الإمام الصَّادق أصحابه وحَمَلة فقهه

 

الإمام الصَّادق أصحابه وحَمَلة فقهه

 

مؤهلات الإمام الصادق ومكانته 

انتشر ذكر مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلامية، فأصبحت جامعة إسلامية كبرى تقصدها وفود الأمصار، حتى كان عدد المنتمين إليها أربعة ألاف كلّهم من حملة الحديث.

ولم يعرف لأحد من أئمة المذاهب من التلاميذ مثل ما عرف للإمام الصادق(عليه السلام)، مع تباعد أقطارهم. فكان تلاميذه، من العراق، ومصر، وخراسان، وحمص، والشام، وحضرموت وغيرها.

وممّا يلفت النظر أنّ أكثر تلاميذه كانوا من الكوفة والمدينة. لانتشار التشيع في الاُولى، ونشأته في الثانية.

وأنّ هذا العدد وهو (4000) طالب في مدرسته لم يكن هائلاً - كما قد يبدو للبعض - وهو قليل بالنسبة لذلك العصر من حيث اتّساع نطاق الحركة العلمية، واتّجاه الناس لإحياء ما درس من السنن. ولأنّ الإمام الصادق(عليه السلام) هو سيّد أهلالبيت في عصره ووارث علم جدّه، وكان لأهل البيت(عليهم السلام)نشاط علميّ فلا غرابة ان اتّجهت إليه الاُمة الإسلامية تنتهل من ينبوع علمه، فضلاً عن انّه قد اتّصف بجميع الصفات التي تؤهّله لأن يتزعم الحركة العلمية في عصر نهضتها، وقد "نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان"(72) "وروى حديثه خلق لا يحصون"(73).

وكانت له نواح كثيرة يعذب فيها القول، وتفيض في شأنها المعاني والدراسات، ومن ابرز ذلك: أنّه (عليه السلام) كان - بشخصيته وعلمه - موضع احترام وتقدير وحبّ، من أهل الإيمان والعلم في عصره، لا فرق بين الخاصة والعامة، ولا بين من يتّبعونه ويعتقدون بنصيّة إمامته، ومن يتّبعون المذاهب الاُخرى، كلّهم عرفوه إماماً جليلاً، وكلّهم عرفوه عالماً قويّاً وكلّهم عرفوه صادقاً إذا حدّث، ومنصفاً إذا فكّر، لا هدف له إلاّ الحقّ، ولذلك لقّب بالصادق، وهي نفحة من نفحات جدّه الأعظم رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث كان ملقّباً بالصادق (74).

ولا نستغرب قول من يعترف بعدم استطاعته لإحصاء تلامذته، ورواة حديثه. وقد نقلنا من أوثق المصادر بعضاً منهم من سائر الناس، دون خواصه، وسنواصل نشر الآخرين منهم.

وعلى أيّ حال فإنّ الناشرين لفقه الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) خلق كثير. ولكنّ فقهه الذي أراد الله تعالى أن يكون خالداً مع الزمن، وهو المتبع عند الشيعة، والمرجع في أهم الاحكام، انحصر تلقيه عن جماعة اختصوا بالإمام الصادق(عليه السلام)، وواصلوا دراستهم عنده، وكانوا من العدالة والوثاقة بمنزلة تجعلهم أهلاً لقبول ما يروى عنهم من فقهه، الذي ينبع فيضه من بحار آبائه، الذين هدى الله بهم الاُمة، وأوجب محبّتهم على الخاصة والعامة.

وقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ عدداً من تلامذته، وهم أربعمائة قد ألّفوا في فقهه والرواية عنه أربعمائة كتاب، وهي: اُصول الفقه للمذهب الجعفري المعروفة بالاُصول الأربعمائة. وقد جمعت هذه الكتب في الكتب الأربعة وهي: الكافي، والاستبصار، والتهذيب، وما لا يحضره الفقيه(75).

وكان الإمام الصادق(عليه السلام) ينظر إلى أصحابه على قدر كفايتهم الموهوبة كلّ على حسب استعداده وتمكّنه، فاختصّ بجماعة منهم فكانوا خير معين على حلّ المشاكل التي تحلّ بالمجتمع، والتي يهتمّ بها الإمام الصادق(عليه السلام) أشدّ الاهتمام. فهم يقومون بتنفيذ الخطط التي يرسمها لهم، وتحت إشرافه يكون قيامهم بها، فهو المصدر الأول والمنتهى الأخير لتلك التعاليم التي تقوم بها النخبة الصالحة من أصحابه.

وكانت لهم اليد الطولى في خوض معارك الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي محاربة أهل الإلحاد والزندقة، ومناظرة أهل العقائد الفاسدة، والفرق الشاذّة، ومقابلة الظلمة في شدّة الانكار عليهم، وتوجيه الانتقاد إليهم بطرق مختلفة.

وكان (عليه السلام) يشيد بذكر خُلّص أصحابه، ويظهر للناس كفايتهم. وحيث كان ترد عليه الوفود من سائر البلاد الإسلامية للاستفادة مرّةً، وللمناظرة اُخرى. فقد جعل لكلّ واحد من أصحابه وظيفة خاصّة يقوم بها عندما يعوّل في الجواب عليه، إظهاراً لفضله وعلوّ منزلته.

فجعل أبان بن تغلب للفقه، وأمره أن يجلس في المسجد فيفتي الناس. ووكّل لحمران بن أعين الأجوبة عن مسائل علوم القرآن، وزرارة بن أعين للمناظرة في الفقه، ومؤمن الطاق للمساجلة في الكلام، والطيار للمناظرة في الاستطاعة وغيرها، وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد. وكان منهم جماعة يتجوّلون في الأمصار وأمدّهم بالأموال للتجارة، والقصد من ذلك أن يمتزجوا بالمجتمع. لتوجيه الناس والدعوة إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) .

وهكذا كان يوجّه أصحابه ويجعل لكلّ واحد جهة، وعلى كلّ واحد أداء رسالة خاصة. ولا يسعنا - ونحن بهذه العجالة - أن ندرس حياة اُولئك العظماء الذين وقفوا إلى جانب أهل البيت(عليهم السلام)، واتّبعوا الحقّ أينما سارت ركائبه. فكانوا أعلاماً يهتدى بهم، وعلماء يرجع إليهم في أهمّ المسائل العلمية، مع خطورة الموقف، وعظيم المراقبة من قبل السلطة، ومعارضة أعوانها لهم، وقد وقفوا بصلابة الإيمان، ونفاذ البصيرة، يتحدّون كل مقابلة، واجتازوا كلّ الصعاب التي تعترضهم; ليصلوا الى الهدف الذي عاهدوا الله على الوصول إليه، وأنّ دراسة حياتهم دراسة مستفيظة أمر ليس بالهيّن إدراكه; ولهذا فقد اكتفينا بالإشارة للبعض بإلمامة موجزة وعرض قليل، إتماماً للغرض ووفاءً بالوعد. وقد ألّف علماؤنا كتباً مطوّلة في تراجمهم ودراسة حياتهم.

وقد رأينا لزاماً أن نتكلم عن هشام بن الحكم بصورة واسعة بالنسبة لغيره، لا بالنسبة لدراسة حياته، لنعرف بذلك منهجه في تفكيره وبيان عقيدته. ونقف على بواعث الاتّهام له بتلك العقائد الفاسدة، عسانا نوفّق لكشف تلك الحجب التي غطّت وجه الحقيقة في معرفة هشام ودراسة شخصيته.

أمّا أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) فأخذنا بعضاً من البارزين منهم ممّن أسهموا في الحركة العلمية، واشتهروا بالفقه والرواية وعلوم القرآن وفنون الإسلام، فتوسعنا فيهم وأوردنا تراجم الآخرين من تلامذته ورواة حديثه.

أبان بن تغلب نسبه وأقوال العلماء فيه

أبان بن تغلب بن رباح (76)، هو أبو سعيد البكري الجريري المتوفى سنة (141هـ) كان جليل القدر، عظيم المنزلة، لقي الإمام زين العابدين، والباقر والصادق، وكانت له حلقة فى المسجد.

وقال ياقوت الحموي: كان قارئاً لغوياً فقيهاً إمامياً، ثقة عظيم المنزلة، جليل القدر، روى عن علي بن الحسين، وأبي عبد الله(عليهم السلام)، وسمع من العرب وصنف غريب القرآن وغيره.

وقال الذهبي: أبان بن تغلب شيعيّ جلد صدوق، لكنّه مبتدع، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثّقه أحمد بن حنبل وابن معين. روى عنه موسى بن عقبة وشعبة وحماد بن زيد وابن عيينة وجماعة.

وقال ابن عدي: له نسخ عامتها مستقيمة، إذ روى عنه ثقة، وهو من أهل الصدق في الرواية وإن كان مذهبه مذهب الشيعة، وهو في الرواية صالح لا بأس به.

وقال الحاكم: كان قاص الشيعة وهو ثقة، ومدحه ابن عيينة بالفصاحة.

وقال أبو نعيم في تاريخه: مات سنة (140 هـ) وكان غاية من الغايات.

وقال العقيلي: سمعت أبا عبد الله يذكر عنه عقلاً وأدباً وصحة حديث، إلاّ أنّه كان غالياً في التشيّع.

وقال ابن سعد: كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال الأزدي: كان غالياً في التشيّع وما أعلم به في الحديث بأساً.

خرّج حديثه مسلم في صحيحه، والترمذي، وأبو داود، والنسائي وابن ماجة. وهو ممّن أجمعوا على قبول روايته وصدقه، واعترفوا بعلوّ منزلته، فلا يضرّ قول من زاغ عن الحقّ في طعنه - في أبان - كإبراهيم الجوزجاني(77)حيث يقول: أبان زائغ مذموم المذهب مجاهر.

قال ابن حجر: وامّا الجوزجاني فلا عبرة بحطّه على الكوفيين، فالتشيّع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل عليّ(عليه السلام) على عثمان، وأنّ علياً كان مصيباً في حروبه وأن مخالفه مخطئ، وربّما اعتقد بعضهم أنّ علياً أفضل الخلق بعد رسول الله، وإذا كان معتقد ذلك ورعاً ديّناً صادقاً مجتهداً فلا تردّ روايته.

وعلى أيّ حال فلا يهمّنا قول الجوزجاني، ولا نودّ أن نخوض في بحث يقصينا عن الغاية، ونكتفي بأن نحيل القارئ المنصف المتجرّد عن نزعة الهوى إلى مراجعة تاريخ حياة الجوزجاني، ويقف هناك وقفة قصيرة فيعرف نزعة الرجل التي اتصف بها، فهو خارجي يرى رأي الحرورية(78)، وكان شديد الميل على علي (عليه السلام)، يذهب مذهب أهل الشام الذين تغذّت أدمغتهم بأباطيل معاوية وأضاليله، حتى سلك الناس طرقاً ملتوية وزاغوا عن الحقّ اتباعاً لمن لا يروق له قول الحقّ.

وقد اتّصف الجوزجاني أيضاً بأنه حريزي المذهب، أي يذهب

مذهب "حريز بن عثمان" المعروف بالعداء لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)،

فقد كان حريز(79) اُموي النزعة شامي النشأة يحمل على عليّ، وقيل:

إنّه يسبّه.

ومن الغريب أنّهم يصفون من عرف ببغض عليّ(عليه السلام) بالصلابة في السنّة كما وصفوا عليّ بن الجهم والجوزجاني(80).

ولا أدري أيّ سُنة هذه التي يتّصف بها مبغض علي (عليه السلام)؟ أجل أين قول الرسول(صلى الله عليه وآله): "ياعلي لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق" وهذا الحديث خرّجه الحفاظ من طرق متعدّدة، ورواه مسلم (81)، والنسائي(82)، وابن عبد البر(83). والطبري (84)، وغيرهم.

وقد كان أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعرفون إيمان الرجل بحبّه لعلي، ونفاقه ببغضه له، متخذين من هذا الحديث قاعدة مطّردة.

وكيف كان فإن بدعة أبان التي وصفه بها الجوزجاني والذهبي هي موالاته لعليّ، وصلابة الجوزجاني في السنة هي بغضه لعليّ، والحكم في هذا للقارئالمنصف.

علمه وشيوخه

وكان أبان بن تغلب من الشخصيات الإسلامية التي امتازت باتقاد الذهن، ووفور العقل، وبُعد الغور، والاختصاص بعلوم القرآن، وهو أوّل من ألّف في ذلك. وكان فقيهاً يزدحم الناس على أخذ الفقه عنه، وإذا دخل مسجد المدينة المنورة أخليت له سارية النبي (صلى الله عليه وآله) فيحدّث الناس. وله علم باختلاف الأقوال، وقد شهد له معاصروه بالفضل والتفوّق. ويكفيه - شهادة في التقدم - أنّ الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) أمراه أن يحدّث الناس في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) وكلٌّ يقول له: "اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي اُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك"(85)

وأخذ أبان علمي الفقه والتفسير عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)فقد حضر عند الإمام زين العابدين، ومن بعده عند الإمام الباقر، ثم عند الإمام الصادق (عليه السلام)فهؤلاء شيوخه واساتذته، وهو من كبار أصحابهم والثقات في رواياتهم.

وقد عدّ علماء الرجال من جملة أساتذة أبان جماعة منهم :

الحكم بن عتيبة الكندي المتوفى سنة (115 هـ) وهو من رجال الصحاح الستة، ومن حملة الحديث وأعلام الاُمة.

وفضيل بن عمرو الفُقَيمي أبو النظر الكوفي المتوفى سنة (110 هـ) خرّج حديثه مسلم والأربعة.

وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، المتوفى سنة (127 هـ) وهو أحد أعلام التابعين، ومن رجال الصحاح الستة.

تلامذتـه 

وروى الحديث عنه خلق كثير منهم :

موسى بن عقبة الأسدي المتوفى سنة (141 هـ) من رجال الصحاح الستة، وثّقه ابن معين، وأحمد، وأبو حاتم. وقال مالك: عليكم بمغازي موسى بن عقبة. وقد صنّف فيها وأجاد(86).

وشعبة بن الحجاج تقدّمت ترجمته في الجزء الأول .(87)

وحماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل الأزرق البصري الحافظ المتوفى سنة (197 هـ) عن إحدى وثمانين سنة. قال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ منه ولا أعلم بالسنّة ولا أفقه بالبصرة منه. وقال أحمد: هو من أئمة المسلمين.(88)

وسفيان بن عيينة تقدمت ترجمته في الجزء الأول .(89)

ومحمد بن خازم التميمي أبو معاوية الضرير المتوفى سنة (195 هـ)، خرّج حديثه أصحاب الصحاح الستة، وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن المديني وابن معين. وكان أحفظ الناس لحديث الأعمش.(90)

وعبد الله بن المبارك بن واضع الحنظلي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي المتوفى سنة (181 هـ) أحد الأعلام، ومن رجال الصحاح الستة. قال ابن المبارك: كتبت عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف، وثّقه جماعة.(91)

هؤلاء الذين ذكرهم ابن حجر في "تهذيب التهذيب" والخزرجي في "خلاصة تهذيب الكمال" وغيرهما. وهذه عادة علماء الرجال أن يذكروا من تلامذة الشخص بعضاً ويتركوا آخرين. ويعبّرون عن ذلك بقولهم: وجماعة، وآخرين، وخلق كثير.

ونظراً لمنزلة أبان العلميّة ومكانته في الفقه، وكثرة الآخذين عنه لابدّ وأن يكون له عدد كثير من التلاميذ، وحيث لا يمكننا إحصاؤهم فنعوّل في ذلك بالرجوع إلى "جامع الرواة"(92) فقد ذكر عدداً وافراً ممن روى عن أبان، وأشار الى موضع الرواية عنه في كتب الأصحاب.

مكانته وكفايته العلمية 

وصفوة القول أنّ أبان بن تغلب شخصية اسلامية، قد أهمل التاريخ أكثر مآثره، وبخسه أكثر علماء الرجال حقّه، ولم يعطوه ما يستحقه من البيان. والأسباب غير مجهولة، فإنّ تدوين التاريخ جاء في عصور قد اشتدّت فيها النعرة الطائفية، فأسرع أكثر الكتّاب والمؤرّخين إلى مجاراة الدولة، والخضوع لأوامر السلطة. وإنّ أبان من أعيان الشيعة، والشيعة - كما لا يخفى - هم الحزب المعارض لسلطان الجور، وحكّام الاستبداد.

وكيف نرجو من أولئك المؤرخين أن يعطوا رجال الشيعة حقّهم من البيان مع بخسهم حقّ عترة الرسول وأئمة الهدى؟ فإنّهم يتحرّجون عن ذكر ما لهم من المآثر، وما خصّهم الله به من الفضائل، فتراهم عند ترجمة أيّ واحد من الأئمة يستعملون الإيجاز المخل.

لقد عاش أبان بن تغلب مدة من الزمن وهو ملازم لأهل البيت(عليهم السلام)يأخذ عنهم، حتى أنّه كان يحفظ عن الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث(93).

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يرشد إليه في أخذ الأحكام، ورواية الحديث.

قال سليم بن أبي حبّة: "كنت عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أردت أن اُفارقه، ودعته وقلت: أحبّ أن تزوّدني. فقال: إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني"(94).

وممّا يدلّ على إحاطة أبان وتفوّقه في الحديث أنّه كان يجلس في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فيجيء إليه الناس ويسألونه فيخبرهم على اختلاف الأقوال، ثم يذكر قول أهل البيت(عليهم السلام)ويسوق أدلّته ومناقشته، لأنّه يرى أنّ الحقّ مع أهل البيت(عليهم السلام)، وأنّ قولهم الفصل.

يحدّثنا عبد الرحمن بن الحجاج قال: كنّا في مجلس أبان فجاءه شابٌ فقال: يا أبا سعيد، أخبرني كم شهد علي بن أبي طالب من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)؟ فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي بن أبي طالب ومن تبعه من أصحاب رسول الله؟ فقال الرجل: هو ذاك.

فقال أبان: والله ما عرفنا فضلهم - أي الصحابة - إلاّ باتّباعهم إياه - يعني علياً - فقال أبو البلاد: "عض ببظر أَمة رجل من الشيعة في أقصى الأرض وأدناها يموت أبان لا تدخل مصيبته عليه"(95).

فقال أبان: يا أبا البلاد أتدري من الشيعة؟ الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذوا بقول عليّ(عليه السلام)، وإذا اختلف الناس على عليّ أخذوا بقول جعفر بن محمد (عليه السلام).

وقال أبان: مررت بقوم يعيبون عليّ رواية جعفر بن محمد فقلت: كيف تلومونني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلاّ قال: قال رسولالله(صلى الله عليه وآله)؟(96)مؤلّفاته

1 - "غريب القرآن" وهو أوّل تأليف في ذلك، فصار أساساً لعلم اللغة، وقد ذكر شواهده من الشعر، فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي فجمع من كتاب أبان، وكتاب محمد بن السائب الكلبي، وأبي ورق عطية بن الحرث فجعلهما كتاباً واحداً، وبيّن فيه ما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً وتارة مشتركاً.

2 - "كتاب الفضائل" .

3 - "كتاب معاني القرآن".

4 - "كتاب القراءات".

5 - "كتاب الاُصول في الرواية على مذهب الشيعة"، ذكره ابن النديم في الفهرست.(97)

وله مناظرات ومجادلات وقراءة للقرآن مفردة مقرّرة عند القراء.

قال محمد بن موسى: ما رأيت أقرأ منه قطّ. وقال محمد بن إبراهيم الشافعي: كان أبان مقدّماً في كلّ فن من العلم: في القرآن، والفقه، والحديث، والأدب واللغة.

وعلى أيّ حال فقد كان أبان من رجال الاُمة المبرزين في العلم ومن حملة فقه آل محمد (صلى الله عليه وآله)، حفظ عن الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث، وكان لعظم منزلته إذا دخل المدينة تفوضت إليه الحلق وأخليت له سارية النبي(صلى الله عليه وآله).(98)

ولقد كان من المقرر المضيّ في دراسة مشاهير الرواة عن الإمام الصادق(عليه السلام)وحملة فقهه بنفس الأسلوب الذي سرت عليه في دراسة حياة "أبان" من ذكر الشيوخ والتلاميذ والأقوال فيه مع مراعاة الاختصار.

لكني تبينت جليّاً عدم استطاعتي استيفاء هذا الغرض. لأنّ ذلك مما يضيق به وسع الكتاب فالتجأت إلى حذف كثير ممّا أعددته من الدراسات لهذا الجزء، وفضّلت الاقتصار على دراسة حياة أبان بن تغلب، ومؤمن الطاق، وهشام بن الحكم كما هو المقرر في الأصل، واكتفيت بدراسة حياة الآخرين بالاختصار مرّةً وبالإشارة اُخرى. واخترنا مختصرين عدداً منهم:

أبان بن عثمان

أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريا اللؤلؤي المتوفى سنة (200 هـ)(99)، كان من أهل الكوفة، وكان يسكنها تارة ويسكن البصرة أخرى. وقد أخذ عنه من أهل البصرة: أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام. روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن موسى بن جعفر، وما عرف من مصنفاته إلا كتاب جمع فيه المبدأ، والمبعث، والمغازي، والوفاة، والسقيفة والردة.

ولأبان أصل يرويه الشيخ الطوسي عن عدّة من الأصحاب.

وكان أبان من الستة الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، والإقرار لهم بالفقه، وهم: جميل بن دراج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان.

وقد روى عن أبان خلق كثير، منهم الحسن بن علي الوشا، وعلي بن الحكم الكوفي، وفضالة بن أيوب، والحسين بن سعيد، وصفوان بن يحيى، وعيسى الفراء، وجعفر بن سماعة وغيرهم.

وكان هو أيضاً يروي عن جماعة من أصحاب الإمام (عليه السلام)، كزرارة، والفضيل بن يسار، وعبد الرحمن بن أبي عبد الله وغيرهم كما هو موجود في كتب الحديث.

بريد العجلي

وبريد بن معاوية العجلي(100)، أبو القاسم الكوفي المتوفى سنة (150 هـ) .

كان من أصحاب الإمام الباقر، وولده الإمام الصادق (عليهما السلام). وهو من حملة الحديث ورجال الفقه، وله منزلة عند أهل البيت(عليهم السلام)من الوثاقة وعلوّ القدر. وورد مدحه في روايات صحيحة، كما أجمعت الشيعة على تصحيح ما صحَّ عنه. والذي يظهر أنّ له منزلة سامية في نشر حديث أهل البيت(عليهم السلام)، لذلك نجد الخصوم قد وضعوا أحاديث في ذمه ليحطّوا من قدره، ويصرفوا الناس عنه، ولكنها لم تقف في طريقه، أو تعرقل سيره المتواصل في نشر المذهب، وبثّ الأحكام. وهو من الستة الذين عرفوا بأنّهم أفقه الناس وهم: زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ، وبريد العجلي، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وأفقه الستة زرارة.

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد العجلي وأبوجعفر الأحول أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً(101)

روى الحديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق(عليهما السلام)، وروى عنه داود بن يزيد بن فرقد، والحكم وإسماعيل ابنا حبيب. والقاسم بن عروة ومنصور بن يونس، وعبد الله بن المغيرة، وخلق كثير.

وكان بريد من المؤلّفين في عصر الإمام الصادق (عليه السلام). له كتاب يرويه عنه علي بن عقبة بن خالد الأسدي. وقد تقدّم ذكر بريد في الجزء الثاني من هذا الكتاب، في جملة أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) فلا حاجة إلى إطالة البحث.

كما تقدّمت هناك ترجمة بكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وجابر الجعفي، وعبد الملك بن أعين، وأبي حمزة الثمالي، وحمران بن أعين، وكلّهم من الثقات وحملة فقه الإمام الباقر وولده الإمام الصادق (عليهما السلام). وأنّ التعرّض لدراسة حياتهم أمر يقصينا عن الموضوع، لاتّساع دائرة البحث، فنكتفي بما ذكرناه عنهم من الإشارة هناك.

جميل بن دراج

وجميل بن درّاج بن عبد الله أبو علي النخعي(102)، مولاهم الكوفي، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وولده أبي الحسن موسى (عليه السلام) وكان ثقة. وهو من الستة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم. توفي في أيام الإمام الرضا(عليه السلام)، وكان كثير الحديث، فقيهاً، زاهداً، متعبّداً، له مؤلفات، منها كتاب اشترك هو ومحمد بن حمران فيه. وله كتاب اشترك هو ومرازم بن حكيم فيه، وله أصل يرويه الشيخ الطوسي عن الحسين بن عبيد الله.

روى عنه الحديث خلق كثير كالحسن بن محبوب، وصالح بن عقبة، وعبد الله بن جبلة، وأبو مالك الحضرمي ومحمد بن عمرو وغيرهم.

وكان لجميل أخ يقال له نوح بن دراج، وكان قاضياً في الدولة العباسية وقد اشتدت الملامة عليه من قبل أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)، لأنّ القضاء من قبل الدولة يعدّ مؤازرة لهم، وكان نوح من رواة حديث الإمام الصادق، ولكنّه اعتذر أنّه لم يتول القضاء حتى سأل أخاه جميلاً.جميل بن صالح

وجميل بن صالح الأسدي الكوفي. من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وولده موسى (عليه السلام)، ثقة له أصل، روى عنه جماعة كالحسن بن محبوب، وسعد بن عبدالله، وعمار بن موسى الساباطي، ومحمد بن عمر وغيرهم .(103)

حماد بن عثمان

وحماد بن عثمان بن زياد الرواسي الكوفي المتوفى سنة (190 هـ).

هو من الستة الذين أقرّت الطائفة لهم وتصحيح ما يصحّ عنهم. روى حماد عن الإمام الصادق وولده موسى الكاظم، وعن جماعة من أصحابهما (عليهما السلام).

وروى عنه جماعة منهم محمد بن الوليد، وعلي بن مهزيار، وصفوان بن يحيى وغيرهم.(104)

حماد بن عيسى

وحماد بن عيسى بن عبيدة الجهني(105) الواسطي ثم البصري ، غريق الجحفة المتوفى سنة (308 هـ) من أصحاب الإمام الصادق والكاظم (عليهما السلام). وهو من الستة الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

حبيب بن ثابت

وحبيب بن ثابت الكاهلي(106)، مولاهم أبو يحيى الكوفي المتوفى سنة (122هـ) من التابعين ومن رجال الصحاح الستة. روى عن زين العابدين والإمام الباقر وولده الصادق (عليهم السلام)، وعنه مسعر والثوري وشعبة وأبو بكر النهشلي وخلق كثير. وثّقه العجلي وأبو زرعة وخلق كثير، قال ابن معين: له نحو مائتي حديث.

حمزة بن الطيار

وحمزة بن محمد الطيار، كان من رجال الفقه والمتفوّقين في علم الكلام، وله مناظرات مع خصوم أهل البيت(عليهم السلام)، كما دلّت على ذلك آثاره ووردت من أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)في مدحه. منها ما رواه أبان الأحمر عن الطيار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بلغني أنّك كرهت مناظرة الناس وكرهت الخصومة. فقال: أمّا كلام مثلك فلا يكره. من إذا طار أحسن أن يقع، وإن وقع أحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه(107). إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم نذكرها للاختصار. كما لم نذكر جماعة منهم : داود بن فرقد، وحميد بن المثنى العجلي، وداود الرقي، وزيد الشحام، وسدير الصيرفي، وعبد الرحمن البجلي، وداود بن يزيد الكوفي العطار، وداود بن كثير، وروح بن عبد الرحيم الكوفي، وعبد الله بن أبي يعفور الكوفي، وعبد الله بن شريك، وعبد الله ابن مسكان، والعلاء بن رزين، وعمر بن حنظلة، وشعيب العقرقوفي والمعلّى ابن خنيس.

وكلّ هؤلاء قد أعددنا لهم ترجمة وافية، ولكن ضيق المجال حال بيننا وبين نشرها.

وممّا يلزم التنبيه عليه: أنّ أكثر من دوَّن في مناقب أئمة المذاهب قد نسبوا إلى أئمتهم من المشايخ والتلاميذ ما لا يتصل بالواقع، ولا أصل لتلك النسبة، إذ التتبع ينفي ذلك، فمثلاً نجد عدد تلاميذ أبي حنيفة من الكثرة بمكان، ولكن الواقع أن تلاميذه الذين سمعوا منه وحضروا عنده لايتجاوز عددهم أكثر من ستة وثلاثين.

أمّا المشايخ فإنّهم يخطئون كثيراً فيهم. وقد تقدّم في الجزء الأول من هذا الكتاب تكذيب دعوى سماع أبي حنيفة من الصحابة بما لا حاجة إلى إعادته، وهذا كثير عندهم في نسبة مشايخ أو تلاميذ للشخص بدون تثبّت. فمثلاً أنّهم يقولون: إنّ محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني صاحب أبي حنيفة ومدون فقهه، قد سمع من عمرو بن دينار. وهذا غير صحيح، لأنّ عمرو بن دينار قد توفي سنة(115 هـ) وكانت ولادة محمد بن الحسن سنة (129هـ)(108)، فكيف يصحّ سماعه من عمرو بن دينار الذي توفي قبل ولادته بأربعة عشرعاماً؟

وحذراً من وقوع هذا الاشتباه نؤكّد أنّ العدد الذي بيّناه في تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) هو أربعة آلاف أو يزيدون. وهذا العدد لم يكن فيه شيء من الإدعاء أو خروج عن حدود الواقع، وإنما هو نتاج تتبّع وتمحيص وتحمّل مشقّة وعناء. ونستطيع أن نقول: إنّ عددهم كان أكثر من هذا. وبهذه المناسبة أودّ أنّ اُنبّه على شيء له أثر في الموضوع وهو: أن الشيخ الخالصي ذكر في حديثه عن الإمام الصادق (عليه السلام)، كما جاء في سلسلة أشعّة من حياة الصادق (عليه السلام)، الحلقة الأولى ص34، أنّ محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة كان من جملة تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام). وهذا شيء ينفرد به الشيخ الخالصي، إذ التتبع لا يؤيد ذلك. وكما قلنا: إننا لم نثبت في عداد تلامذة الإمام الصادق من لا تصحّ في حقّه تلك النسبة، ولا نريد أن نلقي الأشياء جزافاً، دون تثبّت، فالتاريخ يحاسبنا على ذلك. والذي أعتقده أنّ الأمر اشتبه على الشيخ، وذلك أنّ عبد الله بن الحسن الشيباني(109)، أخا محمد بن الحسن الشيباني، كان من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام)ورواة حديثه.

ومن قواعد التصنيف والترجمة لدى الشيعة أن يكون بأثر وأن يدلّ على الترجمة خبر، فكتب الرجال تضمّ تراجم من استحق الترجمة بعلمه، أو اقتضت الأمانة العلمية التنويه به، ولذلك فإنّ ممّا أحصى من تلامذة الإمام الصادق هو ما كان بالشواهد والأثر.

على أنّ من أهم ما يجب التركيز عليه بالقول هو أنّ تلامذة الإمام الصادق لم يكن لهم دور كدور تلامذة رؤساء المذاهب، كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد في تبويب الأقوال وجمع الآراء وانتهاج الاستقلال من بعدهم، ليدخل المذهب في دور التأسيس والإعلان، لأنّ تلامذة الإمام الصادق لا مزيد لهم على ما تلقّوه منهم (عليه السلام) إلاّ في مجال الدربة والإعداد للاجتهاد في الحوادث.

أمّا اُصول المذهب وقواعده فالحمدلله هي من جذور الإسلام، تمتدّ بامتدادها ولا تبدأ بعصر دون آخر أو فترة دون اُخرى، وكان الإمام الصادق(عليه السلام)يقول لأصحابه: "إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنا فانظروا الى ما رووه عن علي(عليه السلام)فاعملوا به"(110)

 

مؤمن الطّـاق محمد بن علي بن النعماننسبه وأقوال العلماء فيه

محمد بن علي بن النعمان البجلي الكوفي(111)، أبو جعفر، مولاهم الأحول، الملقّب بمؤمن الطاق. وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ولقّبه خصومه - شيطان الطاق - ويقال: إنّ أول من لقبه شيطان الطاق أبو حنيفة، لمناظرة جرت بين مؤمن الطاق والخوارج، وكانت الغلبة له، وأبو حنيفة حاضر فلقّبه بذلك.

وهناك رأي آخر في سبب لقبه في قول: قال ابن أبي طي: إنّه نسب إلى سوق في طاق المحامل بالكوفة، كان يجلس للصرف بها، فيقال: إنّه اختصم مع آخر في درهم زيف فغلب. فقال أنا شيطان الطاق. والصحيح: أنّ هذه النسبة كانت من خصومه وأعدائه الذين تفوّق عليهم بالمناظرة، وأعجزهم عن المقابلة له، فالتجأوا إلى لغة الانتقاص كما يأتي.

ولمّا بلغ هشام بن الحكم ذلك لقّبه: مؤمن الطاق، فعرف بذلك بين الطائفة .

وذكره المرزباني في شعراء الشيعة وأورد من شعره ما رواه عمارة بن حمزة وذلك أنّ المنصور كان إذا ذكر مدح ابن قيس الرقيات المتوفى سنة(85هـ) لعبدالملك بن مروان تغيظ منه وشقّ عليه.

فقال عمارة: يا أمير فيكم رجل من أهل الكوفة أجود ممّا قال قيس. قال: ومن هو؟ قال: مؤمن الطاق وأنشده.

يامن لقلب قد شفّه الوجع *** يكاد مما عناه ينصدع

أمسى كئيباً معذباً كمداً *** تظلّ فيه الهموم تصطرع

عن ذكر آل النبيّ إذ قهروا *** واللون مني مع ذاك ملتمع

قالت قريش ونحن أسرته *** والناس ما عمروا لنا تبع

قالت قريش منا الرسول فما *** للناس في الملك دوننا طمع

قد علمت ذاك العريب فما *** تصلح إلا بنا وتجتمع

فإن يكونوا في القول قد صدقوا *** فقد أقروا ببعض ما صنعوا

لأن آل الرسول دونهمو *** أولى بها منهمو إذا اجتمعوا

وإنّهم بالكتاب أعلمهم *** والقرب منه والسبق قد جمعوا

ما راقبوا الله في نبيّهمُ *** إذ بعد وصل أهله قطعوا(112)

ووصفه المرزباني بقوله: أبو جعفر محمد بن علي بن النعمان، وإنما سمّي بالطاق، لأنه كان بطاق المحامل بالكوفة يعاني الصرف، وكان من الفصحاء البلغاء، ومن لا يطاول في النظر، والجدال في الإمامة، وكان حاضر الجواب. وذكر له عدّة مناظرات مطوّلة ومختصرة، وكانت له الغلبة فيها.

وقال ابن النديم في ترجمته: أبو جعفر محمد بن النعمان الأحول، نزل طاق المحامل بالكوفة، وتلقبه العامة بشيطان الطاق، والخاصة تعرفه بمؤمن الطاق، وشيعته - أي أصحابه - تسميه شاه الطاق أيضاً. وهو من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام). ولقد لقي زيد بن علي زين العابدين وناظره على إمامة أبي عبد الله، ولقي علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام). وقيل: إنمّا سمي شيطان الطاق لأنّه كان يتصرف ويشهد الدنانير فلاحاه قوم في دينار جرّبوه وبهرجه هو، فأصاب وأخطأوا، وألزمهم الحجة، فقال: أنا شيطان الطاق. يعني طاق المحامل بالكوفة موضع دكانه، فلزمه هذا اللقب. وكان حسن الاعتقاد والهدي، حاذقاً في صناعة الكلام. سريع الخاطر والجواب. ثم ذكر مناظراته مع أبي حنيفة وستأتي(113).

قال أبو خالد الكاملي: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة، قد قطع أهل المدينة إزاره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه وقلت: إنّ أبا عبد الله نهانا عن الكلام. فقال: أو أمرك أن تقول لي؟ فقلت: لا والله، ولكنه أمرني أن لا أكلّم أحداً. قال: فاذهب وأطعه فيما أمرك. فدخلت على أبي عبدالله(عليه السلام)فأخبرته بقصة صاحب الطاق، فتبسم أبو عبد الله (عليه السلام)وقال: يا أبا خالد، إنّ صاحب الطاق يكلّم الناس فيطير، وأنت إن قصّوك لن تطير(114)

علمه ونبوغه

وكان محمد بن علي بن النعمان كثير العلم، متفوقاً في معارفه، قويّاً في حجته، تعددت فيه نواحي العبقرية والنبوغ. فهو عالم بالفقه، والكلام، والحديث، والشعر، وكان قويّ العارضة، سريع الجواب، واضح الحجة.

اشتغل بالتجارة وانتقل بين أكثر المدن الإسلامية، وعرف بتشيّعه وإخلاصه لأهل البيت(عليهم السلام)ولقي من عنَت خصومهم والمناوئين لهم ما نغص عليه عيشه، ولكن لم يحل ذلك بينه وبين الإعلان بمبدئه، والجهر في دعوته. وكان يتمتّع بشخصية فذّة، يعترف له الناس بالفضل والعلم، والنبوغ والتفوق .

وقد كان عصره يقضي على المفكرين - من أمثاله - بكبت الشعور وكمّ الأفواه، وتمويه الحقائق، ولكنّه لم يخضع لذلك الحكم الجائر، فهو لا يزال يدعو بالحق، ويعلن بفضل عليّ، ويظهر تمسكه بأبنائه.

مناظراته واحتجاجه

كان مؤمن الطاق يمتاز بقدرة فائقة على الجدل، وقوّة في التفكير، ومهارة في الاستنباط. ويكاد المؤرخون يجمعون على تفوّقه، في سرعة الجواب وقوّة العارضة. وإذا أردنا استقصاء مناظراته فالأمر يستلزم الإطالة، ولكنّنا نكتفي بالبعض منها، وهي كثيرة مبعثرة في بطون الكتب.

1 - اجتمع قوم من الخوارج وقوم من الشيعة بالكوفة عند أبي نعيم النخعي، فقال أبو حدرة الخارجي: إنّ أبا بكر أفضل من عليّ وجميع الصحابة بأربع خصال: فهو ثان لرسول الله في بيته، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلّى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله، وهو ثاني صدّيق في الاُمة.

فردّ عليه شيطان الطاق - على حدّ تعبير الدكتور أحمد امين - وقال: يا ابن أبي حدرة، أترك النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيوته التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه، ميراثاً لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟

فإن تركها ميراثاً لولده وأزواجه فقد ترك تسع زوجات، فليس لعائشة إلا نصيب إحداهن، أي لم يكن لها أن تدفن أبا بكر في بيته ونصيبها لايسمح بذلك.

وإن تركها ميراثاً لجميع المسلمين فإنّه لم يكن له نصيب من البيت إلاّ كما لكل رجل من المسلمين.

وأما قولك: إنّه ثاني اثنين إذ هما في الغار، فإنّ مكان عليّ في هذه الليلة على فراش النبي (صلى الله عليه وآله)، وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار.

وأمّا قولك: في صلاته بالناس، فقد تقدّم ليصلي بالناس في مرض رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فخرج النبيّ وتقدّم فصلى بالناس وعزله عنها، ولو كان قد صلى بأمره لما عزله من تلك الصلاة.

وأمّا تسميته بالصدّيق، فهو شيء سمّاه الناس. إلى آخر المناظرة(115).

2 - عن أبي مالك الأحمسي قال: خرج الضحاك الشادي بالكوفة فحكم وتسمّى بإمرة المؤمنين، ودعا الناس إلى نفسه، فأتاه مؤمن الطاق، فلما رأته الشراة وثبوا في وجهه فقال لهم: جانح، فأتوا به صاحبهم، فقال له مؤمن الطاق: أنا رجل على بصيرة من ديني فأحببت الدخول معكم.

فقال الضحاك لأصحابه: إن دخل هذا معكم نفعكم. ثم أقبل مؤمن الطاق على الضحاك فقال: لم تبرأتم من علي بن أبي طالب، واستحللتم قتله وقتاله؟

قال الضحاك: لأنه حكم في دين الله.

قال مؤمن الطاق: وكل من حكم في دين الله استحللتم دمه وقتاله والبراءةمنه؟

قال: نعم .

قال: فأخبرني عن الدين الذي جئت اُناظرك عليه، لأدخل معك إن غلبت حجتي حجتك، أو حجتك حجتي، من يوقف المخطئ على خطئه ويحكم للمصيب بصوابه؟ فلا بدّ لنا من إنسان يحكم بيننا. فأشار الضحاك إلى رجل من أصحابه وقال: هذا الحكم بيننا، فهو عالم بالدين.

قال مؤمن الطاق: وقد حكمت هذا في الدين الذي جئت اُناظرك فيه؟

قال: نعم. فأقبل مؤمن الطاق على أصحاب الضحاك فقال: إنّ صاحبكم قد حكم في دين الله فشأنكم به. فاختلف أصحابه وأسكتوه، وخرج مؤمن الطاق منتصراً(116).

3 - كانت الخصومة بين مؤمن الطاق وأبي حنيفة شديدة جداً، لأنّا نرى كثرة المناظرة بينهما، وأهمّها في الإمامة والتفضيل، وبدون شك أنّ أبا حنيفة لم يكن معروفاً بعلم الكلام، وليس له قوة على مقابلة من تفوّق به. وإنّ مؤمن الطاق كان معروفاً بعلم الكلام وقوّة الحجة، وسرعة الجواب، وشدّة العارضة. فهو دائماً يتفوق في مناظراته، ويسمو في حجته.

قال ابن حجر: وقعت له - أي لمؤمن الطاق - مناظرة مع أبي حنيفة في شيء يتعلق بفضائل علي، فقال أبو حنيفة كالمنكر عليه: عمّن رويت حديث ردّ الشمس لعلي؟

فقال مؤمن الطاق: عمّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل.(117)

وقال أبو حنيفة له يوماً: ما تقول في المتعة؟ قال: حلال. قال أبو حنيفة: أيسرّك أن تكون بناتك وأخواتك يُمتع بهنّ؟

قال مؤمن الطاق: شيء أحلّه الله، ولكن ما تقول أنت في النبيذ؟ قال: حلال.قال مؤمن الطاق: أيسرّك أن تكون بناتك وأخواتك نباذات "هن"؟(118)

ولما مات الإمام الصادق (عليه السلام) قال له أبو حنيفة: قد مات إمامك. قال: لكن إمامك من المنظرين. أولا يموت إلى يوم القيامة.(119)

وفي لفظ الخطيب البغدادي: لما مات جعفر بن محمد، إلتقى هو - أي مؤمن الطاق - وأبو حنيفة. فقال له أبو حنيفة: أمّا إمامك فقد مات، فقال شيطان الطاق: أمّا إمامك فمن المنظرين الى يوم الوقت المعلوم(120).

وقال الخطيب : كان أبو حنيفة يتّهم شيطان الطاق بالرجعة، وكان شيطانالطاق يتّهم أبا حنيفة بالتناسخ. فخرج أبو حنيفة يوماً الى السوق فاستقبله شيطان الطاق ومعه ثوب يريد بيعه، فقال له أبو حنيفة: أتبيع هذا الثوب الى رجوع علي؟ فقال إن أعطيتني كفيلاً أن لا تمسخ قرداً بعتك. فبهت أبوحنيفة(121).

وله معه مناظرة في إبطال الطلاق الثلاث (122).

وقد ألّف مؤمن الطاق كتاباً في مناظراته مع أبي حنيفة، ولم نذكر هنا شيئاً من تلك المناظرات الكثيرة معه، واقتصرنا منها على هذا القدر القليل. ولم يكن من رأيي التعرض لأمثال هذه المناظرات، التي جرت بين مؤمن الطاق وأبي حنيفة، ولكني وقفت على بعض كتب الحنفية - التي دوّنت في مناقب إمامهم - فوجدتهم يذكرونها بصورة معكوسة، فأحببت أن اُنبّه على هذا الخطأ، لأنّ الذين ذكروا هذه المناظرات - على وجهها الصحيح - كانوا أقدم من هؤلاء المحرّفين.

فهذا ابن النديم وهو من علماء القرن الرابع، اذ كانت وفاته سنة (385 هـ) قد ذكرها في الفهرست. أمّا الذين نقلوها على العكس فهم المتأخّرون، كابن البزاز الكردري المتوفى سنة (627 هـ). والخوارزمي المتوفى سنة (568 هـ). وكذلك الخطيب البغدادي المتوفى سنة (463 هـ) ذكرها في تاريخه. ذكرها بصورتها الواقعية ولكن الحنفية جعلوا الغالب هو المغلوب، وهذا شأن كتّاب المناقب في كثير من القضايا، والمتتبع يقف على اُمور من التحريف والتحوير تبعث على العجب والاستغراب.

مؤلفاته

وكيف كان فإنّ مؤمن الطاق من فرسان حلبة علم الكلام، ومن أبطال الرجال الذين حملوا رسالة التشيع فتحمّلوا الأذى في جنب الله، ووقف مواقفَ مشرفة في الدفاع عن آل محمد (صلى الله عليه وآله). كما أنّه ألّف كتباً قيّمة في شتى المواضيع الهامّة، وقد ذكر منها الشيخ الطوسي (123) وابن النديم (124) الكتب الآتية :

1 ـ كتاب الإمامة .

2 - كتاب المعرفة.

3 - كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول.

4 - كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة.

5 - كتاب إثبات الوصية.

6 - كتاب افعل، لا تفعل .

وله كتاب المناظرة مع أبي حنيفة.

وصية الإمام الصادق (عليه السلام) له

للإمام الصادق (عليه السلام) عدّة وصايا يوصي بها أصحابه بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا جملة منها في الجزء الثاني ، ونقتطف هنا فصولاً من وصيّته لمؤمن الطاق.

قال (عليه السلام): "يا ابن النعمان، إيّاك والمراء فإنّه يحبط عملك، وإيّاك والجدال فإنّه يوبقك، وإياك وكثرة الخصومات، فإنّها تبعدك من الله .إنّ من كان قبلكم يتعلّمون الصمت، وأنتم تتعلّمون الكلام. كان أحدهم إذا أراد التعبد يتعلّم الصمت قبل ذلك.إنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، أولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقّاً، وهم المؤمنون. إنّ أبغضكم إليّ المترئسون المشاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا منّي ولا أنا منهم، إنّما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا، واتّبعوا آثارنا.يا ابن النعمان، إنّا أهل بيت لا يزال الشيطانُ يدخل فينا من ليس منا ولا من أهل ديننا، فإذا رفعه ونظر إليه الناس أمره الشيطان فيكذب علينا، وكلّما ذهب واحد جاء آخر.يا ابن النعمان، إن أردت أن يصفو لك ودُّ أخيك فلا تمازحنّه، ولا تمارينّه ولا تباهينّه. ولا تطلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطلع عليه عدوّك لم يضرّك، فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً.يا ابن النعمان، ليست البلاغة بحدّة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة.يا ابن النعمان، لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري. ولا تدعه لثلاث: رغبةً في الجهل وزهادةً في العلم، واستحياءً من الناس."(125)

آراء ومناقشات

زعم المتقوّلون على مؤمن الطاق: أنّه كان من المشبّهة، وتنسب إليه فرقة يقال لهم شيطانية من مذهبهم التشبيه. وأنّه كان يقول: إنّ الله تعالى إنما يعلم الأشياء إذا قدّرها، والتقدير عنده الإرادة، وللإرادة فعل(126) وأنّه كان يذهب إلى أنّ الإله على صورة الإنسان ولا يسمّيه جسماً (127) إلى غير ذلك من الأقوال التي نطق بها من لا يبالي بمؤاخذة ولا يدري ما يقول.

إنّها لعمر الله فرية، وتقوّل بالباطل، ونحن لا نستغرب اتّهام مؤمن الطاق بما يخالف عقيدته، لأنّه كان حرباً على ذوي الآراء الفاسدة. وقد اُعطي نصيباً وافراً من قوّة العارضة وسرعة الجواب، فكان يقيم الدليل على خصمه، ويرغمه على الاعتراف بالخطأ.

ومن الواضح أنّ تلك المناقشات التي كانت تدور في أندية الكوفة كان أكثرها يهدف إلى تشويش الأفكار، والتلاعب بالعقول، لوجود طائفة من الدخلاء كان غرضهم ذلك.

وكان مؤمن الطاق وبقية خواصّ الأئمة قد بذلوا جهدهم في مقاومة أولئك الخصوم، الذين يريدون الفتك بالإسلام وأهله، فكان أهون شيء عليهم أن ينسبوا لأولئك الصفوة ما يخالف عقائدهم، والظروف تساعدهم على ذلك عندما أطلق الباطل من عقاله، فدفع صاحبه الى اتّهام البريء وبراءة المتهم.

ويكفينا في براءته وعلوّ منزلته وحسن عقيدته، ماورد في مدحه والثناء عليه عن أئمّة الهدى. وقد كان من أحبّ الناس إلى الإمام الصادق(عليه السلام). فقد صحّ عنه(عليه السلام)أنه كان يقول: "أربعة أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً: بريد بن معاوية العجلي، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو جعفر الأحول" (128)

فلا تضرّه تهجّمات اُولئك القوم الذين ألقوا مقاليد اُمورهم للعاطفة، فاتّهموه بما هو بريء منه، ورموه بما لا يليق بشأنه.

(وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)(129)

 

هشام بن الحكم"يا هشام ما زلت مؤيّداً بروح القدس" الإمام الصادق (عليه السلام)"رحم الله هشاماً كان عبداً ناصحاً" الإمام الرضا(عليه السلام) "لسان هشام أوقع في نفوس الناس من ألف سيف" هارون الرشيد

نسبه ونشأته وأقوال العلماء فيه

هشام بن الحكم الكندي أبو محمد البغدادي المتوفى سنة (197 هـ) (130).

كانت نشأته بالكوفة وواسط، ويدخل بغداد للتّجارة، ولكنّه استقام بها بعد مدّة من الزمن، ونزل قصر وضاح بالكرخ من مدينة السلام، وله دار بواسط. وكان يتجوّل للتجارة ينتقل من بلد إلى آخر وهو يرشد الناس ويدافع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)ويناظر الملحدين فيفحمهم، ورجع الكثيرون الى التوحيد تسليماً لقوّة الحجّة وخضوعاً للحقّ، وهو من تلامذة الإمام الصادق(عليه السلام)، ومن خواص ولده موسى الكاظم (عليه السلام).

نشأ هشام بن الحكم بالكوفة، وكانت الكوفة مصطرعاً للآراء، وموطناً لاختلاف المذاهب التي استوطنتها، وقوي بها انتشار علم الكلام، وازدهرت أرجاؤها بحلقات العلم ورجال الفكر، فكانت هناك خصومات وجدل ونزاع بين أصحاب المذاهب المختلفة، والآراء المتفرّقة والفرق المتعددة. وقد اتّخذ كلّ فريق علم الكلام وسيلة للانتصار على خصمه، ووسيلة لتأييد رأيه وتصحيح مذهبه.

وكان هشام بن الحكم من أبرز شخصيات ذلك العصر، يمتاز بقوّة شخصيته التي جعلته مطمحاً لأنظار علماء عصره، لتفوّقه ومهارته وشدّة خصومته، وقوة حجته، ويصف ابن النديم هشاماً بقوله:

هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة، ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام، حاضر الجواب، سئل هشام عن معاوية، أشهد بدراً؟ قال: نعم، من ذاك الجانب - أي من جانب المشركين -.

ويقول الشهرستاني: هشام بن الحكم صاحب غور(131) في الاُصول لا يجوز أن يغفل عن الزاماته على المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه.

وقال الزركلي: هشام بن الحكم فقيه، متكلّم، مناظر، من أكابر الإمامية، ولد بالكوفة. فانقطع الى يحيى بن خالد، فكان القيم بمجالس كلامه(132).

ويقول الدكتور أحمد أمين: أما هشام بن الحكم فيظهر أنّه أكبر شخصية شيعية في علم الكلام، وكان من تلاميذ جعفر الصادق (عليه السلام) وكان جدلاً قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت في كتب الأدب له مناظرات كثيرة، دلّ على حضور بديهته وقوة حجته، الى أن يقول : والجاحظ يشتدّ عليه في المناقشة ويغضب في نقده. وستأتي بقية الأقوال فيه(133).صلته بالإمام الصادق (عليه السلام)

اتّصل هشام بمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) وأصبح من أبرز رجالها في الحكمة والدراية، والعرفان، والفقه، والحديث. ويقال: إنّه كان قبل اتّصاله بالإمام يذهب إلى رأي جهم بن صفوان (134)، ولكنّه تركه عندما اجتمع بالإمام الصادق(عليه السلام) في مدينة الوحي، وقد اكتظّ المجلس بوفود الأمصار وطلاب العلم، فرأى من هيبة الإمام وروحانيته، وسمع ما طرق سمعه من أجوبته لسائليه، وحسن بيانه وعذوبة ألفاظه، ما أفقده الاعتزاز بنفسه، وعرف عجزه عن مقابلته في مسائله.

وكان الإمام الصادق(عليه السلام) قد عرف هشاماً وسمع به من قبل، فاتّجه إليه ليوجّهه إلى الحقّ، ويرشده الى الهدى، فألقى إليه سؤالاً بما كان قد اختصّ هشام به، فلم يستطع الجواب عنه، وعرف الحقّ فاتبعه "والحقّ أحقّ أنيتبع".

وانقطع إلى الإمام الصادق(عليه السلام) فأصبح من خواصّه، ومن أبرز رجال مدرسته، فكان من أشهر رجال العلم، ومن أبطال الفلسفة، يمثّل في مواقفه البطولة والجرأة الأدبية، يسير مع الحقّ أينما سارت ركائبه. وفاز بالتفوّق على مناوئيه بواضح الحجة، وساطع البرهان، واستجاب الله دعوة الإمام الصادق(عليه السلام)فيه: "ياهشام ما زلت مؤيّداً بروح القدس"(135)

كان هشام شديد الإخلاص، قويّ الإيمان، راسخ العقيدة، يدافع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ويتشدّد في مناقشته للخلافات المذهبية، وتفنيد آراء المتكلّمين من سائر الفرق الإسلامية الذين تأثّروا بانتقال الفلسفة اليونانية. وكان يخرج منتصراً في جميع مواقفه، لما عُرف فيه من قوّة الحجّة وسعة التفكير، وبذلك أصبح في خطر من قبل الدولة - كما هو شأن المفكرين وأهل الآراء الحرة من أمثاله - وقد عرف هشام بشدّة مناظرته في الإمامة، وانتصاره للعلويين، وهم خصوم الدولة وأهل الحقّ الشرعي.

وقد خشي الرشيد من اتّساع نشاط هشام، وتفوّقه على أكثر المفكرين من رجال عصره. فحاول الفتك به والقضاء عليه.

ولكن يحيى بن خالد البرمكي كان يدافع عن هشام، ويلطّف الجو، لأنه كان مختصاً به، حتى تغيّر قلبه على هشام لأسباب هناك، فأعرض عن دفاعه. وجرى بحث الإمامة في مجلس البرمكي، والرشيد يسمع من وراء الستر، فاشتدّت المناظرة وكانت الغلبة لهشام، فغضب الرشيد وقال: إنّ لسان هشام أوقع في نفوس الناس من ألف سيف.(136) ولكنّ الرشيد بما عُرف عنه من عداء لأهلبيت النبوّة ومقاومته لآثارهم، يرى في هشام مبتدعاً.

روي أنّ ملك الصفد كتب الى الرشيد يسأله أن يبعث إليه من يعلّمه الدين، فدعا يحيى بن خالد فعرض عليه الكتاب، فقال يحيى: لا يقوم بذاك إلاّ رجلان ببابك: هشام بن الحكم، وضرار ]بن عمرو من شيوخ المعتزلة[ فقال: كلاّ، إنهما مبتدعان فيلقنان القوم ما يفسدهم ويغويهم بالمسلمين، ليس لذلك إلاّ أصحابالحديث(137).

وكان هشام قد احتلّ منزلة في حركة مدرسة الإمام الصادق الفكرية، وعمل بتوجيهات الإمام الصادق الى جانب تلامذة الإمام الآخرين ممّن مهروا في الكلام واختصوا بأفانين الجدل في عصر ساد الأوساط ما يشبه الموجة التي تكاد يعتورها نفس الأفكار لولا تلقّي رجال الاُمة لها بالتصدّي للتخفيف منها والتحكم في شططها وانحرافها حتى تنساب برقّة وتصبّ في مجرى العقيدة بلا شوائب وأكدار. وقد عزم الإمام الصادق على انتشال هشام بن الحكم من مؤثرات ذلك العصر ثم هداه الله الى ما يريده من الإمام، وأصبحت له مكانة في النشاط الديني والفكري واحتلّ منزلة خاصة في نفس الإمام الصادق.

يروي يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرايض وقد جئت لمناظرة أصحابك، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): "كلامك هذا من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو من عندك؟" فقال: من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعضه ومن عندي بعضه. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): "فأنت إذن شريك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟" قال: لا. قال: "فسمعت الوحي عن الله؟" قال: لا. قال: "فتجب طاعتك ما تجب طاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟" قال: لا. قال: فالتفت أبو عبدالله(عليه السلام) اليَّ فقال: "يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم"، ثم قال: "يا يونس، لو كنت تحسن الكلام كلمته" قال يونس: فيا لها من حسرة، فقلت: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: "ويل لأصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد و هذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله؟" فقال أبوعبدالله(عليه السلام): "إنما قلت: ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا الى ما يريدون"(138)

ثم تأتي رواية ابن يعقوب لتبين عظيم المكانة التي عليها هشام فيقول:

أخرج أبو عبدالله(عليه السلام) رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخبّ، فقال: "هشام وربّ الكعبة". فظننا أنّ هشاماً من ولد عقيل كان شديد المحبّة لأبي عبدالله(عليه السلام)، فإذا هشام بن الحكم قد ورد وهو أول ما اختطّت لحيته وليس فينا إلاّ من هو أكبر سنّاً منه، قال: فوسّع له أبوعبدالله(عليه السلام) وقال: "ناصرنا بقلبه ولسانه ويده" ثم قال لحمران بن أعين: "كلّم الرجل الشامي" فكلّمه حمران فظهر عليه، ثم كلّمه الآخرون ممن حضر مجلس الإمام... يقول ابن يعقوب: ثم قال للشافعي: "كلّم هذا الغلام" يعني هشامبن الحكم، فقال: نعم، ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا، يعني أبا عبدالله(عليه السلام) فغضب هشام حتى ارتعد، ثم قال له: أخبرني يا هذا، أربّك أنظر لخلقه أم هم لأنفسهم؟ فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه. قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟ قال: كلّفهم وأقام لهم حجة ودليلاً على ما كلّفهم، وأزاح في ذلك عللهم. فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصب لهم؟ قال الشامي: هو رسول الله(صلى الله عليه وآله). قال له هشام: فبعد رسول الله مَن؟ قال: الكتاب والسنّة، قال له هشام: فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنّة فيما اختلفنا فيه حتى يرفع عنا الاختلاف ومكّنا من الاتفاق؟ قال الشامي: نعم. قال له هشام: فَلِمَ اختلفنا نحن وأنت وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم أنّ الرأي طريق الدين، وأنت تقرّ بأنّ الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟ فسكت الشامي كالمفكّر، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): "مالك لا تتكلم؟" قال: إن قلت أنا ما اختلفنا كابرت، وإن قلت إن الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه.. ثم يقوم الشامي بسؤال هشام، ويجيب هشام حتى يخرج الشامي من مجلس الإمام وهو على الهدى.

الإمام الصّادق أصحابه وحَمَلة فقهه عصره

كان عصر هشام من أزهر العصور في الكلام بجميع اُصوله، لكثرة الفرق. وجعل هاتيك الاُصول الكلامية مبتنية على القواعد المنطقية. وكانت الرغبة ملحة في النظر والجدل، فكانت المجالس تعقد للمناظرة، وتشدّ الرحال للمدارسة والاحتجاج، ولا سيّما في الإمامة، لأنّها الأصل الذي يصحّح للخليفة - بالشكل المعهود - أن يستولي به على العباد والبلاد باسم الشريعة، ويصحّح له أن يكون وليّ الأمر الذي تجب طاعته على الاُمة، أو يمنعه عن التصرّف في مقدرات البلاد، والقبض على رقاب العباد، ويأبى له من أن يكون الحجة من الخالق إلى المخلوق.

فالملوك من بنياُمية وبني العباس وقفوا سدّاً دون سيل الكلام في الإمامة لئلاّ يشيع رأي الشيعة فيها، وألجموا الأفواه، وحجروا العقول ومنعوا حرّية القول، وساروا بالناس سيرة إرهاب وتهديد.

فكان هشام بن الحكم واسطة القلادة في تلك الأندية، يساجل في كلّ أصل، فإن انتهت الخصومة إلى الإمامة، أدلى بحجّته، مصرّحاً إن أمن من العقاب، وملوّحاً إن خاف النكال .

لأنّ إثبات الإمامة في الأئمة الاثني عشر هدم لصروح إمامة الأوائل، وثلٌ لعروش الأواخر (139). وكان لمجلس يحيى البرمكي الذي يعقد في بغداد للمناظرة أثر كبير في تنوير العقول، ولا يعقد ذلك المجلس إلاّ تحت إشراف هشام ورئاسته. ومن الحقّ أن نقول: إنّ هشاماً كان من مفاخر الاُمة الإسلامية فقد جنّد نفسه لخدمة الحقّ، ونشر مبادئ الإسلام، وقد تصدّى للرد على أعداء الدين، ورفع الغشاوة من بعض العقول التي قد ركبها الشطط، وغلبها الغرور.

سأل ضرار هشام بن الحكم عن الدليل على الإمام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فقال هشام: الدلالة عليه ثمان دلالات: أربع منها في نعت نسبه، وأربع منها في نعت نفسه. أما الأربع التي في نعت نسبه: فأن يكون معروف القبيلة، معروف الجنس، معروف النسب، معروف البيت وذلك أنه إذا لم يكن معروف القبيلة، معروف الجنس، معروف النسب، معروف البيت جاز أن يكون من أطراف الأرض وفي كلّ جنس من الناس، فلمّا لم يجز أن يكون الدليل إلاّ في أشهر الأجناس، ولما لم يجز أن يكون إلاّ في هذا الجنس لشهرته; لم يجز أن يكون إلاّ هكذا، ولم نجد جنساً في العالم أشهر من جنس محمد(صلى الله عليه وآله) وهو جنس العرب الذي منه صاحب الملّة والدعوة الذي ينادى باسمه في كلّ يوم وليلة خمس مرّات على الصوامع والمساجد في جميع الأماكن: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ووصل دعوته الى كلّ بر وفاجر من عالم وجاهل معروف غير منكر في كلّ يوم وليلة، فلم يجز إلاّ أن يكون في هذه القبيلة التي فيها صاحب الدعوة لاتصالها بالملّة، لم يجز أن يكون إلاّ في هذا البيت الذي هو بيت النبي لقرب نسبه من النبيّ(صلى الله عليه وآله)إشارة إليه دون غيره من أهل بيته، ثم إن لم يكن إشارة إليه اشترك أهل هذا البيت، وادعيت فيه، فإذا وقعت الدعوة فيه وقع الاختلاف والفساد بينهم، ولا يجوز أن يكون إلاّ من النبي(صلى الله عليه وآله) إشارة الى رجل من أهل بيته دون غيره، لئلاّ يختلف فيه أهل هذا البيت أنّه أفضلهم وأعلمهم وأصلحهم لذلك الأمر.

وأمّا الأربع التي في نعت نفسه: فأن يكون أعلم الخلق، وأسخى الخلق، وأشجع الخلق، وأعفَّ الخلق وأعصمهم من الذنوب صغيرها وكبيرها، لم تصبه فترة ولا جاهلية، ولابدّ من أن يكون في كلّ زمان قائم بهذه الصفة الى أن تقوم الساعة. فقال عبدالله بن يزيد الأباضي ـ وكان حاضراً ـ : من أين زعمت يا هشام أنّه لابد أن يكون أعلم الخلق؟ قال: إن لم يكن عالماً لم يؤمن أن تنقلب شرائعه وأحكامه، فيقطع من يجب عليه الحدّ، ويحدّ من يجب عليه القطع، وتصديق ذلك قول الله عزّ وجل: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّيَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(140). قال: فمن أين زعمت أنّه لابدّ أن يكون معصوماً من جميع الذنوب؟ قال: إن لم يكن معصوماً لم يؤمن أن يدخل فيما دخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج الى من يقيم عليه الحدّ كما يقيمه على غيره، وإذا دخل في الذنوب لم يؤمن أن يكتم على جاره وحبيبه وقريبه وصديقه، وتصديق ذلك قول الله عزّ وجل: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَيَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(141). قال له: فمن أين زعمت أنّه لا بدّ أن يكون أشجع الخلق؟ قال: لأنّه قيّمهم الذي يرجعون إليه في الحرب، فإن هرب فقد باء بغضب من الله ولا يجوز أن يبوء الإمام بغضب من الله، وذلك قوله عزّ وجل: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الاَْدْبَارَ)(142). قال: فمن أين زعمت أنّه لابدّ أن يكون أسخى الخلق؟ قال: لأنّه إن لم يكن سخيّاً لم يصلح للإمامة، لحاجة الناس الى نواله وفضله والقسمة بينهم بالسوية، وليجعل الحقّ في موضعه; لأنّه إذا كان سخيّاً لم تتقّ نفسه الى أخذ شيء من حقوق الناس والمسلمين، ولا يفضّل نصيبه في القسمة على أحد من رعيّته، وقد قلنا إنّه معصوم، فإذا لم يكن أشجع الخلق وأعلم الخلق وأعفَّ الخلق لم يجز أن يكونإماماً(143).

ولما كان هشام قد عُرف بالتفوّق، وقوّة الحجة، وسرعة الجواب،

واتقاد الذهن; فقد أصبح ذكره حديث الأندية، وقد تحامل عليه

خصومه فنسبوه إلى ما لا يليق بشأنه، ولا يتّسق مع اعتقاده، لأنّ الرأي

العام في ذلك العهد من أنصار الخلافة المعهودة، ولا تصغي العامة للحجج

إذا خالفت الرغبة; فتوجّهوا إليه بتلك الطعون الشائنة، والتي لا تمت بشيء من الحقيقة، كما سنوافيك بجملة منها.

شيوخه وتلامذته

أخذ هشام علم الفقه، والحديث والتفسير، وغيرها عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وكان ملازماً له منذ نشأته، وروى عنه أحاديث كثيرة في مختلف الأحكام.

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يكرمه ويرفع من مقامه، وله أصل يرويه الشيخ الطوسي عن جماعة من الأصحاب.

ولما انتقل الإمام الصادق (عليه السلام) إلى جوار ربه، أصبح هشام من خواص الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وروى الحديث وأخذ عنه علماً كثيراً.

أمّا تلامذته: فخلق كثير، توجد رواياتهم عنه في كتب الفقه والحديث، منهم: النضر بن سويد الصيرفي الكوفي من تلامذة الإمام الكاظم (عليه السلام)، وكان من الثقات المشهورين بالعدالة وصحّة الحديث.

ونشيط بن صالح العجلي مولاهم الكوفي، عدّه الشيخ في رجاله من تلامذة الصادق والكاظم (عليهما السلام) .

ويونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، كان من أصحاب الكاظم والرضا. وله مؤلّفات كثيرة، وكان ثقة عظيم المنزلة.

وغيرهم ممّا لا يتّسع المجال لذكرهم.(144)

مؤلفاته

كانت لهشام بن الحكم مؤلّفات في شتى العلوم، ذكر منها ابن النديم :

1 - كتاب الإمامة.

2 - كتاب الدلالات على حدوث الأشياء.

3 - كتاب الرد على الزنادقة.

4 - كتاب الرد على أصحاب الإثنين.

5 - كتاب الرد على هشام الجواليقي.

6 - كتاب الرد على أصحاب الطبائع.

7 - كتاب الشيخ والغلام.

8 - كتاب التدبير.

9 - كتاب الميزان .

10 - كتاب الرد على من قال بإمامة المفضول.

11 - كتاب اختلاف الناس في الإمامة.

12 - كتاب الوصية والرد على من أنكرها.

13 - كتاب في الجبر والقدر.

14 - كتاب الحكمين.

15 - كتاب الرد على المعتزلة في طلحة والزبير.

16 - كتاب القدر.

17 - كتاب الألفاظ.

أجوبته ومناظراته

نشأ هشام تحت ظلال مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وتغذّى منها تعاليمه القيّمة، وثقافته العالية. وامتاز بقوّة شخصيّته التي جعلته محطّاً لأنظار علماء عصره، وقد تجرّد لنصرة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وناضل في الدفاع عنهم، ولم تقعد به ملاقاة عنت أو تكبد أذىً. وكان يقصده الكثير من علماء عصره الذين عُرفوا بقوة المناظرة ليناظروه ويحاجّوه في مختلف العلوم. وكان هو كذلك يتعرّض لمناظرتهم ويقصد علماء الأمصار ورؤساء الحلقات العلمية للمناظرة، طلباً لإظهار الحقّ ودفعاً للباطل.

ونظراً لما كان يمتاز به هشام من قوة العارضة، وغزارة العلم، وسرعة الجواب; فقد ترأس مجلس المناظرة الذي كان يعقده يحيى بن خالد البرمكي مساء كل جمعة ببغداد، وهو يضمّ جميع علماء الفرق، ورؤساء الأديان، وأهل الآراء، فكانوا لا يخوضون في مسألة حتى يحضر هشام فيكون قوله الفصل، وحكمه العدل. وكان الرشيد يحضر ذلك المجلس من وراء الستار - في بعض الأوقات - يستمع لتلك المناظرات ويصغي لتلك الأقوال. وأراد بعضهم أن يوقع الشرّ في قلب الرشيد على هشام، فألقى إليه سؤالا في قضية مخاصمة العباس لعلي (عليه السلام) في ميراث النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو لا يعلم بمكان الرشيد.

قال السائل: يا أبا محمد - وهي كنية هشام - أما علمت أنّ علياً نازع العباس إلى أبي بكر؟

قال هشام: نعم .

قال السائل: فأيّهما كان الظالم لصاحبه؟ فتوقّف هشام وقال في نفسه: إن قلت العباس خفت الرشيد، وإن قلت: عليّاً ناقضت قولي وعقيدتي.

ثم قال هشام: لم يكن فيهما ظالم.

فقال السائل: أفيختصم إثنان في أمر وهما محقّان جميعاً؟

قال هشام: نعم، اختصم الملكان إلى داود وليس فيهما ظالم، وإنّما أرادا أن ينبّهاه. كذلك اختصم هذان إلى أبي بكر ليعلماه ظلمه. فأمسك الرجل(145) ووقع الجواب عند الرشيد موقع القبول ومال قلبه لهشام.

وله كثير من أمثال هذا من الأجوبة المسكتة، والكلمات التي كان يتفوق بها على خصومه. قال ابن النديم بعد وصفه بقوة الحجة وسعة التفكير، وكان هشام يقول: ما رأيت مثل مخالفينا; عمدوا إلى من ولاّه الله من سمائه فعزلوه - يعني علياً - وإلى من عزله الله من سمائه فولوه - يعني أبا بكر - . ويذكر قصة مبلغ سورة براءة، ومرد أبي بكر، وإيراد علي (عليه السلام) بعد نزول جبرائيل (عليه السلام) قائلاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يؤدّيها عنك إلا أنت أو رجل منك. فرد أبا بكر وأنفذ علياً(عليه السلام) .(146)

وعلى أيّ حال فإنّ لهشام بن الحكم أجوبة ومناظرات قد احتفظ التاريخ ببعضها، وهي خير شاهد لقوة شخصيته في شتّى العلوم.

ولا يسعنا الآن بسط القول فيها، بل نذكر نموذجاً منها، وإليك ثبتاً فيبعضها:

1 - مناظرته مع الإباضية.

2 - مناظرته مع أحد البراهمة.

3 - مناظرته في ضرورة احتياج الناس إلى الحجة.

4 - مناظرته مع جماعة من أهل الشام في مجالس متفرقة في اُمور شتى.

5 - مناظرته في بيان أحقيّة علي بالخلافة دون غيره.

6 - مناظرته في أفضلية علي (عليه السلام) على جميع الاُمّة وتفنيد الاستدلال بآية (ثاني اثنين).

7 - مناظرته في إثبات وجوب الموالاة لعلي (عليه السلام)

8 - مناظرته في لزوم طاعة الإمام الحق.

9 - مناظرته مع أبي شاكر الديصاني.

10 - مناظرته مع الجاثليق.

11 - مناظرته في نفي الجهة وعدم الاثنينية.

12 - مناظرته مع ابن أبي العوجاء.

13 - مناظرته مع أبي حنيفة في عدّة مواطن.

14 - مناظرته مع إبراهيم بن يسار المعتزلي.

15 - مناظرته مع أبي الهذيل العلاف.

وغير ذلك كثير متفرق في الكتب التاريخية والأدبية.

نموذج من مناظراته

تصدّى هشام لمناظرة أهل الكلام، والرد على الملحدين والزنادقة، ويكاد المؤرّخون يجمعون على تفوّقه في المناظرة وسرعة الجواب وقوة العارضة، وإليك نموذجاً من مناظراته :

1 - جاء إليه رجل ملحد فقال له: يا هشام أنا أقول بالإثنين وقد عرفت إنصافك ولست أخاف مشاغبتك.

فقال هشام - وهو مشغول بثوب ينشره - وقال: حفظك الله هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئاً لايستعين بصاحبه عليه؟

قال: نعم .

قال هشام: فما ترجو من إثنين؟ واحد خلق كلّ شيء، أصحّ لك.

فقال الرجل: لم يكلّمني أحد بهذا قبلك.

2 - ودخل المؤبذ على هشام بن الحكم فقال له: يا هشام، حول الدنيا شيء؟

قال: لا

قال المؤبذ: فإن أخرجت يدي منها ثم شيء يردها؟

قال هشام: ليس ثم شيء يردّك ولا شيء تخرج يدك فيه.

قال: فكيف أعرف هذا؟

قال هشام: يا مؤبذ، أنا وأنت على طرف الدنيا فقلت لك: يا مؤبذ، إني لا أرى شيئاً.

فقلت لي: ولم لاترى؟ فقلت لك: ليس ها هنا ظلام يمنعني.

قلت لي: يا هشام، إنّي لا أرى شيئاً. فقلت لك: ولم لاترى؟

قلت: ليس ضياءً أنظر فيه.

فهل تكافأت الملتان في التناقض؟

قال: نعم. قال هشام: فإن تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء. فأشار المؤبذ بيده: أن أصبت.

وعاد إليه المؤبذ فقال: هما في القوّة سواء. قال : فجوهرهما واحد؟

فقال المؤبذ لنفسه - ومن حضر يسمع -: إن قلت: إن جوهرهما واحد عادا في نعت واحد، وإن قلت: مختلف اختلفا أيضاً في الهمم والارادات ولم يتفقا في الخلق، فإن أراد هذا قصيراً أراد هذا طويلاً.. ولما عجز عن الجواب التفت إليه هشام فقال: كيف لا تسلم قال: هيهات !(147).3 - قال هشام لأبي الهذيل (148): إذا زعمت أن الحركة تُرى فلِم لا زعمت أنها تُلمس؟

قال: لأنّها ليست بجسم فيلمس، لأنّ اللمس إنّما يقع على الأجسام.

فقال له هشام: فقل إنّها لا تُرى لأنّ الرؤية إنما تقع على الأجسام.

فرجع أبو الهذيل سائلاً: من أين قلت: إن الصفة ليست الموصوف ولاغيره؟

قال هشام: من قبل أنّه يستحيل فعلي أنا، ويستحيل أن يكون غيري، لأنّ التغاير إنّما أوقعه على الأجسام والأعيان القائمة بأنفسها، فلما لم يكن فعليّ قائماً بنفسه، ولم يجز أن يكون فعلي أنا، وجب أنه لا أنا ولا غيري. وعلة اُخرى أنت قائل بها: زعمت يا أبا الهذيل، أنّ الحركة ليست مماسّة ولا مباينة، لأنّها عندك ممّا لا يجوز عليه المماسّة ولا المباينة، فلذلك قلت أنا: إنّ الصفة ليست أنا ولا غيري، وعلتي في أنّها ليست أنا ولا غيري علّتك في أنّها لا تماس ولا تباين، قال المسعودي: فانقطع أبو الهذيل ولم يرد جواباً .(149)

ذكرنا هذه المناظرة لا بقصد أن نعطي صورة عن هشام بن الحكم فيها، ولكنّا نودّ أن ننبّه على خيانة للنقل وجناية على التاريخ وتهجم على الحقائق بما ارتكبه ابن حجر العسقلاني فإنّه ذكر(150) ما هذا نصه: وقال المسعودي: قال أبوالحسن الحناط مات أبو الهذيل سنة (227 هـ) وتنازع أصحابه في مولده، فقال قوم سنة إحدى وثلاثين وقال قوم: سنة أربع. وذكر - أي المسعودي - مناظرة بينه وبين هشام بن الحكم الرافضي، وأنّ هشاماً غلبه أبو الهذيل فيها.

هذا وقد أوقفناك على نصّ عبارة المسعودي وأنّ هشاماً غلب أبا الهذيل ولم يرد جواباً. والحكم للقارئ المنصف.

4 - اجتمع هشام في إحدى رحلاته إلى البصرة بعمرو بن عبيد المتوفى سنة(144 هـ) وتناظرا في الإمامة، وكان عمرو يذهب إلى أن الإمامة اختيار من الاُمة في سائر الاعصار، وهشام يذهب إلى أنّها نصّ من الله ورسوله على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى من يلي عصره من ولده الطاهرين.

فقال هشام لعمرو بن عبيد: أليس قد جعل الله لك عينين؟

قال: بلى.

قال: ولِمَ ؟

قال: لأنظر بهما في ملكوت السموات والأرض فأعتبر.

قال: فلِمَ جعل لك سمعاً ؟

قال: لأسمع به التحليل والتحريم والأمر والنهي.

قال: فلِمَ جعل لك فماً ؟

قال: لأذوق المطعوم، وأجيب الداعي. ثم عدّد الحواس كلّها.

قال: ولم جعل لك قلباً.

قال: لتؤدي إليه الحواس ما أدركته، فيميز بين مضّارها ومنافعها.

قال هشام: فكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسك ولا يخلق لك قلباً تؤدي هذه الحواس إليه؟

قال عمرو: لا .

قال: ولِمَ؟

قال: لأنّ القلب باعث لهذه الحواس على مايصلح لها.

فقال هشام: يا أبا مروان - كنية عمرو بن عبيد - إنّ الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح، ويترك هذا الخلق كلّه لا يقيم لهم إماماً يرجعون إليه؟! قال المسعودى: فتحير عمرو ولم يأت بفرقيعرف.(151)مع هشام في تهمته

نضج علم الكلام في العصر العباسي الأول، وانتشر الخلاف وكثر الجدل، وكان النزاع يملأ حلقات العلم، والمناظرات تقع في مجالس الخلفاء، وفي المساجد، وفي الشوارع.

وكان للمعتزلة نشاط في الحركة الكلامية، فقد كانوا يبحثون عن أهمّ المسائل ويصطدمون مع خصومهم.

إلى جانب ذلك نراهم قد تعرّضوا لمسائل تكاد تكون سوفسطائية مثل: الإله قادر على الظلم أو لا؟ هل الجنة مخلوقة اليوم أو لا؟ هل قدرة الله تتعلق بالمحال أو لا؟ هل الكافر قادر على الإيمان والمؤمن قادر على الكفر؟ الى كثير من أمثال ذلك. مع اختلافهم في الإمامة والسياسة، وكلّ هذه الآراء تكوّن جوّاً مضطرباً ونزاعاً علمياً، وقد حصل ذلك في عصرهم وبعد عصرهم.

وكان هشام بن الحكم شديد الخصومة لهم، قويّ الحجة عليهم، واسع الفكر. وله شهرة في علم الكلام، لذلك ترأس مجلس المناظرة في بغداد، وكان

 

 

(72) الصواعق المحرقة لابن حجر ص120 .

(73) الخلاصة للخزرجي ص54 .

(74) من كلمة عن دار التقريب بمصر.

(75) حصر الاجتهاد آقا بزرك تهراني ص41، الاجتهاد والتقليد، السيد الخوئي ص16 .

(76) ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر ج1 ص93، وطبقات ابن سعد ج6 ص250 وفهرست ابن النديم ص308، ومعجم الاُدباء ج1 ص117، وبغية الوعاة ص176، وميزان الاعتدال ج1 ص4، وخلاصة تذهيب الكمال ص13، وشذرات الذهب ج1 ص210، وطبقات القراء لشمس الدين الجزري ج1 ص86، ومرآة الجنان ج1 ص293، ومنهج المقال، والخلاصة، وفهرست الشيخ الطوسي وغيرها.

(77) هو إبراهيم بن يعقوب السعدي المتوفى سنة (256 هـ) سكن دمشق، كان من المتحاملين على أهل البيت ويتجاهر بنصب العداء لهم.

(78) تهذيب التهذيب ج1 ص181 - 183.

(79) حريز بن عثمان الرحبي المتوفى سنة (163 هـ) من رجال البخاري والأربعة، وكان معروفاً بالنصب. ويقول: لا اُحبّ علياً لأنه قتل آبائي. وحكى الناس عنه أيضاً سوء الاعتقاد وفساد المذهب، ولكن البخاري خرّج حديثه ووثّقه، كما وثقه أحمد بن حنبل. ترجمته في تاريخ بغداد ج 8 ص 265 - 270 والخلاصة ص64 وغيرهما.

(80) تهذيب التهذيب ج1 ص164 ح 299.

(81) صحيح مسلم ج1 ص86 ح131 "كتاب الإيمان".

(82) خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص101 ح98.

(83) الاستيعاب بهامش الاصابة ج3 ص73 .

(84) الرياض النضرة ج4 ص149.

(85) منتهى المقال ج1 ص133 / 11.

(86) تهذيب الكمال ج29 ص115 / 6282.

(87) راجع ج1 من هذا الكتاب ص 214. وكذلك جاءت ترجمته في الجزء الثاني ص107.

(88) تهذيب الكمال ج7 ص239 / 1481 .

(89) الجرح والتعديل، أبوحاتم الرازي ج7 ص246، ترجمة رقم 1360.

(90) تهذيب التهذيب ج9 ص116 / 6090.

(91) تهذيب الكمال ج16 ص5 / 3520، تاريخ بغداد ج10 ص151 / 5306.

(92) جامع الرواة ج1 ص9 - 11.

(93) منهج المقال ص86.

(94) رجال النجاشي ج1 ص73 / 6 .

(95) معجم رجال الحديث ج1 ص132، نهج السعادة ج7 ص193.

(96) رجال النجاشي ج1 ص73 / 6.

(97) الفهرست لابن النديم ص276.

(98) قاموس الرجال ج1 ص74.

(99) معجم الاُدباء ج1 ص108 - 109، ولسان الميزان ج1 ص24، وبغية الوعاة ص177، وفهرست الشيخ الطوسي ص18، ومنهج المقال ص16، وجامع الرواة ج1 ص12 - 15، وغيرها من كتب الرجال والأدب.

(100) منهج المقال، للأسترابادي ص66، وجامع الرواة ج1 ص117 - 119، والإمام الصادق للمظفر ص147 - 148، وغيرها كتنقيح المقال للمامقاني، ورجال أبي علي، ورجال الشيخ محمد طه نجف.

(101) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص76، نهج السعادة ج8 ص126، راجع كتب التراجم.

(102) فهرست الشيخ الطوسي ص44، وجامع الرواة ج1 ص165، ومنهج المقال ص78 وغيرها.

(103) جامع الرواة ج1 ص167 .

(104) جامع الرواة ج1 ص271 .

(105) خلاصة تذهيب الكمال ص78، وجامع الرواة ج1 ص273، ومنهج المقال ص122.

(106) تهذيب التهذيب ج2 ص187، والمعارف لابن قتيبة ص268، والخلاصة للخزرجي وغيرها.

(107) منتهى المقال ج3 ص133 / 1012 .

(108) اُنظر الطبقات الكبرى لابن سعد ج7 ص242 ح3505 .

(109) نقد الرجال ج3 ص97 / 3045.

(110) الرسائل التسع للمحقق الحلي ص61، خلاصة الأقوال للعلاّمة الحلي ص33 .

(111) لسان الميزان ج5 ص200، وفهرست ابن النديم ص250، وتكملة الفهرست ص8، والملل والنحل للشهرستاني ج1 ص113، وجامع الرواة ج1 ص158، وضحى الإسلام ج3 ص270 - 271، ومنهج المقال ص210، وفهرست الشيخ الطوسي ص121، ولباب الأنساب ج2 ص42، والكنى والألقاب ج2 ص298 - 299 وغيرها.

(112) المرزباني شعراء الشيعة ص86.

(113) الفهرست لابن النديم: 224.

(114) الكنى والألقاب ج2 ص298.

(115) ضحى الإسلام، للدكتور أحمد أمين ج3 ص270 - 271.

(116) رجال الكشي ص185 - 330 .

(117) لسان الميزان ج5 ص298 / 7866.

(118) فهرست ابن النديم ص224 .

(119) المصدر السابق.

(120) تاريخ بغداد ج13 ص411 ح 86.

(121) تاريخ بغداد ج13 ص409، وتكملة فهرست ابن النديم ص8.

(122) البحار ج4 ص271.

(123) الفهرست للشيخ الطوسي ص323 / 698.

(124) الفهرست لابن النديم ص224 .

(125) تحف العقول ص307 - 312.

(126) لباب الأنساب ج2 ص42.

(127) الفَرق بين الفِرق للبغدادي ص131، وستأتي مناقشة هذه الأقوال في دراسة حياة هشام بن الحكم.

(128) رجال الكشي ص185 / 326 .

(129) النساء: 112.

(130) فهرست ابن النديم ص249، والتكملة ص 7، والملل والنحل ج1 ص308، ولسان الميزان ج6 ص194، والمراجعات لشرف الدين ص300 - 301، والانتصار للخياط في عدة مواضع، وضحى الإسلام ج3 ص268، والعقد الفريد ج1 ص360، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص15، وحياة هشام بن الحكم للشيخ محمد الحسين المظفر (مخطوط)، وجامع الرواة ج2 ص313، ونهج المقال ص356، وحياة هشام للشيخ محمد صالح الشيخ راضي (مخطوط) وغيرها.

(131) غور: كل شيء قعره، وعمقه، وصاحب غور هو من تعمق في علمه، حتى وصل الى حقيقته، ومنه فلان بعيد الغور أي متعمق النظر وهو بحر لا يدرك غوره. انظر في التعليق الملل والنحل ج1 ص311.

(132) الأعلام ج3 / 1123.

(133) ضحى الاسلام ج3 ص268 - 269 .

(134) جهم بن صفوان إليه تنسب الفرقة الجهمية، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سلم بن أحوز المازني بمرو، آخر الدولة الاُموية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم: انّه لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه لأنّ ذلك يقتضي تشبيهاً، فنفى كونه حياً عالماً، وأثبت كونه فاعلاً خالقاً لأنّه لايوصف شيء بالفعل والخلق. إلى آخر أقواله في الملل والنحل ج1 ص113 .

(135) الفهرست لابن النديم ص224.

(136) بحار الأنوار ج69 ص148 ح151.

(137) محاضرات الاصبهاني ج1 ص37 ـ 38 .

(138) الكافي ج1 ص 71 ح4 .

(139) عن كتاب حياة هشام لشيخنا المظفر مخطوط.

(140) يونس: 35 .

(141) البقرة: 124.

(142) الأنفال: 15.

(143) علل الشرائع ج1 ص204 .

(144) نقد الرجال ج4 ص108 / 4407.

(145) العقد الفريد ج1 ص360، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص150 وضحى الإسلام ج3 ص268.

(146) تكملة فهرست ابن النديم ص7 .

(147) عيون الأخبار ج5 ص152.

(148) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البصري، أبو الهذيل العلاّف المتوفى سنة (235هـ) شيخ المعتزلة ومقدمهم ومقرر الطريقة والمناظر عليها، اخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل، وله آراء وأقوال وإليه تنسب الفرقة الهذيلية من المعتزلة.

(149) مروج الذهب ج4 ص54 .

(150) لسان الميزان ج5 ص214 .

(151) مروجالذهب ج4 ص55،والطبرسي ص200 وأماليالمرتضى ج1 ص122-123، وعلل الشرائع ص194.

 

 

 

 

[1]

يقصد حلقات العلم فيمتحن رؤساءها بما يفحمهم فيه، فكان انتصاره عليهم سبباً لاتّهامه بما لا يليق بشأنه، ولا صلة له بالواقع. وكان الجاحظ من أشدّ الناس عداءً لهشام، فنسب إليه تلك المفتريات هو والنظام ابراهيم بن يسار، وجاء ابن قتيبة فى "مختلف الحديث" (2) فأرسلها إرسال المسلمات، وكذلك الخياط المعتزلي كما جاء في كتاب "الانتصار".(3)

وليس من العسير علينا أن نستشفّ بواعث تلك الاتّهامات الموجّهة لهشام من قبل خصومه مع براءته من ذلك. ولا يصحّ لنا أن ننساق مع المندفعين بتيّار الهوى والخاضعين للعاطفة، الذين اتّهموه بتلك التهم الشنيعة بدون التفات إلى الواقع، أو استناد إلى مصدر وثيق، وإنّما كانت بدافع الانتقام منه والحقد عليه لكونه يغلب خصمه بمنطقه ويقطعه ببراهينه.

كما كان الحكم على هشام بتلك التهم صادراً عن طائفية بغيضة، رغبة في تشويه الحقيقة، أو اقتناع بما دبّرته عوامل عصر هشام، من الاعتداء على المفكرين من رجال الاُمة، وتطبيقه بوسائل عنيفة وحشية. ولم يخف على المتتبعين ما أحدثه ذلك التطوّر الفكري، من وجود خلافات مذهبية وفوارق طائفية أدّت إلى خصومة عنيفة، خرجت عن حدود العلم والمنطق الصحيح، بل عن حدود العقل والاتّزان. وكان الموقف السياسي يؤثر في كفّة الخلاف، ويؤيّد حركة النزاع الطائفي من وراء الستار لغاية التفريق، والوصول لاُمور لا تحصل إلا بذلك، طبقاً لقاعدة "فرّق تسد" وهي خطة سلكها الاُمويون واتبعهم العباسيون، فصارت مركباً لحكام الاستبداد واُمراء الجور. واتّضح لنا ممّا سبق أنّ الموقف العدائي للشيعة قد تعدّى حدود المنطق، وبلغ الى الهوس والتهريج، والتقوّل بالباطل، كلّ ذلك يرمي إلى تشويه الصورة الحقيقية، وتنفير الناس عن عقائدهم التي لا تستطيع سياسة تلك العصور أن تتركها بدون معارضة ومقاومة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بالإمام.

ولنقف عند هذا الحدّ من التعرّض لتلك التقوّلات على الشيعة ونعود لبعض ما قيل عن هشام في اتّهامه.

كما أنّنا لا نريد أن نستقصي ذلك ولا لنجهد أنفسنا في الردّ على تلك التقوّلات، فالأمر أوضح من أن يدعونا إلى ذلك. فشخصية هشام لها مقوّمات واقعية، نستمد اتجاهاتها من واقع تعاليم الدين الحنيف ولا يضرّه تقولات أعدائه، وإليك بعضاً منها :

1 - يقول عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة (429 هـ) في بيان مذاهب المشبّهة: ومن هذا الصنف هشامية منتسبة الى هشام بن الحكم الرافضي، الذي شبّه معبوده بالإنسان، وزعم لأجل ذلك أنّه سبعة أشبار بشبر نفسه وأنّه جسم ذو حدّ ونهاية، وأنّه طويل، عريض، عميق، وذو لون وطعم ورائحة وقد روي عنه أنّ معبوده كسبيكة الفضة المستديرة.(4)

هذا ما يقوله صاحب الفَرق بين الفِرق وهو عار عن الصحة، بعيد عن الواقع، لأنّ آثار هشام من كتب ومناظرات تدلّ بوضوح على إيمانه بالله، فكتابه التوحيد وغيره من كتب الرد على الملحدين تتكفل صدق ما نقوله عنه. وكذب ما يقوله البغدادي ومن سار على نهجه الذي لا يعتمد على الحقّ، ولا يركن الى الصواب بل هو محض افتراء وتقوّل بالباطل، ومجرد أوهام فاضت بها أحقاد المناوئين، فراحوا يذكرون عن هشام وطائفته بما لا يمت إلى الواقع بصلة، ونحن إذا أمعنا النظر في أسباب هذه الحملات على هشام، فإنّا نجد مصدرها المعتزلة، فإنّهم خصومه، لأنه كان شديداً عليهم، مفنّداً لآرائهم. وسنوضّح موقف الجاحظ - وهو من كبار المعتزلة - من هذه المعركة، وكيف صبّ جام غضبه على هشام بأسلوبه الساخر، فكانت اتهامات هشام من صوغ الجاحظ وإنتاجه الأدبي.

2 - ويقول محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي المتوفى سنة (377هـ) في كتابه التنبيه :

الفرقة الثانية عشرة من الإمامية هم أصحاب هشام بن الحكم، يعرفون بالهشامية، وهم الرافضة الذين روي فيهم الخبر أنّهم يرفضون الدين بحبّ علي(رضي الله عنه) فيما يزعمون، وكذب أعداء الله وأعداء رسوله وأصحابه، وإنّما يحبّ علياً من يحب غيره، وهم أيضاً ملحدون لأنّ هشاماً كان ملحداً دهرياً، ثم انتقل إلى الدهرية والمانوية، ثم غلبه الإسلام فدخل في الإسلام كارهاً، فكان قوله في الإسلام بالتشبيه والرفض. وأما قوله بالإمامة فلم نعلم أنّ أحداً نسب إلى عليّ عيباً مثل هشام...

والله نحمده قد نزع عن علي وولده العيوب والأرجاس وطهرهم تطهيراً، وما قصد هشام التشيّع ولا محبة أهل البيت(عليهم السلام)ولكن طلب بذلك هدم أركان الإسلام، والتوحيد والنبوة - انتهى - .

هكذا يقول الملطي. وإذا أردنا أن نسائل هذا الشيخ عن المصدر الذي استمدّ منه معلوماته عن هشام، وعلى أيّ شيء اعتمد في كيل هذه الاتهامات، وما الّذي عرفه عن هشام فاستوجب أن ينسب إليه الإلحاد؟ وهل نقل عن مصدر موثوق به؟ كلّ ذلك لم يكن. وإنّما يحتجّ بما نقل عن هشام في قوله بإمامة عليّ(عليه السلام) وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نصّ على إمامته، وأنّ علياً أفضل الاُمة. وإليك نص ما نقله الملطي عن هشام إذ يقول: فزعم هشام أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نصّ على إمامة علي في حياته بقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وبقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي"، وبقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"،وبقوله: "تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله"، وأنه - أي علياً - وصي رسول الله وخليفته في ذرّيته، وهو خليفته في اُمته، وأنّه أفضل الاُمة وأعلمهم، ولا يجوز عليه السهو ولا الغفلة ولا العجز، وأنّه معصوم، وأنّ الله عز وجل نصبه للخلق إماماً ولكن لايهملهم، وأنّ المنصوص على إمامته كالمنصوص على القبلة وسائر الفرائض... الخ .

هذه هي المزاعم التي استنتج منها الشيخ الملطي مقاصد هشام من التشيّع، فهشام بن الحكم في نظر هذا الشيخ إنّما كان عدوّاً للإسلام وأصبح ملحداً غير مؤمن، لأنّه يذهب إلى إمامة علي بالنص، وأنّه خليفة رسول الله في اُمته.

ونحن لا نلوم هذا الشيخ على هذيانه وتمرّده على الواقع، ولكنّا نلوم الرجل المثقف الذي يريد أن يخدم الاُمة بنشر هذه الفضائح (5) وإخراج هذه الجيف، فلا نطيل الوقوف هنا فالزمن أثمن والوقت من ذهب. وعند الله تجتمع الخصوم.

3 - وقال ابن حجر (6): هشام بن الحكم أبو محمد الشيباني من أهل الكوفة، وكان من كبار الرافضة ومشاهيرهم، وكان مجسّماً يزعم أن ربّه سبعة أشبار بشبر نفسه، ويزعم أن علم الله محدث. ذكر ذلك ابن حزم. بدون مستند ولا سند، وإنّما هذا مجرد تهجّم على الأبرياء كما هو شأن ابن حزم.

وعلى هذه اللغة وهذه اللهجة سار كلّ من تعصب على هشام. وقد ثبت بالتتبع أنّ هذه الجمل التي يسوقونها للانتقاص من هشام والحطّ من كرامته، إنّما هي من مفتعلات الجاحظ ومفترياته. لأنّه كان شديد القسوة على من يخالفه. وقد عرف بالانتصار للمعتزلة، وكان هشام حرباً عليهم ناظر علماءهم وانتصر عليهم.

والجاحظ معروف بأسلوبه التهكّمي اللاذع، الذي كان يتذرّع به في كثير من مهماته، فتراه عندما يأخذ بعض الأشخاص بالتصوير التهكمي يقدّم لك الصورة الدقيقة الرائعة، التي تثير في نفسك كلّ ما يمكن من النفور والبغض.

وهو إذ يتهجّم على هشام يسلك سبيل السخرية والتهكّم، فيقول: إنّ هشاماً مجسم يدّعي أنّ إلهه سبعة أشبار بشبر نفسه، له طول وعرض وطوله مثل عرضه إلى آخر قوله في اتهام هشام. وهذا أمر لا يحتاج إلى تحمّل مشقة في الرد، لأنّ خصومة الجاحظ لهشام ولأمثاله أوضح من أن تخفى.

وحيث كان الجاحظ هو بطل الخصومة لهشام، وهو مصدر تلك الاتهامات الباطلة فلا بدّ لكفة الميزان أن تحويه لتكشف نقصه مهما كان لاسمه صدى في ميدان الأدب ومكانة في رحابه.

الجاحظ في الميزان

هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني مولاهم المعروف بالجاحظ المتوفى سنة (250 هـ) أو سنة (255 هـ) تلميذ النظام، وهو من رؤساء المعتزلة ومتكلميهم، وله شهرة عظيمة في أدبه، كما أنّ له مؤلفات كثيرة في شتّى العلوم والفنون، اتّصل بالحكّام والاُمراء والخلفاء، وتقرّب إليهم بتصنيف الكتب والرسائل، وبها يتعصّب لمذاهبهم ويعضد بها آراءهم وينقض بها آراء مخالفيهم، طلباً لجوائزهم ونيلاً لرفدهم.

ولا نريد البحث عن علمه، ولكنّا نريد أن نعرف: هل كان الجاحظ رائده الحقّ؟ وضالّته الحقيقة ينشد الوصول إليها عن طريق التثبت والتجربة والبرهان؟ أم كان له غرض خاص يطلبه ويسعى لتحقيقه. ولو كان الجاحظ يهدف إلى غاية معينة، ويلتزم فكرة، يجنّد لها قلمه لا تبعد عن المتناقضات، وسار في خطّ مستقيم، فكم جاء بقول وأتى بعده بما يناقضه، وكم أبدى فكرة وأتى بما ينفيها، فهو متقلّب الرأي ضعيف العقيدة.

ويتجلّى لنا الأمر - إذا عرفنا منزلته وصدقه - عندما نسائل عنه علماء الرجال، ونصغي لما وصفوه به وما عرفوه عنه.

قال أبو جعفر الاسكافي وهو من كبار المعتزلة وعلمائهم : إنّ الجاحظ ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد، فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو، يقول الشيء وخلافه، ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ، ولا لدعواه حدّ قائم.(7)

وقال ابن أبي داود: الجاحظ أثق بظرفه ولا أثق بدينه.(8)

وقال الذهبي: كان الجاحظ من أهل البدع .(9)

وقال ثعلب: الجاحظ ليس بثقة ولا مأمون، كان كذّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس.(10)

وقال أبو منصور في مقدّمة تهذيب اللّغة: وممّن تكلّم في اللغات بما حصره لسانه، وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم الجاحظ، وكان قد أوتي بسطة في القول، وبياناً عذباً في الخطاب، ومجالاً في الفنون، غير أنّ أهل العلم ذبوه وعن الصدق دفعوه .(11)

وحكى الخطيب عنه: أنّه كان لايصلّي .(12)

وقال الإسكندري: الجاحظ كان عثمانياً يتنصب، يفضل عثمان على عليّ.(13)

وقال ابن قتيبة: الجاحظ وهو آخر المتكلمين وأحسنهم للحجة استشارة، وأشدّهم تلطفاً لتعظيم الصغير حتى يكبر، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار على أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج للعثمانية على الرافضة، ومرّة للزيدية على العثمانية وأهل السنة، ومرّة يفضل علياً (رضي الله عنه) ومرّة يؤخره، ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوز في الحجة، كأنّه إنّما أراد تنبيههم على ما يعرفون، وتشكيك الضعفة من المسلمين، وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشرّاب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، - إلى أن يقول - : وهو مع هذا من أكذب الاُمة، وأضعفهم لحديث، وأنصرهم لباطل (14).

هذه صورة عن الجاحظ نقدّمها ليقف القارئ على أثر طعنه وتهجّمه، ورميه الأبرياء من الأمة بما ليس فيهم، فهو غير مستقيم ولا حدَّ لتقلّبه وتلوّنه. فهو يختلق الاتّهامات، ويبتدع الأقوال، ويكذب في نقله.

إنّ الجاحظ موهوب في أدبه، بارع في تهكّمه وسخريته، له قدرة على تصوير الأشياء التي يخترعها من نفسه، ولا يهمّه أن تتناقض أقواله وتضطرب آراؤه، فتراه يؤلف في الاُمور المتناقضة، والأشياء المتفرقة.

نرى الجاحظ يميل مع الهوى ويساير الظروف، فهو إذ يخالف الواقع ويسلّم قياده لهواه، تراه في مورد آخر يرجع إلى الحقيقة ويعطيها حقّها من البيان، ويتبيّن لك تكلّفه عند مخالفته للواقع، وانحرافه عن الصواب، وله رسائل عديدة متفرقة يستقصي فيها الحجج لنفسه، ويؤيدها بالبراهين، ويعضدها بالأدلة فيما يتصور من عقله، وما يوحيه الهوى، ويفرضه عليه تماجنه وعبثه.

ألّف الجاحظ رسائل في اُمور متناقضة تشهد على عدم استقامته، فهو ينتصر للعثمانية، ويذهب إلى تأخير علي (عليه السلام) في الفضيلة، ويمدح معاوية بن أبي سفيان منتصراً له من علي(عليه السلام) وشيعته، ويذكر إمامة آل مروان وبني اُمية بما شاء له الهوى والعصبية والمجون، ثم ينفلت من أسر هواه ويعود إلى رشده، ويترك الأخذ بالآراء والأهواء، فيؤلف رسالة في بني اُمية، ويصفهم بما يلزمه الواقع، ويجعل معاوية ظالماً سفّاكاً للدماء، جائراً في الحكم، مخالفاً لأحكام الإسلام .

ويكتب رسائل في تفضيل عليّ(عليه السلام) والانتصار له، ويقدّم الحجج ويقيم الأدلة والبراهين، وهو يصرّح بأنّه عاد إلى رشده، وأفلت من عقال هواه وأخذ باليقين وترك الشك والظن، وإليك نص رسالته التي ذهب بها إلى تفضيل علي على جميع الاُمة. وقد ذكرها الإربلي في كشف الغمة.(15)

رسالة الجاحظ في تفضيل عليّ(عليه السلام)

قال: هذا كتاب من اعتزل الشك والظن، والدعوى والأهواء، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وبإجماع الاُمة بعد نبيّها(صلى الله عليه وآله) ممّا يتضمّنه الكتاب والسنة، وترك القول بالآراء، فإنّها تخطئ وتصيب، لأنّ الاُمة أجمعت أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) شاور أصحابه في الأسرى ببدر، واتفق على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ)(16).

فقد بان لك أنّ الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين، وإنّما الحجة لله ورسوله وما أجمعت عليه الاُمة من كتاب الله وسنّة نبيّها. ونحن لم ندرك النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الاُمة في أحقّهم، فنعلم أيّهم أولى، ونكون معهم، كما قال تعالى: (وَكُونوا مَعَ الصَّادِقين)(17) ونعلم أيّهم على الباطل فنتجنّبهم؟

وكما قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْـئاً)(18) حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين وأهله، وأهل الصدق والحقّ، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان :

أحدهما، قالوا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مات ولم يستخلف أحداً. وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه، فاختاروا أبا بكر.

والآخرون، قالوا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) استخلف عليّاً، فجعله إماماً للمسلمين بعده. وادعى كلّ فريق منهم الحقّ. فلما رأينا ذلك وقّفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقّ من المبطل ؟

فسألناهم جميعاً: هل للناس بدّ من وال يقيم أعيادهم، ويجبي زكاتهم، ويفرّقها على مستحقّيها، ويقضي بينهم، ويأخذ لضعيفهم من قويهم ويقيم حدودهم؟

فقالوا: لا بدّ من ذلك.

فقلنا: هل لأحد يختار أحداً فيولّيه، بغير نظر من كتاب الله وسنّة نبيّه؟

فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر.

فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به ؟

فقالوا: إنه الشهادتان، والإقرار بما جاء من عند الله، والصلاة، والصوم، والحج - بشرط الاستطاعة - والعمل بالقرآن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه.

فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم .

ثم سألناهم جميعاً:

هل لله خيرة من خلقه، اصطفاهم واختارهم ؟

فقالوا: نعم .

فقلنا: ما برهانكم؟

فقالوا: قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(19)

فسألناهم: مَن الخيرة؟

فقالوا: هُم المتّقون.

فقلنا: ما برهانكم؟

فقالوا: قوله تعالى:(إنّ أكرَمَكُم عِند اللهِ أتقَاكُم).(20)

فقلنا: هل لله خيرة من المتقين؟

قالوا: نعم، المجاهدون بأموالهم بدليل قوله تعالى: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً).(21)

فقلنا: هل لله خيرة من المجاهدين؟

قالوا جميعاً: نعم السابقون من المهاجرين الى الجهاد بدليل قوله تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)(22)

فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه، وعلمنا أنّ خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد. ثم قلنا: هل لله منهم خيرة؟

قالوا: نعم. قلنا: من هم ؟

قالوا: أكثرهم عناء في الجهاد، وطعناً وضرباً وقتلاً في سبيل الله، بدليل قوله تعالى:(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ)(23) (وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ)(24).

فقبلنا منهم ذلك، وعلمنا وعرفنا: أنّ خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناءً، وأبذلهم لنفسه في طاعة الله، وأقتلهم لعدوّه.

فسألناهم عن هذين الرجلين علي بن أبي طالب وأبي بكر أيّهما كان أكثر عناء في الحرب، وأحسن بلاءً في سبيل الله ؟

فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه كان أكثر طعناً وضرباً وأشدّ قتالاً، وأذبّ عن دين الله ورسوله.

فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين، ودلالة الكتاب والسنة أنّ عليّاً أفضل.

وسألناهم - ثانياً - عن خيرته من المتقين؟

فقالوا: هم الخاشعون، بدليل قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد* هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ* مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْب مُّنِيب)(25). وقال تعالى: (... وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَرَبَّهُم...)(26)

ثم سألناهم: من الخاشعون؟

فقالوا: هم العلماء: لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماء).(27)

ثم سألناهم جميعاً: من أعلم الناس ؟

قالوا أعلمهم بالقول، وأهداهم إلى الحقّ، وأحقّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً بدليل قوله تعالى:(يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ)(28) فجعل الحكومة لأهل العدل.

فقبلنا ذلك منهم، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو ؟

قالوا: أدلّهم عليه.

قلنا: فمن أدلّ الناس عليه.

قالوا: أهداهم الى الحقّ. وأحقّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً بدليل قوله تعالى: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّيَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(29) فدل كتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله) والإجماع: أنّ أفضل الاُمة بعد نبيّها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنّه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم، وإذا كان أتقاهم كان أخشاهم، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدل على العدل، وإذا كان أدل على العدل كان أهدى الاُمة إلى الحقّ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً، وأن يكون حاكماً لا تابعاً ولا محكوماً.

وأجمعت الاُمة - بعد نبيّها (صلى الله عليه وآله) - أنّه خلّف كتاب الله تعالى ذكره وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر، وإلى سُنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) فيتدبرونهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه فإذا قرأ قارئهم: (وَرَبُّكَ يَخـْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتار)(30) فيقال له: اثبتها، ثم يقرأ: (إنّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقَاكُم) وفي قراءة ابن مسعود - إن خيركم عند الله أتقاكم - (وَاُزْلِفت الجَنّةُ لِلمُتَّقِين غَيرَ بَعيد* هَذَا ما تُوعَدُونَ لِكُلّ أوّاب حَفِيظ* مَن خَشِيَ الرَّحمَنَ بِالغِيبِ)(31).فدلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون.

ثم يقرأ فإذا بلغ قوله : (إنّما يَخْشَى اللهُ مِن عِبادِهِ العُلَمَاءُ) فيقال له: اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ فإذا بلغ قوله تعالى (هَلْ يَستوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ والذين لا يعلمون)(32) علم أن العلماء أفضل من غيرهم.

ثم يقال: اقرأ، فإذا بلغ إلى قوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَات)(33).

قيل: قد دلّت هذه الآية على أنّ الله قد اختار العلماء وفضّلهم ورفعهم درجات، وقد اجمعت الاُمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس وابن مسعود، وزيد بن ثابت .

وقالت طائفة: عمر، فسألنا الاُمة :

من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة ؟

فقالوا: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يؤم القوم أقرؤهم. ثم أجمعوا على أنّ الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر، ثم سألنا الاُمة، أيّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله، وأفقه لدينه فاختلفوا، فأوقفناهم حتى نعلم. ثم سألناهم: أيّهم أولى بالإمامة؟

فأجمعوا على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: الأئمة من قريش. فسقط ابن مسعود وزيد ابن ثابت. وبقي علي بن أبي طالب وابن عباس، فسألنا : أيّهما أولى بالإمامة ؟

فأجمعوا: على أنّ النبيّ قال: إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سناً وأقدمهما هجرة. فسقط عبد الله بن العباس وبقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيكون أحقّ بالإمامة، لما أجمعت عليه الاُمة ولدلالة الكتاب والسنة عليه، انتهى .

ذكر هذه الرسالة(34) أبوالحسن علي بن السعيد فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الإربلي وقال: إنّها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمد الحسن بن عيسى المقتدر بالله.

وبهذا نكتفي عن الحديث حول الجاحظ، كما أنا لا نودّ أن نتعرّض لذكر ابن حزم وتشنيعه على هشام وقسوته في اتهامه، ويكفينا في ابن حزم ما عُرف عنه من التهجّم على العلماء بدون استناد حتى قيل: لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان. إذ كلّ واحد منهما يفتك بالمسلمين ظلماً وعدواناً.

وقد تحامل ابن حزم على الشيعة بما لا يتقبّله العقل، ولا ندري من أيّ مصدر استقى ذلك. فلنترك مناقشته وعلى الله حسابه.

عود على بدء

إنّ دراسة حياة هشام والوقوف على آرائه وأقواله توقف القارئ النبيه على أسباب اتّهامه بتلك التهم الشنيعة التي تناقض الحقيقة، ولا تتّفق مع عقيدته وإيمانه.

وقد أشرنا لبعض الأسباب التي دعت خصومه لرميه في ذلك، وهناك شيء آخر وهو: أنّ هشاماً كان ذا شخصيّة قوية وفكر واسع ورأي صائب، وهو صلب في إيمانه، قويّ في عقيدته، لا يتنازل عنها لسلطان، ولا يجاري الأغلبية الساحقة، ولم ينقطع يوماً ما أمام مناظر، أو يهزم في قول أو يغلب في حجاج، وكانت المعركة الفكرية تدور حول الإمامة وما شاكلها، وكان هشام يخالف في رأيه لسلطان عصره، ويناظر على صحّة قوله وصواب رأيه، فهو مع أهل البيت(عليهم السلام)يناضل عن حقّهم، ويحاجج في لزوم اتباعهم، ولم يعبأ في مخالفة الأغلبية، ولم يبال بالاضطهاد المنتظر بحقّ كلّ من يخالف رأي الدولة. وإن كان رأيها هو الرأي السائد والقول المتبع.

فلذلك تكونت حول شخصيته تلك المؤامرات والدسائس التي تتكيّف بمزاج العصر وأوضاعه، لأنّ أعظم سلاح يقاوم به من يخالف آراء ملوك ذلك العصر هو الاتهام بالبدعة، والرمي بالإلحاد والزندقة.

ويكفي للاستدلال على براءة هشام من ذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام) "يا هشام ما زلت مؤيّداً بروح القدس". وقوله: "هذا ناصرنا بقلبه ولسانه". وقوله: "هشام رائد حقّنا المؤيّد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أمره تبعنا، ومن خالفه فقد عادانا".(35)

وقال علم الهدى السيد المرتضى: فكيف يتوهّم عاقل - مع ما ذكرناه - على هشام هذا القول: بأنّ ربّه سبعة أشبار بشبره، وهل ادعاء ذلك عليه (رضوان الله عليه) مع اختصاصه المعلوم بالصادق، وقربه منه وأخذه عنه إلاّ قدح في أمر الصادق، ونسبته للمشاركة في الاعتقاد الذي نحلوه هشاماً، وإلاّ كيف لم يظهر عنه من النكير عليه، والتبعيد له بما يستحقّه المقدّم على هذا الاعتقاد المنكر، والمذهب الشنيع.(36)

ووردت في حقّه روايات مدح من بقية الأئمة(عليهم السلام)كقول الإمام الرضا(عليه السلام)عندما سئل عن هشام: رحمه الله كان عبداً ناصحاً واُوذي من قبل أصحابه حسداً منهمله.(37)

وقال الإمام الجواد (عليه السلام): "هشام بن الحكم (رحمه الله) ما كان أذبّه عن هذه الناحية".(38)

وصفوة القول: إنّ هشام بن الحكم كان عظيم المنزلة ،رفيع المكانة، ثقة في الحديث، مبرزاً في الفقه والتفسير وسائر العلوم والفنون .

والشيء الذي يلفت النظر، هو وجود بعض الروايات عن أئمة أهلالبيت(عليهم السلام)تنصّ على الطعن في عقيدة هشام، وقد ذكرها الأصحاب في معرض النقد والرد، إذ هي - بدون شك - مكذوبة لا صلة لها بالصحة.

فمن ذلك: ما أشاعوه عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال في هشام: إنه ضالّ مضلّ، شرك في دم أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) ولما شاعت هذه المقالة قدم جماعة من الشيعة إلى الإمام الرضا (عليه السلام) يسألونه عن ذلك القول، وعن مبلغه من الصحة لكي يتبرأوا من هشام إن صحّ ذلك.

فتقدّم إليه موسى بن المشرقي يسأله عن ذلك القول، وهل يتولّون هشاماً أم يتبرأون منه؟

فأجابه الإمام بلزوم موالاة هشام، وقال له: تولّوه، إذا قلت لك فاعمل به ولا تريد أن تغالب به، أخرج الآن فقل لهم - أي الشيعة - : قد أمرني بولاية هشام.

وقال (عليه السلام) "رحمه الله - أي هشاماً - كان عبداً ناصحاً واُوذي من قبل أصحابه حسداً منهم له".(39)

ومنها: عن محمد بن زياد قال: سمعت يونس بن ظبيان يقول: دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فقلت له: إنّ هشام بن الحكم يقول قولاً عظيماً إلا أني أختصر لك منه حرفاً: يزعم أنّ الله جسم لأنّ الأشياء شيئان: جسم وفعل فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل .

فقال أبو عبد الله(عليه السلام): "ويله، أما علم أنّ الجسم محدود متناه، والقدرة محدودة متناهية، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان ،وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقاً".(40)

هكذا ادعى يونس بن ظبيان أنّه سمع ذلك في حقّ هشام. ويونس، هذا هو ممّن يكيد لهشام ويبغضه، لأنّ يونس من الغالين الذين شوّهوا سمعة المذهب، وهو من أصحاب أبي الخطاب.

قال ابن الغضائري: يونس بن ظبيان كوفي غال كذّاب، وضّاع للحديث. روى عن أبي عبد الله، لا يلتفت إلى حديثه.(41)

وقال النجاشي: إنّه مولى ضعيف جداً لا يلتفت إلى ما رواه، كلّ كتبه تخليط، وقد ورد لعنه على لسان الأئمة .(42)

وعلى أيّ حال، فإنّ هشام بن الحكم من المعذّبين في الله، وهو أجلّ من أن تنسب إليه تلك الاُمور، وأعظم منزلة من كلّ مايرمونه به، فلا يلتفت إلى تلك الخرافات والأوهام والدسائس التي حيكت حول شخصيته.

هل تؤاخذ الاُمة بقول الفرد؟!

ولم يكف خصوم هشام صوغ تلك العبارات واختراع تلك الحكايات في ذمّه والحطّ من كرامته، حتّى تجاوزوا الحدّ في ذلك، ونسبوا تلك الآراء المفتعلة لمجموع الشيعة، وهذا من الخطأ الفاحش.

ولو سلّمنا جدلاً أنّ هشام بن الحكم كان يعتقد بما نقل عنه - والعياذ بالله - فهل يصحّ لهم أن يجعلوا ذلك الرأي لمجموع الشيعة، وأنّ تلك العقائد المكذوبة هي من عقائد الشيعة؟ وهل يصح لهم مؤاخذة الكلّ بجريمة الجزء؟ وهذا أمر لا يبرّره منطق سليم، لأنّ جميع الهيئات والطوائف في المجتمع الإنساني لا تخلو من أفراد يحطّون من قدرها ويسيئون إلى سمعتها.

وقد استساغوا ذلك في حقّ الشيعة بنسبة الآراء الفردية لمجموع الاُمة، وهذا كثير لا حصر له ولسنا بصدده الآن.

وكما قلنا: إذا سلّمنا جدلاً بصحّة ما يقولونه في هشام - وليس لقولهم نصيب من الصحة - فهل يصحّ أن يجعل ذلك الرأي لمجموع الشيعة؟

وقد سلك هذه الطريقة الملتوية وارتكب هذا الخطأ الفاحش جماعة من القدماء وبعض المتأخرين ولم يكتفوا بالافتراء على هشام بل جعلوا ذلك لمجموع الشيعة إفكاً وزوراً. وعلى سبيل المثال نذكر مايقوله الخياط المعتزلي في كتابه الانتصار، وبعد أن ذكر تلك المفتريات عن هشام بن الحكم منتصراً لأشياخه، ومقلّداً للجاحظ في إفكه وبهتانه.

قال: الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة وصورة، يتحرك ويسكن، ويزول وينتقل، وأنّه غير عالم فعلم، إلى أن يقول : هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة واعتقدوا التوحيد، فنفتهم الرافضة عنهم وتبرأوا منهم.

أمّا جملتهم ومشايخهم مثل هشام بن سالم، وشيطان الطاق، وعلي بن ميثم، وهشام بن الحكم، والسكاك، فقولهم ما حكيت عنهم.

ثم يقول: الرافضة تقول: إنّ ربها جسم ذو هيئة وصورة، يتحرك ويسكن ويزول وينتقل .(43) فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول: إن الله صورة.؟

ويروي في ذلك الروايات ويحتج فيه بالأحاديث عن أئمتهم إلاّ من صحب المعتزلة منهم - إلى آخر أقواله وتقوّلاته في كتاب الانتصار في مواطن متعددة ـ.

ولا اُريد مناقشة هذا الافتراء والدّس، وهذه الأقوال التي لا ربط لها بالحقيقة، ولا مساس لها بالواقع، ولكن من الحقّ أن نؤاخذه بهذا الانحراف، ونحاسبه على هذا الشذوذ في سلوك تلك الخطّة الملتوية، وقد سار على هذا كثير ممّن كتب عن الشيعة بدون تفكير وتدبّر، وذكروا فرقاً للشيعة بأسماء من ينسبون إليهم رأياً فردياً، وهو افتراء وتقوّل بالباطل.

ولئن صحّ هذا السلوك واستساغوا هذه اللغة فيصحّ للشيعة عندئذ هذا الاستعمال، فيقيسوا مجموع الاُمة بالفرد وينسبوا الآراء الفردية للجميع.

وقد اشتهر جماعة من علماء المذاهب الاُخرى والمقدّمين عندهم بشذوذ في الآراء وفساد في الاعتقاد وإليك منهم:

1 - شهاب الدين يحيى بن حبش، فقد اشتهر عنه أنه كان زنديقاً، وله عقيدة الانحلال والتعطيل، وله أشياء منكرة، وكان بارعاً في علم الكلام مناظراً محجاجاً.(44)

2 - محمد بن جمال الباجريقي الشافعي المعروف بالشمس، وقد عرف بالزندقة والإلحاد، وله أتباع ينسبون إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه.(45)

3 - الرفيع الجيلي الشافعي قاضي القضاة بدمشق المتوفى سنة (642 هـ).

قال ابن شهبة في تاريخه: إنّه كان فاسد العقيدة دهرياً مستهزئاً باُمور الشريعة.(46)

ويقول ابن العماد: إنّه سار سيرة فاسدة. مع قلّة دين وفساد عقيدة، مع استعمال المنكرات وحضور صلاة الجمعة سكراناً .(47)

4 - عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق الحربوي بن الخوام الشافعي، فإنّه نسب الوزير رشيد الدولة الى الربوبية بتقريضه تفسيره حتى قال شاعر وقته :

يا حزب إبليس ألا فابشروا *** إنّ فتى الخوام قد أسلما

وكان فيما قال في كفره *** إنّ رشيد الدين ربّ السما

وقال لي شيخ خبير به *** ما أسلم الشيخ بل استسلما(48)

فهل يصحّ هنا أن نؤاخذ الاُمة بهذا الرأي الفردي، كما أخذوا الشيعة بما ينسب للحسن بن هاني الشاعر الأندلسي في مدحه للمعز بقوله :

ماشئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار

وقالوا: إنّ الشيعة بلغوا في الغلوّ درجة بعيدة، ومثّلوا له بقول

الحسن بن هاني(49).

وممّا يؤسف له أنّ هذا القول صدر من مثقف من أبناء عصر النور، فما قولنا في أبناء العصور المظلمة؟ وهذا القول هو أحد الدواعي التي ألجأتنا إلى إعطاء هذه الصورة وإثبات هذا العرض.

5 ـ محمد بن العلي أبو عبد الله الحكيم الترمذي الشافعي.

كان يفضّل الأولياء على الأنبياء، وقد ألّف كتاباً في ذلك سماه ختم الولاية، وقال: إنّ للأولياء خاتماً كما إنّ للأنبياء خاتماً، وإنّه يفضل الولاية على النبوّة محتجاً بالحديث: "الأولياء يغبطهم النبيّون والشهداء". وقال: لو لم يكونوا أفضل منهم لم يغبطوهم.(50)

6 - الركن عبد السلام بن وهب بن عبد القادر الجيلاني الحنبلي المتوفى سنة (611 هـ).

كان داعية للانحلال وحكم بكفره، وكان يخاطب النجوم ويقول لزحل: أيها الكوكب الدري المضيء المنير أنت تدبّر الأفلاك وتحيي وتميت وأنت إلهنا. وله في حقّ المريخ من هذا الجنس.(51)

7 - صدقة بن الحسين البغدادي الحنبلي المتوفى سنة (267 هـ).

كان بارعاً في فقههم واُصولهم، والمقدّم في عصره عندهم، مع سوء اعتقاده وفساد رأيه، ورداءة مذهبه. قال ابن الجوزي في المنتظم :إنّه يعترض على القدرة، وأورد له من الشعر ما يدل على سوء معتقده. كقوله:

لا توطّنها فليست بمقام *** واجتنبها فهي دار الانتقام

أتراها صنعة من صانع *** أم تراها رمية من غير رام

وقد وضعوا فيه مناماً بعد موته عندما سئل عن حاله فقال: غفر لي بتميرات تصدقت بها على أرملة .(52)

8 - إسماعيل بن علي الملقّب بفخر الدين الفقيه الحنبلي المتوفى سنة(616هـ).

كان من المشهورين في علم الكلام، قرأ المنطق والفلسفة على ابن مرقيس الطبيب النصراني، وكان يتردّد عليه إلى بيعة النصارى، وصنّف كتاباً سمّاه نواميس الأنبياء، يذكر أنّهم كانوا حكماء، كهرمس، وأرسطاطاليس، وكان متسامحاً في دينه متلاعباً به، إلى آخر ما نقل عنه من الآراء الفاسدة، والاُمورالقبيحة .(53)

كان أحد العلماء العارفين بالمذهب، ونسبت إليه أشياء قبيحة وآراءفاسدة.(54)

9 - إبراهيم الملقّب بشمس الدين الحنبلي المتوفى سنة (610 هـ).

10 - إبراهيم بن يوسف أبو إسحاق الأوسي المالكي المتوفى سنة (611هـ)المعروف بابن المرأة، كان فقيهاً مالكيّاً غلب عليه علم الكلام. ذكره ابن حبان في زنادقة أهل الأندلس.(55)

11 - أبو معن النميري من كبار المعتزلة، قال ابن قتيبة: ومن المشهور عنه أنّه رأى قوماً يتعادون إلى الجمعة لخوفهم فوت الصلاة فقال: اُنظروا إلى البقر اُنظروا إلى الحمُر. ثم قال لرجل من إخوانه: أنظر ما صنع هذا العربيبالناس؟(56)

12 - ومحمد اللوشي الغرناطي المتوفى سنة (776 هـ) فقد نسب إلى الزندقة والإلحاد والانحلال، والخروج عن الدين، وانتقاص النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غير ذلك ممّا اتصف به .(57)

وغير هؤلاء ممن يطول المقام ببسط القول فيهم، كالشيخ نجم الدين بن خلكان(58) وإسماعيل بن عبد الله الرعيني، والفخر الرازي المؤرخ الكبير والمفسر الشهير(59)، وأبو حيان التوحيدي الشافعي وغيرهم ممّن رمي بالإلحاد والزندقة وسوء العقيدة ونسبت إليه آراء فاسدة.

وإذا أردنا أن نتوسّع في الموضوع ونرجع إلى أعيان المذاهب، ومن عليهم مدار أحكامها فالأمر أفظع.

فهذا محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189 هـ)، وهو عماد المذهب الحنفي وقوامه، وعليه مدار أحكامه، لما قام به من التأليف ونشر المذهب، وإذا صحّ التعبير فنقول: هو إمام المذهب الحنفي الثاني، ومع هذا فقد رموه بالإرجاء وغيره، كما حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال فيه: إنهمرجئ.(60)

وقد ردّ شريك القاضي شهادته ووقعت بينه وبين أبي يوسف منافرة، فكان أبو يوسف يقول: محمد بن الحسن جهمي. إلى غير ذلك من الأقوال فيه(61).

ومن أعيان الحنفية: بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة (218 هـ) فقد وصفوه: بأنه ضالّ مبتدع، ونصّ أبو زرعة على زندقته، وقال الأزدي: إنّه على غير طريقة الإسلام. وإنّه كان ينكر عذاب القبر وسؤال الملكين، والصراط والميزان، إلى آخر ما روي عنه من الأقوال المنكرة، والآراء الفاسدة.(62)

وكذلك محمد بن شجاع الثلجي المتوفى سنة (267 هـ). من فقهاء الحنفية، وله الرياسة في وقته، وقد نسب إلى البدعة.

سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: مبتدع صاحب هوى. وقال الساجي: إنّ محمدبن شجاع كان كذّاباً، احتال في إبطال حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصرة لأبي حنيفة.

وقال ابن الجوزي: كان يضع الحديث في التشبيه وينسبه لأهل الحديث(63).

هذا عرض تاريخي موجز لجماعة اتّهموا بسوء الاعتقاد فتحمّلوا مسؤوليته دون غيرهم، وبوسعنا أن نذكر من الشخصيات العظيمة التي نسبوا إليها آراء فاسدة ومذاهب ذميمة، كأبي الحسن الأشعري(64) إمام أهل السنة، وشيخ الطريقة في الاعتقاد فقد وصفوه بالبدعة والضلالة، وانه أنكر نبوّة محمد(صلى الله عليه وآله)بعد موته، كما أنكر عذاب الله للعصاة والكفار، وأنّه تعالى لايجازي المطيعين على إيمانهم وطاعتهم. وكان يقول: بتكفير العوام (65) الى غير ذلك مما نسبوه له، وما اتهموه فيه. وكذلك ابن تيمية وابن القيم الجوزية وتاج الدين السبكي وغيرهم.

إنّنا لا نستعمل تلك الطريقة الملتوية، وذلك القياس المعكوس، فلا نقيس الاُمة بالفرد، ولا نؤاخذ السليم بالسقيم، بل نتثبّت في الحكم على الشخصيات الإسلامية، فلا نتسرّع بقبول الاتّهام ما لم يتّضح الأمر، لأنّنا قد عرفنا أثر ذلك التطور الذي حدث في البلاد الإسلامية، فهو عامل من أخطر العوامل التي لعبت دورها في الحياة العقلية، في تلك العصور الماضية.

إلى جانب ذلك يلزمنا أن لا نهمل عوامل السياسة، والتهالك على السيادة في تفريق صفوف الاُمة، وجعلها أحزاباً وفرقاً.

والغرض أنّ قياس الاُمة بالفرد من الاُمور التي لايقرّها المنطق. وقد سلكوا في اتّهام الشيعة طرقاً غير صحيحة، وكالوا لهم الذمّ جزافاً، بدون تمحيص وتدبّر، ولعبوا في التاريخ وخاضوا فيه بالباطل (فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(66) ولا نريد أن نقابلهم بالمثل ولا نقيم معهم الحساب بل نتركهم ليوم الحساب، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، فهم مسؤولون أمام الله عن بذور التفرقة التي زرعوها في حقول التاريخ فاجتنت ثمرتها الأجيال; فكان من أثر تسمّم الثمرة أن يهاجمنا في كلّ آونة بعض من أبناء هذا العصر ممّن أخذ التقليد بعنقه. فسيّره طوع إرادته، وحرمه حريّة التفكير، ولكنّا لا نود مقابلته بل نمرّ على ما نقرأ له مرّ الكرام، داعين الله له بالشفاء من الأمراض العقلية.

وصفوة القول: إنّ تلك العصور التي عظم فيها التطاحن قد كدّرت صفو الاُخوة، وغيّرت مجرى الواقع. والشيء الذي نودّ أن ننبّه عليه في ختام هذا العرض: هو أنّه لما لم يكن الاتهام مبنيّاً على أساس وثيق، وقاعدة بيّنة، كثر الخلط والخبط، ولم يفرّقوا بين السليم والسقيم، والمتّهم والبريء. وإليك أمثلةمن ذلك :

1 - إنّ اسم الجعفرية أصبح علماً لأتباع جعفر بن محمد الصادق، وبه يعرفون.

وتوجد هناك فرقتان من المعتزلة عرفتا بالجعفرية :

الأولى: أتباع جعفر بن حرب الثقفي المتوفى سنة (224 هـ).

والثانية: أتباع جعفر بن مبشر الهمداني المتوفى سنة (226 هـ)، وكلاهما من المعتزلة ولهما آراء وأقوال شاذة اشتهرت عنهما، وتناقلها الناس، وتبعهما على ذلك خلق عرفوا بالجعفرية (67) فجاء من لا يفرّق بين الحقّ والباطل ولايعرف إلا اتّباع هواه، فخلط هذين الفرقتين مع الفرقة الجعفرية الشيعية، ونسب تلك الأقوال الشاذة إليهم بدون تفكير وتدبّر.

2 - قولهم في المفضّل بن عمر إنّه كان يلعب بالحمام، وإنّه من أصحاب أبيالخطاب (68)، مع العلم بأنّ المفضّل هو أجلّ من ذلك، ولكنّهم لم يفرّقوا بينه وبين المفضل بن عمر الصيرفي، الذي كان من الخطابية ومن المخالفين لقواعد الإسلام، فخلطوا بين هذا وذاك ولم يهتدوا للتفرقة، ولعلّ أكثرهم يتعمّد ذلك للوقيعة في المفضّل، لأنّه شيعيّ من خواص الإمام الصادق (عليه السلام).

3 - إنّ من المعتزلة فرقة تعرف بالهشامية، وهم أصحاب هشام بن عمر الفوطي(69)، وكان معاصراً لهشام بن الحكم، وقد ذهب الى اشياء منكرة.

وأنت عند مراجعتك لما اتّهم به هشام من تلك الاُمور المفتعلة تجد أكثرها من أقوال الفوطي، لأنهّم خلطوا في ذلك، ولم يفرقوا بين هشام بن الحكم وبين هشام بن عمرو الفوطي(70)!!

وكثير من هذا الخبط والخلط، ممّا يطول بنا الحديث عنه والحديث شجون.

ولنعد إلى الحديث عن هشام ومكانته، ونرى من الخير أن نذكر هنا وصيّة الإمام موسى بن جعفر له فهي من غرر الوصايا، وجوامع الكلم، وعلى ضوئها نأخذ صورة عن منزلة هشام. وقد اقتطفنا منها قليلاً، وهي طويلة.

وصية الإمام موسى (عليه السلام) له

قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) موصّياً هشاماً :يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرّع إلى الله في مسألته بأن يكمل له عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.يا هشام، من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن برّه بإخوانه وأهله مُدّ في عمره.يا هشام، لا تمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.يا هشام، كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا.يا هشام، إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال : يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله. فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس، فهو أحمق.يا هشام، إنّ العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد مالا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنّف برجائه، ولا يتقدّم على ما يخاف العجز عنه.يا هشام، رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أنّ الجنة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.يا هشام، من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة.يا هشام، تعلّم من العلم ما جهلت، وعلّم الجاهل ممّا علمت. عظّم العالم لعلمه ،وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.يا هشام، عليك بالرفق، فإنّ الرفق يمنّ، والخرق شؤم، إنّ الرفق والبر وحسن الخلق يعمّر الديار، ويزيد في الأعمار.يا هشام، إنّ مثل الدنيا مثل الحيّة مسّها ليّن، وفي جوفها السمّ القاتل. يحذرها الرجال ذوو العقول ،ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.يا هشام، إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبر الجبّار، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر آلة الجهل، ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السقف شجّه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله ومن تواضع لله رفعه.يا هشام ، إياك ومخالطة الناس والاُنس بهم، إلاّ أن تجد بهم عاقلاً ومأموناً فآنس به، واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية. وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحي من الله. وإذا مرّ بك أمران لا تدري أيّهما خير وأصوب فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه، فانّ كثير الصواب في مخالفة هواك.يا هشام، من أحبّ الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه. وما أوتي عبد علماً فازداد من الدنيا حباً إلاّ ازداد من الله بعداً، وازداد الله عليه غضباً.يا هشام، إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين فإنّ الطمع مفتاح للذل واختلاس العقل، واختلاق المروءات وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم. وعليك بالاعتصام بربك والتوكل عليه، وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوك.

قال هشام: قلت أي الأعداء أوجبهم مجاهدة؟

قال(عليه السلام): أقربهم إليك، وأعداهم لك، وأضرهم بك، وأعظمهم لك عداوة، وأخفاهم لك شخصاً - مع دنوّه منك...يا هشام، من أكرمه الله بثلاث فقد لطف له: عقل يكفيه مؤنة هواه، وعلم يكفيه مؤنة جهله، وغنى يكفيه مخافة الفقر.يا هشام، احذر هذه الدنيا واحذر أهلها، فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف: رجل متردي معانق لهواه، ومتعلم مقرئ كلما ازداد علماً ازداد كبراً يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه، وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته، يحب أن يعظّم ويوقّر، وذو بصيرة ولا يقدر على القيام بما يعرفه فهو محزون مغموم بذلك، فهو أمثل أهل زمانه وأوجبهم عقلاً.

ثم ذكر(عليه السلام) العقل وجنده والجهل وجنده. وتركنا ذلك اختصاراً.

وخلاصة القول: إنّ هشام بن الحكم قد عزّ بولائه لأهل البيت(عليهم السلام)، وناظر جميع أهل الفِرق في التوحيد والإمامة، وضحّى براحته في سبيل مبدئه، وبذل أقصى الجهد من أجل إصلاح العقيدة والقضاء على البدعة. وكان يستمدّ تعاليمه من ينبوع أهل بيت النبوّة، هداة الخلق، وأئمّة العدل. وقد لقي العنت من حسّاده ومنافسيه، وكان عرضة للخطر من قبل سلطان عصره حتى أصبح مشرّداً عن البلاد. وقد طلبه هارون الرشيد أشدّ الطلب حتى أدركه الموت بالكوفة مختفياً، وأوصى أن يحمل في جوف الليل، ويدفن بالكناسة، وتكتب رقعة على قبره: هذا قبر هشام بن الحكم - الذي طلبه أمير المؤمنين - مات حتف أنفه.

وبلغ هارون الرشيد ذلك فقال: الحمد لله الذي كفانا أمره. وكان هارون قد أخذ به خلقاً كثيراً من تلامذته وأصحابه، ومنهم إخوانه. فأفرج عنهم بعد موته وأطلقهم.(71)

لقد كان هشام من المفكرين المصلحين، الذين خدموا الاُمة بإخلاص النية وصدق العزيمة ورجاحة الرأي. وله القدح المعلى في نصرة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وإنّك عندما تتبع آثاره الخالدة تجده يلتفت إلى النوادر من الفروع. وإلى الغوامض من المسائل، وله كلمات خالدة ذكرها العلماء في مختلف المواضيع: في التوحيد، والنبوة، والإمامة، وقد ضاق المجال عن استقصائها.

وقد كانت لي رغبة شديدة في إحياء مآثره والإحاطة بدراسة شخصيته دراسة وافية غير أني لمّا وجدت شيخنا المظفر قد كتب رسالة كبيرة قيّمة فيه. تركت الميدان لفارس الحلبة. فرحم الله هشاماً، لقد أوذي في سبيل نصرة الحقّ، وكان من (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم أوْلَئكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)(72)

وهنا ينتهي حديثنا عن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، ولم نذكر كثيراً منهم طلباً للاختصار. وستأتي الإشارة الى الأعيان منهم كهشام بن سالم الجواليقي، وهشام بن الأحمر، وهشام بن المثنى الرازي، وغيرهم، وبالله نستعين ومنه نستمد التوفيق.

 

[1]

(2) تأويل مختلف الحديث ص49 - 50.

(3) الانتصار للخياط ص168 و 177 و 188 و 208.

(4) الفَرق بين الفِرق ص139.

(5) التنبيه والرد ص24، نشر هذا الكتاب عرة العطار مدير مكتبة نشر الثقافة الإسلامية في مصر وعلّق عليه وحققه محمد زاهد الكوثري.

(6) لسان الميزان ج6 ص194.

(7) شرح النهج ج3 ص267.

(8) تاريخ بغداد ج12 ص218.

(9) ميزان الاعتدال ج5 ص300 / 6339 .

(10) لسان الميزان ج4 ص408 / 6301.

(11) لسان الميزان 4 / 356 - 357 .

(12) تاريخ بغداد ج12 ص208 / 6669.

(13) تاريخ آداب اللغة ص84.

(14) مختلف الحديث لابن قتيبة ص71 - 72 .

(15) كشف الغمة ج1 ص147.

(16) الأنفال: 67 .

(17) التوبة: 119.

(18) النحل: 78 .

(19) القصص: 68 .

(20) الحجرات: 13.

(21) النساء: 95.

(22) الحديد: 10.

(23) الزلزلة: 7.

(24) المزمل: 20.

(25) سورة ق: 31 ـ 33.

(26) الأنبياء: 48 ـ 49.

(27) فاطر: 28 .

(28) المائدة: 95.

(29) يونس: 35.

(30) القصص: 68.

(31) سورة ق: 31 - 33.

(32) الزمر: 9.

(33) المجادلة : 11.

(34) مناقب آل أبيطالب ج1 ص 310، كشف الغمة ج1 ص40.

(35) تنقيح المقال ج3 ص294 / 12853 .

(36) الشافي ص12.

(37) رجال الكشي ص270 / 486.

(38) رجال الكشي ص278 / 495.

(39) جامع الرواة ج2 ص213.

(40) التوحيد ص99 ح 7.

(41) تنقيح المقال ج3 ص337 / 13356.

(42) رجال النجاشي ج2 ص423 / 1211.

(43) الانتصار للخياط ص36 - 37.

(44) شذرات الذهب ج4 ص29، ومرآة الجنات ج3 ص437 .

(45) البداية والنهاية لابن كثير ج14 ص14.

(46) دول الإسلام ج2 ص111، شذرات الذهب ص7، 373 .

(47) شذرات الذهب ج5 ص214.

(48) الدرر الكامنة ج2 ص292 .

(49) أثر التشيع في الأدب العربي لمحمد سيد كيلاني ص89.

(50) طبقات الشافعية ج2 ص20.

(51) شذرات الذهب ج5 ص45.

(52) لسان الميزان ج3 ص186.

(53) شذرات الذهب ج5 ص41.

(54) شذرات الذهب ج5 ص40.

(55) لسان الميزان ج1 ص127.

(56) المصدر السابق ج2 ص83.

(57) شذرات الذهب ج6 ص46 .

(58) انظر مرآة الجنان ج4 ص242.

(59) شذرات الذهب ج5 ص21 .

(60) تاريخ بغداد ج2 ص169 / 593.

(61) وفيات الأعيان ج3 ص224، ولسان الميزان ج5 ص121.

(62) لسان الميزان ج2 ص30، والفوائد البهية في تراجم الحنفية ص54، والفَرق بين الفِرق للبغدادي ص124.

(63) الفوائد البهية ص172.

(64) أبو الحسن الأشعري. هو علي بن إسماعيل يرجع نسبه الى أبي موسى الأشعري، توفي سنة (324 هـ) كان معتزلياً ويعد من كبارهم ومتكلميهم، ثم رجع عن الاعتزال وألّف كتباً في العقائد، فأصبح شيخ طريقة أغلب أهل السنة وعليه المدار في الاعتقاد.

(65) طبقات الشافعية ج2 ص278 - 285.

(66) الزخرف: 83 .

(67) ضحى الإسلام ج3 ص148، انظر الانتصار ص81 و 89 .

(68) قاموس الرجال ج9 ص93 - 104.

(69) الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص70.

(70) هو أبومحمد الفوطي، المعتزلي، الكوفي، مولى بني صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال. سير أعلام النبلاء ج10 ص546 رقم 177.

(71) اُنظر تنقيح المقال ج3 ص294 / 12853.

 (72) الأنعام: 82.