البراءة العقلية

الباب الرابع القسم الاول البراءة العقلية تحديدها، دليلها، قبح العقاب بلا بيان، مناقشة القاعدة، وجوب دفع الضرر المحتمل ومعارضتها لها، التوارد بين القاعدتين، الرأي الاخير، البراءة العقلية  وظيفة عقلية لا حكم.
------------------------------------------------------------------
تحديدها: ويراد بها الوظيفة المؤمنة من قبل العقل عند عجز المكلف عن بلوغ حكم الشارع أو وظيفته. دليلها: وقد استدل لها بالقاعدة العقلية المعروفة بقاعدة: (قبح العقاب بلا بيان واصل من  الشارع). بدعوى أن العقل يدرك قبح عقاب الشارع لعبيده إذا لم يؤذنهم بتكاليفه وخالفوها، أو آذنهم بها ولم تصل إليهم مع فحصهم عنها واختفائها عنهم مهما كانت أسباب الاختفاء ويأسهم عن  بلوغها. وهذه القاعدة مما تطابق عليها العقلاء على اختلاف مللهم ومذاهبهم وتباين أذواقهم ومستوياتهم وتشعب أزمانهم وبيئاتهم. وقد عبر عنها بعض المشرعين المحدثين بقوله: (لا عقاب بغير  قانون). وبالطبع ان مراده بالقانون هو خصوص القانون المبلغ بوسائل التبليغ المتعارفة وإلا فإن التشريع وحده لا يكفي في إيقاع المواطنين تحت طائلة العقاب. وربما كان غرض القائلين بأن ( الاصل براءة الذمة) هو الاشارة إلى هذه القاعدة العقلية.
------------------------------------------------------------------
مناقشة القاعدة: وقد نوقشت هذه القاعدة بألسنة قسم من الفقهاء، بكونها غير تامة لمعارضتها بقاعدة عقلية أخرى، تفرض الإلزام بالمحتمل والقاعدة هي وجوب دفع الضرر المحتمل: وجوب دفع  الضرر المحتمل ومعارضتها لها: وهي كسابقتها مما تطابق عليها العقلاء بتقريب ان العقل متى احتمل الضرر في شئ ما ألزم بتجنبه، واستحق صاحبه اللائمة لو أقدم عليه وصادف وقوعه فيه.  وموقع التعارض بينهما ان القاعدة الاولى مع احتمال التكليف وعدم تنجزه بالوصول، تنفي العقاب من الشارع وتمنعه، والاخرى لا تمنعه بل تصحح صدوره منه وتلقي التبعة على المكلف ان  قصر في امتثاله، فالاولى مؤمنة من الضرر، والثانية غير مؤمنة وموضوعهما واحد. وأشكل على هذه المناقشة ان التعارض في الاحكام العقلية مستحيل، لان العقل لا يتناقض على نفسه باصدار  حكمين متناقضين على موضوع واحد، فلا بد من التماس محاولاتهم لرفع هذا التناقض. التوارد بين القاعدتين: وقد ذهب بعضهم إلى أنهما - أعني القاعدتين - مختلفتان في الرتبة، وقيام احداهما  يكون مزيلا لموضوع الاخرى، وبهذا جعلوا (قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل) واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لادعائهم ان هذه القاعدة تصلح ان تكون بيانا يمكن للشارع ان يعتمد عليه،  ومع فرض كونها بيانا من قبله، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يبقى لها موضوع.
------------------------------------------------------------------
والجواب على هذه الدعوى: 1 - ان الالتزام بها مساوق لانكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ لا يبقى لها موضوع دائما، لان العقل إنما اعتبرها عند الشك في التكليف، ومع الشك فيه فإن احتمال  الضرر قائما حتما، ومع قيامه تقوم القاعدة المرتكزة عليه فيزول موضوع تلك القاعدة، وقد افترضنا في القاعدة انها مما تطابق عليها العقلاء، فهل تطابق العقلاء على قاعدة من دون موضوع ؟  ! 2 - إمكان عكس الدعوى عليهم، والنقض بورود القاعدة الاولى على الثانية. بتقريب ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل بنفسها مؤمنة ورافعة لاحتمال الضرر، فمع قيامها لا احتمال  للضرر ليلجأ إلى القاعدة الثانية، وبهذا يتضح ان قيام القاعدة الاولى يكون رافعا لموضوع القاعدة الاخرى وواردا عليها. فالقاعدتان اذن متواردتان، والاشكال يبقى قائما ينتظر. الرأي الاخير:  والرأي الذي نراه إلى حل المشكلة هو الرأي الذي تبناه بعض مشايخنا العظام على غموض نسبي في أداء بعض مقرري بحثه. والظاهر انه يريد هذا المضمون في: - دفع الاشكال، فإن لم يكنه  فهو قريب منه في اكثر خطوطه - وهو اعتبار القاعدتين منفصلتين عن بعضهما موردا، ولكل منهما مجال. وفي هذه الحدود لا التقاء بينهما ليلزم التعارض، وبشئ من التحديد للمراد من كلمة  الضرر يتضح هذا المعنى.
------------------------------------------------------------------
يطلق الضرر ويراد به النقص الذي يدخل على الانسان بسبب عمل أو ترك شئ ما سواء كان روحيا أم ماديا، وهو على قسمين دنيوي وأخروي، ولكل من هذين القسمين حساب بالنسبة إلى  موضع بحثنا. 1 - احتمال الضرر الدنيوي. وهذا الاحتمال إذا كان على درجة من الاهمية كبيرة، وكان الضرر مما لا يتسامح فيه عادة، يمكن ان يدرك العقل لزوم الاحتياط على وفقه، ومنه  يدرك رأي الشارع بالزامه به - أعني الاحتياط - ابعادا للمكلف عن الوقوع فيما يبغضه. وقد سبق ان قلنا ان للشارع ان يجعل الاحتياط للمحافظة على بعض التكاليف التي يعلم مبغوضية فعلها من  قبل المكلف على درجة لا يريد وقوعها في الخارج بأية كيفية كانت كما هو الشأن في الدماء والفروج والاموال على قول. وفي مثل هذا الحال صححنا جعل الاحتياط الشرعي من قبله، وقلنا ان  العقاب إذ ذاك على تقدير مخالفة الاحتياط وعدم مصادفة الواقع انما هو على التجري أو ما يعود إليه - بناء على حرمته -، لا على مخالفة التكليف لعدم مصادفته الواقع كما هو الفرض. وعلى  هذا، فقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل قائمة هنا، ومنها يكتشف البيان الشرعي، فتكون واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل إذ لا تبقي لها موضوعا ليرد الحكم العقلي عليه. 2 -  احتمال الضرر الاخروي - أي العقاب -. وهذا الاحتمال لا يستتبع جعلا شرعيا للاحتياط على وفقه لبداهة أن كل ما يتصل بشؤون الاطاعة والعصيان مما هو في طول التكاليف، لا تكون أوامره -  لو وجدت - من قبيل الاوامر المولوية لاستحالة صدور هذا النوع من الاوامر عنه.
------------------------------------------------------------------
وقد سبق أن تحدثنا في مبحث (دليل العقل) عن أن بعض الاحكام العقلية لا تستتبع أوامر شرعية لوجود موانع عقلية عن ذلك وضربنا المثل بأوامر الاطاعة. وما قلناه هناك نقوله هنا، لان احتمال  العقاب بل القطع به - لا يستطيع أن يوجه الشارع - نهيا عن الوقوع فيه فضلا عن جعل الاحتياط، كأن يقول لك: لا تقع في العقاب للزوم التسلسل الواضح بداهة ان مخالفة هذا النهي إما ان  توجب عقابا فهي مردوع عنها، وهذا الردع إن أوجبت مخالفته العقاب، فهو مردوع عنه، وهكذا إلى غير النهاية. فإذا كان احتمال الضرر الاخروي لا يستتبع جعل الاحتياط الشرعي على وفقه،  فمن الواضح أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تكشف عنه - اعني الاحتياط - لعدم امكان جعله من قبله، فهي لا تصلح ان تكون بيانا شرعيا له، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تبقى قائمة ومع  قيامها يقطع بعدم الضرر الاخروي، فلا يبقى مجال لوجوب دفع الضرر المحتمل، إذ لا احتمال للضرر حتى يجب دفعه. وإذن فالقاعدتان لا تعارض بينهما ولا تناقض في حكم العقل. وعلى هذا  فقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل إنما تختص في المواقع التي يمكن للشارع ان يجعل تكاليفه عليها - ولو كانت التكاليف احتياطية -. وهي لا تشمل غير قسم من الاحتمالات لاضرار دنيوية  بالغة، يعلم من الشارع بغض وقوعها من العبد، وما عداها فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تبقى قائمة، وهي هادمة بقيامها للقاعدة الاخرى لتحصيلها القطع بالمؤمن الرافع لاحتمال العقاب.
------------------------------------------------------------------
نعم في الموارد التي لا تصلح للمؤمنية فيها، كما في موارد الشبهات البدوية قبل الفحص - بالتقريب الذي ذكرناه سابقا - تجري هذه القاعدة - أعني قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل - لعدم  المؤمن العقلي - كما هو واضح -. البراءة العقلية وظيفة عقلية لا حكم: وكونها وظيفة لا يحتاج إلى حديث لبداهة افتراضها عند اختفاء الاحكام الشرعية، وليس فيها جنبة نظر للواقع ولا حكاية  عنه، بل ليس فيها ما يكشف عن رأي الشارع حتى في هذا الحال لاستحالة ذلك، ومن هنا قلنا: انها وظيفة عقلية لا شرعية.
------------------------------------------------------------------
الباب الرابع القسم الثاني الاحتياط العقلي تحديد الاحتياط العقلي، دليله، الشبهة البدوية قبل الفحص، العلم الاجمالي: قابليته لتنجيز متعلقه، منشأ تنجيزه، إمكان جعل المرخص وعدمه، وقوع ذلك  الجعل وعدمه، حل العلم الاجمالي، الشبهة محصورة وغير محصورة، الشبهة غير المحصورة وحكمها، دوران الامر بين التعيين والتخيير، الخروج من عهدة التكليف المعلوم، الاحتياط وظيفة  عقلية.
------------------------------------------------------------------
تحديد الاحتياط العقلي: وهو حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز إذا كان ممكنا. وغرضنا من ذكر قيد الامكان إخراج بعض صور العلم بالتكليف، كما في بعض صور دوران  الامر بين المحذورين، مما لا يمكن الجمع بينهما بحال، وسيأتي الحديث عنها. ويدخل ضمن هذا التحديد أقسام ثلاثة: 1 - الشبهة البدوية قبل الفحص. 2 - العلم الاجمالي بتكاليف إلزامية إذا كان  الاحتياط ممكنا ولو بالاتيان بجميع المحتملات أو تركها. 3 - العلم التفصيلي بتكليف ما، والشك في الخروج عن عهدته بالامتثال لبعض الجهات. دليله: ودليله هو القاعدة التي تطابق عليها العقلاء،  من ان شغل الذمة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا. ولبيان استيعاب الدليل لجميع ما انتظم في هذا التعريف، ثم لتحديد صغريات ما يمكن ان تنتظم في الكبرى الكلية المستفادة منه. يقتضينا ان نقف عند  كل واحدة منها، فنتحدث عنها بشئ من الايجاز، ونحيل في استيعابها حديثا وصورا إلى الموسوعات الشيعية (1)
(1) راجع الجزء الثاني من حقائق الاصول، والثالث من فوائد الاصول والدراسات، وغيرها، (مباحث الاحتياط). (*)
------------------------------------------------------------------
لتوفرها على بحث هذه المواضيع. 1 - الشبهة البدوية قبل الفحص: ووجوب الاحتياط في الشبهات البدوية قبل الفحص، سبق أن ذكرنا أدلته في مبحث (الاستصحاب)، ولعل أهمها العلم الاجمالي  المنجز بوجود تكاليف إلزامية، وبهذا المعنى فإنها تكون من صغريات مسألة العلم الاجمالي القادمة والحديث فيه يأتي. أما إذا فرض أن هذا الدليل غير تام، واخذنا بالادلة الباقية، فإن قاعدة شغل  الذمة اليقيني لا تكون دليلا على وجوب الاحتياط فيها، لبداهة عدم اليقين فيها إذ ذاك بالشغل لتكون نتيجة للقاعدة المذكورة، ولا بد من الاستدلال عليها بأدلة أخرى أهمها القاعدة السابقة وجوب  دفع الضرر المحتمل لا لاكتشاف الجعل الشرعي له من هذه الطريق لانحصار الاكتشاف باحتمال الاضرار الدنيوية البالغة منها، والشبهات البدوية ليست مختصة بهذه الاحتمالات دائما، بل لعدم  وجود المؤمن، وذلك لعدم جريان البراءة الشرعية فيها لقصور أدلتها عن شمولها لكونها مقيدة عرفا بما بعد الفحص، كما سبق تقريبه، ولان البيان الواصل المأخوذ في موضوع البراءة العقلية -  اعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل - لا يراد به فعلية الوصول بداهة، بل يراد به معرضية الوصول لما مر شرحه من أن الشارع غير مسؤول عن إيصال التكاليف إلى كل واحد من المكلفين،  وانما عليه أن يبلغ بالطرق المتعارفة وعليهم السعي إلى معرفتها. فدليل الاحتياط العقلي فيها هو هذه القاعدة، إذ لا دافع هنا لاحتمال الضرر ليلجأ إليه.
------------------------------------------------------------------
2 - العلم الاجمالي: والحديث حوله يقع في جهات متعددة أهمها جهتان: 1 - قابليته لتنجيز ما تعلق به، وما يتفرع من بحوث عليها. 2 - حل العلم الاجمالي. قابليته لتنجيز متعلقه: والمراد بالقابلية  هنا صلوحه لان يكون بيانا يتكل عليه الشارع في إيصال تكاليفه - من دون حاجة إلى جعل منه - وحاله حال العلم التفصيلي في تنجيز متعلقه. والذي يبدو ان القول بقابليته موضع اتفاق الجميع،  وإن ذكرت بعض الوجوه لنفي القابلية، إلا انه لا قائل بها، وغاية ما قرب به نفي القابلية من أنه (ربما يقال انه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى ان يكون المكلف، حين العمل،  عالما بالمخالفة تفصيلا، وأما الاتيان بأمور لا يعلم حين الاتيان بكل واحد منها بمخالفته للمولى، ولكن بعد الاتيان بالجميع يعلم بتحقق المخالفة في الخارج، فلا يحكم العقل بقبحه). (وبعبارة اخرى:  القبيح مخالفة التكليف الواصل، لا تحصيل العلم بالمخالفة (1)). وأجيب على هذا التقريب بأن فيه (مغالطة ناشئة من الخلط بين الوصول والتمييز، فإن وصول التكليف الفعلي هو الموضوع لحكم  العقل بقبح المخالفة، ولا ربط لهذا بتمييز المكلف به أصلا، ولذلك لا ريب
(1) الدراسات، ج 3 ص 52. (*)
------------------------------------------------------------------
في حكم العقل بقبح ارتكاب جميع أطراف العلم الاجمالي دفعيا كالنظر إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما كما في ارتكاب المحرم تفصيلا، مع ان موضوع التكليف الواقعي غير مميز فلا  يعتبر في القبح إلا وصول التكليف الفعلي، وهو متحقق في محل الكلام (1))، فالشبهة في قابليته للتنجيز شبهة في مقابل البديهة، وهي لا تستند - كما يقول استاذنا الخوئي - على غير المغالطة،  ولذا لا نجد عاقلا من العقلاء يقدم على شرب إناءين يعلم إجمالا بوجود السم في أحدهما بدعوى عدم تمييزه للاناء الذي وجد فيه السم من بينهما. ولكن - بعد ثبوت القول بالقابلية - يقع الكلام في  منشأ المنجزية فيه، فقيل: ان منشأها ذاتي في كل ما يتصل به، وحاله حال العلم التفصيلي في كونه علة تامة لتنجيز متعلقه، وقيل: ان العلم الاجمالي ليس فيه اكثر من اقتضاء التنجيز، وتنجيزه  موقوف على عدم جعل المرخص في أطرافه، وعلى كلا القولين فقد وقع الكلام في إمكان جعل المرخص على خلافه كلا أو بعضا وعدمه، وعلى تقدير الامكان، فقد اختلفوا في الوقوع وعدمه  ايضا. فالكلام إذن يقع في مسائل ثلاث: أ - منشأ تنجيزه. ب - إمكان جعل المرخص على خلافه وعدمه. ج - وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه على تقدير إمكانه. أ - منشأ تنجيزه: وقد ذكرنا أن في  المسألة قولين: قولا بالعلية وقولا بالاقتضاء،
(1) الدراسات، ج 3 ص 53. (*)
------------------------------------------------------------------
ولعل وجهة نظر القائلين بالعلية، هو ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في كشفه عن الواقع، فإراءته له أراءة كاملة لا قصور فيها، بل هو في الحقيقة علم تفصيلي بوجود التكليف، ولما كان العلم  التفصيلي علة تامة لتنجيز متعلقه لما سبق في بحوث التمهيد، كان العلم الاجمالي كذلك، ولا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا. والتردد في مقام تطبيق الحكم على كل من الاطراف لا يسري إلى  التردد في أصل الحكم فاصل الحكم، واصل على كل حال. أما القائلون بالاقتضاء، فوجهة نظرهم مبنية على ان هذا الترديد في مجال التطبيق يضعف تأثير العلم الاجمالي، وينزل رتبته عن العلم  التفصيلي، فهو لا يزيد على ان يكون فيه اقتضاء التأثير، وتأثير المقتضى فيه موقوف على عدم وجود المانع، أي عدم وجود المرخص من قبل الشارع في ارتكاب الاطراف. وعلى هذا فالتنجيز  عند هؤلاء الاعلام يتضح من وجهة نظرهم في المسألة التالية من إنكار امكان جعل المرخص في الاطراف كلا أو بعضا. ب - إمكان جعل المرخص وعدمه: أما على مبنى من يذهب إلى علية  العلم الاجمالي للتنجيز، فاستحالته واضحة للزوم الترخيص في مقطوع المعصية إذا جعل في تمام الاطراف أو الترخيص في محتملها إذا جعل في بعضها دون بعض، ويستحيل على الشارع  المقدس ان يرخص في مقطوع المعصية أو محتملها مع تنجز التكليف بالعلم لقبح ان يصرح بجواز معصيته بالضرورة، وان جاز له ان يعفو بعد صدور المعصية من العبد، على ان شؤون  الاطاعة والعصيان راجعة إلى العقل كما سبق بيانه، وليس للشارع دخل في وضعهما أو رفعهما بداهة.
------------------------------------------------------------------
وأما على مبنى من يقول بان فيه اقتضاء التنجيز في كل من الاطرف، فكذلك فيما يلزم منه المخالفة القطعية، ولكن بملاك آخر غير ذلك الملاك. والملاك الذي ينتظم جميع أنواع ما يقع به  الترخيص سواء كان إمارة أم أصلا، هو ان جعل الشارع الترخيص في تمام الاطراف يلزم منه الترخيص في مقطوع المعصية لانتهائه إلى جواز المخالفة القطعية، وقد سبق ان قلنا أن التصريح  بجواز المعصية من قبله قبيح ينزه عنه سبحانه، وجعله في بعض الاطراف دون بعض ترجيح بلا رجح. وذهب بعضهم إلى إمكان جعله في الجميع على أن يقيد كل مرخص منها بصورة عدم  ارتكاب الطرف الآخر فينتج التخيير بينهما. وهذا النوع من التقييد مستحيل أيضا، لانتهائه إلى التعبد بهما معا عند عدم ارتكابهما - أي إلى الترخيص في مقطوع المعصية - لتوفر الشرط في كل  منهما، وهو عدم الارتكاب. بالاضافة إلى أن الاطلاق والتقييد إنما هما من قبيل الملكة والعدم، فالمحل الذي لا يكون قابلا لاحدهما لا يكون قابلا للآخر، وحيث افترضنا استحالة الاطلاق في مقام  الثبوت، فلا بد أن يكون التقييد مستحيلا فيه ايضا، فالترخيص على هذا في جميع صوره لا يمكن جعله في مقام الثبوت. هذا إذا كانت نسبة المرخص إلى الجميع نسبة واحدة، أما إذا اختلفت النسبة  في الاطراف بأن كان بعضها موضعا لامارة أو اصل دون الباقي، أمكن جعلها والتعبد بها بالنسبة إلى ذلك الطرف، ولا محذور في ذلك وسيأتي ان هذا القسم من جملة ما يحل به العلم الاجمالي.  هذا كله في مقام الثبوت، أما في مقام الاثبات فهو متفرع بالبداهة على مقام الثبوت، فإذا افترض استحالة الجعل والتعبد بالمرخص فيه، فإن
------------------------------------------------------------------
الادلة المعبرة عنه لا يمكن أن تكون شاملة لهذه الاقسام بداهة، لان التمسك بظهورها في شمول هذه الاقسام، إنما يلجأ إليه عند الشك، ومع العلم بعدم الشمول لا مجال لحجية مثل هذا الظهور.  وإذا كان - ولا بد من التغاضي عن مقام الثبوت والتماس ما تقتضيه الادلة بنفسها. 3 - في وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه: ثم مدى ما تدل عليه أدلة الترخيص، امارة أو أصلا - فالظاهر ان الحال  يختلف فيها باختلاف ما تفيده ألسنة جعلها، واعتبارها من قبل الشارع. الامارة والعلم الاجمالي: أما الامارة فالظاهر ان أدلتها غير وافية بالشمول لجميع الاطراف لانتهائها إلى التكاذب، لان ما دل  على وجود الحكم في كل من الاطراف، يدل بالدلالة الالتزامية على نفيه في الآخر للعلم بوحدة الواقعة، كما هو الفرض، ومقتضى ذلك تكاذبهما. فالخمرية المرددة بين إناءين إذا قامت البينة على  وجودهما في الاناء الاول، فقد دلت بالالتزام على عدم وجودها في الاناء الثاني، وتكذيب من يدعي وجودها فيه، وإذا قامت الثانية على وجودها في الاناء الثاني، فقد دلت على عدم وجودها في  الإناء الاول بالالتزام، كما دلت على تكذيب من يدعي وجودها فيه، ونتيجة ذلك هي التكاذب بينهما، بالاضافة إلى عدم إمكان الاخذ بهما معا لانتهائهما إلى جمع النقيضين في الاناء الواحد، أعني  وجود الخمر وعدمه.
------------------------------------------------------------------
واعتبار الحجية في إحدى الامارتين دون الاخرى ترجيح بلا مرجح، واعتبارها لاحداهما غير المعينة لا تجدي، لعدم الاستفادة منها في مجالنا الخاص، وتقييد احداهما بعدم ارتكاب الطرف الثاني  مما ينتج التخيير غير معقول، لعدم معقولية الاطلاق، وهما من قبيل الملكة والعدم مع ان لازم ذلك هو جعل الحجية لهما معا عند عدم ارتكاب الطرفين، كما قدمنا. وأما الاصول، فالحال فيها  يختلف أيضا، فإن كانت على وفق المعلوم بالاجمال فلا محذور لدى الاكثر في جريانها في تمام الاطراف، وترتيب الآثار عليها ثبوتا والادلة شاملة لها. وإن كانت على خلاف المعلوم بالاجمال  وكان الحكم المعلوم إلزاميا، فإن لزم من جريانها مخالفة عملية لم يمكن الجريان للزوم الترخيص بالمعصية، وهو ممتنع عقلا، والادلة لا بد ان تتقيد في غير هذه الصورة في إطلاقاتها العامة، فلا  تكون شاملة لها، كما لا تكون شاملة لاحدها المعين للزوم الترجيح بلا مرجح، ولا غير المعين لعدم ترتب ثمرة عملية عليه، والتخيير غير ممكن لما مر في الامارة من امتناع التقييد لامتناع  الاطلاق. وأما إذا لم تلزم مخالفة عملية كما في صورة دوران الامر بين محذورين، فالظاهر لدى البعض أنه لا مانع من الجريان لعدم تحقق الترخيص في المعصية، ما دام المكلف ملزما في  واقعه بالصدور عن أحدهما والمخالفة الالتزامية التي تكون بسبب جريان الاصلين معا، والايمان بالاباحة الظاهرية استنادا إليها وهي مخالفة للمعلوم بالاجمال لا محذور فيها ولا دليل على  حرمتها إذا لم تنته إلى عالم تكذيب المعصومين، فالادلة تكون شاملة لهذه الصورة. هذا إذا كان المعلوم بالاجمال حكما إلزاميا، وأما إذا لم يكن حكما إلزاميا. وكانت الاصول الجارية أصولا مثبتة  لحكم إلزامي، فالظاهر أنه
------------------------------------------------------------------
لا محذور من جريانها لعدم لزوم الترخيص في المعصية، وليس ما يمنع من أن يجعل الشارع الاحتياط مثلا في محتمل الالزام، كما هو الشأن في كل من الطرفين. والمقياس الذي ذكرناه في  الجريان وعدمه جار في جميع الاصول، إذا كانت نسبتها إلى الاطراف نسبة واحدة من حيث النفي والاثبات، ومن حيث عدم وجود خصوصية تستوجب الجريان في أحد الاطراف دون بقيتها. أما  إذا اختلفت في النفي والاثبات، فإن كان في أحد الاطراف خصوصية تستوجب اختصاصه بجريان الاصل، فالظاهر أنه لا مانع من الجريان وحل العلم الاجمالي به كما يأتي الحديث في ذلك. نعم،  ان هناك تفرقة بين الاصول الاحرازية وغيرها، ذكرها شيخنا النائني، وفحواها ان الاصول الاحرازية لا تجري في أطراف العلم الاجمالي على كل حال، إذا كانت قائمة على خلاف المعلوم  بالاجمال حتى لو قلنا بجريان غيرها من الاصول سواء استلزم جريانها المخالفة القطعية أم لم يستلزم. وكأن وجهة نظره ما استفاده من لسان جعل الاصول التنزيلية من اعتبار البناء العملي  والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع. وهذا النوع من البناء يستحيل اعتباره في مجموع الاطراف لانتهائه إلى التنزيل على خلاف الواقع مع العلم به. والظاهر أن ما انتهى إليه متين جدا،  وليس المنشأ فيه هو إثبات لوازمه ليلزم التكاذب في نظره ليقال في رده: ان الاصل إنما يثبت مؤداه في مورده بلا نظر إلى النفي عن غيره، وغاية ما يترتب على ضم بعض الاصول إلى البعض  هو العلم بمخالفة بعضها للواقع، ولا ضير فيه بناء
------------------------------------------------------------------
على عدم وجوب الموافقة الالتزامية. وإنما المنشأ لديه - فيما يبدو - هو امتناع جعل الشارع في مقام الثبوت حجية الاصول التنزيلية لجميع الاطراف مع انتهائها إلى طلب اعتبار غير الواقع واقعا،  مع حضور الواقع لدى المكلف بالوجدان. فكما يستحيل على الشارع أن يقول للمكلف اعتبر غير الواقع واقعا في المعلوم تفصيلا، كذلك يستحيل في حقه ذلك في كل ما ينتهي إليه. فالمحذور إنما  هو في صدور الجعل المستوعب لجميع الاطراف منه وهو عالم بانتهائها إلى طلب اعتبار غير الواقع واقعا حتما لا في إباء الادلة عن شمولها جميعا للتكاذب. فالاشكال عليه بعدم إثبات لوازمها -  أعني الأصول التنزيلية - لم يتضح لي وجهه، والظاهر أن فيه خلطا بين مقامي الثبوت والاثبات، فالشيخ النائني ناظر إلى مقام الثبوت والايراد ناظر إلى مقام الاثبات. والخلاصة التي انتهينا إليها:  ان الامارات لا تجري في أطراف العلم الاجمالي لتكاذبها، والاصول الاحرازية لا تجري للمانع الثبوتي، وبقية الاصول لا تجري إذا لزمت منها المخالفة العملية لتكليف إلزامي معلوم، وتجري إذا  كانت موافقة للمعلوم بالاجمال، أو لم يلزم فيها إلا المخالفة الالتزامية. ومن هذا يتضح وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية للحكم الالزامي المعلوم بالاجمال على المبنيين معا. أما  على القول بأن العلم الاجمالي علة تامة في تنجيز متعلقه، فلأن مقتضى عليته وجوب موافقته وحرمة مخالفته، إذ ليس وراء وصول الحكم لدى العقل إلا لزوم الاطاعة وعدم العصيان. وأما على  المبنى الثاني - أعني دعوى وجود اقتضاء التنجيز فيه -
------------------------------------------------------------------
فلأن العقل لا يسوغ الخروج على هذا المقتضى إلا بوجود مؤمن وهو مفقود هنا، ومع عدمه فالعقل يلزم بالاتيان به ولا يسوغ مخالفته، فوجوب الموافقة وحرمة المخالفة حكمان عقليان يجريان  في رتبة واحدة، وهما من آثار منجزية العلم الاجمالي، فما ذهب إليه بعض المشايخ العظام من ترتب وجوب الموافقة على حرمة المخالفة لا ملزم به. حل العلم الاجمالي: ومما ذكرناه تبين ان  المقياس في تأثير العلم الاجمالي هو احتمال انطباق التكليف المعلوم على كل واحد من الاطراف، على نحو لو انطبق عليه لكان مولدا للتكليف فيه. ولذا لو قدر انطباق المعلوم على بعض الاطراف  التي لا يتولد فيها تكليف، انحل العلم الاجمالي وفقد تأثيره، ولم ينجز مدلوله على من قام لديه. والسر في ذلك هو: ان العلم الاجمالي لا يزيد في منجزيته على العلم التفصيلي، فلو قدر توجه شك  إلى ذلك العلم التفصيلي على نحو يسري إليه لفقد ذلك العلم تنجيزه لمتعلقه وايصاله إلى المكلف بداهة. وعليه فمع عدم وصول التكليف بالعلم أو العلمي هنا لا مانع من جريان الاصول في بقية  الاطراف إذ العلم بالتكليف على هذا التقدير غير واصل لاحتمال انطباقه على ذلك الطرف الذي لو قدو له الانطباق عليه لما ولد تكليفا فيه. ونظرا لهذا، فقد اعتبر العلماء الامور التالية من موجبات  حل العلم الاجمال وهي: 1 - خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء كما لو فرض العلم بتوجه
------------------------------------------------------------------
تكليف إلزامي باستعمال دواء ما - مثلا - مردد بين دواء متدوال في السوق وآخر موجود في دولة أخرى لا يمكن وصول المكلف إليه، فمثل هذا المعلوم لو انطبق على ذلك الخارج عن محل  الابتلاء لما ولد تكليفا باستعماله لعبثية مثل هذا التكليف بعد فرض تعذر وصول المكلف إليه، والدواء الآخر غير معلوم الانطباق عليه، واذن فلا علم بتكليف ملزم للمكلف على كل حال، وحيث لا  علم، فان جريان الاصول في الشبهات التي لا تكون طرفا له لا محذور فيها ولا معارض لها. 2 - الاضطرار إلى ارتكاب بعض الاطراف أو الاكراه عليه أو خروجه عن القدرة، وبما ان هذه  الامور رافعة للتكليف لو كان موجودا، فانطباق المعلوم على ذلك الطرف لا يولد تكليفا على وفقه فيذهب العلم بتوجه التكليف به، ويتحول إلى شك بالنسبة للطرف الآخر بالضرورة، وعندها تجري  الاصول بلا معارض أو محذور. 3 - ان لا يكون بعضها محكوما قبل مجئ العلم الاجمالي، أو عند مجيئه بحكم على وفقه، إذ لا يولد تكليفا في ذلك الطرف لو قدر له الانطباق عليه فيفقد تنجيزه،  وهكذا... هذا كله في طرو هذه الامور عن مجئ العلم الاجمالي أو قبله، أما لو طرأت بعد تنجز العلم الاجمالي ووصول التكليف به، كأن يكون قد طرأ على أحدهما ما يخرجه عن محل الابتلاء أو  تولد اضطرار للمكلف إليه، فمثل ذلك لا يوجب انحلال العلم الاجمالي لعدم المؤمن في ارتكاب الاطراف الاخرى، أما على مبنى علية التنجيز فواضح، إذ لا مجرى للاصل في تلكم الاطراف بعد  تنجز التكاليف بالعلم، وأما على المبنى الآخر فلسقوط الاصول بالتعارض، ومع سقوطها فلا مؤمن للمكلف في جواز الارتكاب.
------------------------------------------------------------------
بينما لا يتأتى هذا المعنى قبل تنجز العلم، لان وجود أحدها مانع من تنجز التكليف ابتداء، فلا مسقط لجريان الاصول في الاطراف المشكوكة. وعلى هذا المقياس من حل العلم الاجمالي ركز بعض  الاعلام تحديده للشبهات غير المحصورة، ولاهمية البحث فيها نتحدث عنها بشئ من الكلام. الشبهة محصورة وغير محصورة: وقد اختلفوا في تحديد كل منهما، ومن استعراض أقوالهم في الشبهة  غير المحصورة يتضح تحديد المحصورة ايضا بحكم المقابلة. الشبهة غير المحصورة وحكمها: وأهم ما ذكروا لها من تحديدات ثلاثة، وربما رجعت بقية التحديدات إليها: 1 - ان تكثر أطرافها  كثرة يعسر معها العد ومثل له في العروة الوثقى بنسبة الواحد إلى الالف، وربما رجع إلى هذا المعنى ما ذهب إليه الشيخ الانصاري من ضعف انطباق الاحتمال على كل واحد منها لكثرة  الاطراف. 2 - ما اختاره المحقق النائني: (من ان الميزان في كون الشبهة غير محصورة، عدم تمكن المكلف عادة من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الاطراف، ولو فرض قدرته على ارتكاب  كل واحد منها (1)). ومن هنا تختص الشبهة غير المحصورة لديه بخصوص الشبهات التحريمية
(1) الدراسات، ص 242. (*)
------------------------------------------------------------------
أما الوجوبية منها فإن الاطراف، وإن بلغت كثرتها ما بلغت، فإن المكلف يتمكن من مخالفتها بتركها جميعا. 3 - أن يكون بعض الاطراف خارجا عن محل الابتلاء، أو تكون الاطراف مما يعسر  مخالفتها جميعا، أو يكون المكلف مضطرا إلى بعضها، إلى غير ذلك مما يوجب انحلال العلم الاجمالي. وقد تبنى صاحب الكفاية هذا الرأي وجلاه واكد عليه بعض اساتذتنا الاعلام. وهذا الرأي  وإن انطوى على إنكار الشبهة غير المحصورة - لشموله حتى للشبهة ذات الطرفين، إذا كان واحدا منهما خارجا عن محل الابتلاء أو كان مضطرا إلى ارتكابه، إلا ان التعبير بالشبهة غير  المحصورة ليس من التعبيرات الشرعية الواردة على لسان المعصوم حتى يتقيد بمدلوله. والظاهر أن غرض اساتذتنا الذين تبنوا هذا الرأي، بيان أن العلم الاجمالي إذا كان متوفرا على عوامل  تنجزه فإنه يؤثر اثره، سواء كانت الاطراف قليلة أم كثيرة، وان لم يتوفر عليها فهو منحل، قلت اطرافه أو كثرت، والمقياس هو التنجيز وعدمه. وإلا فإن ضعف الاحتمال - وهو الذي تبناه التحديد  الاول - لكثرة أطرافه لا يصلح لرفع اليد عن العلم الاجمالي المنجز، ما دمنا نحتاج إلى المؤمن في ارتكاب أي طرف وان كان موهوما، وكون العقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة لا نعرف له  مأخذا، على انه محتاج إلى إقرار من الشارع لو كان مثل هذا البناء موجودا لما قدمناه من أن البناء وحده لا يصلح للدليلية. والمؤمن هنا غير متوفر لما سبق بيانه من عدم جريان الاصول في  أطراف العلم أو جريانها وتساقطها. ومبنى شيخنا النائني هو الآخر غير واضح لابتنائه على ان يكون
------------------------------------------------------------------
وجوب الموافقة القطعية وليد حرمة المخالفة القطعية، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم تمكن المكلف منها لم تجب الموافقة القطعية لعدم ما يوجبها ويلزم بها، وقد سبق ان قلنا ان العلم الاجمالي  بالنسبة اليهما لا يختلف حاله، فكما يمنع من المخالفة القطعية فانه يوجب الموافقة القطعية وكلاهما بالنسبة إليه في رتبة واحدة، كما تقتضيه علية تنجيزه أو اقتضاؤه مع فقد المؤمن بالنسبة إلى  جميع الاطراف. على ان ارتكاب بعض الاطراف لو كان ممكنا لاحتاج إلى مرخص من أصل أو غيره، وإجراء الاصول أو غيرها بالنسبة إلى بعض الاطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح،  فالقول بعدم وجوب الموافقة القطعية فيه لا يعرف له وجه. وعلى هذا فتقسيم الشبهة إلى محصورة وغير محصورة لا أساس له ما دام المقياس في تنجز العلم الاجمالي متوفرا فيهما معا ومع عدم  توفره فالعلم الاجمالي منحل كثرت أطرافه أو قلت، وتسميته بالعلم إذ ذاك لا تخلو من تجوز ومسامحة. ولقد اثيرت حول توفر هذا المقياس من التنجيز وعدمه أحاديث في قسم من مسائل العلم  الاجمالي، لعل أهم ما يتصل منها بأحاديثنا المقبلة مسألة: دوران الامر بين التعيين والتخيير: وذلك فيما إذا علم اجمالا بتوجه تكليف وشك في كونه معينا أو مخيرا بينه وبين غيره وصور هذه  المسألة ثلاثة:
------------------------------------------------------------------
أولاها: ما إذا دار الامر بين التعيين والتخيير في أصل الشريعة، ومرحلة الجعل في الاحكام الواقعية كأن يفرض صدور تشريع من الشارع ويجهل أمره في أنه كان معينا على المكلف أو كان  مخيرا بينه وبين غيره. ثانيتها: دوران الامر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع في الاحكام الظاهرية، أي دوران الامر في ان تكون الحجة المجعولة معينة أو مرددة، كالشك في ان  حجية جواز الرجوع إلى المجتهد هل هي مختصة بخصوص الاعلم من المجتهدين، أو هي عامة له ولغيره، على نحو يكون المكلف مخيرا بين الرجوع إليه والى غيره من المجتهدين ممن  يفضلهم في الخبرة بأصول الاستنباط. ثالثتها: دوران الامر بين التعيين والتخيير في مجالات الامتثال كما في صور باب التزاحم المأموري، وهو ما لو كان كل من المتزاحمين مصداقا لتكليف  فعلي، واحتمل وجود الاهمية في أحدهما. وقد وقع الخلاف بين الاعلام في بعض هذه الصور، وذكرت لها تشقيقات كثيرة ربما يعود تحقيق أكثرها إلى صميم البحوث الفقهية، ومجالات الاستفادة  من الادلة في مواقعها المخصوصة، والذي يرتبط ببحوثنا هذه هو خصوص القسم الثاني، أعني ما إذا دار الامر بين التعيين والتخيير في جعل الحجية لبعض الاحكام الظاهرية. والظاهر هو  الاتفاق على ان المرجع فيه هو الاحتياط، أي الاخذ بمحتمل التعيين، وذلك لما مر تأكيده اكثر من مرة من أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها. ولما كان محتمل التعيين مقطوع الحجية - اما  لانه هو الحجة المعينة وحدها، أو لانه طرف في التخيير، والطرف الآخر مشكوك الحجية لاحتمال ان تكون الحجة هي خصوص المعين - أعني تقليد الاعلم في
------------------------------------------------------------------
المثال - فانه يتعين الاخذ بمقطوعها، وترتيب الآثار عليه، وترك ما كان مشكوك الحجية لعدم قاطعية العذر فيه، وعدم إحراز كونه مبرئا للذمة، وشغل الذمة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا، كما مر  الحديث فيه. 3 - الخروج من عهدة التكليف المعلوم: وهذا أظهر موارد الاحتياط، فمن علم تفصيلا بتوجه تكليف إليه، وشك في تحقق الامتثال بما أتى به، وليس لديه محرز لتماميته من امارة أو  أصل، فالعقل يحكم بضرورة الاتيان به من باب الاحتياط لقاعدة الشغل، وإلا فلا معذرية له لو أقدم على مخالفة الاحتياط وأخطأ الواقع - وكان مستحقا للعقاب بنظر العقل. الاحتياط العقلي وظيفة  عقلية: وبهذا يتضح ان الاحتياط هنا لا يتجاوز عن كونه وظيفة جعلت من قبل العقل تحرزا من مخالفة أحكام المولى المنجزة، وليس فيه حكاية عن واقع شرعي، ولا وظيفة مجعولة من قبله  لتكون حكما أو وظيفة شرعية، إذ المصدر فيها قاعدة الشغل أو قاعدة دفع الضرر، وهما قاعدتان ناظرتان إلى عوالم استحقاق العقاب، وانهما لا يستتبعان حكما شرعيا ولا يكشفان عنه، لما قلناه  غير مرة من أن شؤون الثواب والعقاب لا يمكن ان يتعلق بها حكم شرعي للزوم التسلسل، فهي إذن وظيفة عقلية لا غير.
------------------------------------------------------------------
الباب الرابع القسم الثالث التخيير العقلي تحديده، الخلاف فيه، حجيته، التخيير وإجراء البراءتين، التخيير وقاعدة دفع المفسدة، التخيير والقول بالتخيير الشرعي، التخيير والاباحة الشرعية،  خلاصة البحث.
------------------------------------------------------------------
تحديده: والمراد بالتخيير العقلي، الوظيفة العقلية التي يصدر عنها المكلف عند دوران الامر بين المحذورين - الوجوب والحرمة - وعدم تمكنه حتى من المخالفة القطعية. وقد ذكروا له فروضا  متعددة لا ينطبق على تعريفنا هذا غير واحد منها، وهي صورة ما إذا كانت الواقعة واحدة غير متكررة وكان التكليف توصليا. الخلاف فيه: والاقوال في هذه الصورة - أعني صورة دوران الامر  بين المحذورين - خمسة: 1 - جريان البراءة عن كل منهما عقلا وشرعا. 2 - تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بملاك ما قيل من أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة. 3 - الحكم  بالتخيير بينهما شرعا. 4 - التخيير بينهما عقلا لعدم خلو المكلف تكوينا عن الفعل والترك مع الرجوع إلى أصالة الاباحة الشرعية. 5 - التخيير بينهما عقلا، مع عدم جريان شئ من القواعد  الشرعية فيهما. والظاهر ان اسد هذه الاقوال هو القول الخامس، إن صح تسميته بالتخيير العقلي، ولعل تسميته بالتخيير التكويني أولى لان صدور المكلف
------------------------------------------------------------------
عن أحدهما تخييرا لا يحتاج إلى من يرشده إليه، ما دام المكلف في واقعه لا يخلو عن احدهما، ولعل الغرض من تسميته بالتخيير العقلي هو أن العقل بعد أن يسد جميع منافذ الاقوال السابقة ولم  يبق إلا هذا المنفذ، فإنه لا بد ان يوجه الانسان إلى سلوكه بالذات. حجيته: وتتضح حجيته إذا علمنا السر في عدم جعل شئ من الامارات أو الاصول الشرعية فيهما مجتمعين أو منفردين في مقام  الثبوت. أما جعل الامارات بالنسبة اليهما معا فمستحيل لاستحالة التعبد بالمتناقضين وجعلها لاحدهما من غير المعين لا أثر له، والمعين ترجيح لا مرجح. والاصول الاحرازية كذلك - كما سبق  بيانه - لما تنهي إليه من طلب اعتبار غير الواقع واقعا، مع العلم بالواقع لو جعلت بالنسبة لهما معا ومع جعلها لاحدهما غير المعين، لا تترتب عليه أية ثمرة، وللمعين ترجيح بلا مرجح. واصالة  الحل لا يمكن جعلها لمنافاتها للمعلوم بالاجمال، وهو الحكم الالزامي، أما البراءة الشرعية فلان رفع الالزام فيها ظاهرا لا يكون إلا في موضع يمكن جعله فيه، وحيث ان جعل الاحتياط هنا  مستحيل لعدم قابلية المحل له فرفعه كذلك. ودعوى - ان القدرة على الوضع انما تلحظ بالقياس إلى كل من الحرمة والوجوب مستقلا لا اليهما معا وجعل الاحتياط بالقياس إلى كل منهما أمر ممكن  - ليست واضحة لدي لفرض المسألة في دوران الامر بين المحذورين وإمكان الجعل في مقام الثبوت، والكلام انه هل يمكن للشارع ان يضع الاحتياط في هذه الصورة بالذات وهي بمرأى منه،  فإذا لم يمكنه ذلك
------------------------------------------------------------------
لم يمكنه جعل البراءة لكل منهما. والمانع ليس مانعا إثباتيا ليتمسك بشمول حديث الرفع وإنما هو مانع ثبوتي. ودعوى ان الشارع وان لم يكن متمكنا من وضع الالزام الظاهري بالفعل والترك معا،  لكن يستطيع وضع كل منهما بخصوصه ويكفي ذلك في قدرته على رفعهما معا غير واضحة. لان جعل الالزام الظاهري لكل منهما مستحيل لعدم القدرة على امتثاله، ولاحدهما غير المعين لا  ثمرة له والمعين ترجيح بلا مرجح كما سبق. فالقول بامكان الرجوع إلى بعض الاصول في الاطراف لا نملك توجيهه فعلا. نعم، إذا كان لبعض الاطراف خصوصية توجب إجراء أصل فيه، تعين  اجراؤه، وخرجت المسألة عن الفرض لعدم الدوران حينئذ بين المحذورين. 1 - التخيير وإجراء البراءتين: أما القول الاول - أعني جريان البراءة في كل منهما عقلا وشرعا - فيرد عليه: أ -  جمع البراءة العقلية والشرعية على صعيد واحد مع اختلافهما رتبة وعدم إمكان الجمع بينهما، ولهذا جعلنا أدلة البراءة الشرعية واردة على البراءة العقلية ومع فرض قيام احداهما لا مجال  للاخرى. ب - عدم إمكان جعل البراءة الشرعية فيهما، لما سبق بيانه قبل قليل، والبراءة العقلية لا مسرح لها لوجود البيان الواصل من الشارع بالعلم وكون هذا العلم لا أثر له لعدم إمكان تنجيز  متعلقه لا يرتبط بمقامنا هذا، لان عدم التنجيز ليس منشؤه عدم وصول البيان المأخوذ في موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل منشؤه عدم القدرة على الامتثال، وقاعدة قبح العقاب على التكليف  غير المقدور، غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان
------------------------------------------------------------------
لاختلاف متعلقهما كما هو واضح. 2 - التخيير وقاعدة دفع المفسدة: ويرد على القول الثاني - أعني - تقديم جانب الحرمة لقاعدة دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة. أ - المناقشة في القاعدة  كبرويا، لان العقلاء جميعا يقدمون على ما فيه المصلحة الكبيرة وإن تعرضوا لشئ من المفاسد الصغيرة، وربما أقدموا على ما فيه احتمال المصلحة الراجحة وإن ضحوا في سبيله بالكثير،  فالتجار يسافرون من أجل احتمال الربح الاسفار البعيدة، وإن كلفتهم كثيرا من الجهد والمال، فالقول بأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ليس صحيحا على إطلاقه. فالقاعدة ليست قاعدة  مسلمة إذن لدى العقلاء في جميع الموارد، كما لم يقم عليها دليل شرعي لنتعبد بها، فالمسألة لا تخرج اذن عن كونها من صغريات باب التزاحم، وقد مر البحث فيها مفصلا في مبحث الاستحسان.  ب - على أن مسألتنا هذه أجنبية عن القاعدة، لان القاعدة - لو تمت - فإنما هي في المفسدة والمصلحة المعلومتين. أما المفسدة والمصلحة المشكوكتان فلا تجري بينهما هذه الموازنة. وقد سبق ان  قربنا - في مبحث الاحتياط الشرعي - أن المرجع في الشبهات التحريمية هو البراءة، فاحتمال المفسدة في شئ، حتى مع القطع بعدم وجود المصلحة، لا يقام له وزن في نظر الشارع لادلة  البراءة، فيكف إذا احتمل وجود المصلحة فيه ؟ 3 - التخيير والقول بالتخيير الشرعي: وقد أوردوا على هذا التخيير بأنه إن أريد به التخيير في المسألة
------------------------------------------------------------------
الاصولية - أعني اختيار أحدهما والافتاء على طبقة - فهو غير سليم لعدم الدليل عليه، وقياسه على الخبرين المتعارضين قياس مع الفارق لوجود النص فيهما وعدمه هنا. على أن الذي سبق ان  استظهرناه من الادلة هو عدم تماميتها في إثبات الوظيفة الشرعية حتى في الخبرين المتعارضين، ولذلك رجعنا إلى القاعدة وهي تقتضي التساقط فيهما. وإن أريد به التخيير في المسألة الفقهية ( أعني في مقام العمل بأن يكون الواجب على المكلف أحد الامرين، تخييرا من الفعل أو الترك، كما في غير المقام من الواجبات التخييرية فهو أمر غير معقول، لان أحد المتناقضين حاصل لا  محالة، ولا يعقل طلب ما هو حاصل تكوينا، إذ الطلب، ولو كان تخييريا، إنما يتعلق بامر مقدور دون غيره. ومن هنا ذكرنا في محله انه لا يعقل التخيير بين الضدين اللذين ليس لهما ثالث، فإن  أحدهما حاصل بالضرورة ولا يعقل تعلق الطلب بمثله (1)). 4 - التخيير والاباحة الشرعية: والقول بجريان الاباحة الشرعية فيها، مبني على شمول أدلتها للشبهات الحكمية وهو موضع  خلاف، والتحقيق اختصاصها بالشبهات الموضوعية كما أفاده كثير من الاعلام. بالاضافة إلى ما قلناه قبل قليل من أن أصالة الحل لا تجري لمخالفتها للمعلوم بالاجمال. على أن الحكم الظاهري -  مهما كان نوعه - إنما يجري إذا احتمل موافقته
(1) الدراسات، ج 3 ص 206. (*)
------------------------------------------------------------------
للواقع نظرا لاعتبار الشك في موضوعه، والمفروض في المقام هو العلم بالالزام في الواقع، وان شك في نوعه فكيف يمكن الحكم بإباحته. خلاصة البحث: والخلاصة: ان القول بالتخيير العقلي -  أو التكويني على الاصح - هو المتعين في هذه الصورة لبطلان بقية الاقوال، ومن بطلانها يتضح السر في اعتبارها وظيفة عقلية لا حكما شرعيا ولا وظيفة كذلك. أما بقية الصور مما تمكن فيها  المخالفة القطعية أو الموافقة، فهي خارجة عن مجالات التخيير العقلي وملحقة بالاقسام السابقة من البابين على اختلاف في كيفية الالحاق.