القسم الثالث - الاجماع

الباب الاول القسم الثالث الاجماع تعريفه، هل الاجماع أصل ؟ الاختلاف في حجيته، أدلة الحجية: الكتاب، السنة، العقل، حكم منكري حجية الاجماع، إمكان الاجماع وعدمه، الاجماع المحصل،  الاجماع المتواتر، الاجماع المنقول بأخبار الآحاد.
------------------------------------------------------------------
الاجماع تعريفه: الاجماع في اللغة لفظ مشترك بين العزم والتصميم - فيقال على سبيل المثال أجمع القوم على النهوض بالعمل الفلاني، أي عزموا وصمموا عليه، - وبين الاتفاق فيقال أجمعوا  على القيام بعمل ما أي اتفقوا عليه. وهو في اصطلاح الاصوليين موضع خلاف، وان اتفقوا على دلالته على الاتفاق. وموقع الخلاف منه متعلق بالاتفاق فقيل انه مطلق الامة، وقيل خصوص  المجتهدين منهم في عصر، وفي رأي مالك اتفاق أهل المدينة (1)، وقال بعضهم اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة)، (أو أهل المصرين الكوفة والبصرة) وربما ضيق إلى اتفاق الشيخين أو ( الخلفاء الاربعة (2))، وفي بعض المذاهب اتفاق خصوص مجتهديهم إلى ما هنالك من أقوال لا تعكس أكثر من اختلافهم في تحديد هذا المصطلح تبعا لاختلافهم في مقدار ما ثبتت له الحجية من  ذلك الاتفاق. ولذلك لا نرى وجها لالتماس تحديد المراد من هذه اللفظة كمصطلح عام بعد ان كانت لا تتولى الحكاية عن مضمون موحد، فلا معنى للاشكال على تعاريفهم بعدم الاطراد والانعكاس.  والمهم في الموضوع ان يبحث عن اعتباره أصلا من الاصول في مقابل
(1) عدة الاصول للشيخ الطوسي، ص 232، وأصول الفقه للخضري، ص 270. (2) المصدر السابق وغيره. (*)
------------------------------------------------------------------
الكتاب والسنة ودليل العقل، ثم عن حجيته وما يصلح للدلالة عليها من الادلة، ومنها يلتمس مدى وجه الحق في هذه الاقوال وغيرها مما عرض في الكتب المطولة. هل الاجماع أصل أو حكاية عن  أصل ؟ ونريد بالاصل هنا أن يكون له كيان مستقل في الحكاية عن الحكم الواقعي، أي لا يحتاج إلى توسط في عالم الحكاية من قبل أصل من الاصول الثلاثة، فهو لا يحكي عن الكتاب أو السنة  أو العقل، وإنما هو مستقل في مقابلها في عوالم الحكاية عن الاحكام. والظاهر أن الكثير منهم يرى أنه لا استقلال له، يقول الخضري: (لا ينعقد الاجماع إلا عن مستند (1)). وفي حكايته عن  الآمدي وغيره عن بعض الاصوليين: (انه لا يشترط المستند، بل يجوز صدوره عن توفيق بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب (2)). وقد ذكرت أدلة لكل من وجهتي النظر في كثير من الكتب  وليس في استعراضها ومناقشتها أية جدوى، لكون أكثرها واردة بمنأى عن أدلة الحجية. والذي يقتضي التركيز عليه استعراض أدلة الحجية، والنظر في حدود ما تقتضيه مضامينها من استقلال  وعدمه. وسيأتي أن بعضها يبدو منه استقلاله في الحجية لظهوره بإعطاء العصمة للامة، وجعل ذلك من مزاياها على ان يكون لاتفاقها خصوصية في اصابة الحكم الواقعي بمنأى عن بقية الادلة،  وإذا وجد هناك دليل
(1 - 2) أصول الفقه، ص 275. (*)
------------------------------------------------------------------
على وفق الاجماع، فهو من باب تعدد الادلة على الحكم الواحد كبعض الادلة السمعية والعقلية، ولكن بعضها الآخر يبدو منه اعتبار المستند باعتبار حكايته عن رأي المعصوم، ومن استعراضها  والتماس وجه الحق فيها تبدو نتائج ما ننتهي إليه. الخلاف في حجيته: (ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم، إلى أن الاجماع حجة، وحكي عن النظام وجعفر بن حرب  وجعفر بن مبشر أنهم قالوا: الاجماع ليس بحجة، واختلف من قال انه حجة، فمنهم من قال انه حجة من جهة العقل وهم الشذاذ، وذهب الجمهور الاعظم والسواد الاكثر إلى أن طريق كونه حجة  السمع دون العقل (1)). أدلة الحجية: وقد استدلوا على الحجية بالادلة الثلاثة، وأقصوا الاجماع عن الاستدلال به على حجيته لانتهائه إلى الدور. الكتاب: وأهم أدلتهم من الكتاب هذه الآيات:  الاولى: قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (2))، وقد قرب دلالتها على مذهب الجمهور صاحب سلم  الوصول
(1) عدة الاصول، ص 232. (2) النساء / 115. (*)
------------------------------------------------------------------
بقوله: (ان الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال: (نوله ما تولى ونصله جهنم)، فيلزم ان يكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرما  مثل مشاقة الرسول، لانه لو لم يكن محرما لما جمع في الوعيد بينه وبين المحرم الذي هو مشاقة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يحسن الجمع بين حلال وحرام في الوعيد، وإذا حرم اتباع  غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم إذ لا واسطة بينهما، ويلزم من اتباع سبيلهم ان يكون الاجماع حجة لان سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد (1)). ويرد على هذا  التقريب: أ - إن ظهور تعدد الشرط مع وحدة الجزاء، اشتراكهما في علة التحريم ولازمه ان اتباع غير سبيل المؤمنين من دون مشاقة للرسول لا يدل على الحرمة فلا يتم المطلوب، وقد استظهر  الغزالي ما يقرب من هذا المعنى من مساق الآية، وبعد لذلك دلالتها على الاجماع، يقول: (والظاهر ان المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته  ودفع الاعداء عنه، نوله ما تولى فكأنه لم يكتف بترك المشاقة، حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم (2)).  ب - وفي عقيدتي أن الآية لا يمكن أن تحمل على إرادة الاجماع منها لما فيها من كلمة (نوله ما تولى) إذ لا معنى للقول: بأن من يتبع غير
(1) سلم الوصول، ص 272، والظاهر أن هذا التقريب لصاحب نهاية السول وان لم يقومه كما يوحي إرجاعه في الهامش إليه. (2) أصول الفقه للخضري، ص 279 نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
ما أجمعوا عليه من الاحكام نجعل ما اتبعه من الحكم غير المجمع عليه واليا عليه يوم القيمة، وأي معنى لمثل هذا النوع من الكلام. والظاهر أن مضمون الآية: أن من يشاقق الرسول ويخالف  المؤمنين في اتباعه، ويتبع غيره من رؤساء الاديان والنحل الاخرى، نوله ما تولى، أي أننا نربط مصيره يوم القيمة بمصير من تولاه، فيكون مساقها أشبه بمساق الآية الاخرى (يوم ندعو كل أناس  بإمامهم (1))، وحينئذ تكون أجنبية عن مفاد جعل الحجية للاجماع. وأظن أننا بهذا المقدار، نكتفي عن مناقشة المراد من كلمة: غير والالف واللام في المؤمنين، وغير ذلك مما ذكروه في مناقشة  هذه الآية وأكثرها غير تام (2). الثانية: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس (3))، بتقريب: (ان الوسط هو العدل والخيار والعدل والخيار لا يصدر عنه إلا الحق،  والاجماع صادر عن هذه الامة، العدول الخيار فليكن حقا (4)) وهذه الدلالة لو تمت للآية، فهي لا تزيد على اكثر من اثبات العدالة لهم لا العصمة، والذي ينفع في المقام إنما هو اثبات العصمة  لهم لا العدالة، ليتم حكايتها عن الحكم الواقعي. إذ العدل لا يمتنع صدور غير الحق منه ولو فرض فانما (يلزم صدور الحق منه بطريق الظاهر فيما طريقه الصدق والكذب، وهو نقل الاخبار واداء  الشهادات، أما فيما طريقه الخطأ والصواب في استخراج الاحكام
(1) الاسراء / 71. (2) راجع الطوفي في مناقشاته لها، ص 100 وما بعدها من رسالته المنشورة في مصادر التشريع الاسلامي، والشيخ الطوسي في العدة، ص 234 وما بعدها.  (3) البقرة / 143. (4) الطوفي في رسالته السابقة، ص 103. (*)
------------------------------------------------------------------
والاجتهاد فيها فلا (1)). الآية الثالثة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون  (2)) وقد قربت دلالتها بما نقله الشيخ الطوسي في تقريبها، يقول في العدة: (قالوا وصف الله تعالى الامة بأنها خير الامة، وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا يجوز ان يقع منها خطأ  لان ذلك يخرجها من كونها خيارا، ويخرجها من كونها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر إلى ان تكون آمرة بالمنكر وناهية عن المعروف، ولا ملجأ من ذلك إلا بالامتناع من وقوع شئ من  القبايح من جهتهم (3)) وقد سبق الحديث عن هذه الآية في مبحث (سنة الصحابة) وذكرنا هناك عدم دلالتها على أكثر من التفضيل النسبي وهو لا يستدعي العصمة وعدم الوقوع في الخطأ، على  أنا لا نعرف وجها للملازمة التي ذكروها هنا في تقريب دلالة الآية بين عدم جواز وقوع الخطأ منهم وبين ما علل به من لزوم خروجها عن كونها خيارا، لان الخيار يخطأون وان كانوا معذورين  كما هو الشأن في غير المعصومين من العدول، فإثبات العصمة للامة بهذه الآية لا يتضح له وجه. الآية الرابعة: قوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (4)) بتقريب ان الاجماع حبل  الله فيجب الاعتصام به ولا يجوز التفرق عنه. وتمام دلالة الآية موقوف على ان يكون الاجماع مصداقا لهذا المفهوم والآية لا تتكفل باثبات ذلك لانها لا تثبت موضوعها بداهة.
(1) الطوفي في رسالته السابقة، ص 103. (2) آل عمران / 110. (3) عدة الاصول، ص 242. (4) آل عمران / 103. (*)
------------------------------------------------------------------
والآيات الباقية - وهي أضعف منها دلالة - تتضح مناقشتها مما عرضناه هنا فلا نطيل بعرضها والتحدث عنها. السنة: وقد استدلوا منها بطوائف من الاحاديث مأثورة عن (عمر، وابن مسعود وأبي  سعيد الخدري، وانس بن مالك، وابن عمر، وأبي هريرة، وحذيفة ابن اليمان وغيرهم، من نحو قوله: لا تجتمع أمتي على الضلالة - لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة - سألت الله ان لا يجمع  أمتي على الضلالة فأعطانيها - من سره ان يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فان دعوتهم تحيط من ورائهم - ان الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد - يد الله مع الجماعة، ولا يبالي الله  بشذوذ من شذ - لا تزال طائفة من امتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، (وروي لا يضرهم خلاف من خالفهم) إلا ما أصابهم من الاداء - من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد  شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه - من فارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية (1)) إلى غيرها من الروايات. وهذه الروايات على طوائف، بعضها أجنبي عن عوالم جعل العصمة لرأي الامة  كالاخبار الداعية إلى الالفة والتجمع أمثال يد الله مع الجماعة، ان الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وكالاخبار الحاثة على إطاعة السلطان ولزوم جماعته، أمثال (اتبعوا السواد الاعظم  فانه من شذ شذ في النار، ويد الله مع الجماعة)، يقول الطوفي: (فأما نحو قوله (عليه السلام) اتبعوا السواد الاعظم فانه من شذ شذ في النار ويد الله مع الجماعة، فانما المراد به طاعة الائمة  والامراء وترك الخروج عليهم بدليل قوله (عليه السلام):
(1) الخضري اصول الفقه، ص 279 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
اسمعوا وأطيعوا وان تأمر عليكم عبد حبشي، وقوله (عليه السلام): من مات تحت راية عصبية مات ميتة جاهلية (1)). وهناك قسم يذكر في الحث على صلاة الجماعة، ولم يبق إلا أحاديث لا  تجتمع أمتي على الضلالة وأمثالها. يقول المحقق الكاظمي: (وأقوى ما ينبغي ان يعتمد عليه من النقل حديث لا تجتمع أمتي على الخطأ وما في معناه لاشتهاره وقوة دلالته، وتعويل معظمهم ولا  سيما أوائلهم عليه وتلقيهم له بالقبول لفظا ومعنى، وادعاء جماعة منهم تواتره معنى، وموافقة العلامة من أصحابنا لهم على ذلك في أوائل المنتهى، وادعائه في آخر المائة الاول من كتاب الالفين  أنه يتفق عليه أي بين الفريقين وتعداده في القواعد من خصائص نبينا (صلى الله عليه وآله) عصمة أمته بناء على ظاهرها، وكذا في التذكرة مع التصريح بعصمتهم من الاجتماع على الضلالة  ووروده من طرقنا أيضا (2)). والروايات التي ذكرها - من طرقنا - ليست جامعة لشرائط الحجية في أخبار الآحاد ولا جدوى بعرضها، ويمكن الرجوع إليها في كتابه المذكور (3). وأهم ما  اورد على هذه الروايات من اعتراضات ما ذكره الطوفي من (ان هذا الخبر وإن تعددت ألفاظه ورواياته لا نسلم أنه بلغ رتبة التواتر المعنوي لانه إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا، وسخاء حاتم،  وشجاعة علي، ونحوهما من المتواترات المعنوية، وجدناها قاطعة بثبوت الرأي الثاني غير قاطعة
(1) رسالة الطوفي، ص 106. (2) كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع، للشيخ أسد الله المعروف بالمحقق الكاظمي، ص 6. (3) كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع، ص 6  وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
بالاول، فهو إذن في القوة دون سخاء حاتم وشجاعة علي وهما متواتران، وما دون المتواتر ليس بمتواتر، فهذا الخبر ليس بمتواتر لكنه في غاية الاستفاضة، فإن قيل تلقته الامة بالقبول فدل على  ثبوته، فجوابه من وجوه: أحدها: لا نسلم تلقيها له بالقبول إذ منكرو الاجماع كالنظام والشيعة (1) والخوارج والظاهرية - فيما عدا إجماع الصحابة - لو تلقوه بالقبول لما خالفوه. الثاني: ان  الاحتجاج بتلقي الامة له بالقبول احتجاج بالاجماع، وهو إثبات الشئ بنفسه (2))، إلى آخر ما ناقش به. ولكن الظاهر ان هذه المناقشات غير واردة، لان المراد بتلقي الامة له بالقبول ليس كل  الامة بل أغلبيتها، ولو سلم فربما كان خلاف الخوارج والظاهرية من جهة الدلالة، فلا يؤثر في صحة السند، والاستدلال بالتلقي له بالقبول ليس استدلالا بالاجماع ليلزم اثبات الشئ بنفسه، وإنما هو  من عوامل احداث الاطمئنان بصحة صدوره، وهو أشبه بما سبق ان ذكرناه من أن اعراض المشهور عن الرواية يوجب وهنها حتى إذا كانت صحيحة، وأخذهم بالرواية الضعيفة يوجب الوثوق  بصدورها، وقد قلنا هناك أن المدار على حصول الوثوق بالصدور فإن أحدث تلقي الامة له بالقبول ذلك كان هو الحجة وإلا فلا. تبقى مناقشة واحدة وهي واردة على جملة ما ذكر من الادلة  السمعية
(1) عد الطوفي الشيعة من جملة منكري الاجماع لا يعرف له وجه إذا أريد بهم الاثني عشرية لانهم من القائلين نوعا بحجيته، ولعل سر الاشتباه في النسبة ما اطلع عليه من انكارهم الاجماع  في يوم السقيفة، ولكن مناقشتهم له هنا من وجهة صغروية لعدم انعقاده بمخالفة جماعة كبيرة من كبار الصحابة أمثال بني هاشم، وابي ذر، وعمار، وغيرهم. (2) رسالة الطوفي، ص 105.  (*)
------------------------------------------------------------------
لا على خصوص هذا الحديث، وهي ورود لفظ الامة فيها أو ما يؤدي مؤداها والاخذ بظاهره لا يفيد إلا من قال بأن اجماع الامة حجة، أما بقية الاقوال كإجماع المجتهدين أو اهل الحرمين أو  الصحابة أو اهل طائفة ما، فإن هذه الادلة لا تصلح لاثباتها. والقول بأن الامة ليست هي إلا مجتهديها واهل الحل والعقد فيها، فلا عبرة بغيرهم قول لا يعتمد سوى الخطابة والاستحسان، وهما لا  يصلحان في مقام التمسك بالادلة على الحجج الشرعية، فالخروج على النص فيها لا مبرر له، وأوضح من ذلك في الاشكال قصرها على الصحابة أو اهل المدينة، وهكذا... العقل: وقد صور  دليلهم بصور عدة لعل أهمها ثلاث: أولاها: ما ذكر من: (ان الجم الغفير من أهل الفضل والذكاء مع استفراغ الوسع في الاجتهاد وإمعان النظر في طلب الحكم، يمتنع في العادة اتفاقهم على الخطأ  (1))، وقد أشكل على هذا الدليل (بالنقض بإجماع اليهود والنصارى وسائر أهل الملل على ضلالتهم، مع كثرتهم، وفضلهم واجتهادهم وإمعانهم في النظر (2))، وما أكثر ما يقع الاشتباه في  الامور الحدسية أو البرهانية، وكم اتفق الفلاسفة على أمر برهاني، ثم انكشف خطؤه بعد ذلك، وتاريخ العلماء ملئ بذلك. ثانيها: ما ذكره الشيخ الطوسي من الاستدلال بقاعدة اللطف، وقد قربت  هذه القاعدة بتقريب أن الله سبحانه يجب عليه، من باب اللطف بالعباد: (أن لا يمنعهم عن التقرب والوصول إليه، بل عليه أن يكمل
(1) مصادر التشريع، ص 106 (رسالة الطوفي). (2) مصادر التشريع، ص 106 (رسالة الطوفي). (*)
------------------------------------------------------------------
نفوسهم القابلة، ويرشدهم إلى مناهج الصلاح، ويحذرهم عن مساقط الهلكة، وهذا هو السبب في لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب، وعليه فلو اتفقت الامة على خلاف الواقع في حكم من الاحكام،  لزم على الامام المنصوب حجة على العباد إزاحة الشبهة بإلقاء الخلاف بينهم، فمن عدم الخلاف نستكشف موافقة رأي الامام (عليه السلام) دائما، ويستحيل تخلفه (1)). وهذه القاعدة - لو تمت -  فهي إنما تتم على رأي الشيعة فحسب لاعتقادهم بوجود الامام المعصوم، وهو ما نؤمن به - كمقارنين - إذا تم ما سبق أن انتهينا إليه في مبحث (سنة أهل البيت). على أن القاعدة لا تتم في نفسها  بالنسبة إلى موضع حديثنا، لان القاعدة غاية ما تقتضيه أن يصدر تبليغ الاحكام للناس على النحو المتعارف لا أن يوصلها إلى كل فرد، وربما يكون الامام قد بلغ، ولم يصل إلى هؤلاء المجتهدين  لبعض العوامل التي اقتضت الاختفاء. والمصلحة التي تقتضي اختفاء الامام نفسه، قد تكون متوفرة في اختفاء أحد الاحكام، فلا يلزم اظهاره على كل حال، على أن ايقاع الخلاف من شخص  مجهول لا يؤثر الاثر المطلوب في بلورة الحكم وإظهاره، فما قيمة هذا الخلاف ؟ ثالثها: ما ذكر من أن الاجماع يكشف عن دليل معتبر عند المجمعين بحيث لو وصل الينا لكان معتبرا عندنا. ويرد  على هذا الوجه، أن الدليل إما ان يكون كتابا أو سنة أو حكم عقل أو قياسا، ولا يمكن أن يكون إجماعا، إذ لا معنى لئن يكون الاجماع على حكم مستندا للاجماع عليه. أما الكتاب فآياته محدودة  وهي بأيدينا، ومع قيامها لدينا، لا معنى لالتماس الحجة من الاجماع
(1) دراسات، ص 88. (*)
------------------------------------------------------------------
لكفاية المستند، على أن مفروض الدليل ان المستند غير واصل الينا فلا يحتمل أن يكون آية، كما لا يحتمل أن يكون حكم عقل، لان الاحكام العقلية - كما يتضح من مفهومها الآتي لا تتوفر، إلا إذا  تطابق عليها العقلاء، والمفروض أننا منهم، فلا يمكن ان تختفي عنا لنحتاج إلى استكشافها من اتفاق الفقهاء، ومع فرض اختفائها عنا، فلا تطابق بين العقلاء الملازم لانتفاء الحكم عقلا. وأما  السنة فالمتواتر منها لا يختفي عنا، وغير المتواتر لا يكشف عن الحجة سندا ودلالة لاحتمال اعتماد المجمعين على ما لا نتفق معهم على صحة الاعتماد عليه في روايته لو اطلعنا عليها، ولاحتمال  اختلافنا معهم في كيفية استفادة الحكم منها، وقد رأينا في أخبار البئر ما كان متفقا على دلالته في يوم ما، ثم تبدلت وجهة نظر الفقهاء في العصور المتأخرة فيها ومن هنا قيل ان فهم المجتهدين لا  يكون حجة على غيرهم من العلماء. والقياس لما كان نفسه موضع خلاف كبير بين العلماء - كما يأتي تحقيقه - لا يمكن ان يكون مستندا للاجماع بل لا يمكن ان ينعقد اجماع من غير القائلين به  لعدم امكان استنادهم إليه مع انتهائهم إلى عدم حجيته، وما قيمة اجماع لا يشترك فيه ما يقرب من نصف الامة. وقد ضربوا له من الامثلة اجماع الصحابة على امامة ابي بكر قياسا على تقديمه في  الصلاة (1) والمناقشة في هذا المثال واردة صغرى وكبرى. أما من حيث الصغرى فلعدم انعقاده مع خلاف عشرات من الصحابة أمثال علي والعباس وولده وبقية بني هاشم وعمار وأبي ذر  والزبير والمقداد وسلمان وسعد بن أبي عبادة وأتباعه إلى غيرهم من أهل الحل والعقد. وأما الكبرى فلان نسبة الاعتماد إليهم جميعا على القياس لا تخلو من
(1) الخضري في أصول الفقه، ص 277، وغيره. (*)
------------------------------------------------------------------
تخرص لعدم تصريح الجميع بذلك بالاضافة إلى عدم حجية نفس القياس - كما يأتي الحديث عنه. - والغريب ان تفهم أحداث التاريخ الكبرى بهذا المقدار من الفهم الساذج حيث يعتقد ان الصحابة  كانوا على درجة من الغفلة بحيث يسكتون عن التساؤل عن معرفة مصيرهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو الذي عاش ما بين ظهرانيهم مدة من الزمن مريضا ينعى إليهم نفسه، أما كان  فيهم من يجرؤ على سؤاله عن وظيفتهم في تعيين الحكم وأسلوبه من بعده، وهل يعتمد الاختيار ؟ وكيف ؟ وما هي شروط الناخب أو المنتخب ؟ أو يعتمد النص ؟ ومن هو المنصوص عليه ؟  والنبي نفسه هل يمكن ان يغفل هذا الامر الخطير ويعرض الامة إلى رجة قد تأتي - في أيسر خلافاتها حول اسلوب الحكم وتعيين الحاكم - على الاسلام نفسه ؟ وبخاصة إذا لوحظ ظروفها  الخارجية من تعرضها لغزو الروم وخروج مسيلمة وارتداد كثير من الاعراب، إلى ما هنالك مما يعرض الامة لاشد الاخطار لو تعرضت إلى أية خلافات داخلية حول الحكم، أمن الحق ان  نفترض ان الصحابة كانوا على هذه الدرجة من الغفلة، ثم استيقظوا بعد وفاة نبيهم دفعة واحدة فلم يجدوا أمامهم من الادلة في تعيين الحاكم الا هذا النوع من القياس المظنون ليجعلوه مصدرا لاهم  حدث في تاريخهم الاجتماعي، أهكذا تفهم أحداث التاريخ وبعقلية أبناء هذا القرن بما جد فيه من تطورات ألقت كثيرا من الاضواء على دراسة وفهم احداث التاريخ وربطها بأسبابها الحقيقية بيئية  وزمانية ونفسية ؟ ! ولنا من هذا الحدث موقف طويل في كتابنا عن (عبد الله بن عباس) حبر الامة، وليس موضع عرضه هنا، وطبيعة مناقشة المثال لا تستدعي أكثر من هذا الكلام. وهناك أدلة  نظرية تعود إلى ضرورة دخول الامام في حملة المجمعين،
------------------------------------------------------------------
قولا أو اقرارا بحكم كونه رئيسهم، فهم لا يخالفونه عادة أو لا يقرهم على المخالفة. وهي أدلة لا تتجاوز الحدس وقد نوقشت في كتب الشيعة الامامية جميعا وبخاصة المتأخرين منهم (1)، فلا  جدوى باطالة الحديث فيها. بقيت دعوة من يدعي ان الاجماع مما يحصل بسببه القطع بوجود دليل لو اطلعنا عليه لوافقنا المجمعين على الحكم، وهي دعوى لا تنفع الا من يحصل لديه القطع، ولا  يبعد ان يحصل غالبا مثل ذلك في كثير من الاحكام الاجماعية، وبخاصة تلك التي لا تتصل بمنابع العاطفة أو العقيدة. ومن هنا يتضح ان هذه الادلة مختلفة في ألسنتها، فبعضها يعطي الاجماع قيمة  كبرى تجعله في مقابل الكتاب والسنة وحكم العقل، أي تجعله دليلا مستقلا في مقابل بقية الادلة، كالادلة السمعية التي عرضناها مفصلا وبخاصة حديث (ما اجتمعت امتي على ضلال) لاعطائها  فضيلة العصمة وعدم الخطأ، فكان لاجتماعها على الحكم خصوصية في بلوغ الواقع ولو من غير الطرق المعروفة، كالكتاب والسنة. وبعضها تعتبره كاشفا عن رأي المعصوم، أو عن دليل معتبر  من الكتاب والسنة، أو القياس على اختلاف في المباني، ومثل هذه الادلة لا تعتبر الاجماع دليلا مستقلا، فعده في مقابلها في غير موضعه. وعلى المبنى الاول ان الاجماع متى قام أخذ به، ولا  يعارضه دليل سمعي له ظاهر على الخلاف ويستحيل ان يعارض القطعي سندا، ودلالة منها - أي الادلة - لان الشارع لا يتناقض على نفسه، وعلى المبنى الثاني متى عرف المستند من كتاب أو  سنة نقل الحديث إليه، ولا معنى للتعبد به بالخصوص،
(1) راجع الدراسات، ص 88 وما بعدها، وأصول الفقه للشيخ المظفر، ج 3 ص 92 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
بل متى احتمل منه الاستناد إلى دليل ظني لم يحصل القطع بحجيته، ينقل الحديث إلى نفس ذلك المستند. ومن هذا العرض لهذه الادلة يتضح ان الحجية منوطة باجماع الامة لا الصحابة ولا أهل  المدينة ولا الحرمين ولا مجموع المجتهدين ولا أهل المصرين، فتخصيص غير الامة بالحجية على أي دعوى من هذه الدعاوى، لا يتضح له وجه وليس عليه دليل، نعم ما ذهب إليه القائلون  باكتشاف رأي المعصوم من دخوله ضمن المجمعين لا يعين الامة جميعا بل يكفي منها ما يعتقد فيه بدخول المعصوم. قال المحقق في المعتبر، وهو ممن يذهبون إلى ان مناط الحجية هو دخول  المعصوم: (فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين، كان قولهما حجة (1) وقال السيد المرتضى (إذا كان علة كون الاجماع حجة كون الامام فيهم، فكل جماعة  كثرت أو قلت كان الامام في أقوالها، فاجماعها حجة (2)) إلى ما هنالك من التصريحات بذلك. حكم منكري حجية الاجماع: ومن هذه الادلة التي عرضناها - وهي قابلة للمناقشة - لا نرى مبررا  لمن يذهب إلى تكفير منكري حجية الاجماع كما ذهب إلى ذلك بعض الاصوليين بدعوى (ان انكاره متضمن انكار دليل قاطع وهو يتضمن انكار صدق الرسول (صلى الله عليه وآله) وذلك كفر  (3)) وما اجمل ما قاله امام الحرمين، وهو يفصل القول في المسألة ويرد على هؤلاء دعواهم: (فشا في لسان الفقهاء ان خارق الاجماع يكفر، وهو باطل قطعا، فان منكر
(1) المعتبر، ص 6. (2) أصول الفقه للمظفر، ج 3 ص 93. (3) أصول الفقه للخضري، ص 281. (*)
------------------------------------------------------------------
أصل الاجماع لا يكفر، والقول في التكفير والتبري ليس بالهين) ثم قال: (نعم من اعترف بالاجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه، كان التكذيب آئلا إلى الشارع، ومن  كذب الشارع كفر، والقول الضابط فيه ان من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشئ من الشرع ثم جحده، كان منكرا للشرع وانكاره جزءا من الشرع كانكاره كله (1 ))، وهذا التفصيل من امام الحرمين في موضعه لوضوح ان انكار الطريق لا يستلزم انكار حكم شرعي ثبت بالضرورة بخلاف الاعتراف به وجحوده والتنكر له لانتهائه الى انكار ما ثبت من  الشريعة قطعا. إمكان الاجماع وعدمه: تحدثوا حول إمكان الاجماع وعدمه وأطالوا الحديث في ذلك، فقال قوم منهم النظام: ان ذلك مستحيل (2). والظاهر أن وجه الاستحالة لديهم قياسهم هذا  النوع من الاتفاق على امتناع (اتفاقهم في الساعة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة (3)). وهذا الوجه لا يصلح لاثبات الاستحالة لعدم توفرها - عقلا - في المقيس عليه، بالاضافة إلى  الفارق الكبير بينهما، فالاكل وغيره مما هو وليد الحاجة الفعلية لتقوم الاجسام، أو وليد الرغبة العابرة لا بد ان يتفاوت زمانا ومكانا بحسب العادة تبعا لاختلاف تكون الحاجات أو الرغبات بخلاف  قضايا الفكر أو القضايا المحسة، فإن التفاوت فيها ينعدم
(1) أصول الفقه للخضري، ص 281. (2 - 3) إرشاد الفحول، ص 72. (*)
------------------------------------------------------------------
أو يقل عادة لتقارب الناس في إدراك أولياتها، وفي اشتمالهم على قواها المدركة نوعا، وما أكثر ما اتفق العقلاء في آرائهم المحمودة على الكثير من القضايا، فهذه الشبهة اذن لا تستند على أساس  لعدم المانع العقلي من الاتفاق في بعض الوقائع أو القضايا ولو على سبيل الموجبة الجزئية. ولكن الكلام كل الكلام - بعد فرض امكان الاتفاق - في وقوعه والطرق إلى إثبات ذلك. ودعاوى الوقوع  كثيرة على ألسنة الفقهاء، ولهم إلى إثبات ذلك طريقان: أولاهما: تحصيل الاجماع بالمباشرة، وبحثوا هذه الطريق فيما أسموه ب‍: الاجماع المحصل: و (هو ما ثبت واقعا وعلم بلا واسطة النقل) كما  جاء في تعريفه لدى المحقق الكاظمي (1)، وأراد بهذا التعريف ان يتولى المجتهد نفسه مؤنة البحث عن هؤلاء المجمعين والتعرف على هوياتهم وآرائهم في المسألة التي يريد معرفة حكمها حتى  يحصل له العلم بالاتفاق على الحكم. وقد نوقش هذا الاجماع من وجهة صغروية، وأهم ما جاء في مناقشته ما عرضه الشوكاني في تعبيره عن وجهة نظر المنكرين لامكانه بقوله: (قالوا لا طريق  لنا إلى العلم بحصوله، لان العلم بالاشياء إما ان يكون وجدانيا أو لا يكون وجدانيا). أما الوجداني فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه، ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى  الله عليه وآله وسلم ليس من هذا الباب
(1) كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع، ص 4. (*)
------------------------------------------------------------------
وأما الذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال للعقل فيها، إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق، ولا مجال أيضا للحس فيها  لان الاحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته. فإذا العلم باتفاق الامة لا يحصل الا بعد معرفة كل واحد منهم وذلك متعذر قطعا. ومن ذلك الذي يعرف جميع المجتهدين من الامة في الشرق  والغرب وسائر البلاد الاسلامية، فان العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الامكنة التي يسكنها أهل العلم فضلا عن اختبار أحوالهم ومعرفة من هو من أهل الاجماع منهم ومن لم يكن  من أهله ومعرفة كونه، قال بذلك أو لم يقل به. والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم فان ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة فضلا عن  جميع الاقاليم التي فيها أهل الاسلام. ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس، فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله  في تلك المسألة بعينها. وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر في الاجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف، التقية والخوف على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الاسلام،  فإنهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم. وعلى تقدير امكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد واجماعهم على أمر فيمكن ان يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل  ان يجمع اهل بلدة أخرى، بل لو فرضنا حتما اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم
------------------------------------------------------------------
دفعة واحده قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني فان هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالاجماع لاحتمال ان يكون بعضهم مخالفا فيه وسكت تقية وخوفا على نفسه (1)). وهذا الاشكال - على فجوات في  بعض فقراته وخطابية في اسلوب عرضه - يكاد لا يكون له مدفع نعرفه إذا أخذنا في مفهوم الاجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد على اختلاف في مذاهبهم وآرائهم أو اتفاق أمة محمد (صلى الله عليه  وآله) على اختلاف طوائفها كما هو مقتضى أدلة حجيته السمعية التي عرضناها في البحث السابق. أما إذا ضيقنا في مفهومه إلى ما يخص مجتهدي مذهب معين أو جماعة يعلم بدخول الامام في  ضمنهم، فقد يقال بامكانه مع جهد الفحص والقطع بعدم الاتقاء، ولا يبعد وقوع ذلك أحيانا. فالمباني على هذا فيه مختلفة، والمسألة تتبع المباني في إمكان العلم به وعدمه. نعم ما يتصل منه  بضروريات الدين أو بعض المدركات العقلية التي يقطع باتفاق العقلاء وتطابقهم عليها بما أنهم عقلاء، فانكار وقوعه مصادرة لا تعتمد على أساس. ولكن الحكم فيها لا يستفاد من الاجماع ولا  تتوقف حجيته عليه. فالحق ان تحصيل الاجماع بمفهومه الواسع أمر متعذر فيما عدا الضروريات الدينية أو العقلية. وأكثر منه تعذرا تحصيل الاجماع من الاجماع السكوتي، لان السكوت لا يكون  كاشفا عن الموافقة على الحكم واختياره لاحتمال التقية أو الجهل بالحكم وعدم اعتقاده بضرورة اعلانه أمام الآخرين أو غفلته عنه، وهكذا
(1) إرشاد الفحول، ص 72. (*)
------------------------------------------------------------------
فمجرد السكوت لا يكشف عن الموافقة ليتحقق بها الاجماع والاتفاق، ومن هنا نعرف قيمة الاجماع السكوتي الذي ذهب إلى اعتباره بعض الاصوليين. وثاني الطريقين: بلوغه من طريق النقل،  وهذا الطريق ينقسم بدوره إلى متواتر ونقل آحاد، وقد بحثوا هذه الطريق بقسميها بما أسموه بالاجماع المنقول. 1 - الاجماع المتواتر: وهذا التواتر في النقل للاجماع وان كان من شأنه ان يفيد  القطع بمدلوله، الا أن حساب تحصيله لكل واحد منهم هو نفس ذلك الحساب السابق، والخلاف من حيث الامكان وعدمه هو نفس ذلك الخلاف، فإذا جوزنا تحصيل الاجماع بأن أخذنا بدعوى من  يقول بأنه يكفي فيه اجتماع جماعة يعلم بدخول المعصوم في ضمنهم، كان هذا التواتر حجة لتحصيله القطع بمدلوله، وإلا فمع احتمال اشتباه كل واحد منهم في دعوى الاجماع لا يمكن ان يحصل  من اخبارهم القطع فلا يكون حجة. 2 - الاجماع المنقول بأخبار الآحاد: وهذا النوع من الاجماع لا يمكن الايمان بحجيته إلا بعد معرفة مبنى الناقل للاجماع في منشأ حجيته، وملاحظة موافقة  المنقول إليه في المبنى ثم التعرف على ما إذا كان من الممكن تحصيله لمثله أو لا، ومع فرض امكانه معرفة ما إذا كان نقله له مستلزما لنقل الحجة في حق المنقول إليه، أي ان المبنى متحد في  مدرك حجية الاجماع بينهما، أو انه يعطي نفس النتيجة التي يعطيها المبنى الآخر من حيث استلزام الحجية لو قدر لهما الاختلاف.
------------------------------------------------------------------
والمقياس ان يكون نقل الاجماع نقلا للحجة الشرعية، ليدخل في كبرى حجية أخبار الآحاد. ومع عدم التوفر على هذه الامور لا يمكن الايمان بحجية الاجماع المنقول. وقد أطال أعلامنا في تقريب  حجيته، وجل ما قالوه يرجع إلى ما ذكرناه، فلا حاجة إلى الاطالة في عرضه والتحدث فيه مفصلا.