المذاهب الأربعَة نشأتها وشهرتها وانتشارها

المذاهب الأربعَة 

نشأتها وشهرتها وانتشارها 

تمهيد

وقبل البحث عن حياة أئمة المذاهب الأربعة يلزمنا ذكر أسباب نشأتها وكيف تكيف الإلتزام بها دون غيرها من المذاهب، حتى أصبح الوقوف عند قول إمام معيّن لازماً، ولا يمكن استنباط حكم شرعي لأيّ أحد دون اُولئك القوم الّذين وقفت قافلة التشريع الإسلامي عندهم، فأصبحوا المصدر للتشريع والمرجع الأعلى في الدين، حتى ادعي استحالة الاجتهاد لمن بعدهم، فأغلق بابه في وجوه المسلمين.

وغلق باب الاجتهاد جمود للتشريع ووقف لتطور حياة الاُمة، فتلك اُمور يلزمنا النظر فيها، ولا نستطيع فهمها إلاّ بعد أن ندرس الظروف التي تكونت فيها فكرة التمذهب بمذهب إمام معيّن، ونبحث عن أسباب نشأتها وعوامل انتشارها، فهل كانت دواعي الانتشار بسبب القيم الروحية؟ أم أنّها استندت إلى السلطة التنفيذية؟ وهل كانت مستقلة عن تأثير السلطة أم أنّها عرضة لذلك؟ وهل اخضعتها لمتابعتها أم أنّها خضعت لأغراض الولاة؟ وسيتضح لنا ذلك عندما نبحث عن نشأة المذاهب.

نشأة المذاهب

على أثر النجاح الذي أحرزته الجميعات السرية المنعقدة ضد النظام الاُموي طلع نجم بني العباس، وكان لهم نشاط سياسي في المجتمع، فهم في طليعة رجال حركة الانقلاب الذي أحدثته الاُمة لتحويل الحكم من البيت الاُموي إلى البيت العلوي، وكان العباسيون أشدّ الناس حماساً في إيقاد نار الثورة انتقاماً من الاُمويين لأبناء علي(عليه السلام)، وكانت هتافات الثورة هي الدعوة إلى الرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم). وكانوا بذلك يتغلغلون في أوساط الناس، وبواسطة هذا الشعار أوجدوا لأنفسهم مكاناً في قيادة تيّار النقمة وتوجيه الثورة، وهم في قرارات أنفسهم يستغلون شمولهم بتسمية أهل البيت(عليهم السلام)وقد أخفوا نواياهم حتى حين، إذ ليس من السهل أن يكاشفوا شيعة أهل البيت أو يصرحوا بعزمهم على العمل لأنفسهم كبيت عباسي مستقل، ولو فعلوا ذلك قبل نجاح الثورة فمن المؤكّد أنّ جماعات الثوار ستلفظهم أو تتّخذ ما يناسب ذلك، لأنّ الأمر في أذهان الناس لا يعدو آل محمد ولا يتجاوز البيت العلوي الذي كان قطب الرحى في المسيرة، وأيّ عمل يكشف عن نوايا العباسيين المبيّتة سيؤدي بهم بعيداً عن الثورة.

على هذا ثارت الاُمة وانتظمت صفوفها التي نالت الانتصار في تلك الحروب الدامية، ومحيت اُميّة من صفحة الوجود، ثم نال العباسيون ثمرة ذلك الغرس بمسايرة الركب ومجاراة المشاعر، فتاقت نفوسهم إلى انتحال هذا الاسم عسى أن يوفقوا لإقناع الاُمة بانطباقه عليهم فتكون لهم حكومة وراثية، وتمنحهم الاُمة ثقتها التامة.

وبالطبع أنّ هذه الفكرة لا تلاقي كثير قبول عند العرب وفي المدينة ومكّة في الخصوص، لذلك وجّهوا عنايتهم إلى الموالي، فأهل المدينة أعرف بآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأدرى بنزول الآيات فيهم، وأحاديث النبيّ ووصاياه في آله، ولأنهم شاهدوا تلك الأعمال التي عامل الاُمويون بها آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتألّموا لها، فكان كلّ ينكر ذلك ويتمنى مناصرتهم فلا يمكنهم أن يجعلوا العباسيين هم آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).

وحذراً من انكار العرب وانضمامهم لجانب العلويين اقتضت سياستهم توجيه العناية إلى الموالي، وهم يأملون من وراء ذلك تثبيت قواعد المملكة اليوم والنقمة من العرب يوماً آخر.

المدينة والحركة العلمية

كانت المدينة المنوّرة مصدراً للفتيا ترجع إليهم الاُمة في مهمات التشريع الإسلامي، لأنّها مركز العلم وفيها أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته والتابعون لهم باحسان، وقد لاحظت الدولة الاُموية من قبل هذه المهمّة التي يجب أن تلاحظها، وهي اتّجاه الانظار إلى المدينة، لأنّها الجامعة الإسلامية ويخشى على الدولة خطرها، فكانت تحذّرهم أشدّ الحذر، فاستمالت أكثر الفقهاء بالعطاء والرجوع إليهم في المهمات، لتسد بذلك ثغرة الخطر على الدولة.

وفي العهد العباسي نشطت الحركة العلمية وكان طبيعياً أن تنتعش العلوم في ظلّ سلطانهم، لأنّهم كانوا يجعلون حقّهم في الإمامة قائماً على أنّهم سلالة النبيّ، وكانوا يقولون: إنّهم سيشيدون ـ على اطلال الحكومة الموسومة بالزندقة عند أهل التقى ـ نظاماً على سُنة النبيّ وأحكام الدين الإلهي.

فنهض أهل البيت(عليهم السلام) وبقية العلماء لنشر العلم، إذ وجد المسلمون حريّة الرأي، والتفّوا حول آل البيت لانتهال العلوم من موردهم العذب، وكان الإمام الصادق(عليه السلام) هو الشخصية التي يتطلّع إليها الناس يوم طلع فجر النهضة العلمية; فحملوا عنه إلى سائر الاقطار، وقصده طلاب العلم من الانحاء القاصية، وفتحت مدرسته بتلك الفترة، فكان المنتمون إليها أربعة آلاف، كما مر ذكره.

وهذا النشاط العلمي لا يروق للدولة الفتيّة التي قامت على اطلال الدولة الاُموية بدون حقّ شرعي، وإنّما في صالح العلويين وانضمام العباسيين إليهم يطلبون الانتقام من اُميّة التي جرعتهم كأس الغصص، فهم كسائر البيوتات التي انضمت لهذه الدعوة، ولكنّهم نشطوا بالحيلة، وتغلّبوا باصطناع المعروف لآل البيت، فكانوا في حذر متواصل من العرب عامة ومن المدينة خاصة، لأنّ الأمر في المدينة غيره في الكوفة، فأهل المدينة قد وقفوا على حقيقة البيعة وأنّها لآل علي(عليه السلام)دون بني العباس، كما أنّهم كانوا في طليعة من بايع محمد بن عبد اللّه بن الحسن وفي رقبة السفاح والمنصور بيعته، فكيف يستقلان بالأمر وينقضان تلك البيعة؟

ولكنّ السفاح استطاع بمهارته استجلاب قلوب الناس إليه وتثبيت قواعد ملكه على أيدي الفرس، لأنّه لا يأمن وثبة العرب لجانب العلويين، فهم في نظر العباسيين أنصار بني علي لا أنصار بني العباس، كذلك كان من سياستهم في بدء الدعوة قتل كلّ من يتكلم بالعربية في بلاد فارس.

ومضى السفاح وجاء المنصور للحكم وهو ذلك الرجل الحديدي الذي يقتحم مواقع الخطر، ولا يتهيّب من إراقة الدماء، ولا يقف أمامه حاجز ولا يردعه وازع ديني في سبيل تركيز دعائم ملكه، إذ كان الخطر محيطاً به من كلّ الجهات وأمام غايته حواجز لا يتخطّاها إلاّ بالتجرّد عن العاطفة، ففتك بأهل البيت وبكثير من العباسيين أنفسهم، وأبعد علماء المدينة ونصر الموالي وأوجد تلك المعركة القوية; وهي معركة أهل الحديث وأهل الرأي.

فقرّب فقهاء العراق القائلين بالقياس، وأحاطهم بعنايته ليحول أنظار الناس إليهم، وبذلك تقلّ قيمة علماء أهل المدينة الذين هم أهل الفتيا إلى حدّ كبير، وما زالت الاقطار الإسلامية عيالاً عليهم، إذ هم حملة الحديث وأوثق الناس فيه.

أهل الحديث وأهل الرأي

وكان الحديث في العراق قليلاً، ولكن انفتح فيه باب الرأي والقياس، وقد أخذه حماد عن إبراهيم النخعي المتوفى سنة (95هـ 713م )، وأخذه أبو حنيفة المتوفى سنة (150 هـ ) عن حماد، وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنّهم يتركون الأحاديث لأقيستهم، والدين لايقاس بالرأي، وإنما سمّوا أهل الرأي، لأنّ عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها، وربّما يقدمون القياس الجليّ على آحاد الأخبار، وطريقتهم أنّ للشريعة مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شرعت، فجعلوا هذه المصالح أصلاً من اُصول الأدلة، إذ لم يجدوا نصّاً في الكتاب والسنة الصحيحة عندهم، وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث.

وأما أهل الحديث فلم يجعلوا للقياس والرأي في استنباط الأحكام هذا المحل، واتّسعت شقّة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين .

وأنت ترى أنّ هذا النزاع بعد أن كان علميّاً محضاً أصبح مزيجاً بالسياسة أو التعصّب، وتعددت فيه عوامل التفرقة لتستند السلطة إلى أقوى الفريقين، واتّسع نطاق الخلاف، فترى مالك بن أنس يحطّ من كرامة العراقيين ويتحامل عليهم ويعلن بقوله: انزلوهم منزلة أهل الكتاب، لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا واليكم وإلهنا وإلهكم واحد(111).

ودخل عليه محمد بن الحسن الشيباني فسمعه يقول هذه المقالة، ثم رفع رأسه فكأنّه استحيى فقال: يا أبا عبد اللّه أكره أن تكون غيبة، كذلك أدركت أصحابنا يقولون، وكان يقرأ إذا نظر إلى العراقيين: ( تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر)(112).

وكان يسمّي الكوفة دار الضرب، يعني انّها تضع الأحاديث وتضعها كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير. وقال عطاء لأبي حنيفة: من أين أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل القرية الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً(113).

ومهما يكن من الأمر فقد تعصّب كلّ فريق إلى بلده وتنابزوا، وعيّر أهل المدينة بسماع الغناء، وأهل مكة بالمتعة، وأهل الكوفة بالنبيذ، واشتدّت عصبيّة كلّ قوم لبلادهم ، وحملتهم على وضع الأخبار في مدح قومه وبلده وذمّ مقابله، وعظم الانشقاق بين الطائفتين، وبالطبع أنّ الكوفة تضعف عن مقابلة الحجاز، ولكن السياسة الزمنية اقتضت أن تكون إلى جانب أهل الرأي لا حبّاً لهم، ولكن بغضاً لأهل المدينة، وأصبح لكلّ جانب أنصار ومتعصّبون، فكان مالك بن أنس في طليعة أهل الحديث، وأنصاره من الحجاز سفيان الثوري وأصحابه، وزعيم أهل الرأي أبو حنيفة وأصحابه وكثير من فقهاء العراق.

فالشافعي أخذ عن مالك وأصحابه، وأحمد المتوفى سنة (241 هـ ) (855م ) أخذ عن الشافعي المتوفى سنة (204 هـ  ) (820 م ) وأصحابه .

وإنّما سمّوا أصحاب الحديث، لأنّ عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ولا يرجعون إلى القياس.

يقول الشافعي: إذا ما وجدتم لي مذهباً ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي فاعلموا أنّ مذهبي ذلك الخبر(114) وتبعه أصحابه، وهم : إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي، وحرملة بن يحيى، وأبو يعقوب البويطي، وابن الصباح، وابن عبد الحكم المصري ، وأبو ثور، وغيرهم.

وأمّا أصحاب الرأي ، فهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأصحابه، محمدبن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو مطيع البلخي، وبشر المريسي، فهؤلاء عرفوا بأهل الرأي وقالوا أنّ الشريعة معقولة المعنى ولها اُصول يرجع إليها، ولا قتناعهم بمعقولية الشريعة وابتنائها على اُصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة كانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم، كما كان يفعل الفريق الأول فإنّهم يقفون ولا يتعدّون حدود النص، وكانوا يحبّون معرفة العلل والغايات التي من أجلها شرّعت الأحكام، وربّما ردّوا بعض الأحاديث لمخالفتها لاُصول الشريعة، ولا سيّما إذا عارضها حديث آخر.

وبهذا افترقت الاُمة الى فرقتين: أهل حديث وأهل رأي، أو أهل المدينة وأهل الكوفة، مع العلم بأنّ أهل العراق لا يقاسون بأهل المدينة في الحديث، فكان القياس عندهم أكثر، وعليه يبنون غالب فتاواهم، ونشط سير الحركة العلميّة في ذلك العصر.

نشوء المذاهب

أصبح النشاط العلميّ واسع النطاق، فكان في كلّ بلد إمام له مذهب ينسب إليه، وكثر عدد المذاهب المنتمون إليها، إلاّ أنّه لم يكتب البقاء لأكثرها واعتراها الانقراض، وكان لمؤسسيها الذين كثر اتباعهم تأريخ مجيد ومكانة سامية، ربّما فاقوا في نظر معاصريهم وذوي العلم منهم رؤساء المذاهب الذين وقفت قافلة الفقه عندهم، واقتصر استنباط الأحكام عليهم، ولكن عوامل انتشار مذاهبهم عجزت عن مسايرة الظروف; فلم يكتب لها البقاء، ومحيت من صفحة الوجود ولم يبق لأبناء السنة منها إلاّ الأربعة:

المالكي

والحنفي

والشافعي

والحنبلي

أما المذاهب التي انقرضت فهي كثيرة ونذكر منها:

1 ـ مذهب عمر بن عبد العزيز  المتوفى سنة (101 هـ  ) (720 م )

2 ـ مذهب الشعبي   المتوفى سنة (105 هـ ) (723 م  )

3 ـ مذهب الحسن البصري   المتوفى سنة (110 هـ )

4 ـ مذهب الأعمش المتوفى سنة (148 هـ ) (764 م )

5 ـ مذهب الأوزاعي   المتوفى سنة (157 هـ ) (773 م )

6 ـ مذهب سفيان الثوري المتوفى سنة (161 هـ ) (777 م )

7 ـ مذهب الليث المتوفى سنة ( 175 هـ  )

8 ـ مذهب سفيان بن عيينة   المتوفى سنة (198 هـ ) (814 م )

9 ـ مذهب إسحاق   المتوفى سنة (238 هـ )

10 ـ مذهب أبي ثور   المتوفى سنة (240 هـ ) (854 م )

11 ـ مذهب داود الظاهري    المتوفى سنة (270 هـ ) (883 م )

12 ـ مذهب محمد بن جرير     المتوفى سنة (310 هـ ) (923 م )

ومذهب عبد اللّه بن أباض(115) وغيرها من مذاهب المسلمين التي تتفق أحياناً وتفترق أحياناً في كثير من المسائل الشرعية، ومنهم من جعل في تعداد هذه المذاهب، مذهب عائشة، مذهب ابن عمر، مذهب ابن مسعود، مذهب إبراهيم النخعي، ولزيادة البيان نذكر طرفاً من حياة بعض أولئك العلماء ورؤساء المذاهب.

سفيان الثوري

أبو عبد اللّه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي المتولد سنة (65هـ ) وتوفي بالبصرة سنة (161 هـ ) متوارياً عن السلطان، وعدّه ابن قتيبة في عداد الشيعة، وهو أحد الأئمة المجتهدين. وله مذهب لم يطل العمل به لقلّة اتباعه وعدم مؤازرة السلطة له، إذ كان طريداً يخشى سطوتهم وهم يطلبونه حتى مات مختفياً منهم، وهو أحد تلامذة الإمام الصادق(عليه السلام) وخرّيج مدرسته، وكان إماماً من أئمة المسلمين، قيل روى عنه عشرون ألفاً، وكان والده سعيد بن مسروق من محدثي الكوفة وثّقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي.

نشأ الثوري في مسقط رأسه الكوفة نشأة صالحة، وكان بيته معروفاً وله مكانة في محيطه، فهو من فقهاء العراق الذين تشدّ إليهم الرحال في طلب العلم، وأراد المنصور قتله فلم يتمكن، ودعي إلى القضاء فهرب، كان يتحرّى مواقف الصدق في مواجهة العباسيين ويعمل على الاستمساك بتعاليم الدين، فلمّا عزم المنصور على ابن أبي ذؤيب أن يقول رأيه فيه واستعفاه ابن أبي ذؤيب وأصر المنصور، قال ابن أبي ذؤيب: أشهد أنّك أخذت هذا المال من غير حقّه فجعلته في غير أهله، وأشهد أنّ الظلم ببابك فاش. فلمّا انصرف لقيه سفيان الثوري فقال له: يا أبا الحارث لقد سرّني ما خاطبت به هذا الجبار، ولكن ساءني قولك له: ابنك المهدي. فقال: يغفر الله لك، يا أبا عبدالله، كلنا مهدي، كلّنا كنّا في المهد. وبقي مذهبه معمولاً به إلى القرن الرابع(116).

سفيان بن عيينة

أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، مولاهم الكوفي المتوفى سنة (198 هـ ) كان إماماً عالماً ثبتاً أخذ العلم عن الصادق(عليه السلام) والزهري وابن دينار وأبي إسحاق وغيرهم، وروى عنه الشافعي وشعبة بن الحجاج وخلق كثير، قال الشافعي: ما رأيت أحداً فيه آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكف منه عن الفتيا، وثّقه العجلي والشافعي وغيرهم، وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وله مذهب يعمل به ولم يطل عمره وانقرض في القرن الرابع، لقلّة اتباعه وأنصاره وعدم ملاءمته لسلطان عصره، ودفن بمكّة(117).

الحسن البصري

أبو سعيدالحسن بن أبي الحسن يسار البصري المتوفى سنة (110 هـ ) كان من التابعين، وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري واُمّه خيرة مولاة اُمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

نشأ بوادي القرى، وكان من أجمل أهل البصرة حتى سقط عن دابّته فحدث بأنفه ماشوّه خلقته، كان مؤازراً لبني مروان يشدّ أزرهم وله علاقة وثيقة مع الولاة والاُمراء ويلاقي منهم الإكرام، وكان لهم في ثغر البصرة بقوة الدفاع أعظم من الجيوش المدربة في ساحات الحرب، حتى قالوا: لولا لسان الحسن وسيف الحجاج لَوُئِدَتْ الدولة المروانية في لحدها وأخذت من وكرها، وكان مدلساً في حديثه كما نصّ عليه الحفاظ ولم يطل العمل بمذهبه.

كان الحسن البصري يتفق مع سياسة الدولة الاُموية ويروي عن علي(عليه السلام) ، فإذا حدّث عنه قال: قال أبو زينب (يعني علياً ) مجاراة للدولة التي اقتضت سياستها أن لا يظهر إسم علي(عليه السلام) ، ونقل عنه أنّه تكلّم في علي فقال له أبان بن عياش: ما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟ فقال: يا ابن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة ولولا ذلك لسالت بي أعشب(118) .

ولا شكّ أنّ هذا من أظهر موارد التقية، وكان له مجلس علم حاشد بالعلماء لعظيم منزلته من الدولة، وفي مجلسه نشأت فكرة الاسم والحكم التي كانت أساساً لمذهب الاعتزال.

الأوزاعي

عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام الشاميين المتوفى سنة (157 هـ). انتشر مذهبه بالشام كما انتشر مذهب مالك في الحجاز وأبي حنيفة في العراق، وعمل أهل الشام بمذهبه مدة من الزمن، وانتشر بالأندلس، ثم اندرس مذهبه وحلّ محله مذهب الشافعي، وعندما عيّن محمد بن عثمان الشافعي قاضياً على دمشق حكم بمذهب الشافعي، وهو أوّل من نشره هناك وبقي مذهب الأوزاعي إلى سنة (302 هـ ) .

وكانت للأوزاعي شخصيّة مرموقة في عصره، ولن يعدم العناية من السلطة، فقد كان في العهد الاُموي محترماً مبجّلاً، لأنّه على  شاكلتهم ، ومن المؤيدين لدولتهم، والمناصرين لهم، واتخذته السياسة رمزاً دينياً لأغراضها الخاصة، وفي العهد العباسي قرّبوه لمكانته عند أهل الشام، فكانوا يستميلونه ويقرّبون محلّه ، وكان المنصور يعظّمه ويراسله، لأنه عرف عن الانحراف عن آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يتضح لنا ذلك من تتبع آرائه وأقواله.

يروي الأوزاعي، قال: بعث إليَّ أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة ردّ عليَّ واستجلسني، ثم قال لي: ما الذي أبطأبك عنّا يا أوزاعي؟ قال: قلت وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: اُريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم.

وأما منزلته العلميّة فلا تنكر في عصره وبعد عصره. روى ابن القطان عن مالك بن أنس أنّه قال: اجتمع عندي أبو حنيفة والثوري والأوزاعي، فقلت: أيّهم أرجح؟ قال: الأوزاعي. ومات في خلوة في الحمام، وذلك أنّ زوجته أوقدت له كانون فحم واغلقت الباب عليه فمات(119).

ابن جرير الطبري

أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد بن غالب الطبري، المتولد سنة (224 هـ ) بآمل الطبرستان، وتوفي ببغداد في 26 شوال سنة (310 هـ ) .

هو من المجتهدين لم يقلّد أحداً، وله مذهب عمل به مدة، واعتنقه جماعة منهم أبو فرج المعافى بن زكريا النهرواني المعروف بابن طراز. قال محمدبن إسحاق بن خزيمة: ما أعلم تحت أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، وقال الخطيب البغدادي: كان حافظاً لكتاب اللّه تعالى، عارفاً بالقرآن، بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم(120).

داود بن علي الظاهري

أبو سليمان داود بن علي خلف المعروف بالظاهري، ولد بالكوفة سنة (202 هـ ) ونشأ ببغداد وتوفي بها سنة (270 هـ )، وكان له لون خاص في التشريع لعمله في الظاهر.

استمرّ العمل بمذهب داود إلى القرن السابع الهجري، وكان من اتباعه وأئمته عبد الحقّ بن عبد الرحمن الأشبيلي المتوفى سنة (610هـ )، ومحمد بن الحسين المشهور بالميورقي المتوفى منتصف القرن السادس ، ومجد الدين عمرو بن حسن بن علي بن محمد بن فرج المتوفى سنة (623هـ ) وكان من المحدثين. ومن أئمة هذا المذهب محمد بن حزم(121)، صاحب الفصل في الملل والنحل، وصاحب المحلى على قواعد المذهب الظاهري.

قطع هذا المذهب شوطاً من الزمن بخطى ثقيلة، ولكنّا نراه يسرع في خطاه وينتشر بنطاق واسع عندما تولى المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وأعلن تمسّكه به، وأعرض عن مذهب مالك الذي غمر المغرب بانتشاره، فعظم المذهب الظاهري وكثر أتباعه، وانقطع علم الفروع وخاف الفقهاء سطوة السلطان عندما فرض اعتناق هذا المذهب، وأمر باحراق كتب مذهب مالك، كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس ، ونوادر ابن أبي زيد والتهذيب للبردعي.

قال في المعجب: ولقد  شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع وتطلق النار عليها . واستمر المذهب، وقد عدّه المقدسي في «أحسن التقاسيم» خامساً للمذاهب(122).

الليث بن سعد

أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن المتولد سنة (92 هـ ) والمتوفى يوم الخميس أو الجمعة منتصف شعبان سنة (175 هـ) بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى وقبره أحد المزارات هناك، وله مكانة علميّة، ومذهب يعمل به، وكان يقرن بمالك بن أنس، يقول الشافعي: الليث أفقه من مالك إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به ، وكان ابن وهب يقرأ على الشافعي مسائل الليث، فمرّت به مسألة، فقال رجل: أحسن واللّه الليث كأنّه كان يسمع مالكاً يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب، فيجيب هو، واللّه الذي لا إلـه إلاّ هو ما رأينا أفقه من الليث .

وكان أهل مصر ينتقصون عثمان، فنشأ فيهم الليث فحدّثهم بفضائل عثمان فكفوا، ولم يسعده الحظ بأنصار ينشرون مذهبه فيكتب له الخلود، وقد انقرض لمدة قليلة، يقول الاُستاذ أحمد أمين: «لو تعصّب المصريون لمن نبغ منهم لاحتفظوا بمذهبه، ولكانوا أتباعه، ولكن زامر الحي لا يطرب وأزهد في عالم أهله» .

وفي الواقع أنّ عدم اشتهار مذهبه وانتشاره من عدم امتزاجه بسلطان عصره، فقد طلبه المنصور للقضاء، فأبى وقال: إنّي أضعف عن ذلك، ولم يكن من أصحابه من يتولاه; فالقضاء هو عامل قويّ لخلود المذاهب وبقائها، كما يأتي بيانه.

ومما يؤثر عنه أنه لقي الرشيد، فسأله الرشيد: ما صلاح بلادكم؟ قال: يا أمير المؤمنين، صلاح بلادنا إجراء النيل وصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت العين.

وقال في النجوم الزاهرة: كان الليث كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره، بحيث إن القاضي والنائب من تحت إمرته ومشورته، وكان الشافعي يتأسّف على فوات لقياه; وقد كتب بعض من غاظه ذلك إلى المنصور:

أمير المؤمنين تلاف مصراً *** فإن أميرها ليث بن سعد(123)

عمر بن عبد العزيز

عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، كان تابعيّاً جليلاً، روى عن أنس بن مالك وغيره، وكان أعدل ملوك الاُمويين، مرّ بيان ترجمته عند ذكرنا لملوك عصر الإمام الصادق(عليه السلام) واُمراء بلده، ولا نعلم بالضبط الآخذين بمذهبه والعاملين به ولا نعلم مدة بقائه، وربما كانت له آراء خاصة أخذها الناس عنه، فعدّ في عداد المذاهب. ولا يخفى أنّ لمنزلته الدينية وفقهه أثرهما في الناس بعد أن استلم الحكم، والناس لاترى من حكام بني اُمية إلاّ ثلاثة أوجه: كره العلويين، وظلم الناس، واقتراف الموبقات. ونقل عنه قول: ما يسرّني أنّ أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.

الأعمش

أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش مولى بني كاهل من ولد أسد المعروف بالأعمش الكوفي المتوفى سنة (148هـ ) ، كان ثقة عالماً، وكان أبوه من دنباوند وهي ناحية من رستاق الري في الجبال، وكان يقارن بالزهري في الحجاز، ورأى أنس بن مالك لكنّه لم يسمع منه، ويروي عن أنس إرسالاً أخذه عن أصحاب أنس، وروى عنه سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وكان لطيف الخلق مزّاحاً.

دخل أبو حنيفة يوماً لعيادته فطوّل القعود عنده، فلما عزم على القيام قال أبو حنيفة: ماكأنّي إلا ثقلت عليك . فقال: واللّه إنّك الثقيل عليّ وأنت في بيتك. وعاده أيضاً جماعة وأطالوا الجلوس عنده، فضجر منهم فأخذ وسادته وقام وقال: شفى اللّه مريضكم بالعافية.

ولد الأعمش سنة (60 هـ )، وقيل أنه ولد يوم مقتل الحسين(عليه السلام) وعدّه ابن قتيبة في كتاب المعارف من جملة من حملت به اُمّه بسبعة أشهر وتوفي سنة (148 هـ ) أي في السنة التي توفي بها الإمام الصادق(عليه السلام)، ولم يكن لمذهبه ظهور وانتشار في المجتمع، وانقرض بمدة قليلة(124).

الشعبي

عامر بن شراحيل الشعبي أبو  عمر الكوفي المتوفى سنة (105 هـ ) سمع من جماعة من الصحابة وقال: أدركت خمسمائة منهم، وكان قاضياً لعمر بن عبد العزيز، وكان محدّث الكوفة وكان يفتي على ماصح عنده من الأثر، وينقبض عن الفتوى إن لم يجد نصاً، ولا يقول برأيه، ونسبة المذهب اليه لما صدر عنه من الفتوى، وإلاّ فلم يشتهر عنه ذلك والعمل به قليل(125).

هؤلاء بعض رؤساء المذاهب البائدة، وهي كثيرة تزيد على الخمسين، ونقصر الخطى على هؤلاء ، فالاستقصاء يقصينا عن الغاية التي نطلب من ورائها كشف الحقيقة.

وليس لنا غرض في التعرّف عليهم، ولكنّ الغرض أن نعرف الأسباب التي دعت إلى محو هذه المذاهب من صفحة الوجود، واثبات المذاهب الأربعة، مع العلم ان رؤساء المذاهب البائدة لهم منزلة علمية. ونستطيع القول بأنّ أكثرهم كانوا أعلم من رؤساء المذاهب الأربعة: فسفيان الثوري لقبوه بأمير المؤمنين في الحديث وسيد الحفاظ وغير ذلك، كما قاله شعبة وأبوعاصم وابن معين وغيرهم، وقال ابن المبارك: كتبت عن الف شيخ كان سفيان أفضلهم. وقال القطان: الثوري أحبّ إليّ من مالك(126); إلى غير ذلك من أقوال علماء الرجال ممّا لم نعثر على مثلها لأبي حنيفة وغيره، نعم من طرق اتباعهم تتعدى حدّ الحصر، واعطف عليه سفيان بن عيينة وابن جريح والليث وغيرهم، فإنّهم بمكانة من العلم، وقد رجع الناس إليهم في الفتيا مدة من الزمن، واستمرّ العمل بمذاهبهم، ثم انقرضت ولم يبق لأهل السنة إلاّ المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي .

أما أتباع آل البيت(عليهم السلام) فقد بقيت آراؤهم ومعتقداتهم في الاُصول والفروع وغيرهما أقوى من أن تلين للسياسة وتدخّلات الولاة والاُمراء... وإذا شوهدوا في بعض الأحيان يميلون إلى التقية والى تحاشي ضغائن الملوك، فإنّ ذلك كان من عزم الاُمور ودرء المهالك عن أنفسهم حين يرون أنّ دماءهم أحفظ للدين من إراقتها دون طائل.

فالحكام  في العهدين الاُموي والعباسي لا يتورعون عن سفك الدماء الطاهرة ولا يتوقفون في ظلمهم لآل البيت عند حدّ، ولهذا كان الإمام الصادق يرى في تعرض أهله من آل الحسن الى تك المحنة والعذاب أمراً يجرّئ الظالمين أكثر على انتهاك حرمات أهل البيت، ويصبح انتهاك حرمات الناس أبسط بكثير، فقال (عليه السلام) وهو يرى موكب آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «والله لا تحفظ لله حرمة بعد هذا»

ولا يندرج المذهب الجعفري في سياق نشأة المذاهب لاُمور عدّة منها:

1 ـ استقلال فقه أهل البيت عن السلطة الجائرة وتعلّقه بالإمامة والسلطة الروحية.

2 ـ في العهد الاُموي حيث لم تأخذ المذاهب صفتها الرسمية ولم ترسُ على عدد معين، كان الشيعة هم الخطر الحقيقي الذي يهدد بقاء الاُمويين في كلّ حين، فكان الاعتقاد بمذهب الشيعة استعداداً للموت والتضحية.

3 ـ في العهد العباسي حيث أرست الدولة عدد المذاهب لم يكن الشيعة من أجزاء السلطة بل ظلّوا على العمل بقاعدة مقاطعة الظالمين، فيما كان وجودهم الفقهي والعلمي يتسع وينتشر برغم إرادة العباسيين، وقد شيّدوا بناءهم الفكري بعيداً عن مؤثرات السلطة وعلى الضد من رغبات الحكّام.

وهنا يلزمنا البحث عن عوامل انتشار المذاهب الأربعة.

المذهب الحنفي

ينسب إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، من أهل كابل أو من أهل نسا، وكان اسمه عتيك بن زوطره، وكان أبوه عبداً مملوكاً لرجل من ربيعة من بني تيم اللّه بن ثعلبة من فخذ يقال لهم بنو قفل، ولد سنة (80 هـ ) في نسا، وتوفي سنة (150هـ ) في بغداد(127).

كانت دعوة العباسيين قائمة على أساس الانتماء إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّهم سلالة البيت النبوي، فهم أحقّ بالأمر من اُميّة خصوم الإسلام واعداء محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالطبع إنّهم يقيمون على أطلال تلك الدولة المتهمة بمخالفة الدين، دولة ذات صبغة دينية، يحاولون أن يظهروا الاتصال الوثيق بين الدين والدولة، ليكوّنوا من أحكام الشريعة الإسلامية دستوراً ونظاماً تسير الدولة عليه سيراً صورياً، فقرّبوا العلماء، واتّصلوا بهم اتصالاً وثيقاً وآثروا نشر العلم، وجعلوا القضاء بيد أهل الرأي من أهل العراق، حتى ولي أبو يوسف القضاء، وهو أقوى عوامل انتشار المذهب الحنفي لمكانة أبي يوسف وسلطته التنفيذية يومذاك، فكانت للمذهب الحنفي خطوة واسعة في قطع مسافة الشهرة بما لم يسعد به غيره. فأبو يوسف(128) هو تلميذ أبي حنيفة وقد تربّى في نعمه، وبتوليته منصب القضاء استطاع نشر المذهب، وولي منصب رئاسة القضاء العامة في عهد الرشيد سنة (170هـ ) فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلاّ من أشار به القاضي أبو يوسف(129)، وذلك لمكانته في الدولة ومنزلته عند الرشيد، حتى قال له الرشيد: يا يعقوب لو جاز لي إدخالك في نسبي ومشاركتك في الخلافة المفضية إليّ لكنت حقيقاً به، ألست القائل لأخي وقت كذا وكذا؟ وفي وقت كذا وكذا؟ يشير بذلك إلى ما عزم عليه الهادي من خلع الرشيد واستشارة أبي يوسف في ذلك، وجوابه له برد عزمه، فكان الرشيد يشكر لأبي يوسف هذه اليد، حتى قيل لم يتمكن أحد كتمكن أبي يوسف من الرشيد، وقال بشر المريسي: ما اشتهيت من مراتب السلطان إلاّ مرتبة رأيت أبا يوسف بلغها عشية من العشايا. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: وبلغ أبو يوسف مع الرشيد مبلغاً لم يبلغه عالم بعلمه ولا محبوب بمرتبته(130).

وقال ابن عبد البر: كان أبو يوسف قاضي القضاة قضى لثلاثة من الخلفاء، ولي القضاء في بعض أيام المهدي ثم للهادي ثم للرشيد، وكان الرشيد يكرّمه ويجلّه، وكان عنده حظياً مكيناً، لذلك كانت له اليد الطولى في نشر ذكر أبي حنيفة وإعلاء شأنه، لما أوتي من قوة السلطان وسلطان القوة(131).

وإذا نظرنا إلى مقوّمات المذهب في نفسه نجد ذلك يرجع لجهود أربعة من أصحاب أبي حنيفة، فإنّهم الّفوا فيه وهذّبوا مسائله، وليس لأبي حنيفة إلاّ المشاركة في الرأي أحياناً، وخالفوه في اكثر المسائل، كما أ نّهم وسعوا دائرة المذهب في الحيل الشرعية.

فأوّل اُولئك النفر هو أبو يوسف القاضي، فقد خدم المذهب في قوة سلطانه، وفي تصنيف الكتب وتبويب المسائل، وقد أدخل الحديث في فقه أبي حنيفة. وألّف كتاب الخراج لهارون الرشيد مستنبطاً من الحديث على مذهب مالك وغلبت على آرائه العناية بمصالح السلطان الزمنية.

والثاني محمد بن الحسن الشيباني مولاهم المتولد(132) سنة (132هـ ) والمتوفى سنة (189 هـ ) نشأ بالكوفة وعاش  تحت ظل الدولة العباسية، أدرك أبا حنيفة ولم ينتفع منه لحداثة سنّه، فأتمّ دراسة المذهب على أبي يوسف، وكان ذا فطنة وذكاء، وأصبح المرجع لأهل الرأي في نبوغه وتقدمه، وألف في المذهب كتباً هي في الحقيقة المرجع الأول فيه، فإنّ الحنفية ليس بأيديهم إلاّ كتبه، وخرج إلى المدينة ولقي مالكا وقرأ الموطأ عليه، ثم رجع إلى بلده فطبّق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة(133) ،ونظم الفقه الحنفي وخالف أبا حنيفة في أكثر مسائله.

والثالث زفر بن الهذيل المتولد سنة (110 هـ ) كان من أهل الرأي، وكان أقيس أصحاب أبي حنيفة(134).

والرابع الحسن بن زياد(135) اللؤلؤي مولى الأنصار، درس على أبي حنيفة ثم على أبي يوسف وعلى محمد بعده، وصنّف الكتب في مذهب أبي حنيفة، ولم تكن كتبه بتلك الدرجة من الاعتبار عند الحنفية كما كانت لكتب محمد بن الحسن(136).

فهؤلاء الأربعة هم دعامة رقي المذهب وسعة دائرته، ولم ينقل لنا التاريخ عن أبي حنيفة كتاباً يتضمن مسائله وفقهه، وإنّما دوّن علم المذهب أصحابه.

نعم ينسب لأبي حنيفة كتاب يسمى الفقه الأكبر هو وريقات قليلة لايتضمن إلاّ شيئاً من العقائد، وقد شرح ووسع واُضيفت إليه آراء اُخر مع أنّ الأكثرية يذهبون إلى نسبة هذا الكتاب إلى أبي حنيفة البخاري(137)، وليس هو أبا حنيفة رئيس المذهب، وبهذا يصبح لا أثر له في تدوين أي شيء، كما أنّ أبا حنيفة لا يفارق فتوى إبراهيم وعبد الرزاق إلا في مواضع يسيرة. والغرض أنّ المذهب إنما انتشر وكثرت مسائله بأعمال هؤلاء الأربعة ومساعيهم. ثم جاء من بعدهم علماء نسبوا لهذا المذهب، فكانت لهم آراء مستقلة وتكونت مجموعة من الفقه وكلها تنسب لأبي حنيفة، وإن لم يُفْتِ بها ولم يعرفها، ولكنهم قالوا: إنّ أبا حنيفة أمر أصحابه بأن يأخذوا من أقواله بما يتّجه لهم من الدليل عليه حتى صار ما قالوه قولاً له لابتنائه على قواعده التي أسسها لهم، وسيأتي الكلام حول هذا الموضوع.

المذهب المالكي

ينسب إلى الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، ولد سنة (93هـ ) بالمدينة، وحملت به اُمه سنتين، وقيل أكثر وتوفي سنة (179 هـ ). واللّه أعلم.

وكان من نتائج النزاع الذي حدث بين أهل العراق وأهل المدينة، أو أهل الحديث وأهل الرأي، ظهور شخصية أبي حنيفة في العراق ومالك في الحجاز، وكانت السلطة تؤيد جانب أصحاب أبي حنيفة وتشدّ أزرهم، وتقدّم الموالي لتحطّ من قيمة العرب، لأنّهم في نظر السلطة أعداء يتكتمون فلا يأمنون جانبهم من وثبة يوماً ما لميلهم للعلويين، وأنّهم ليترقبونها في غالب الأحيان فهم دائماً في حذر، وكان مالك ممّن انضمّ لجانب العلويين، وأخذ العلم عن الإمام الصادق(عليه السلام)، وأظهر القول بجواز الخروج مع محمد (النفس الزكية)، فأهين لذلك وناله الأذى وتعصّب له قوم وناصروه وأصبحت له مكانة في المجتمع، ولحظت السلطة أهمية مكانته، فرأت من اللازم أن تجعله تحت عنايتها لتوجد منه شخصية علمية توجه إليه المجتمع طوعاً أو كرهاً، فأصبح محترماً إلى أبعد حدود الاحترام.

ويعطينا الإمام الشافعي صورة عن عظيم منزلته، عندما دخل المدينة يحمل إلى واليها كتاباً من والي مكّة توصية منه بالشافعي، ويطلب منه ايصاله إلى مالك ، قال الشافعي: فأبلغت الكتاب إلى الوالي فلمّا أن قرأه قال: يافتى إنّ المشي من جوف المدينة إلى جوف مكّة حافياً راجلاً أهون عليّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذلة حتى أقف على بابه.

قال الشافعي: فقلت أصلح اللّه الأمير أن رأى يوجه إليه ليحضر، قال: هيهات! ليت إنّي إذا ركبت أنا ومن معي، وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجاتنا. قال: فواعدته العصر وركبنا جميعاً فواللّه لكان كما قال، فتقدم رجل فقرع الباب فخرجت الينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إنّي بالباب، قال: فدخلت فأبطأت، ثم خرجت فقالت: إنّ مولاي يقرؤك السلام ويقول: إن كانت لك مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس; فانصرفت; فقال: قولي له معي كتاب والي مكّة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة فرفع إليه الوالي الكتاب(138).

ونحن إذ نقيس منزلة مالك بين العهدين، نجد الفرق بيّناً فنراه في عهد أحد الولاة مغضوباً عليه يسحب ويجرد من ثيابه ويضرب خمسين سوطاً ويهان.

ونراه في العهد الثاني يتهيب الوالي أن يكلّمه. فمالك في حاليه يعطينا درساً في معرفة أغراض السياسة مع رجال الاُمة، وأنّ لها ألواناً من المعاملة مع الأشخاص الذين تريد أن تستخدمهم بالمغريات.

والغرض أنّ نجم مالك بزغ بذلك الاُفق فأصبحت له شخصية مرموقة دون غيره من شيوخه الذين هم أعلم وأفقه كربيعة الرأي(139) وغيره، فامتاز بتلك المنزلة واكتست شخصيته بأبراد العظمة، وحاول العباسيون أن يجعلوا منه مرجعاً عامّاً للاُمة في الفتوى، ولكنّها محاولة لم تنجح ، وقد أمره المنصور بوضع كتاب يحمل الناس عليه بالقهر، فكلّمه مالك في ذلك وامتنع، فقال المنصور: ضعه فما أحد اليوم أعلم منك(140)، فوضع الموطأ.

وهذه الكلمة لها مكانتها في نظر الاعتبار، فالمنصور حينما يعلن بأنّ مالكاً أعلم الناس، ويلزمه بوضع كتاب تصادق عليه الدولة فيكون نظامها المتّبع، وتطلب الالتحاق بقافلة الدين ـ وما أبعدها عن ذلك ـ فمن يستطيع أن يتخلّف عن الاعتراف بمنزلة مالك، وأنّه أعلم الاُمة؟

والرشيد يأمر عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك، وكان الرشيد يجلس على الأرض أمامه لا ستماع حديثه.

كيف لا يكون لمالك ظهور وسمعة ومنادي السلطان يهتف أيّام الحج: أن لا يفتي إلاّ مالك. فأصبحت له مكانة في المجتمع وهيبة في النفوس ، وتقرّب الناس إليه بشتى الوسائل ، والتفّوا حوله، وتزاحموا على مجلسه الذي عيّن له وقتاً خاصاً في يوم معيّن يزدحم الناس فيه لاستماع الحديث وأخذ الفتيا، وله كاتب بين يديه يقرأ للناس، وليس لأحد أن يدنو منه، ولا ينظر في كتابه، ولا يستفهمه في شيء، وبذلك لا يستطيع أحد مناقشته، وكان على رأسه سودان يأتمرون بأمره.

قال إسماعيل الفزاري: دخلت على مالك وسألته أن يحدّثني، فحدثني اثني عشر حديثاً ثم أمسك ، فقلت: زدني أكرمك اللّه، وكان له سودان قيام على رأسه، فأشار إليهم فأخرجوني من داره(141).

ولا ريب أنّ هذه المعاملة من مالك تبعثنا على التساؤل من أسباب امتناع مالك وبخله على الناس بما ينفعهم من أحاديث نبوية وإرشادات تربوية. وهذا الوضع منه لا شك أنّه مستغرب، لأن السنة الشريفة أمرت بنشر العلم وتوعدت من يكتمونه.

ويحدّثنا أبو بكر بن عبد اللّه الصنعاني قال: أتينا مالك بن أنس فحدّثنا عن ربيعة الرأي فكنّا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟ فأتينا ربيعة فقلنا: كيف يحظى بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ فقال: أما علمتم أنّ مثقالاً من دولة خير من حمل علم(142).

ولابدّ من التنويه برضى مالك بما أقبل عليه السلاطين وترك أيديهم تلعب بأحواله الخاصة، فأصابه  من جبريّة الحاكم شيء سنأتي على تفاصيله، حسب البحث إن شاء الله.

ومهما يكن من أمر فقد أسعده الحظّ، فكان له شأن ولمذهبه قبول ولكتابه منزلة، حتى قالوا: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب اللّه أصحّ من كتاب مالك. وفي لفظ آخر، ما على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك.

وكان انتشار مذهبه على أيدي القضاة والملوك، وقد انتشر بالأندلس بسبب حمل ملك الأندلس الناس عليه بالقهر، لمّا بلغه كلام من مالك في مدحه عندما سئل عن سيرة الملك في الاندلس، فذكر له عنها ما أعجبه، فقال: نسأل اللّه تعالى أن يزيّن حرمنا بملككم. فلمّا بلغ قوله إلى الملك حمل الناس على مذهبه، وترك مذهب الأوزاعي(143). وهذا من أقوى عوامل الانتشار ودواعي الظهور والسمعة، وإقبال الناس عليه اتباعاً للسلطان وخضوعاً للسلطة بدون تمييز لما هو الأرجح والأولى.

وقد نشر مذهب مالك في أفريقيا القاضي سحنون.

ويقول المقريزي: ولمّا ولي المعز باديس حمل جميع أهل أفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه، فرجع أهل افريقيا وأهل الأندلس كلّهم إلى مذهبه، رغبة فيما عند السلطان، وحرصا على طلب الدنيا، إذ كان القضاء والافتاء في جميع تلك المدن لايكون إلاّ لمن تسمّى بمذهب مالك، فاضطرّت العامة إلى احكامهم وفتاواهم، ففشى هذا المذهب هناك وحظي بالقبول لا بحسب مؤهلاته ومقوماته الروحية، وإنّما سار على حسب نظام القوة التي خضع الناس لها بدون تبصّر، كما أنّ انتشاره بالمغرب الأقصى هو كذلك رغبة لما عند السلطان، وخضوعاً لما افترضوه على الناس، ولم يكن ثبوته مستقلاً بروحانيته عن تأثر السلطة التنفيذية، فإنّ دولة بني تاشفين قامت في الأندلس في القرن الخامس، وتولّى ثانيهم علي بن يوسف بن تاشفين فعظم أمر الفقهاء، ولم يكن يقرب منه ويحظى عنده إلاّ من علم مذهب مالك، فنفقت في زمنه كتب المذهب، وعمل بمقتضاها ونبذ ماسواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب اللّه وحديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم يكن أحد يعتني بهما كما يعتني بكتب المذهب المالكي.

وما ذلك إلاّ من  اختراع السياسة لاُمور كان الأصلح  للاُمة أن تتخلى السياسة عن التدخل بمثلها، إذ من الصعب على الرعية أن تعرف صلاح أمرها ما دام مفروضاً عليها أمر معيّن من قبل السلطان وهي تجهل ذلك، وبهذه المؤثرات انتشر مذهب مالك بصورة هائلة كزميله المذهب الحنفي، فله اُسوة به، وإذا ما قصرت خطاه في بعض الاماكن فمبجرد تولي القضاء المالكي من قبل رجال المذهب يزداد نشاطه ويشتد اقبال الناس عليه وتمسكهم به، لذلك أنّه لما خمل ذكره في المدينة مدة من الزمن فبمجرد أن تولّى قضاءها ابن فرحون أظهره بعد خموله، فيظهر لنا أنّ الزمن سار في انتشار هذه المذاهب لا على سبيل الاعتقاد والواقع بل إنّ في الاُمة ضعفاء قلّدوا الأقوياء بأهم أمر، وكان الأجدر استقلالهم بمعرفته، وأخذهم له من أهله، وأنّى لهم ذلك وكلّ سلطة تحاول أن تجعل اُمورها ذات صبغة دينية، وأمر التشريع بيد قضاة صارعتهم الدنيا فصرعتهم إلاّ من عصم اللّه وقليل ما هم.

قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولّي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتسبين إليه وإلى مذهبه.

والثاني مذهب مالك عندنا في الأندلس، فإنّ يحيى بن يحيى(144) كان مكيناً عند السلطان مقبولاً في القضاء، فكان لا يولي قاضياً في أقطار الأندلس إلاّ بمشورته واختياره ولا يسبر إلاّ بأصحابه، والناس سراع إلى الدنيا فاقبلوا على ما يرجون به بلوغ أغراضهم(145).

وقال شاه ولي الدهلوي(146): وأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين، وأسند إليهم القضاء والافتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض، وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ولم يولوا القضاء والافتاء، ولم يرغب فيهم الناس، اندرس مذهبهم بعد حين .

وهذا التعليل قد أجمعت عليه آراء المؤرخين والعلماء حتى لقد شاع بين الناس قولهم : إنّ الناس على دين ملوكهم، وقد مرّ في مطاوي هذا البحث تنويه به وإشارة إليه.

المذهب الشافعي

وينسب إلى الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، وقيل إنّ شافعاً كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش، فامتنع فطلب من عثمان ذلك ففعل، ولد سنة (150 هـ ) وتوفي سنة (198 هـ ).

كان ظهوره أولاً بمصر وكثر أصحابه هناك، فغلب على بغداد وعلى كثير من بلاد خراسان، ودخل شيء منه إلى أفريقيا والأندلس بعد سنة (300 هـ )، وقويت شوكته، وعظمت شهرته في عهد الدولة الأيوبية التي كانت تتّسم بسمة شافعية ، وبذلوا جهدهم في نصرته، ببناء المدارس لفقهاء الشافعية واختصاص القضاء بهم، وكان الغالب على أهل مصر الشيعة في عهد الفاطميين الذين كانوا يملكون مصر قبله، وكان المذهب يدرس في الجامع الأزهر وغيره، فابطل صلاح الدين درسه فيها وأحيا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وبنى لهم كثيراً من المدارس، ورغب الناس فيها بالأوقاف التي حبسها عليها فرغبوا فيها وأخذوا في تقليدها وهجروا ما عداها من المذاهب .

وكان انتشار مذهب الشافعي بعد صلاح الدين أكثر من غيره لاعتناق الملوك الذين تولوا من بعده مذهب الشافعي، وقد نجح الشافعي في بدء أمره عندما قدم مصر وزاحم مذهب مالك، حتى تعصب عليه المالكية، لأنّه كاد أن ينسي الناس مذهب مالك إلى أنْ آل الأمر بهم فقتلوه بسبب التعصب، كما يأتي بيانه، وكان سبب نجاحه مؤازرة بني عبد الحكم له فإنّ لهم مكاناً رفيعاً بمصر، ومنزلة سامية وجاهاً عظيماً ، وقد آزره أبو محمد عبد اللّه بن الحكم بن أعين بن الليث، وكان عالماً عاقلاً متحققاً بمذهب مالك وإليه أفضت الرياسة بعد أشهب، فلما نزل الشافعي عليه أكرم مثواه وبلغ الغاية في برّه، ومات الشافعي في بيته فاعتنق مذهب الشافعي وكتب كتبه لنفسه ، مع أنّ الشافعي لن يعدم رعاية السلطان هناك، فإنّه دخل مصر وهو يحمل من الرشيد كتاباً لواليه على مصر يوصيه به ويلزمه بعنايته، ووقعت بينه وبين المالكية مناوشات كان النجاح له في نهاية الأمر. وكان قدوم الشافعي إلى مصر في سنة (198 هـ ) ويقال إنّه جاء مع أميرها عبد اللّه بن العباس بن موسى العباسي، فصحبه جماعة من أعيان أهل مصر كبني عبد الحكم والربيع بن سليمان، وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والبويطي وكتبوا عنه ونشروا مذهبه.

المذهب الحنبلي

ينسب إلى الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن حيان بن عبد اللّه بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن ذهل بن شيبان، ولد سنة (164 هـ ) في بغداد، وتوفي سنة (241 هـ ) فيها.

ظهر مذهب أحمد بن حنبل ببغداد وهو آخر المذاهب لتأخره زمناً في الحدوث، وكانت خطوة انتشاره خارج بغداد قصيرة جداً، ولم ينل شهرة غيره من المذاهب، وظهر في مصر في القرن السابع بين أفراد معدودين، ولكنه انتشر بعد فترة قصيرة عندما تولى القضاء عبد اللّه بن محمد بن محمدبن عبد الملك الحجازي، فزاد انتشاره هناك وذلك في سنة (738 هـ ) .

قال ابن خلدون: فأمّا أحمد بن حنبل فمقلّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض ، وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية للحديث(147).

وعداد أحمد بن حنبل عند القدماء أنّه من أهل الحديث لا الفقهاء ، ولذا لم يعد مذهبه في الخلاف بين الفقهاء، وكان ابن جرير يقول: إنّه رجل حديث لا رجل فقه، وعدّه المقدسي كذلك من أهل الحديث لا من الفقهاء(148)، ولم يذكره ابن قتيبة في معارفه في عداد الفقهاء، واقتصر ابن عبد البر في كتابه الانتقاء على ذكر مالك والشافعي وأبي حنيفة.

والحاصل أنّ المذهب الحنبلي أقلّ المذاهب انتشاراً، وقد عدّ متّبعوه هذه القلّة فخراً، نعم ظهرت عظمته ببغداد إذ كان متبعوه يحتفظون فيما بينهم باتحاد وثيق حيث تكون المصلحة هناك، وقد أصبحوا في زمن ما ولهم قوة استطاعوا بها أن يقلقوا بال الحكومة، وتظاهروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت صولتهم عظيمة، وأوقعوا في سائر المذاهب التي تخالفهم ما تشتهيه أنفسهم من التنكيل والأذى، وقضت الحكومة على تلك الحركات غير المنظّمة ، وضيّقوا دائرة اتساع دعوتهم.

ولم ينل المذهب الحنبلي قوة أنصار ورجال دعوة إلاّ في البلاد النجدية، فقد ساعده الزمن وكتب له البقاء على يد محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي، وإنْ كان مذهب أحمد وشهرته اندكّت إلى جانب شهرة الوهابي ومذهبه، ولا ينكر ما لابن تيمية وتلميذه ابن القيّم الجوزية، من الفضل في انتشار المذهب ونشاطه، وهما في الحقيقة إبطال دعوته، وعنهم أخذ ابن الوهاب تعاليم مذهبه الجديد، ومع ذلك فإنّ معتنقي هذا المذهب هم اليوم أقلّ عدداً بالنسبة إلى معتنقي المذاهب الاُخرى في العالم الإسلامي.

السلطة وانتشار المذاهب

وبهذه الأسباب وعوامل الترغيب التي اتخذها اُولئك الاُمراء وذوو النفوذ والسلطة أخذت هذه المذاهب بين العامة في الصيت والشهرة، ما جعلهم متزاحمين على اعتناقها بدون تمييز وحرية في الرأي، وظلّت حقيقتها غامضة، إذ لا يمكن استكشافها. فالخضوع للسلطان أمر لا مفرّ منه، وكان عدم تدخل الحكومة في مثل هذه الاُمور أعود على الاُمة، وأصلح لدينها ودنياها، فتدخّلها فيه قد جرّ الاُمة إلى منافسات وعصبية أعقبتها فتن ذهبت ضحيتها نفوس بريئة تدين للّه بالوحدانية ولمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة، وقد أدّت الخلافات إلى فرقة وتباعد ممّا كدر صفو الاُمة ورماها بالشتات بعد الاُلفة، وبالعداء بعد الاُخوة.

وعلى هذا المنوال أستطيع أن أسير في التدليل على ما في هذا الالتزام من النقص، وقد سارت عليه جماهير من المسلمين بدون دليل ولا برهان، فوقوف التشريع الإسلامي وانحساره بأقوال الأربعة إنّما هو تحجير للفكر، وجمود للتشريع لأغراض تعود بالنفع على الطبقة الحاكمة، الذين يريدون أن يطبعوا أعمالهم بطابع الدين، وما هم من الدين في شيء، إذ لا همّ لهم إلاّ حفظ ملكهم وقضاء مآربهم; على أنّ الأئمة الأربعة أنفسهم لا يعرفون هذا ويفتون بضده، فأقوالهم تدلّ على عدم الإلتزام بقول أحد. هذا مالك بن أنس يقول: «إنما أنا بشر اُصيب واُخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة»(149)، ويقول أبو حنيفة: «هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خلافه قبلناه»(150)، ويقول الشافعي: «إذا صحّ الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط»(151)، ويقول أحمد: «من ضيق علم الرجل أن يقلّد دينه الرجال» وقال: «لا تقلد دينك الرجال فإنّهم لم يسلموا من أن يغلطوا»(152) كما سنبيّن ذلك قريباً.

وعلى أيّ حال فإنّ الاستسلام والتقليد اللذين أديا الى التعصّب والانغلاق أثّرا في سير الحركة العلمية، لأنّ التقليد يقوم على الاتباع، وبذلك ترك النظر والتعرف على الدليل.

وكيف كان فقد استطاعت المذاهب الأربعة أن تصعد سلّم الرقي وتكتسب قيمتها المعنوية، لأنّها موضع عناية الخلفاء والولاة المتعاقبين بالرغم ممّا رافقها من خلافات ومنافرات، وإنّ عناية السلطة تكسب الشيء لوناً من الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعي، فعوامل الترغيب وأداة القوة جعلتها تأخذ بالتوسّع شيئاً فشيئاً، ولولا ذلك لما استطاعت البقاء حتى تصبح قادرة على مزاحمة غيرها.

ثم كان بعد هذا ما هو أدهى وأمرّ، فإنّه في سنة ( 645 هـ ) أحضر مدرسو المدرسة المستنصرية إلى دار الوزير، فطلب منهم ألاّ يذكروا شيئاً من تصانيفهم، وألاّ يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكروا كلام المشايخ السابقين تأدّباً معهم، وتبرّكاً بهم، فأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي بالسمع والطاعة. وقال سراج الدين عبد اللّه الشرمساحي المالكي: ليس لأصحابنا تعليقة، أما النقط من مسائل الخلاف فمما اُرتبه(153).

وقال شهاب الدين الزنجاني الشافعي وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني الحنفي: إنّ المشايخ كانوا رجالاً. ونحن رجال. فأوصل الوزير ما أجابوا به إلى المستعصم، وكان قد تولى الملك بعد أبيه المستنصر فأحضرهم أمامه، وطلب منهم جميعاً أن يلتزموا ذكر كلام المشايخ ويحترموهم، فأجابوه جميعاً بالسمع والطاعة، ورجعا مدرسا الشافعية والحنفية عن اعتدادهما بأنفسهما.

وقال المقريزي: فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولّى بمصر أربعة قضاة وهم: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، فاستمرّ ذلك من سنة (665 هـ ) حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه ولم يول قاضي ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد مالم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها(154).

يقول الاُستاذ عبد المتعال الصعيدي أحد علماء الأزهر في كتابه «ميدان الاجتهاد»: «فلما رأى بنو العباس أنّ وسائلهم في القهر لاتجديهم، أرادوا أن يأتوا الناس من باب التعليم ، فيتولوا أمره بأنفسهم، ليربّوا العلماء على الخضوع لهم، ويملكوهم بالمال من أول أمرهم. وكانت الاُمة هي التي تتولى أمر التعليم بعيداً عن الحكومة، كما تتولاه الآن الاُمم الراقية في اُوربا وأمريكا، فيقوم في المساجد حراً لا يخضع لحكم ملك أو أمير، ويتربى العلماء بين جدرانها أحراراً لا يراقبون إلاّ اللّه في عملهم، ولا يتأثرون بهوى حاكم، ولا تلين قناتهم لطاغية أو ظالم، فأراد بنو العباس أن يقضوا على هذا التقليد الكريم، ويتولّوا بأنفسهم أمر التعليم بين المسلمين، فأخذوا ينشئون له المدارس بدل المساجد، ويحبسون عليها من الأوقاف الكثيرة ما يرغب العلماء فيها، ويجعل لهم سلطاناً عليهم، وأخذت الممالك التابعة لهم تأخذ بهذا في سنتهم، حتى صار التعليم خاضعاً للحكومات بعد أن كان أمره بيد الرعية، وكان لهذا أثره في نفوس العلماء، فنزلوا على ارادة الملوك ولم تقو نفوسهم على مخالفتهم في رأيهم، أو توجيه شيء من النصح إليهم، وكانت المدرسة البيهقيّة أول ما اُنشئت من تلك المدارس، وهي منسوبة إلى البيهقي المتوفى سنة (450 هـ ) ثم اُنشئت بعدها المدرسة السعيدية بنيسابور، أنشأها الأمير نصر بن سبكتكين، ثم اُنشئت بعدها النظامية ببغداد أنشأها الوزير نظام الملك سنة (459 هـ ) وقد احتفل بافتتاحها احتفالاً عظيماً...» .

إلى أن يقول  : «ثم جاء صلاح الدين الأيوبي لمصر، فقام بإنشاء المدارس فيها للتعليم، وأنشأ المدرسة الناصرية لتعليم مذهب الشافعي سنة (566 هـ ) ثم انشأ المدرسة الصلاحية بالقرافة الصغرى سنة (572 هـ ) بجوار الإمام الشافعي وجعل لناظرها أربعين ديناراً في كلّ شهر، ورتّب له في كلّ يوم ستين رطلاً من الخبز وراويتين من ماء النيل، ثم أنشأ مدرسة اُخرى بجوار المشهد الحسيني، وجعل دار العباس العبيدي مدرسة للحنفيين»(155).

وكان صلاح الدين يقصد من هذه المدارس كلّها الى إحياء مذهب أهل السنّة، والقضاء على مذهب الشيعة الفاطميين الذين كانوا يملكون مصر قبله، ورغب الناس فيها بالأوقاف التي حبسها عليها فرغبوا فيها وأخذوا في تقليدها وهجروا ما عداها من المذاهب.

وقد جاء المستنصر العباسي(156) بعد هذا فانشأ في بغداد المدرسة المستنصرية سنة (625 هـ ) ، وانفق في بنائها أموالاً لا تُحصى حتى تمّ بناؤها سنة (631 هـ ) ، فاحتفل بافتتاحها احتفالاً عظيماً حضره بنفسه وحضر معه نائب الوزارة، وكذلك الولاة والحجاب والقضاة والمدرسون والفقهاء، وشيوخ الربط والصوفية والوعاظ والقرّاء والشعراء، وجماعة من أعيان التجار الغرباء، واختير لكلّ مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساً، ورتّب لها مدرسين ونائبي تدريس، وكان المدرسان محيي الدين محمد بن يحيى بن فصلان الشافعي، ورشيد الدين عمر بن محمد الفرغاني الحنفي، وكان نائبا التدريس جمال الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الجوزي، وأباالحسن علياً المغربي، وجعل لها ستة عشر معيداً، أربعة لكلّ مذهب، وجعل ربع القبلة الأيمن للشافعي، وجعل ربع القبلة الأيسر للحنفية، وجعل الربع الذي على يمين الداخل للحنابلة، وجعل الربع الذي على يساره للمالكية، وقد شرط المستنصر في وقفه عليها أن يكون عدد فقهائها مائتين وثمانية وأربعين، من كلّ طائفة اثنان وستون بالمشاهرة الوافرة، والجراية الدارة واللحم الراتب إلى غير هذا من وسائل الترغيب في هذه المذاهب.

فأقبل الناس على دراستها واهملوا غيرها من المذاهب التي لم يقدر لها مثل هذه الأوقاف المغرية.

وهكذا أخذ الشباب والكهول يواصلون الدراسة على المذاهب الأربعة في مثل هذه المدارس، ويسمعون في خلال دراستهم طعوناً على أيّ مذهب آخر، فيمتلئون حقداً على من لم يترك مذهبه لينتسب إلى أحد هذه المذاهب الأربعة.

فكان ذلك من النتائج الاُولى لتسلّم صلاح الدين دست الحكم في ظروف سياسية مرّت بها دولة الفاطميين الذين تربّى صلاح الدين وذووه في ظلّ عزّهم، ولولا خدمتهم للفاطميين ما كانوا. وقد تحوّل صلاح الدين بشدة ومارس القسوة وهو يتربع على العرش الذي ائتمن عليه، واتجه الى سنّة السلاطين الآخرين الذين حكموا الاُمة، فقسّم المجتمع على طريقتهم وأقام الدراسة في قاهرة المعز على الطريقة المذهبية التي اتبع إشاعتها الحكام.

خلاصة البحث

ظهر لنا ممّا سبق أنّ العامل الأساسي لتكوين الالتزام بمذهب معين، وعدم الترخّص في استنباط الأحكام الشرعية إنمّا هو السلطة، وأنّ بقاء هذه المذاهب إنّما يكون بتلك الوسائل المشجّعة، حتى كثر أنصارها، ولو قدرت عوامل الانتشار لغير المذاهب الأربعة لبقي لها جمهور يقلّدها أيضاً، ولكانت مقبولة عند من ينكرها، ولكنّها عدمت رعاية السلطة فمحيت من الوجود، إذ لا قابلية لها في ذاتها على البقاء بقوّة بنائها أو قدرات أصحابها العلمية.

وقد فاز المذهب الحنفي بتشجيع أكثر من  غيره، فهو في العصر العباسي المذهب الذي ترجع الدولة إليه في مهمّات التشريع، ورئاسة القضاء بيد أهل الرأي، لم يشاركهم إلاّ القليل من سائر المذاهب، وبعد انقراض الدولة العباسية اعتنق المذهب سلاطين الأتراك عندما أرادوا انطباق اسم الخلافة الإسلامية عليهم، لأنّ من شروطها: أن يكون الخليفة قرشيّاً طبقاً للحديث «الخلافة في قريش»(157) والحنفية لا يشترطون هذا الشرط، وأوّل من تولّى الخلافة الإسلامية من غير قريش السلطان سليم الفاتح، وصحّح الحنفية هذه الخلافة، وحجّتهم أنّ  الخليفة يتولى الخلافة بخمسة حقوق: 1 ـ حقّ السيف. 2 ـ حقّ الانتخاب. 3 ـ حقّ الوصاية. 4 ـ حماية الحرمين. 5 ـ الاحتفاظ بالأمانات . وهي المخلّفات النبويّة المحفوظة في الاستانة، وهم يقولون: إنّ الآثار النبوية سلمت من اغتيال التتر في بغداد، فحملها الخليفة العباسي إلى القاهرة حتى نقلها السلطان سليم إلى القسطنطينية في صندوق من الفضة وهي البردة النبوية، وسن من أسنان النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وشعرات من شعره ونعاله، وبقيّة من العلم النبوي، وإناء من حديد، وجبّة الإمام أبي حنيفة(158).

وبهذا الشكل سارت عوامل انتشار المذاهب مع السياسة جنباً لجنب ، إذ الرغبة فيها منوطة بالقضاة ورغبة السلطة، حتى كثر التحوّل من مذهب إلى مذهب تقرّباً للسلطان وطلباً لرفده، وتحوّل كثير من الشافعية إلى الحنفية لأجل الدنيا، وذلك أنّ الأمير بلبغا بن عبد اللّه الخاصكي الناصري الأمير الكبير صاحب النفوذ والصولة كان يتعصّب لمذهب أبي حنيفة ، ويعطي لمن تحوّل إليه العطاء الجزيل، ورتّب الجامكيات الزائدة، وحاول في آخر عمره أن يجلس الحنفي فوق الشافعي(159).

ولما انتقل أبو البركات الحنفي إلى مذهب الحنبلي فآذاه الحنفية، فانتقل إلى مذهب الشافعي، فقال المؤيّد التكريتي في هجائه :

ألا مبلغ عني الوزير رسالة  *** وإن كا ن لاتجدي إليه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل *** وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت رأي الشافعيّ تديناً *** ولكنّما تهوى الذي هو حاصل

وعمّا قليل أنت لا شكّ صائر *** إلى مالك فافهم لما أنا قائل(160)

وهذا أبو بكر البغدادي الحنبلي تحوّل شافعياً لأجل الدنيا، وولي القضاء، وكان أبو المظفر يوسف بن قرغلي سبط ابن الجوزي حنبليّاً، نقله الملك المعظم إلى مذهب أبي حنيفة(161). وكثير غيرهم.

وخلاصة القول أنّ تلك الوسائل المشجّعة للمذاهب الأربعة دعت الناس إلى الرغبة فيها، والأعراض عمّا سواها، ودعت أكثر الفقهاء الذين لهم أهليّة الاستنباط أن يجمدوا على تقليد السلف وتعطيل موهبة الاجتهاد.

قال الشيخ أبو زرعة: قلت مرة لشيخنا البلقيني: ما يقصر بالشيخ تقي الدين ابن السبكي عن رتبة الاجتهاد وقد استكمل الآلة وكيف يقلّد؟ ولم أذكره هو استحياءً منه، ولما اُريد أن أرتّب على ذلك .

فسكت عني، ثم قلت: ما عندي أنّ الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قررت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وإنّ من خرج عن ذلك لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من استفتائه ونسب إلى البدعة; فتبسّم ووافقني(162).

ومن هنا قوبل مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بتلك الهجمات العنيفة والحملات الظالمة، وأصبح الشيعة المتمسكون بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) عرضة لكلّ خطر، وغرضاً للتهم، وأصبح الشيعي في نظر اتباع السلطة خارجاً عن الإسلام، مفارقاً جماعتهم، ولكنّ الشيعة ثبتوا على أخذ تعاليم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في أحكام الإسلام، من طريق أهل البيت(عليهم السلام)، لأنّهم عدل القرآن والتمسك بهم من دعائم الإسلام، ففي اتّباعهم الهدى وهم كسفينة نوح وباب حطّة.

وبذلك تحمّلوا ما تحمّلوا في سبيل المحافظة علىوصاية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في آله، وساروا على نهجهم وبقي باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه، ومدرستهم مستقلة عن سياسة السلطة وآراء الحكّام. فإذا ما عدنا الى بدايات ضعف الحكم الاُموي نرى الإمام الباقر(عليه السلام)يتعرض للأذى والمضايقات فيحمل الى مقر الجائرين في الشام وكان يصحبه ولده جعفر الصادق(عليه السلام)، ولأنّ منهج الدعوة وأساليب العمل قد أخذت بالتطبيق على يد الإمام الباقر(عليه السلام) في ظلّ مقتضيات الظروف ومستجدّات السياسية، فإنّه(عليه السلام) قرن بين السلوك الديني وبين الجانب الذي أراد الحكّام التحكّم فيه، وإخضاع أهل البيت وأنصارهم وهو الذي يتعلّق بالإمامة بصيغة الخلافة ومسميات السياسة، فقال: من عَبَد الله عبادة اهتمام ولم يعتقد بإمام عادل، وأنه منصوب من الله فلا يقبل الله منه سعياً.

أما الإمام الصادق(عليه السلام) حيث ماج عصره بالتيارات الفكرية واشتدّت فيه النزعات المختلفة، فقد اتّجه الى الأفكار ومخاطبة العقول لشدها الى أركان العلم واُصول الفقه بطريقة منهجية رائدة تتيح للعقول الإفلات من مخطط السلطة الزمنية، حتى عرف عنه(عليه السلام) أنه كان يجيب كلّ من يتوجه إليه بالسؤال مراعياً اهتمامات السائل ومقاصده، ثم يقيم الإجابة على نحو من أغراض منهجه هو(عليه السلام) ، فظن من بهم جهالة أنّه(عليه السلام) يقول بأقوال مختلفة وحاشاه(عليه السلام) .

يقول الدكتور محمد كامل حسين: عرف عن الصادق(عليه السلام) الاعتدال في الرأي والعقيدة بحيث يقبل آراءه كلّ مسلم، السنّي منهم والشيعي(163).

ونرى من الخير أن نتعرّض لذكر الآراء حول الاجتهاد والتقليد في نقل أقوال السلف وبعض المعاصرين بإيجاز، وللتفصيل محل آخر.

آراء حول الإجتهاد والتقليد

«إنما أنا بشر اُصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة»(164).

«مالك بن أنس»

«إذا صحّ الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط»(165). «الشافعي»

«هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي غير هذا قبلناه. حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي»(166).    «أبو حنيفة»

«من ضيق علم الرجال أن يقلدوا الرجال، لا تقلد دينك الرجال فإنّهم لن يسلموا من أن يغلطوا، وقيل له: لم لا تضع لأصحابك كتاباً في الفقه؟ قال: ألأحَد كلام مع كلام اللّه ورسوله؟»(167).    «أحمد بن حنبل»

«لايجوز ترك آية أو خبر صحيح لقول صاحب أو إمام، ومن يفعل ذلك فقد ضلّ ضلالاً مبيناً وخرج عن دين اللّه»(168).

«محيي الدين بن العربي»

«لم يبلغنا أنّ أحداً من السلف أمر أحداً أن يقيد بمذهب معين، ولو وقع ذلك منهم لوقعوا في الإثم، لتفويتهم العمل بكلّ حديث لم يأخذ به ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده، والشريعة حقيقة إنّما هي مجموع ما بأيدي المجتهدين كلّهم لا بيد مجتهد واحد، ومن أين جاء الوجوب والأئمة كلّهم قد تبرأوا من الأمر باتباعهم، وقالوا: إذابلغكم حديث فاعملوا به واضربوا بكلامنا الحائط»(169).

«الشعراني»

سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية عن رجل تفقّه على مذهب من المذاهب، وتبصّر فيه، واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة، لا يعلم لها ناسخاً ولا مخصصاً ولا معارضاً، وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ فأجاب بما هذا نصه:

الحمد للّه ربّ العالمين، قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أنّ اللّه افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله(صلى الله عليه وآله)، ولم يوجب على هذه الاُمة طاعة أحد بعينه في كلّ ما أمر به ونهى عنه إلاّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، حتى كان صديق الاُمّة وأفضلها بعد نبيّها عليه الصلاة والسلام، ورضي اللّه عنه يقول: أطيعوني ما أطعت اللّه، فإذا عصيت اللّه عزّ وجلّ فلا طاعة لي عليكم. واتّفق كلّهم عن أنّه ليس أحد معصوماً في كلّ ما أمر اللّه به ونهى عنه إلاّ رسول اللّه، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كلّ أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلاّ رسول اللّه عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم اللّه تعالى أجمعين قد نهوا الناس عن تقليدهم في كلّ ما يقولون، وذلك هو الواجب، قال الإمام أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لمّا اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسألة الأجناس فأخبر مالك بما دلّت عليه السنة في ذلك. فقال أبو يوسف: رجعت لقولك يا أبا عبد اللّه، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. ومالك(رحمه الله) كان يقول: إنّما أنا بشر اُصيب واُخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلام هذا معناه، والشافعي(رحمه الله) كان يقول: إذا صحّ الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق قولي(170).

«من حصر فضل اللّه على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهّرة على من تقدّم عصره، فقد تجرّأ على اللّه عزّ وجلّ، ثم على شريعته الموضوعة لكلّ عباده الذين تعبّدهم بالكتاب والسنة، فإذا كان التعبّد بهما مختصّاً بأهل العصور السابقة، ولم يبق لهؤلاء المتأخرين إلاّ التقليد لمن تقدّمهم ولا يتمكّنون من معرفة كتاب اللّه وسنة رسوله; فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة، والمقالة الزائفة، وهل النسخ إلاّ هذا؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم»(171).   «حسن خان»

«ليس على الإنسان التزام مذهب معيّن، وأنّه لا يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلّداً فيه غير إمامه مستجمعاً شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالاُخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأنّ إمضاء القاضي لا ينقض»(172).

 «ابن عابدين»

«إعلم أنّ المقلّد على غير ثقة فيما قلّد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنّه إنّما خلق للتدبّر، وقبيح بمن اُعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أنّ عموم أصحاب المذاهب يعظّم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبّر بما قال، وهذا عين الضلال، لأنّ النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل»(173)

«جمال الدين بن الجوزي»

«إعلم أنّه لم يكلّف اللّه أحداً من عباده بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً، أو حنبلياً بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) والعمل بشريعته»(174).

«عبد العظيم المكي»

ومن العجب العجيب أنّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف قول إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك مقلّد فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحيل لظاهر الكتاب والسنّة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالاً عن مقلده، ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلّدين، فإنّ أحدهم يتّبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلّة، مقلّداً فيما قال كأنّه نبيّ أرسل، وهذا نأي عن الحقّ، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب»(175)

«عز الدين بن عبد السلام»

«ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على إمام، ويعتقد في كلّ مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة وذلك سهل عليه، وليتجنّب التعصّب والنظر في طرائق الخلاف، فإنّها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدّرة، فقد صحّ عن الشافعي أنّه نهى عن تقليده وتقليد غيره»(176).

«الشيخ أبو شامة»

«إنّ قفل باب الاجتهاد معناه الضربة القاضية على حرية الفكر، بل على الإسلام الذي قلنا إنه جاء للناس كافة، ليساير مختلف العصور والشعوب والآن بعد سير ألف سنة سار خلالها المسلمون جامدين»(177).

«محمد علي» مؤلف كتاب الدين الإسلامي

«وإني أستطيع أن أحكم بعد هذا بأنّ منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والاغراء بالمال، ولا شكّ أن هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة التي نقلدها الآن لبقي لها جمهور يقلدها أيضاً، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها، فنحن إذاً في حلّ من التقيّد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة، وفي حلّ من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنّ منعه لم يكن إلاّ بطرق القهر، والإسلام لا يرضى إلاّ بما يحصل بطريق الرضى والشورى بين المسلمين، كما قال تعالى في الآية(28) من سورة الشوري (وأمرهم شورى بينهم )(178).

«عبد المتعال الصعيدي» أحد علماء الأزهر

«رأى بعض المقلّدة لمذهب إمام يزعمون أنّ إمامهم هو الشريعة، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد، وتكلّم في المسائل، ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير، وفوقوا إليه سهام النقد، وعدّوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتبار العامي، ولقد لقي بقيّ بن مخلد حين دخل الاندلس آتياً من المشرق من هذا الصنف الأمرّين حتى أصاروه مهجور الفناء، مهتضم الجانب، إلى أن يقول: وكان هؤلاء المقلّدة قد صمّموا على مذهب مالك بحيث أنكروا ما عداه، وهذا  تحكيم الرجال على الرجال، والغلوّ في محبّة المذاهب»(179).  «الشاطبي»

«بأيّ نصّ سدّ باب الاجتهاد، أو أيّ إمام قال: لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهدوا ليتفقّهوا في الدين، أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث، أو أن يجدّ ويجتهد بتوسيع مفهومه، والاستنتاج على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه، ولا ينافي جوهر النصّ، إنّ اللّه بعث محمداً رسولاً بلسان قومه العربي ليعلمهم ما يريد افهامهم، وليفهموا منه ما يقوله لهم.

ولا ارتياب بأنّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وعاشوا إلى اليوم لداموا مجتهدين مجدّين يستنبطون لكل قضية حكماً من القرآن والحديث، وكلما زاد تعمقهم زادوا فهماً وتدقيقاً، نعم إنّ أولئك الفحول من الأئمة ورجال الاُمة اجتهدوا وأحصنوا فجزاهم اللّه خير الجزاء، ولكن لا يصحّ أن نعتقد أنّهم احاطوا بكلّ أسرار القرآن وتمكّنوا من تدوينها في كتبهم»(180)

«جمال الدين الأفغاني»

«منع الاجتهاد هو سرّ تأخّر المسلمين، وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخّر المسلمون بقدر ما تقدّم العالم، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن ان يغيّر ويبدل، لأنّه لاعتبارات سياسية، منع الولاة والسلاطين الاجتهاد حتى يحفظوا ملكهم، ويطمئنّوا إلى أنّه لن يعارضهم معارض، وإذا ما عارضهم أحد ـ لأنه لاتخلو اُمة من الاُمم إلاّ وفيها المصلح النزيه، والزعيم الذي لا يخشى في الحقّ لومة لائم ـ فلن يسمع قوله، لأن باب الاجتهاد قد اغلق. لهذا جمد التشريع الإسلامي الآن، وما التشريع إلاّ روح الجماعة وحياة الاُمة، وإنّي أرجع الفتنة الشعواء، التي حصلت في عهد الخليفة عثمان والتي كانت سبباً في وقف الفتح الإسلامي حيث تحوّلت في عهده الحرب الخارجية إلى حرب داخلية، أرجع ذلك إلى أنّ عثمان كان من المحافظين، وقد شرط ذلك على نفسه، عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على لزوم الاقتداء بالشيخين في كلّ ما يعني دون اجتهاد، عند انتخابه خليفة ولم يوافق الإمام عليّ على ذلك حينئذ قائلاً: إنّ الزمن قد تغير، فكان سبب تولي عثمان الخلافة هو سبب سقوطه»(181).

«الدكتور عبد الدائم البقري الأنصاري»

«كم بين دفتي التاريخ من أحزاب سياسية استحالت إلى مذاهب دينية، ربّ مغفل أرعن يحقد على  أخيه لاختلاف مذهبيهما اختلافاً في الفروع منشؤه الاجتهاد، ولا يذكر أنّ كلمة التوحيد التي تجمعه وأخاه على خطر عظيم، وأنّ حقده هذا يزيده خطراً.

الاجتهاد مجلبة اليسر، واليسر من أكبر مقاصد الشارع وأبدع حكم التشريع، بالاجتهاد يتلاطم موج الرأي فينفذ جوهر الحقيقة على الساحل، الحوادث لا تتناهى والعصور محدثات، فإذا جمدنا على ما قيل فما حيلتنا فيما يعرض من ذاك القبيل؟ سدّ باب الاجتهاد اجتهاد، فقل للقائل به إنّك قائل غير ما تفعل»(182).

«العلاّمة العبيدي»

هذه بعض الشواهد على عدم شرعيّة غلق باب الاجتهاد الذي حدث في ظروف خاصة ولمآرب سياسية، ولم تخضع الشيعة لحكم تلك الظروف بل ساروا على طريقة أهل البيت(عليهم السلام)، وأخذوا أحكام الإسلام عنهم وبقي الاجتهاد مفتوحاً عندهم.

ولقد ألّفت في هذا الباب رسائل عدّة لكبار العلماء، وكلّهم يندّدون في جمود التشريع على المذاهب الأربعة ويطلبون حلّ تلك العقدة التي عقدها ولاة أمر لا يطلبون بذلك إلاّ مصالح الدولة، وقد أوضح العلماء أسباب هذا الجمود كالغزالي، والعز بن عبد السلام وغيرهما من الأئمة الذين لا تأخذهم في الحقّ لومة لائم، فمنها بالنسبة إلى بعضهم كالمباراة والمماراة، وحبّ الظهور، وما يتعلق بذلك، ومنها المنافع، والمرافق في القضاء، والافتاء، والأوقاف بالنسبة إلى آخرين.

ومنها الثقة والاطمئنان بالتربية العلمية على المذهب والاقتصار عليه في التعليم والإفتاء، ومن طبع الإنسان أنّ ما يعتاده زمناً طويلاً يملك عليه أمره ويؤثر في نفسه تأثيراً يصرفها عن كلّ ما عداه، إلاّ أصحاب العقول الكبيرة والنفوس العالية الذين تكون الحقيقة ضالّتهم والصواب وجهتهم(183).

كلمات حول التقليد

أمّا الذين يحاولون الجمود ويلتزمون بالتقليد فإنّهم عجزوا عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، واقتنعوا بعناية السلطان على ما هم فيه من النقص، فلا يروق لهم بلوغ أحد رتبة الاجتهاد، ونسبوا مدّعيه إلى الجنون، كما ذهب إليه الشيخ داود النقشبندي في كتابه: «أشد الجهاد» حيث يرى أنّ مدّعي الاجتهاد ضال مبتدع.

ويقول الشيخ أحمد بن عبد الرحيم في تقسيم طبقات المجتهدين: «الطبقة الثالثة من نشأ من المسلمين من رأس المائة الرابعة ويجب على العامي تقليد المجتهد المنتسب لا غير ـ أي لأحد المذاهب الأربعة ـ لامتناع وجود المستقل من هذا التأريخ حتى اليوم، ثم أورد على نفسه وأجاب، وأهمّ شيء يعتمد عليه في أدلته، قوله: انّه اجتمعت الاُمة على ان يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة فلا بدّ لنا من الرجوع إليهم، ولا يرجع إلاّ إلى المرويّ عن السلف بسند صحيح مدوّن في الكتب المشهورة، مع بيان الأرجح من دلالتها، وتخصيص عمومها أو تقييدها والجمع بين مختلفاتها، ولا توجد هذه الخصوصيّات إلاّ في المذاهب الأربعة، وليس مذهب بهذه الصفة إلاّ الإمامية، والزيدية وهم أهل البدعة لا يجوز الاعتماد على أقاويلهم، فتعين الأخذ بأحد المذاهب الأربعة»(184).

هذا أهمّ ما عندهم من الأدلة. وذهب بعضهم إلى القول بعصمة الأربعة مستدلاً بعصمة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم ورثته فهم معصومون من الخطأ، وإذا كانوا كذلك فيجب الرجوع إليهم فحسب.

ولا حاجة بنا إلى إطالة نقل أقوال المانعين لملكة الاجتهاد لعلماء الاُمة بعد المذاهب الأربعة، لأنّها حجج لقضية تبتنى على عدم لياقة أيّ أحد بعدهم لهذه الرتبة، وأنّ مدعيها ضالّ مضلّ بل ممن يريد في الأرض الفساد، ويجب اقامة الحدّ عليه، ومن ادّعى من الاُمة تلك المنزلة أو كانت له لياقة استنباط الأحكام الشرعية شنّعوا عليه ، ورموه بالنكير. فهذا العلاّمة جلال الدين السيوطي ادّعى رتبة الاجتهاد المطلق قام عليه علماء عصره فرموه بالنكير، ووقعوا فيه، وكذلك انكروا على كلّ من ادّعى ذلك.

والواقع أنّ في القرون المتأخرة رجالاً برهنوا بمؤلفاتهم على تلك الملكة التي ادعي استحالتها عليهم، حتى فضّلوا بعضهم على رؤساء المذاهب. فهذا أبو حامد أحمد بن محمد الاسفراييني فضّلوه على الشافعي، وكثير منهم كانوا بمنزلة من العلم لا يستبعد اتّصافهم بتلك الملكة كالشيخ عبد العزيز بن سلام المتوفى سنة (578 هـ ) والشيخ عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن القزويني المتوفى سنة (623هـ )، وإسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني المتوفى سنة (449هـ ) ، ومحمد بن إسحاق صدر الدين القوني المتوفى سنة (673 هـ ) وإبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاسفراييني المتوفى سنة (418 هـ ).

وناهيك ما للقفال، وإمام الحرمين الجويني، والصيدلاني، والسبخي والسرخسي، والجصاص، من منزلة في العلم وموهبة في استنباط الأحكام، ولكنّهم الجموا من قبل العامة الذين رأوا ادعاء الاجتهاد ضلالة، بل يتلبس مدّعوها بتهمة التشيع، لأنّهم يقولون بذلك(185).

وكان أبو الحسن الداركي أحد المجتهدين في عصره إذا سئل عن فتوى يجيب بعد تفكّر، فربّما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فينكرون عليه ذلك، فيقول: ويلكم! روى فلان عن فلان عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)كذا وكذا، فالأخذ به أولى من الأخذ بمذهب الشافعي، ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث(186).

ولقد لقي بقيّ بن مخلّد من الأذى وشدّة الإنكار لدعوى الاجتهاد ما جعله مهجور الفناء، مهتضم الجانب ، وكثير من أمثاله، كابن تيمية وابن قيم الجوزية فإنّهما بلغا في آرائهما حدوداً كان ينبغي الامتناع عن تجاوزها، فمهما أحسن المرء الظن فإنّها اجتراء على مقام الرسول محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ونيل من آل بيته الأطهار(عليهم السلام) . رويت للفرقة ومؤداها الجمود، فما لقياه كان عملاً اقتضته طريقة خوضهما في الاجتهاد، ولو أحسنا الفهم والاختيار لكانا في قافلة المنافحين عن الحقّ والداعين الى حرّية الرأي وغيرهم.

ولست أدري ما هذه الاستحالة وعدم الامكان من حصول درجة الاجتهاد والحكم على الرجال بالقصور والنقص وحصر الكمال في عدد معيّن بدون دليل؟ ونرى من الخير تعريف الاجتهاد والتقليد عندهم اجمالاً لنعرف مدى تحجير الأفكار ووقوف العقل عن ادراك ذلك.

الاجتهاد

الاجتهاد لغةً: هو بذل الوسع في ما فيه كلفة، مأخوذ ـ كما نقل ابن أبي زرعة عن الماوردي ـ من  جهاد النفس وكدّها في طلب المراد، وفي الاصطلاح على ما في جمع الجوامع: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم، والفقيه والمجتهد لفظان مترادفان وهو البالغ العاقل، أي ذو ملكة يدرك بها العلوم، وهذه الملكة العقل(187).

كما عرّفوا الاجتهاد أيضاً بأنّه استنفاذ الجهد بالنظر في المآخذ الشرعية، لتحصيل علم أو ظن بحكم شرعي.

قال أبو إسحاق : ومن كان موصوفاً بالبلادة والعجز عن التصرف فليس من أهل الاجتهاد، وفي انكاره للقياس خلاف، وان يكون عارفاً بالدليل العقلي وهو البراءة الأصلية، وأن يكون عارفاً بلغة العرب وبالعربية وعلم النحو اعراباً وتصريفاً، وباُصول الفقه ليقوى على معرفة الأدلة وكيفية الاستنباط وبالبلاغة ليتمكن من الاستنباط بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة. وأن يكون عارفاً بالكتاب والسنة ولا يعتبر العلم بجميعها ولا حفظها(188).

قال العلامة السبكي: المجتهد من هذه العلوم من له ملكة واحاطة بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع، ويعتبر ـ على ماقيل ـ كونه خبيراً بمواقع الاجتماع كيلا يخرقه، والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وشرط المتواتر والآحاد، والصحيح والضعيف ، وحال المرويات وسير الصحابة، ولا يشترط فيه الكلام، وتفاريع الفقه، والذكور والحرية، وكذا العدالة على الأصح(189).

هذه هي شروط المجتهد عندهم، وأنت لو نظرت إلى الواقع لم تجد سبباً لمنعه من أجل قصور عن ادراكه لمن أراده، وكم من العلماء من عرفنا عنه تمام المعرفة لهذه العلوم وزيادة ولكن المانع شيء آخر.

التقليد

والتقليد: هو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله، قال ابن أبي زرعة في شرح الجوامع: وقد اختلف العلماء في تقليد المفضول من المجتهدين مع التمكّن من تقليد الفاضل على مذاهب: أحدها ـ وهو المشهور ـ جوازه، وقد كانوا يسألون الصحابة مع وجود أفاضلهم، والثاني: منعه، وبه قال الإمام أحمد وابن سريح، واختاره القاضي حسين وغيره، والثالث: يجوز لمن يعتقده فاضلاً، أو مساوياً لغيره فإن اعتقده دون غيره امتنع استفتاؤه.

وكذا اختلفوا في تجويز تقليد الميّت على أقوال: أحدها: جوازه، وبه قال الجمهور، وعبّر عنه الشافعي بقوله: المذاهب لا تموت بموت أربابها. والثاني منعه، أي منع تقليد الميت مطلقاً، وعزاه الإمام الغزالي لاجماع الاُصوليين واختاره الإمام فخر الدين. والثالث: يجوز مع فقد حيّ ولا يجوز مع وجوده. انتهى ملخّصاً(190).

وقال الشيخ محيي الدين بن العربي في الباب الثامن والثمانين من الفتوحات المكية: والتقليد في دين اللّه لا يجوز عندنا لا تقليد حي ولا ميت(191)، انتهى. فتدبر. وقال ابن عابدين الشامي: إنّه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل، وبه قالت الحنفية والمالكية والشافعية وأكثر الحنابلة، وعن أحمد وطائفة كثيرة من الفقهاء: لا يجوز(192).

 

 

(111) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص157.

(112) ضحى الإسلام ج3 ص152.

(113) تاريخ بغداد ج13 ص220 .

(114) جلاء العينين للآلوسي ص107 .

(115) تاريخ الفتح العربي في ليبيا ص106 .

(116) سير أعلام النبلاء ج7 ص174 /1083.

(117) سير أعلام النبلاء ج7 ص65 /1292 .

(118) الحسن البصري لأبي الفرج بن الجوزي ص7، اُنظر مناقب أبي حنيفة للمكي ج1  ص171 .

(119) سير أعلام النبلاء ج7 ص86 /1049.

(120) تاريخ بغداد ج2 ص161 /589 .

(121) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتولد سنة (381 هـ ) والمتوفى سنة (456 هـ )، وكان عظيم الحفظ كثير التصانيف وكان جريء اللسان متسرعاً إلى النقل بمجرد ظنه كبير الوقوع بالعلماء وله كتاب الفصل يعرف به تحامله على المسلمين فإنه يطلق لسانه حتى قيل: إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان. كان شافعي المذهب. قال ابن العربي: ثم انه انتسب إلى داود ثم خلع الكل واستقل وزعم انه إمام الأئمة يضع ويرفع ويحكم ويشرّع وينسب إلى دين اللّه ما ليس فيه تذكرة الحفاظ ج3 ص323 .

(122) أحسن التقاسيم  ج1 ص40 و 41 .

(123) النجوم الزاهرة ج2 ص82 .

(124) المعارف ص328.

(125) سير أعلام النبلاء ج5 ص269 /480.

(126) سير أعلام النبلاء ج7 ص382 /1180.

(127) تاريخ بغداد ج13 ص325 /7297.

(128) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد الأنصاري المتوفى سنه (182 هـ ) ببغداد والمدفون فى مقابر قريش، وهو أول من دعي بقاضي القضاة، تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي وابنه الهادي والرشيد. قال محمد بن جرير الطبري: ما نحا قوم من أهل الحديث حديثه لغلبة الرأي عليه، وتفريع الفروع والاحكام مع صحبة السلطان. وقال عمار بن أبي مالك ما كان في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة ولا محمد بن أبي ليلى وهو الذي نشر قولهما. وعن ابن المبارك أنه وهاه، وعن يزيد بن هارون أنه قال لا تحل الرواية عنه، وكان يعطي أموال اليتامى ويجعل الربح لنفسه. وأبو يوسف هو الذي عناه الشاعر بقوله:

يا قاتل المسلم بالكافر *** جرت وما العادل بالجائر

وستأتي ترجمته ببيان ووضوح في موكب القضاة.

(129) خطط المقريزي ج4 ص144 .

(130) المكافأة لابن الداية ص62، 63، 64، 116، 173.

(131) الانتقاء ص6.

(132) محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189 هـ ) قال فيه أحمد بن حنبل أنه مرجئ ورد شريك شهادته، لذلك وقد وقعت بينه وبين أبي يوسف منا كرة فكان يقول: محمد بن الحسن جهمياً وقال محمد بن سعد الصوفي: سمعت يحيى بن معين يرميه بالكذب، وقال مرّة إنه جهمي كذاب، وعن منصور بن خالد سمعت محمداً يقول: لا ينظر في كلامنا من يريد اللّه، لسان الميزان ج5 ص131 والوفيات ج4 ص324.

(133) رسالة الانصاف ص8 .

(134) ضحى الإسلام ج2 ص202 ـ 204.

(135) الحسن بن زياد اللؤلؤي كذبه يحيى بن معين وأبو داود ومحمد بن عبد اللّه بن نمير، قال ابن المديني: لا يكتب حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بثقة، وقال الدارقطني: ضعيف متروك، وقال محمد بن حميد الرازي: ما رأيت أسوء صلاة منه، وقال الخطيب: ان الحسن ولي القضاء ولم يوفق فكان إذا جلس لايفهم شيئاً، وعن إسحاق بن إسماعيل كنا عند وكيع فقلنا له: السنة مجدبة قال: وكيف لاتجدب وحسن اللؤلؤي قاض وحماد بن أبي حنيفة قاض؟

(136) تاريخ بغداد ج7 ص325 /3827.

(137) ضحى الإسلام ج2 ص197 ـ 198.

(138) معجم الادباء ج17 ص275 .

(139) ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن فروخ التميمي أبو عثمان المدني الفقيه المعروف بربيعة الرأي، روى عن أنس والسائب بن يزيد وابن المسيب وعنه سليمان التميمي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد والليث وخلق كثير، وكان أبوه فروخ خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني اُمية وربيعة حمل في بطن اُمه فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً ودفع الباب برمحه فخرج ربيعة وقال: ياعدوّ اللّه اتهجم على منزلي، فقال فروخ: يا عدو اللّه أنت دخلت على حرمي فتواثبا حتى اجتمع الجيران وكثر الضجيج، فبلغ مالك بن أنس فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذا الدار، فقال الشيخ هي داري، وأما فروخ فسمعت امرأته كلامه فخرجت وقالت هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه، وأنا حامل به فاعتنقا جميعاً. قال سوار بن عبد اللّه: ما رأيت أحداً أعلم من ربيعة الرأي قيل ولا الحسن وابن سيرين؟ قال: ولا الحسن وابن سيرين، وقال مالك ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي، وكانت وفاته في سنة (136 هـ ) بالهاشمية ودفن هناك، وقيل سنة (133هـ ) .

(140) شرح الموطأ للزرقاني ج1 ص8 .

(141) الانتقاء  ج2 ص42.

(142) طبقات الفقهاء لابن إسحاق ص43 .

(143) الإمام مالك بن أنس: عبد الغني الدقر ص281 .

(144) هو أبو محمد يحيى بن يحيى الأندلسي ويعرف بابن عيسى، سمع مالك بن أنس وجمع مسائله، وكتب سماع بن القاسم عن مالك ثم انصرف إلى المدينة ليسمعه من مالك فوجده عليلاً فأقام بالمدينة إلى أن توفي مالك وقدم إلى الأندلس وخالف مالكاً في كثير من المسائل، قال أحمد بن خالد: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما اُعطيه يحيى بن يحيى توفي سنة (233 هـ ).

(145) ابن خلكان ج2 ص116 .

(146) انظر رسالة الانصاف للدهلوي ص37 ـ 38 .

(147) مقدمة تاريخ ابن خلدون ج1 ص566 .

(148) أحسن التقاسيم ج1 ص37 .

(149) الجامع لابن عبد البر ج2 ص132 .

(150) ملخص أبطال القياس والرأي لابن حزم ص66 .

(151) المجموع ج1 ص673 .

(152) مجموعة فتاوى لابن تيمية ج2 ص212 .

(153) الحوادث الجامعة ص216 .

(154) الخطط للمقريزي ج4 ص167 .

(155) انظر تاريخ الإسلام ج4 ص606 ـ 608 .

(156) هو أبو جعفر منصور بن الظاهر ولد سنة (588 هـ  ) وبويع له سنة (623 هـ ) وتوفي سنة (640 هـ ) .

(157) كنز العمال ج12 ص25 /23809.

(158) التمدن الإسلامي ج1 ص109 .

(159) شذرات الذهب ج6 ص213 .

(160) مرآة الجنان ج4 ص34 .

(161) شذرات الذهب ج5 ص267 .

(162) الاجتهاد ومقتضيات العصر ص152 .

(163) طائفة الإسماعيلية ص10 .

(164) تهذيب التهذيب ج10 ص8 /6723.

(165) المجموع ج1 ص673.

(166) ملخص إبطال القياس والرأي لابن حزم ص 66.

(167) تلبيس ابليس ص65، اُنظر موسوعة أقوال الإمام أحمد ج1 ص8 ، أعلام الموقعين ج4 ص206 . مجموعة فتاوى لابن تيمية ص20 و 212.

(168) الفتوحات المكّية ج2 ص164 .

(169) الاجتهاد ومقتضيات العصر ص174 .

(170) جلاء العينين للآلوسي ص107.

(171) جلاء العينين للآلوسي ص107.

(172) اُنظر أعلام الموقعين ج4 ص261 ـ 263. اُنظر الاجتهاد ومقتضيات العصر ص173.

(173) تلبيس ابليس لابن الجوزي ص81 .

(174) رسالة القول السديد ص3.

(175) رسالة الإنصاف ص37 .

(176) انظر دائرة المعارف لفريد وجدي ج3 ص248.

(177) انظر الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي ص305.

(178) ميدان الاجتهاد ص14.

(179) الاعتصام ج3 ص259.

(180) خاطرات جمال الدين ص 177.

(181) الفلسفة السياسية للإسلام ص21.

(182) النواة في حقل الحياة ص136.

(183) الوحدة الإسلامية للسيد محمد رشيد رضا ص112 .

(184) رسالة الأنصاف للدهلوي ص 7.

(185) أشد الجهاد لمدعي الاجتهاد ص25.

(186) تاريخ بغداد ج1 ص464 .

(187) جمع الجوامع ج2 ص379، تشنيف المسامع ج4 ص563 .

(188) تشنيف المسامع ج4 ص566 .

(189) جمع الجوامع ج2 ص383 ـ 385.

(190) تشنيف المسامع ج4  ص608 ـ 609.

(191)  الفتوحات المكية ج2 ص165 .

(192) شرح الكوكب ج4 ص571 .