الإمام الصادق(عليه السلام)وصاياه وَحِكَمه

الإمام الصادق(عليه السلام)وصاياه وَحِكَمه 

 

الإمام الصادق(عليه السلام) وصاياه وَحِكَمه تمهيد

للإمام الصادق (عليه السلام) من التراث الفكري والفكر الخوالد، والآراء والحكم والمواعظ مالا يحيط بها الإحصاء، أو تنالها يد الحصر والتتبّع إلا بجهد ومشقة.وهي على كثرتها قليلة بالنسبة إليه، لما قام به من التوجيه والإرشاد والهداية في عصر ضلّت به قافلة الاُمة، وحدا بالركب غير سائقه، فقام (عليه السلام) بما يجب عليه أن يقوم به من الإرشاد والدعوة إلى الصلاح والإصلاح، يلتمس كلّ ما يجد فيه طريقاً للوصول إلى الغاية التي ينشدها، فهو حيث كان وأينما حلّ لا ينفكّ عن تأدية رسالته في الإرشاد إلى الهدى، والدعوة إلى الحق، ويحاول أن ينتصر المجتمع الإسلامي على ميوله ونزعاته، ويهذّب نفوسهم من دنس الرذائل ويحملهم على اعتناق الفضائل، ويودّ للمسلم أن يكون كما أراد الله له وجاء به النبيّ(صلى الله عليه وآله) .

فهو حريص على هداية الاُمة، يواصل جهاده في مكافحة الأوضاع الشاذّة، ويعلن آراءه ضدّ نظام ذلك الحكم الجائر. ولقد كان (عليه السلام) دوماً صوت إصلاح داوي، وصرخة إرشاد عالية، يدعو الناس إلى التمسّك بمبادئ الإسلام وهدى القرآن، وقد عرف أوضاع الاُمة، وما أصابها من تفكّك وهوان، ورأى أنّ الداء وراء تحكّم النّزاعات في النفوس، وأنّ الدواء هو التزام مبادىء الدين وأحكامه، وأنّ رسوخ العقيدة في القلوب قوة لأفرادالاُمة، ومنعة لكيان المجتمع من تحكّم النزعات، وانتشار الرذيلة، كما أنّها سلاح فاتك يرهب ولاة الجور، فكان(عليه السلام) لا تفوته فرصة دون أن يدعو إلى اعتناق الفضائل ومحاربة الرذيلة، ليصبح المجتمع متماسكاً يستطيع أن يوحّد كلمته في مقابلة الظالمين، الذين استبدّوا بالحكم، وابتعدوا عن الإسلام. وأنّ الثورة الدموية ضدّهم لا تعود على المجتمع إلاّ بالضرر، لأنّهم اُناس عرفوا بالقسوة وسوء الانتقام، ولهم أعوان يشدّون أزرهم، وأنصار يدافعون دونهم، فالإمام الصادق(عليه السلام) كان يهتمّ بإصلاح الوضع الداخلي، فكان يرسل وصاياه عامة شاملة، وينطق بالحكمة عن إخلاص وصفاء نفس، وحبّ للصالح العام ليعالج المشاكل الاجتماعية وانتظم من أصحابه رجال عهد إليهم بمهمات الإصلاح، وكلّفهم بأعمال الخير، كما كوّن منهم معلمين ورواة في ظلّ مدرسته، ومجاهدين ودعاة في مسير ركبه. كان(عليه السلام) يدعو الناس إلى الورع عن محارم الله والخوف منه تعالى والامتثال لأوامره، والشعور بالمسؤولية أمام الله تعالى، وجعل يوم الحساب ماثلاً أمام أعينهم، مع حثّهم على التكسب وطلب الرزق كما كان يحثّ على العمل ويعمل بنفسه، وينهى عن الكسل والبطالة. ويأمر بطلب الرزق كما أمر الله تعالى.

يحدّثنا العلاء بن كامل: أنّه جاء إلى الإمام الصادق(عليه السلام) فقال له: يا أبا عبد الله، ادع الله أن يرزقني في دعة.

فقال(عليه السلام): لا أدعو لك، أطلب كما أمرك الله ورسوله .(97)

وعلى أيّ حال فإنّ حكم الإمام ووصاياه تشرق على وجه الزمان إلى آخر الزمان، وقد ذكرنا في الجزء الثاني طرفاً منها، ونحن هنا نذكر بعض مالم نذكره في ذلك الجزء من تلك الوصايا القيّمة، والحِكم الخالدة، سواء كانت عامة شاملة يرسلها إلى الأطراف النائية، أم كانت وصايا خاصة لبعض الأفراد، وهي كالأولى في عمومها وشمولها، وإليك طرفاً من ذلك.وصية عامّة إلى جميع أصحابه صبّروا النفس على البلاء في الدنيا، فإن تتابع البلاء فيها، والشدة في طاعة الله وولايته، وولاية من أمر بولايته، خير عاقبة عند الله في الآخرة، من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها، وزهرتها وغضارة عيشها في معصية الله، وولاية من نهى الله عن ولايته وطاعته، فإن الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم في كتابهبقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(98).إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير. واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء، وجعل للقرآن وتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن - الذين آتاهم الله علمه - أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به، ووضعه عندهم، وكرامة من الله أكرمهم بها. وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذهالاُمة بسؤالهم...أكثروا ذكر الله ما استطعتم في ساعة من ساعات الليل والنهار، فإنّ الله تعالى أمر بكثرة الذكر له، والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين.واعلموا أنّ الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير، فاعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإنّ الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلاّ بطاعته، واجتناب محارمه.واتبعوا آثار رسول الله وسنته فخذوا بها، ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا، فإن أضلّ الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى من الله.وأحسنوا إلى انفسكم ما استطعتم، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم، وإيّاكم وسبّ أعداء الله - حيث يسمعونكم - فيسبّوا الله عدواً بغير علم.واعلموا أنّه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه، وصنع به على ما أحبّ وكره.وعليكم بالمحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتينكما أمر الله المؤمنين في كتابه من قبلكم.وعليكم بحبّ المساكين المسلمين، فإنّ من حقّرهم وتكبّر عليهم فقد زلّ عن دين الله ، والله له حاقر وماقت. وقد قال أبونا رسول الله(صلى الله عليه وآله): "أمرني ربي بحبّ المساكين المسلمين منهم".واعلموا أنّه من حقّر أحداً من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه حتى يمقته الناس، والله له أشدّ مقتاً، فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين منهم، فإنّ لهم عليكم حقاً أن تحبّوهم، فإنَّ الله أمر نبيه(صلى الله عليه وآله)بحبّهم، فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله، ومن مات على ذلك مات من الغاوين.وإياكّم والعظمة والكبر، فإنّ الكبر رداء الله تعالى، فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذلّه يوم القيامة.وإيّاكم أن يبغي بعضكم على بعض، فإنّها ليست من خصال الصالحين، فإنّه من بغى صيّر الله بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بغي عليه، ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله.وإياكم أن يحسد بعضكم بعضاً، فإن الكفر أصله الحسد.وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم، فيدعو الله عليكم فيستجاب له فيكم. فإنّ أبانا رسولالله(صلى الله عليه وآله) كان يقول: "إن دعوة المظلوم مستجابة".وليعن بعضكم بعضاً، فإنّ أبانا رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يقول: "إنّ معونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام".وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم فإنّ أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول:"ليس لمسلم أن يعسر مسلماً، ومن أنظر معسراً أظلّه الله يوم القيامة بظلّه، يوم لا ظلّ إلا ظلّه".واعلموا أنّه ليس بين الله وبين أحد من خلقه، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، ولا من دون ذلك كلّهم، إلا طاعتهم له، فجدوا في طاعة الله، إن سرّكم أن تكونوا مؤمنين حقّاً حقّاً، ولا قوة إلا بالله.وإيّاكم ومعاصي الله أن تركبوها، فإنّه من انتهك معاصي الله فركبها، فقد أبلغ في الإساءة إلى نفسه، وليس بين الإحسان والإساءة منزلة، فلأهل الإحسان عند ربّهم الجنة، ولأهل الإساءة عند ربّهم النار، فاعملوا بطاعة الله، واجتنبوا معاصيه واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، ولا من دون ذلك، فمن سرّه أن تنفعه شفاعة الشافعين فليطلب الى الله أن يرضى عنه.وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء ممّا حرم الله عليكم، فإنّه من انتهك ما حرم الله عليه ههنا - في الدنيا - حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها، ولذّاتها وكرامتها الدائمة لأهل الجنة أبد الآبدين.واعلموا أنّه بئس الحظ الخطر لمن خاطر بترك طاعة الله، وركب معصيته، فاختار أن ينتهك محارم الله، في لذات دنيا منقطعة زائلة عن أهلها، على خلود نعيم في الجنة ولذاتها، وكرامة أهلها، ويل لأولئك، ما أخيب حظّهم، وأخسر كرَّتهم وأسوأ حالهم عند ربّهم يوم القيامة! استجيروا الله أن يجيركم في مثالهم أبداً وأن يبتليكم بما ابتلاهم به ولا قوة لنا ولكم إلا به.فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام، وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحقّ حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك، وأن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين ولا قوة إلاّ بالله، والحمد لله ربّ العالمين .(99)

وصيته لعنوان البصري

وعنوان هو شيخ بصري قدم المدينة لطلب العلم، اتّصل بمالك بن أنس، ثم اتّصل بالإمام الصادق (عليه السلام)، فقال له الإمام: إذا أردت العلم فاطلب أولاً فينفسك حقيقة العبودية .

قال عنوان البصري: فقلت: ما حقيقة العبودية ؟

فقال الإمام الصادق (عليه السلام): ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكاً لأن العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله هي فيما أمره الله به ونهاه عنه، وإذا لم ير العبد فيما خوّله الله ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله، وإذا فرض تدبير نفسه إلى مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل بما أمره الله به ونهاه عنه لا يتفرّغ إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا، فلا يطلبها تفاخراً وتكاثراً، ولا يطلب عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يدع أيّامه باطله، فهذا أول درجة المتقين، قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(100).

فقال عنوان: يا أبا عبد الله أوصني. فقال: اُوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله، والله أسأل أن يوفّقك لاستعمالها: ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها.أما اللواتي في الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنّه يورث الحمق والبله، ولا تأكل إلاّ عند الجوع، فإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله تعالى، واذكر حديث النبي (صلى الله عليه وآله) "ما ملأ آدمي وعاءً أشدّ شراً من بطنه، فإن كان ولابدّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".وأمّا اللواتي في الحلم: فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل له: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقوله فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فأسأل الله أن يغفر لك، ومن وعدك بالخيانة فعدّه بالنصيحة والوفاء.وأما اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنتاً وتجربة وإياك أن تعدل بذلك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع اُمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا فرارك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.(101)

وصيته (عليه السلام) لعمرو بن سعيد

قال عمرو بن سعيد بن هلال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام) إني لا أكاد ألقاك إلاّ في السنين فأوصني بشيء آخذ به، قال (عليه السلام): أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث، والورع والاجتهاد، واعلم أنه لاينفع اجتهاد لا ورع معه، وإيّاك أن تطمح نفسك إلى من فوقك، وكفى بما قال عز وجل: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَـدُهُمْ)(102). وقال عزّ وجل لرسوله: (وَلاَتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَامَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(103)(104).فإن خفت شيئاً من ذلك فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنما كان قوته الشعير، وحلواه التمر، ووقوده السعف إذا وجده.وإذا اُصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله، فإنّ الخلق لم يصابوا بمثله قطّ.

وصيّته للمفضل بن عمر

قال (عليه السلام): "أوصيك ونفسي بتقوى الله وطاعته، فإنّ من التقوى الطاعة والورع والتواضعلله، والطمأنينة والاجتهاد والأخذ بأمره، والنصيحة لرسُله، والمسارعة في مرضاته، واجتناب ما نهى عنه، فإنّ من يتقّ الله فقد أحرز نفسه من النار بإذن الله، وأصاب الخير كله في الدنيا والآخرة. ومن أمر بتقوى الله فقد أفلح الموعظة، جعلنا الله من المتقين برحمته"(105)

ومن وصيته أيضاً ـ للمفضّل بن عمر ـ "اُوصيك بست خصال: تبلّغهن شيعتي، قال المفضل: وماهي يا سيدي؟ قال(عليه السلام): أداء الأمانة الى من أئتمنك وأن ترضى لأخيك ماترضى لنفسك، واعلم أن للاُمور أواخر فاحذر العواقب وأن للاُمور بغتات فكن على حذر، وإيّاك ومرتقى جبل إذا كان المنحدر وعراً، ولا تعِدنّ أخاك بما ليس في يدك وفاؤه"(106)

وصيّته لحمران بن أعين 

قال (عليه السلام): "ياحمران أنظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك.واعلم: أنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غيريقين.واعلم: أن لا ورع أنفع من تجنّب محارم الله، والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل أضرّ من العجب"(107)

وهكذا كان الإمام الصادق(عليه السلام) يواصل أصحابه بوصاياه القيّمة، وتعاليمه التي تدلّعلى شدّة اهتمامه بتوجيه الدعوة إلى الرشاد وطريق الهدى.

وكان يرسل وصاياه العامة مع من يحضر عنده من أصحابه، ويلزمهم أن يبلّغوا من يلقونه من أصحابهم كقوله: أقرأوا من لقيتم من أصحابكم السلام، وقولوا لهم: فلان بن فلان - يعني نفسه - يقرؤكم السلام، إني والله ما آمركم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجدّ والاجتهاد.وإذا صلّيتم الصبح وانصرفتم فبكروا في طلب الزرق واطلبوا الحلال، فإنّ الله عز وجل سيرزقكم ويعينكم عليه"(108)

ويحدّثنا زيد الشحام، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): "اقرأ منترى أنّه يطيعني منكم السلام وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم، والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله).أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط.صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة، وحسن خُلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره"(109).

ونقف عند هذا الحد من ذكر وصاياه التي كان يوجهها إلى أصحابه، وقد ذكرنا بعضاً منها في الجزء الثاني(110)، ولكثرتها لا نستطيع حصرها في جزء واحد، وسنواصل نشرها إن شاء الله تعالى في بقيّة الأجزاء.

حِكَمــه (عليه السلام) 

كانت وصاياه(عليه السلام) هي لغته في مخاطبة العقول وطريقيّته في تربية النفوس يستمدّها من الدين والعقيدة، ويتّجه بها الى المجتمع والأفراد.

وأما حكمه(عليه السلام) فهي خلاصة المعاني وصفوة الأفكار يقولها لمختلف الأغراض الدينية والأخلاقية والاجتماعية بخبر وأمر ووصف تنمّ عن عمق إيمانه وكمال شخصيته وعظيم خصاله، وكلّ قول يرقى الى الحكمة يأتي عن دراية وتجربة فما ظنّك بإمام يتولّى بنفسه مواجهة الأخطار التي تهدّد المجتمع من مصادرها السياسية والفكرية ويتسنّى أمر المسلمين في مرحلة تشتدّ فيها وسائل الحكام في مراقبته والإيقاع به، ويرى نفسه مسؤولاً عن الاُمة مهما تزايد ظلم الحكام وجورهم فهو يدنو من المجتمع الإسلامي في عمومه وتعدّد أقطاره، ويعايش الأفراد وتصرفاتهم معايشة المصلح الموجّه والحكيم المرشد وإليك باقة من تلك الحكم الخوالد:* أفضل الملوك من اُعطي ثلاث خصال: الرأفة، والجود، والعدل، وليس يحبّ للملوك أن يفرطوا (أي يقصروا) في ثلاث: في حفظ الثغور، وتفقد المظالم، واختيار الصالحين لأعمالهم.* ثلاثة لا يعذر المرء فيها: مشاورة ناصح، ومداراة حاسد، والتحبب إلى الناس.* احذر من الناس ثلاثة: الخائن، والظلوم، والنمام. لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ إليك سينمّ عليك.* ثلاثة من تمسّك بهن نال من الدنيا بغيته: من اعتصم بالله، ورضي بقضاء الله، وأحسن الظنبالله.* كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خلال يحتلب بها المكسب: أن يكون حاذقاً في عمله، مؤدياً للأمانة فيه، مستميلاً لمن استعمله.*إذا لم تجتمع القرابة على ثلاثة أشياء، تعرّضوا لدخول الوهن عليهم، وشماتة الأعداء بهم، وهي ترك الحسد فيما بينهم لئلاّ يتحزّبوا فيتشتت أمرهم، والتواصل ليكون ذلك حادياً لهم على الإلفة، والتعاون لتشملهم العزّة.*ثلاثة لايصيبون إلاّ خيراً: أولو الصمت، وتاركو الشر، والمكثرون ذكر الله عزّ وجل.*ورأس الحزم التواضع، فقال له بعضهم: وما التواضع؟ قال: أن ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً.*خذ من حسن الظن بطرف تروج به وتروح به قلبك.*من ظهر غضبه ظهر كيده، ومن قوي هواه ضعف عزمه، ومن أنصف من نفسه رضي حكماًلغيره.* العجب يكلّم المحاسن، والحسد للصديق من سقم المودّة، ولن تمنع الناس من عرضك إلا بما تنشر عليهم من فضلك.* العز أن تذلّ للحق إذا ألزمك.* من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لايعلم.* من أدب الأديب دفن أدبه.* إنّ خير ماورَّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال، فإنّ المال يذهب والأدب يبقى.* لاتطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودّة، ولا توقفوه على سيئة يخضع لها فإنّها ليست من أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا من أخلاق أوليائه.ومن حِكَمـه العلم جُنّة. والصدق عزّ. والجهل ذلّ. وحسن الخلق مجلبة للمودة. والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. والحزم مشكاة الظن. والله وليّ من عرفه. والعاقل غفور والجاهل ختور. وإن شئت أن تكرم فلن. وإن شئت أن تهان فاخشن. ومن كرم أصله لان قلبه، ومن خشن عنصره غلظ كبده. ومن فرّط تورّط. ومن خاف العاقبة تثبت فيما لا يعلم. ومن هجم على أمر من غير علم جدع أنف نفسه(111).

* * *

ونكتفي بهذا الموجز من البيان لبعض وصايا الإمام الصادق (عليه السلام) وحكمه، وسيأتي كثير منها في ثنايا البحث، وإنّ استقصاءنا لها يستلزم وضع مؤلف كبير في ذلك، لأنّها تشتمل على اُمور هامة ومواعظ نافعة تتناول كلّ نواحي الحياة ومشاكل عصره، وقد بذل جهده في ايجاد قوّة فعالة تتجه نحو الخير ليحيى المسلمون حياة طيبة، ولا يحصل ذلك إلا في توثّق العلاقات بينهم، وإيجاد المحبّة في قلب المسلم لأخيه المسلم في قمع غرائز الأثرة، والابتعاد عن الرذائل واتباع المثل العليا في الإسلام.

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) وحيد عصره في مختلف العلوم والفنون، وظهرت في شخصيّته آثار الوراثة بأجلى صورها، إذ هو رضيع ثدي الإيمان، ووليد بيت الوحي، ووارث علم النبي، وحافظ لتراثه. وكانت الآمال تتركز حول شخصيته لذلك لم نجد مدرسة اسلامية تطاول مدرسته في الشهرة، أو تماثلها في منهجها الذي سارت عليه. وقد انتشر مذهبه في أقطار الأرض، رغم تلك الحواجز التي وقفت في طريقه، فهو بقوّته القدسيّة قد ذللّ المصاعب، وصارع الحوادث وشقّ طريقه الى التقدّم.

ومهما تكن العوامل في صرف الناس عنه، فإنّها لم تؤثر أثرها المطلوب. إذ العقيدة أكبر مؤثر في تكوين العقل الإنساني ـ رقياً وانحطاطاً - فإنّ الناس لا يجهلون ما لأهل البيت(عليهم السلام)من الأثر العظيم في المجتمع الإسلامي، وقد منحهم النبيّ(صلى الله عليه وآله) صفة لا يشاركهم فيها أحد، وهي الاقتران بالكتاب وعدم افتراقهما إلى آخر الزمن(112) فهم دعاة للخير وأئمّة للهدى، وسفن النجاة إذا طغت أمواج النفاق. وهم أكثر الناس زهداً في الحياة وفناءً في الله.

وقد بذلوا نفوسهم الزكيّة لحفظ تعاليم الإسلام، ولم تقف أمامهم مقاومة الأعداء. وتحمّلوا قسوة الطغاة وعنت الباغين، وجور المستبدّين، انتصاراً للحق وثورة على الباطل. وامتازوا بقوّة الإيمان وصدق النية، وأخلاص العمل في سبيل حفظ الإسلام ونشر تعاليمه واحياء مآثره، وقد قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): "فأين تذهبون وأنّى تؤفكون، والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزّمة الحقّ. وأعلام الدين، وألسنة الصدق".(113)

ويقول (عليه السلام): انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم; فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى.(114)

ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): نحن أصل كلّ خير، ومن فروعنا كلّ بر. فمن البر: التوحيد، والصيام وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، ورحمة الفقير، وتعهّد الجار، والإقرار بالفضل لأهله، وعدّونا أصل كلّ شر، ومن فروعهم كلّ قبح وفاحشة، فمنهم: الكذب، والبخل، والنميمة، والقطيعة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حقّه، وتعدّي الحدود التي أمر الله، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والزنا والسرقة وكلّ ما وافق ذلك من القبيح، وكذب من زعم أنه معنا وهو متعلق بفروع غيرنا.(115)

وإلى هنا ينتهي بحثنا فيما شرعنا فيه حول مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)وحملة فقهه، وبيان الفرق في عصره، وبيان بعض تعاليمه من حكمه ووصاياه. وننتقل الآن مع القارئ الكريم، إلى دراسة تتعلّق بالمذاهب الأربعة، من حيث الالتزام بأخذ الأحكام الشرعية عن الأئمة الأربعة دون غيرهم، ولا يصحّ العمل إلاّ بذلك. فعلينا إذاً أن ندرس القضية، ونقف على الأمر، وهل كان هذا الالتزام أمراً شرعياً قرّره الإسلام؟ وهل أنّ باب الاجتهاد مغلق بعد الأئمة الأربعة، ومتى كان هذا الألتزام؟ وبأيّ تاريخ وقع؟ وما هي أسبابه وعوامله؟

 

 (97) الكافي ج5 ص78، ح 3 .

(98) الأنبياء: 73 .

(99) روضة الكافي ص397 - 408.

(100) البحار ج1 ص224 - 226 / 17، والآية 83 من سورة القصص.

(101) الاثني عشرية للسيد ابن القاسم العيتاني ص93، الإمام الصادق للمظفر ج2 ص58 - 61، نقلاً عن بحارالأنوار ج1 ص226.

(102) التوبة: 55.

(103) طه: 131.

(104) الكافي ج8 ص 168.

(105) خاتمة المستدرك للميرزا النوري ج4 ص 114 .

(106) تحف العقول ابن شعبة الحراني ص 367.

(107) الكافي ج8 ص 244، ح338.

(108) وسائل الشيعة ج12 ص12، باب 4 باب استحباب طلب الرزق ووجوبه ح8.

(109) عوالم الإمام الصادق للبحراني ج2 ص635.

(110) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج2 ص 75 ومابعدها.

(111) الإمام الصادق (عليه السلام)، رمضان لاوند ص126 .

(112) سنن الترمذي ج5 ص663، ح 3788.

(113) نهج البلاغة، صبحي الصالح ص119 - 120 / 87.

(114) شرح نهج البلاغة ص1 ج152.

(115) بحار الأنوار ج2 ص98، ح 49 .