض أنّ الرسول قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، ولكن من المحتمل جدّاً ، أنّ الفعل « لا نورث » فعل معلوم لا مجهول ومعناه نحن معاشر الأنبياء لا نورث الأشياء التي تركناها صدقة ، فيكون لفظة ما مفعولاً للفعل المبني على الفاعل وعند ذلك لاصلة للحديث بكل ما يتركه النبي حتّى أمواله الشخصية والمقصود النهائي هو أنّ الصدقة لا تورث كالزكاة وأمثالها.

 

    3 ـ النهي عن متعة الحج :

    قال سبحانه : ( فَمَنْ تَمَتَّع بِالعُمْرَةِ اِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ (2) فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِى الحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ

________________________________________

1 ـ الاسراء / 26.

2 ـ أي فعليه ما يتيسّر له من الهدي ، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج ، وهي يوم السابع من ذي الحجّة وتنتهي بيوم عرفة ، والتمتّع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكّة ومن يجري مجراهم في القرب إليها.

(91)

لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المَسْجِدِ الحَرَامِ ) (1).

    إنّ صفة التمتّع بالعمرة إلى الحج عبارة عن الاحرام في أشهر الحج من احدى المواقيت ، ثم الدخول إلى مكّة للطواف بالبيت والصلاة بعده ، والسعي بين الصفا والمروة ثم التقصير وعندئذ يحلّ له كل ما كان محرماً عليه ، فيقيم على هذه الحالة حتّى ينشأ في تلك السنة احراماً آخر للحج ويخرج إلى عرفات ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ، إلى آخر الأعمال ، هذا هو التمتّع بالعمرة إلى الحج ، وانّما اُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع وقال سبحانه : ( فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إلى الحجّ ) لما فيه من المتعة واللذّة باباحة محرمات الاحرام في المدّة المتخلّلة بين الاحرامين من غير فرق بين محرَّم وآخرَ حتّى مسِّ النساء.

    هذا هو الذي شرّعه القرآن وخالفه بعض أصحاب السلطة ، روى مالك عن سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه عزّوجلّ ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فإنّ عمر قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وصنعناها معه (2).

    روى أحمد بن حنبل عن أبي موسى : انّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أميرالمؤمنين في النسك بعدك ، حتّى لقيه بعد فسأله ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : قد علمت أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهن معرسين في الاراك ثمّ يروحون بالحج

________________________________________

1 ـ البقرة / 196.

2 ـ موطأ مالك 235 باب ما جاء في التمتّع برقم 767.

________________________________________

(92)

تقطر رؤوسهم (1).

    وروى أيضاً عن طريق آخر عنه : انّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : هي سنّة رسول اللّه ـ يعني المتعة ـ ولكن أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ، ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً (2).

    وقد استفاض القول عن الخليفة انّه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما (3).

    قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء في أنّ التمتّع جائز وأنّ الإفراد جائز ، وأنّ القِران جائز لأنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) رضي كلاّ ولم ينكره في حجّته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ... احتجّ من فضّل التمتّع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ـ يعني متعة الحج ـ وأمرنا بها رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول اللّه حتّى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء (4).

 

    4 ـ اسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بعد وفاة الرسول :

    ورد النص في الذكر الحكيم على أنّ لذي القربى سهم من الخمس قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُم مِن شَىْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَللرَّسُولِ وَلِذِى

________________________________________

1 ـ مسند أحمد 1 / 49 ـ 50.

2 ـ مسند أحمد 1 / 49 ـ 50.

3 ـ تفسير الامام الرازي 5 / 167 وفسّر الآية بالتمتّع بمحظورات الاحرام ، وشرح التجريد للمحقّق القوشجي ( وهو من أئمة الأشاعرة ) : وقد عدّه من اجتهاد الخليفة. نعم هو من اجتهاده مقابل النص.

4 ـ الجامع لأحكام القرآن 2 / 388.

________________________________________

(93)

القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُم آمَنْتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ) (1). وقد أجمع أهل القبلة على أنّ الرسول كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر. وأنّه لم يعهد تغيير ذلك حتّى دعاه اللّه إليه. غير أنّ أصحاب السلطة بعد الرسول أسقطوا سهم بني هاشم من الخمس ، وجعلوهم كغيرهم من يتامى النساء و مساكينهم وأبناء السبيل منهم ، وقد عرفت في المخالفة الثالثة أنّ فاطمة ـ عليها السلام ـ طلبت من أبي بكر ما بقى من خمس خيبر.

    ويشهد بذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنّه كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذي القربى ، وعن اليتيم متى ينقضي يتمه ، وعن المرأة والعبد يشهدان الغنيمة ، وعن قتل أطفال المشركين ، فكتب إليه ابن عباس : انّك كتبت اليّ تسأل عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ وانّا كنّا نراها لقرابة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فأبى ذلك علينا قومنا. وعن اليتيم متى ينقضي يتمه ؟ قال : إذا احتلم ... (2).

    هذا وقد نقل القرطبي أقوالاً في كيفيّة تقسيم الخمس ، وهي بين من يأخذ بنص الآية ويجعل سهماً لذي القربى ومن يجتهد أمام النص. ونقلها صاحب المنار في تفسيره (3).

 

    5 ـ قطع سهم المؤلّفة قلوبهم :

    قال سبحانه : ( إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرآءِ وَالمَسَاكِينِ والعَامِلينَ عَلَيْهَا

________________________________________

1 ـ الأنفال / 41.

2 ـ مسند أحمد 1 / 248.

3 ـ تفسير القرطبي 8 / 10 ، المنار 10 / 17 ـ 18.

________________________________________

(94)

والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالغَارِمينَ وَفِى سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلَيمٌ حَكِيمٌ ) (1) ، الآية صريحة في أنّ لكلّ واحد من الأصناف المذكورة سهم ودلّت كتب السيرة والفقه على أنّ الرسول يعطي سهم المؤلّفة قلوبهم ، فيؤلّف بذلك قلوبهم ، وهذه سيرته المستمرّة معهم ، لكن لمّا ولّي ابوبكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم جرياً على عادتهم مع رسول اللّه فكتب أبوبكر لهم بذلك ، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطّه عليه فمزّقه وقال : لا حاجة لنا بكم ، فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن أسلمتم وإلاّ فالسيف بيننا وبينكم ، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا له : أنت الخليفة أم هو ؟ فقال : بل هو إن شاء اللّه تعالى ، وأمضى ما فعله عمر (2).

    فاستمرّ الأمر على ذلك بعدهم ، وأقصى ما عند المحقّقين من تبرير عمل الخليفة ما ذكره الدواليبي في كتابه اُصول الفقه وقال : ولعلّ اجتهاد عمر ـ رضي اللّه عنه ـ في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلّفة قلوبهم كان في مقدّمة الأحكام الّتي قال بها عمر تبعاً لتغيير المصلحة بتغير الأزمان رغم أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غير منسوخ (3).

    وما ذكره الاُستاذ يعارض ذيله صدره ، فما معنى أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غيرمنسوخ ، فإذا كان غير منسوخ فما معنى الاجتهاد في مقابل النص ، لأنّ معنى ذلك ابطال القرآن في فترة خاصة ، ولو صحّ لأصحاب السلطة هذا النمط من العمل لما بقي من الإسلام أثر ، فالنص لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا تتقيّد اطلاقاته ولا عموماته بالمصالح المرسلة.

________________________________________

1 ـ التوبة / 60.

2 ـ الجوهرة النيرة 1 / 164 وهي في الفقه الحنفي ونقله في المنار 10 / 576.

3 ـ اُصول الفقه للدواليبي : 239.

________________________________________

(95)

    نعم يجوز على القول بعدم لزوم الاستيعاب في تقسيم الزكاة ، دفعها إلى صنف دون صنف ، لكنّه إنّما يجوز مؤقّتاً لا دائماً ، غير أنّ الخليفة قام بقطع سهم المؤلّفة قلوبهم من رأس ، وهذا هو الذي فهمه أبو حنيفة ، والشافعي (1) بحجّة أنّ اللّه أعزّ الإسلام وهو اجتهاد من عمر بأنّه ليس من المصلحة استمرار هذا الأمر. ولا نريد من الاجتهاد في مقابل النص إلاّ هذا.

    هذه نماذج خمسة من مخالفتهم للنصوص والعمل وفق اجتهادات ذوقية ، غير أنّ أصحاب السلطة قدّموها على النصوص بقوة وحماس ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النصوص كانت أداة طيّعة للتغيير حسب الأهواء والميول الشخصية سواء أكانوا مقصّرين في هذا التأويل أم قاصرين.

    والهدف ايقاف القارىء على أنّ مخالفة النصوص لأصحاب النفوذ لم يكن أمراً عسيراً أو شيئاً نادراً.

    وبذلك تبيّن أنّ إعراضهم عن أدلّة تنصيب الإمام للخلافة ، لم يكن أمراً عجيباً ، وذلك لجريان سيرة الصحابة على تقديم المصالح المزعومة على النصوص وبذلك يقطع العذر على من زعم أنّه لو كان في مسألة الخلافة وامامة الامام أميرالمؤمنين ، نصّ ، لما خالفه الصحابة العدول وتلقّوه بالقبول. فيقال أوما أمرهم النبيّ ، بإحضار القلم والدواة ، فحالوا بينه وبين منيته ، أو ماحثهم على تجهيز جيش اُسامة ولعن المتخلّفين عنه ، ولكنّهم اثّاقلوا إلى الأرض أو ما .. أوما ...

    وهناك كلمة لابن ابي الحديد ، وهو يقارن بين سياستي علي ،وعمر و سياستي علي ومعاوية وإليك نصّه.

    اعلم انّ السائس لا يتمكّن من السياسة البالغة إلاّ إذا كان يعمل برأيه ، وبما يرى

________________________________________

1 ـ المنار 10 / 576.

________________________________________

(96)

فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته ، سواء أوافق الشريعة أم لم يوافقها ، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه ، وإلاّ فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله.

    وأميرالمؤمنين ( عليهم السلام ) كان مقيّداً بقيود الشريعة ، مدفوعاً إلى اتّباعها ، ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير ، إذا لم يكن للشرع موافقا ، فلم تكن قاعدته في خلافته ، قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك ولسنا بهذا القول ضارّين على عمر بن الخطاب ولا ناسبين إليه ما هو منزّه عنه ، ولكنّه كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط ، من اُصول ، تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النص ، ويكيد خصمه ، ويأمر اُمراءه بالكيد والحيلة ، ويؤدّب بالدرّة والسوط من يغلب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك ، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التأديب. كل ذلك بقوّة اجتهاده وما يؤدّيه إليه نظره. ولم يكن أميرالمؤمنين ( عليهم السلام ) يرى ذلك ، وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعدّاها إلى الاجتهاد والأقيسة ، ويطبّق اُمور الدنيا على الدين ويسوق الكل مساقاً واحدا ، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة (1).

    وقال الجاحظ : وربّما رايت بعض من يظن بنفسه العقل والتحسين والفهم والتمييز ، وهو من العامة وهو يظن أنّه من الخاصة يزعم أنّ معاوية كان أبعد غوراً ، وأصحّ فكراً ، وأجود رؤية وأبعد غاية ، وأدق مسلكاً ، وليس الأمر كذلك ، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله.

________________________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة 10 / 572.

________________________________________

(97)

    كان علي ( عليهم السلام ) لا يستعمل في حربه ، إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة ، كما يستعمل الكتاب والسنّة (1).

    وفي حياة الخليفة عشرات الشواهد على اجتهاده تجاه النص ، وأي اجتهاد تجاهه أظهر وأولى من منع تدوين الحديث وكتابته الذي هو المصدر الثاني الرئيسي للمسلمين بعد الذكر الحكيم ، وقد بلغت السنّة من الكمال مكانة حتّى صار لفظ السنّي شعاراً لجمهور المسلمين.

    ولعلّ في قوله سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بِيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ) (2). إشارة إلى بعض هذه الاُمور ، ومعنى الآية : لا تقولوا حتّى يقول ، ولا تأمروا حتّى يأمر ، ولا تفتوا حتّى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتّى يقطع ، بالتالي : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة فانّه تقدُّم على اللّه و رسوله.

    فإذا كان هذا حال الخليفة وعمله طيلة حياته ، فلا عجب أن يجتهد أمام نصوص الولاية والخلافة ويسدل عليها الستار ، ولا يلتفت إليها ويندفع إلى تتبع مظان المصالح المزعومة في مجال الخلافة بعد عصر الرسول ، وفي ما ذكرنا من مظان الاجتهاد أمام النص كفاية لطالب الحق.

________________________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة 10 / 578 ، نقلا عن أبي عثمان الجاحظ.

2 ـ الحجرات / 1.

________________________________________

(98)

________________________________________

(99)

الفصل الخامس

مبدأ التشيّع و تاريخ تكوّنه

(101)

    زعم غير واحد من الكُتّاب القدامى والجُدد ، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلامية ، من إفرازات الصراعات السياسية وذهب بعض آخر إلى القول انّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري ، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلامية وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الاسلامي ، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الاُمّة الإسلامية باعتباره قطاعاً تكوَّن على مرّ الزمن لأحداث وتطوّرات سياسية أو اجتماعية فكرية أدّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير ثمّ اتّسع ذلك الجزء بالتدريج.

    وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله ، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسية أو فكرية كما سيوافيك ، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع ولد منذ عهد النبيّ الأكرم لما تسرّعوا في ابداء الرأي في ذلك المجال ، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة ، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ ، سوى تاريخ الإسلام و مبدئه. وأنّ النبيّ الأكرم هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام من أوّل يوم اُمر بالصدع واظهار الحقيقة ، إلى ان لبّى دعوة ربّه.

    فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ بعد وفاته عن طريق من نصبه

 

________________________________________

(102)

إماماً للناس ، وقائداً للاُمّة حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود ، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة ، فإذا كان التشيّع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصي ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الإسلام والنصوص الواردة عن رسوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

    وقد عرفت في الفصل الثالث نصوصاً متوفرة في وصاية الامام أميرالمؤمنين ، فتاريخ صدورها عن النبيّ هو نفس تاريخ التشيّع ، والشيعة هم المسلمون المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في الأجيال اللاحقة ، هم الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة ولم يُغيِّروه ولم يتعدّوا عنه إلى غيره ، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص ، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ ) (1) ففزعوا في الاُصول والفروع إلى علي وعترته الطاهرة ، وانحازوا عن الطائفة الاُخرى الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة حيث تركوا النصوص ، وأخذوا بالمصالح.

    إنّ الآثار المرويّة في حقّ شيعة الامام عن لسان النبيّ الأكرم ترفع اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي ، فكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة ، وانّ النبيّ الأكرم وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون ، وإن كنت في شكّ من هذا الأمر فسأتلوا عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

    1 ـ أخرج ابن مردويه عن عائشة ، قالت : قلت يا رسول اللّه من أكرم الخلق على اللّه ؟ قال : « يا عائشة ، أما تقرأين ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

________________________________________

1 ـ الحجرات / 1.

________________________________________

(103)

اُوْلئِكَ هُمْ خَيْرُ البريَّة ) البيّنة / 7 ـ » (1).

    2 ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبداللّه قال : كنّا عند النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فأقبل علي فقال النبي : « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت ( إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة ) فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البريّة (2).

    3 ـ أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : عليّ خير البريّة (3).

    4 ـ وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لمّا نزلت ( إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة ) قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لعلي : « هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ».

    5 ـ أخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « ألم تسمع قول اللّه : ( إنّ الذين آمنوا وعلموا الصالحات اُولئك هم خير البريّة ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين » (4).

    6 ـ روى ابن حجر في صواعقه عن اُمّ سلمة : كانت ليلتي ، وكان النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عندي فأتته فاطمة فتبعها علي ( رضي اللّه عنهما ) فقال النبي : يا علي أنت وأصحابك في الجنّة ، أنت وشيعتك في الجنّة (5).

    7 ـ روى ابن الأثير في نهايته : قال النبي مخاطباً عليّاً : يا علي إنّك ستقدم على

________________________________________

1 ـ الدر المنثور للسيوطي 6 / 589.

2 ـ الدر المنثور للسيوطي 6 / 589.

3 ـ الدر المنثور للسيوطي 6 / 589.

4 ـ الدر المنثور للسيوطي 6 / 589.

5 ـ الصواعق 161 طبع مكتبة القاهرة.

________________________________________

(104)

اللّه أنت وشيعتك راضين مرضيّين ، ويقدم عليه عدوُّك غضابا مقمحين ، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير : الإقماح : رفع الرأس وغض البصر (1).

    8 ـ روى الزمخشري في ربيعه : انّ رسول اللّه قال : « يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه تعالى ، وأخذت أنت بحجزتي ، وأخذ ولدك بحجزتك ، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم ، فترى أين يؤمر بنا » (2).

    9 ـ روى أحمد في المناقب : انّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال لعلي : « أما ترضى أنّك معي في الجنّة والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرّيتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا » (3).

    10 ـ روى الطبراني : انّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال لعلي : « أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرّياتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا » (4).

    11 ـ أخرج الديلمي : « يا علي إنّ اللّه قد غفر لك ولذرّيتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ، فابشر انّك الأنزع البطين » (5).

    12 ـ أخرج الديلمي عن النبي انّه قال : « أنت وشيعتك تردون الحوض روّاء مرويين ، بيضة وجوهكم وانّ عدوّك يردون الحوض ظماء مقمحين » (6).

    13 ـ روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه :

________________________________________

1 ـ النهاية مادة قمح 4 / 106 ، ورواه ابن حجر في الصواعق 154.

2 ـ ربيع الأبرار.

3 ـ الصواعق 161.

4 ـ الصواعق 161.

5 ـ الصواعق 161.

6 ـ الصواعق 161.

________________________________________

(105)

« يدخلون من اُمّتي الجنّة سبعون ألفاً لا حساب عليهم ـ ثمّ التفت إلى علي فقال : ـ هم شيعتك وأنت إمامهم » (1).

    14 ـ روى المغازلي عن كثير بن زيد قال : دخل الأعمش على المنصور، فلمّا بصر به ، قال له : يا سليمان تصدَّر ، قال : أنا صدر حيث جلست ـ إلى أن قال في حديثه : ـ حدّثني رسول اللّه قال : « أتاني جبرئيل ( عليه السلام ) آنفاً فقال : تختّموا بالعقيق ، فإنّه أوّل حجر شهد للّه بالوحدانيّة ، ولي بالنبوّة ، ولعلي بالوصيّة ، ولولده بالامامة ، ولشيعته بالجنّة » (2).

    15 ـ وروى أيضاً بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : « يا علي تختّم باليمين تكن من المقرّبين ، قال : يا رسول اللّه ومن المقرّبون ؟ قال : جبرئيل وميكائيل ، قال : فبما أتختّم يا رسول اللّه ؟ قال : بالعقيق الأحمر ، فإنّه جبل أقرّ للّه بالوحدانية ، ولي بالنبوّة ، ولك بالوصية ، ولولدك بالإمامة ، ولمحبّيك بالجنّة ، ولشيعتك وشيعة ولدك بالفردوس » (3).

    16 ـ روى ابن حجر : انّه مرّ علي على جمع فأسرعوا إليه قياماً ، فقال : «من القوم ؟» فقالوا : من شيعتك يا أميرالمؤمنين ، فقال لهم خيراً ، ثمّ قال : « يا هؤلاء ما لي لا ارى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبَّتنا » فأمسكوا حياءً ، فقال له من معه : نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم ، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم

________________________________________

1 ـ مناقب المغازلي 293.

2 ـ مناقب المغازلي 281 ، ورواه السيد البحراني في غاية المرام عنه ، وأنت إذا تدبّرت في الآيات الدالّة على سريان العلم والشعور في عامّة الموجودات مثل قوله : ( وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) ـ البقرة / 74 ـ تستطيع أن تُصَدِّقَ ما جاء في الحديث من شهادة العقيق بوحدانية اللّه.

3 ـ علل الشرائع 158 طبع النجف.

________________________________________

(106)

فقال : « شيعتنا هم العارفون باللّه ، العاملون بأمر اللّه » (1).

    17 ـ روى الصدوق ( 306 ـ 381 ) : انّ ابن عباس قال : سمعت رسول اللّه يقول : « إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة ... » (2).

    وهذه النصوص المتضافرة الغنيّة عن ملاحظة ... ، تعرب عن كون علي ( عليه السلام ) متميّزاً بين أصحاب النبي بأن له شيعة وأتباعاً ، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها ، في حياة النبي وبعدها.

    فبعد هذه النصوص لا يصحّ لباحث أن يلتجئ إلى فروض ظنّية أو وهمية في تحديد تكوّن الشيعة وظهورها.

 

    الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفرق :

    قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته ويعتقد بإمامته ووصايته ويظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات نشير إلى بعضها.

    1 ـ روى المسعودي في حوادث وفاة النبي : انّ الإمام عليّاً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر (3).

    2 ـ قال الامام عند تنديده بأعمال طلحة والزبير : « إنّ أتباع طلحة والزبير في البصرة قتلوا شيعتي وعمّالي » (4).

________________________________________

1 ـ الصواعق 154.

2 ـ علل الشرايع 156 طبع النجف.

3 ـ الوصية للمسعودي 121 طبع النجف.

4 ـ وقعة صفين 7 طبع مصر.

________________________________________

(107)

    3 ـ روى أبو مخنف عن الحجاج : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فذكرونا هلاك معاوية فحمدنا اللّه عليه فقال : إنّ معاوية قد هلك وانّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه (1).

    4 ـ وقال محمّد بن أحمد بن خالد البرقي ( ت 274 ) : إنّ أصحاب علي ينقسمون إلى الأصحاب ثمّ الأصفياء ثمّ الأولياء ، ثم شرطة الخميس ... ومن الأصفياء سلمان الفارسي ، والمقداد ، وأبوذر ، وعمّار ، وأبو ليلى ، و شبير ، و أبو سنان ، و أبو عمرة ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو برزة ، و جابر بن عبداللّه ، والبراء بن عازب ، وطرفة الأزدي (2).

    5 ـ وقال النوبختي ( ت 313 ) : إنّ أوّل الفرق الشيعة ، وهم فرقة علي بن أبي طالب ، المسمّون شيعة علي في زمان النبي وبعده ، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته (3).

    6 ـ وقال أبو الحسن الأشعري : وانّما قيل لهم الشيعة ، لأنّهم شايعوا عليّاً ، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول اللّه (4).

    7 ـ ويقول الشهرستاني : الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّة (5).

    8 ـ وقال ابن حزم : ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول اللّه

________________________________________

1 ـ مقتل الامام الحسين لأبي مخنف : تحقيق حسن الغفاري 15 ولاحظ 16.

2 ـ الرجال للبرقي : ( طبع طهران ) / 3 ، ولاحظ فهرست ابن النديم 263 ( طبع القاهرة ) وعبارته قريبة من عبارة البرقي.

3 ـ فرق الشيعة 15.

4 ـ مقالات الاسلاميين 1 / 65 طبع مصر.

5 ـ الملل والنحل 1 / 131.

________________________________________

(108)

وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده ، فهو شيعيّ ، وإن خالفهم في ماعدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون. فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّا (1).

    هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات ، تعرب عن أنّ لفيفاً من الاُمّة في حياة الرسول وبعده إلى عصر الخلفاء وبعدهم ، كانوا مشهورين بالتشيّع لعلي وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الاُمّة عليه.

    « إنّ الامام وإن تسامح وتساهل في أخذ حقّه تبعاً لمصالح عظيمة مكنونة في مثل هذا التصرّف الحكيم ، لكن أخذت فكرة استخلاف النبي علياً طريقها في النفوس والقلوب ، وتضاعف عدد المتشيعين له على مرور الأيام ، ورجع الكثير من المسلمين إلى الماضي القريب ، واحتشدت في أذهانهم صور عن مواقف النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم )، تلك المواقف التي كان يصرح فيها باستخلاف علي من بعده تارة ، ويلمّح فيها اُخرى ، فالتفّوا حول علي ( عليه السلام ) وأصبحوا من الدعاة الأوفياء له في جميع المراحل التي مرّ بها ، وما زال التشيّع ينمو وينتشر بين المسلمين في الأقطار المختلفة ، يدخلها مع الإسلام جنباً إلى جنب ، واستحكم أمره في السنين التي استولى فيها عليّ الحكم ، فشاعت بين المسلمين أحاديث استخلافه ، ووجد الناس من سيرته وزهده وحكمته ما أكدّ لهم صحّة تلك المرويات ، وأنّه هو المختار لقيادة الاُمّة وحماية القرآن ونشر تعاليمه ومبادئه » (2).

    والعنصر المقوّم لإطلاق عبارة الشيعة هو مشايعة علي بعد النبي الأكرم في الزعامة والوصاية أوّلاً ، وفي الفعل والترك ثانياً ، ومع هذا لا يصحّ لأي كاتب

________________________________________

1 ـ الفصل في الملل والنحل 2 / 113 طبع بغداد.

2 ـ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28 ـ 29.

________________________________________

(109)

افتراض علّة اجتماعية أو سياسية أو كلامية لتكوّن هذه الفرقة.

    ولأجل أن نتعرّف على شيعة علي من الصحابة نأتي بأسماء رُوّاد الشيعة على وجه الاجمال ومن أراد التفصيل فليرجع إلى ما كتب حولهم من المؤلّفات ، وسنأتي بأسماء تلك الكتب في آخر البحث :

 

    روّاد التشيّع في عصر النبي :

    إنّ الاحالة للتعرّف على روّاد التشيّع إلى الكتب المؤلّفة في ذلك المضمار لا تخلو من عسر وغموض ، فلأجل ذلك نأتي باسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع :

    1 ـ عبداللّه بن عباس 2 ـ الفضل بن العباس 3 ـ عبيداللّه بن العباس 4 ـ قثم بن العباس 5 ـ عبدالرحمان بن العباس 6 ـ تمام بن العباس 7 ـ عقيل بن ابي طالب 8 ـ أبوسفيان بن الحرث بن عبدالمطلب 9 ـ نوفل بن الحرث 10 ـ عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب 11 ـ عون بن جعفر 12 ـ محمد بن جعفر 13 ـ ربيعة بن الحرث بن عبدالمطلب 14 ـ الطفيل بن الحرث 15 ـ المغيرة بن نوفل بن الحارث 16 ـ عبداللّه بن الحرث بن نوفل 17 ـ عبداللّه بن أبي سفيان بن الحرث 18 ـ العباس بن ربيعة بن الحرث 19 ـ العباس بن عتبة بن ابي لهب 20 ـ عبدالمطلب بن ربيعة بن الحرث 21 ـ جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

    هؤلاء من مشاهير بني هاشم ، وأمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم :

    22 ـ سلمان المحمّدي 23 ـ المقداد بن الأسود الكندي 24 ـ أبوذر الغفاري 25 ـ عمّار بن ياسر 26 ـ حذيفة بن اليمان 27 ـ خزيمة بن ثابت 28 ـ أبو أيوب الأنصاري مضيّف النبي 29 ـ أبو الهيثم مالك بن التيهان

 

________________________________________

(110)

30 ـ اُبي بن كعب (1) 31 ـ سعد بن عبادة 32 ـ قيس بن سعد بن عبادة 33 ـ عدي بن حاتم 34 ـ عبادة بن الصامت 35 ـ بلال بن رباح الحبشيّ 36 ـ أبو رافع مولى رسول اللّه 37 ـ هاشم بن عتبة 38 ـ عثمان بن حنيف 39 ـ سهل بن حنيف 40 ـ حكيم بن جبلة العبدي 41 ـ خالد بن سعيد بن العاص 42 ـ ابن الحصيب الأسلمي 43 ـ هند بن أبي هالة التيميمي 44 ـ جعدة بن هبيرة 45 ـ حجر بن عدي الكندي 46 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي 47 ـ جابر ابن عبداللّه الأنصاري 48 ـ محمّد بن الخليفة أبي بكر 49 ـ أبان بن سعيد بن العاصي 50 ـ زيد بن صوحان الزيدي.

    هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة ، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في الرجال ولكن بعين مفتوحة وبصيرة نافذة.

    وفي الختام نذكر ما ذكره محمّد كرد علي في كتابة « خطط الشام » قال : عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مثل سلمان الفارسي القائل : بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له ، ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول : اُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة ، ولمّا سئل عن الأربع ، قال : الصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحج ، قيل : فما الواحدة التي تركوها ؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب ، قيل له : وانّها لمفروضة معهن ؟ قال : نعم هي مفروضة معهن ، ومثل أبي ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ،

________________________________________

1 ـ نقل سيّدنا شرف الدين عن تاريخ ابن شحنة انّه ممّن تخلّف عن بيعة السقيفة مع علي ( عليه السلام ).

(111)

وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وخالد بن سعيد ، وقيس ابن سعد بن عبادة (1).

 

    الكتب المؤلّفة حول روّاد التشيّع :

    إنّ لفيفاً من أصحابنا الإمامية قاموا بافراد كتاب أو رسالة حول روّاد التشيّع ونذكر في المقام ما وقفنا عليه.

    1 ـ صدر الدين السيّد علي المدني الحسيني الشيرازي ، صاحب كتاب سلافة العصر في أعيان أهل العصر ، وأنوار الربيع في علم البديع ، وطراز اللغة. توفّي عام ( 1120 ) ، أفرد تاليفاً في ذلك المجال أسماء بـ « الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية » ، فخصَّ الطبقة الاُولى بالصحابة الشيعة ، وخصَّص الباب الأوّل لبني هاشم من الصحابة ، والباب الثاني في غيرهم منهم. وجاء في الباب الأوّل بترجمة ( 23 ) صحابيّاً من بني هاشم لم يفارقوا عليّاً قط ، كما جاء في الباب الثاني بترجمة ( 46 ) صحابيّاً (2).

    2 ـ ذكر الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه « أصل الشيعة واُصولها » أسماء جماعة من الصحابة الذين كانوا يشايعون عليّاً في حلِّه وترحاله وقال معلّقاً على قول أحمد أمين الكاتب المصري « والحق إنّ التشيّع كان مأوى يرجع إليه كل من أراد هدم الإسلام » : ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفا أن لا تتعكّر ، ونيران البغضاء أن لا تتسعّر ، وأن تنطبق علينا حكمة القائل : « لا تنه عن خلق وتأتي مثله » لعرّفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الالحاد والزندقة ،

________________________________________

1 ـ خطط الشام 5 / 251.

2 ـ الدرجات الرفيعة 79 ـ 452 طبع النجف.

________________________________________

(112)

ومن الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة ، ولكنّا نريد أن نسال ذلك الكاتب أيّ طبقة من طبقات الشيعة أرادت هدم الإسلام ؟ هل الطبقة الاُولى وهم أعيان صحابة النبي وأبرارهم كسلمان المحمّدي أو الفارسي ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمّار ، وخزيمة ذى الشهادتين ، وابن التيهان ، وحذيفة بن اليمان والزبير ، والفضل بن العباس وأخيه الحبر عبداللّه ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وأبي أيّوب الأنصاري وأبان وأخيه خالد بن سعيد بن العاص ، واُبي بن كعب سيد القرّاء ، وأنس بن الحرث بن نبيه ، الذي سمع النبي يقول : « إنّ ابني الحسين ( عليه السلام ) يقتل في ارض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره » فخرج أنس وقتل مع الحسين. راجع الاصابة والاستيعاب وهما من أوثق ما ألّف علماء السنّة في تراجم الصحابة ، ولو أردت أن أعدّ عليك الشيعة من الصحابة واثبات تشيّعهم من نفس كتب السنّة لأحوجني ذلك إلى افراد كتاب ضخم (1).

    3 ـ قام الإمام السيّد عبدالحسين شرف الدين ( 1290 ـ 1377 ) بجمع أسماء الشيعة في الصحابة حسب حروف الهجاء ، وقال : وإليك اكمالا للبحث بعض ما يحضرني من أسماء الشيعة من أصحاب رسول اللّه لتعلم أنّ بهم اقتدينا وبهديهم اهتدينا ، وسأفرد لهم إن وفق اللّه كتاباً يوضح للناس تشيّعهم ويحتوي على تفاصيل شؤونهم ، ولعلّ بعض أهل النشاط من حملة العلم وسدنة الحقيقة يسبقني إلى تأليف ذلك الكتاب فيكون لي الشرف إذ خدمته بذكر أسماء بعضهم في هذا الباب وهي على ترتيب حروف الهجاء ، ثمّ ابتدأ بأبي رافع القبطي مولى رسول اللّه ، وختمهم بيزيد بن حوثرة الأنصاري ولم يشير من حياتهم إلى شئ ، وإنّما ألقى ذلك على الأمل أو على من يسبقه من بعض أهل النشاط.

________________________________________

1 ـ أصل الشيعة واُصولها 53 ـ 54 مطبعة العرفان.

________________________________________

(113)

    وقد ذكر السيد شرف الدين من أسمائهم مايربو على مائتين (1).

    4 ـ قام الخطيب المصقع الدكتور الشيخ أحمد الوائلي « حفظه اللّه » بذكر أسماء روّاد التشيّع في عصر الرسول في كتابه المطبوع « هويّة التشيّع » فجاء باسم مائة وثلاثين من خُلِّص أصحاب الإمام من الصحابة الكرام ، يقول بعد ما يذكر تنويه النبي باستخلاف علي في غير واحد من المواقف : ولا يمكن أن تمر هذه المواقف والكثير الكثير من أمثالها من دون أن تشد الناس لعلي ، ودون أن تدفعهم للتعرّف على هذا الإنسان الذي هو وصي النبي ، ثمّ لابدّ للمسلمين من اطاعة الأوامر التي وردت في النصوص ، والالتفات حول من وردت فيه ، ذلك معنى التشيّع الذي نقول انّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هو الذي بذر بذرته ، وقد أينعت في حياته وعرف جماعة بالتشيّع لعلي والالتفاف حوله ، وللتدليل على ذلك سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل من الصحابة الذين عرفوا بتشيّعهم للإمام علي (2).

    5 ـ آخرهم وليس أخيرهم كاتب هذه السطور حيث قام مجيباً دعوة السيد شرف الدين فألّف كتاباً في ذلك المجال في عدّة أجزاء ، نشر منه جزءان ، وانتهينا في الجزء الثاني من ترجمة أبي ذر ( جندب بن جناده ) ذلك الصحابي العظيم ، والكتاب باللغة الفارسية ونقله إلى العربية الشيخ المحقّق البارع جعفر الهادي وطبع ونشر.

    ومن أراد أن يقف على روّاد التشيّع في كتب الرجال لأهل السنّة فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية :

________________________________________

1 ـ الفصول المهمّة في تأليف الاُمّة 179 ـ 190.

2 ـ هوية التشيّع 34.

________________________________________

(114)

    1 ـ الاستيعاب لأبي عمرو ( ت 456 ).

    2 ـ اُسد الغابة للجزري ( 606 ).

    3 ـ الاصابة لابن حجر ( 852 ).

    إلى غير ذلك من اُمّهات كتب الرجال.