المذهب الجعفري نشأتـه وعوامـل انتشـاره

المذهب الجعفري

نشأتـه وعوامـل انتشـاره

 

مذهب أهل البيت(عليهم السلام)

هو مذهب أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهو أقدم المذاهب نشأة وأقواها عاملاً، يستمدّ تعاليمه من الينبوع الإسلامي الفياض: القرآن الكريم وسنّة نبيّه، وقد غرس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذرته ووجّه الناس إليه بتعاليمه وارشاداته، وعمل به في زمن الصحابة، وقام بنشره جماعة منهم، كأبي ذر الغفاري، وسلمان والمقداد، وعمار بن ياسر وغيرهم كما يأتي بيانه.

واختصاصه بالإمام الصادق(عليه السلام) للأسباب التي مرّ ذكرها عند حصول تلك الفترة بين شيخوخة الدولة الاُموية، وطفولة الدولة العباسية، وفيها اتسع المجال للإمام الصادق(عليه السلام)لنشر العلم وبثّ الأحكام الإلهيّة، ونشر التعاليم النبوّية التي استقاها عن أبيه عن جده عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، عند رفع تلك الرقابة التي جعلها الاُمويون للحيلولة بين الاُمّة وبين أهل البيت(عليهم السلام)، فاشتهر في ذلك العصر ذكر جعفر بن محمد واتّسعت أمامه حرّية القول، وحرّية النقض والابرام في شأن الحقائق الدينية من جهة، والمشتبهات والموضوعات على غير أساس صحيح من الأحاديث والسنة من جهة اُخرى، وازدحم طلاب العلم على أبواب مدرسته، وكثرت الهجرة إليها، فنسب المذهب إليه في عهد ازدهار العلم، لأنّ كلّ ماذهب الإمام الصادق(عليه السلام) إلى تصويبه والوثوق بصحته من الأحكام أصبح بجملته يسمّى «مذهب جعفر الصادق(عليه السلام)».

ولم يكن المذهب الجعفري كسائر المذاهب الإسلامية في تطور نشأته وعوامل انتشاره، بل امتاز باستقلاله عن مقومات المادة ومؤازرة السلطة، واستطاع بمؤهلاته الذاتية اخضاع الزمن، واجتياز العقبات التي تقف في طريق نشره.

ولولا فيض من القدسية في مبادئه، وقوة روحية في تعاليمه، وعناية قبل كل شيء من الخالق الحكيم رحمة بهذا الخلق المتعوس، لقضت عليه السلطات بمحاولتها القضاء عليه، ولكن ذهبت تلك المحاولات ضد المذهب دون جدوى، فكان نصيبها الفشل ونصيبه النجاح.

وقد اتّضح لنا بالبحث عن المذاهب الإسلامية ودراساتنا للظروف التي تكوّنت فيها، والعوامل الرئيسية لنشر البعض وخمول البعض الآخر، إنّما هو لتدخل السلطة التنفيذية، فقد أخذت على عاتقها نشر ما ترتضيه منها، ومعارضة المذهب الذي لايروق لها نشره، وكانت الأسباب التي أدّت إلى محو تلك المذاهب البائدة بعد شهرتها بين المسلمين هي عدم المؤازرة والترغيب من قبل الدولة، كما مرّت الاشارة إليه.

العداء لأهل البيت(عليهم السلام)

أمّا مذهب أهل البيت(عليهم السلام) فقد بذلت السلطات كلّ امكانياتها لعرقلة نشره واتساع دائرة اتباعه، وكان لكلّ دولة غايات تعمل على تحقيقها في مقابلة أهل البيت(عليهم السلام)، والوقوف في طريق انتشار مذهبهم في البلاد الإسلامية، أما الدولة الاُموية فكانت مدفوعة للمعارضة باُمور ثلاثة:

1 ـ العداء للبيت النبويّ عداءً ذاتياً متأصلاً، توارثه الأبناء عن الآباء ولم يغير الإسلام من وجهة نظرهم هذه أي شيء، بل يزداد حقدهم كلما زاد انتشار الإسلام بالصورة التي أرغمتهم على الدخول فيه استسلاماً لقوّته.

2 ـ إنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بانتشاره في عهدهم وعدم معارضتهم له، معناه الضربة القاضية على الدولة، للتفاوت العظيم بين سياسة أهل البيت(عليهم السلام)وسياسة الاُمويين في اشاعة العدل والمساواة بين الطبقات، ونشر التعاليم الإسلامية.

3 ـ إنّهم بدون شك لا يجهلون أنفسهم ومؤهلاتها للخلافة الإسلامية، ويعرفون الاُمّة واتجاه أنظارها لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا توجد أي نسبة بين الاُمويين وبين أهل البيت(عليهم السلام)، فإذا تركوا الاُمور تسير بمجراها الطبيعي يوشك أن يتأخر فوز الاُمويين بالخلافة : «حتى يلج الجمل في سمّ الخياط» وهم يعلمون هذا فاتخذوا تلك التدابير لنجاح أمرهم، وإن كان في ذلك تأخّر المسلمين عن التقدم السريع حيناً من الدهر.

معارضة معاوية

وعلي أيّ حال، فقد واجه محبّو عليّ(عليه السلام) وأنصاره في عهد معاوية أنواع الأذى وضروب المحن، وقد استعمل شتّى الوسائل في معاقبتهم ومنع الناس من الرواية عن عليّ(عليه السلام) فكان المحدثون يكنّون عنه بأبي زينب خشية العقوبة من التصريح باسمه(عليه السلام).

ويصوّر لنا اهتمام معاوية في محو ذكر علي(عليه السلام) ولاية زياد على الكوفة، وتتبعه لشيعة علي(عليه السلام) تحت كلّ حجر ومدر، حتى حملهم على البراءة من عليّ(عليه السلام)، ولنا في قتل حجربن عدي وأصحابه رحمهم اللّه أكبر دليل على ذلك ،كما سنبيّنه قريباً.

ولا نطيل الحديث حول الجهود التي بذلها معاوية في الوصول لتلك الغاية، ولكنها أتعاب لم تثمر الفائدة التي كان يسعى لتحصيلها.

فقد انتشر مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في عاصمة الاُمويين على عهده وازداد انتشاره على ممرّ العصور، وإنّ أوّل من نشر المذهب في الديار الشامية هو الصحابي الجليل أبو  ذرّالغفاري، فقد قام بدوره في نشر تعاليم الإسلام، واظهار الانكار على معاوية لسوء سيرته، وتصرفه باُمور الاُمّة بما لا يتفق ونظم الإسلام، فاستغاث معاوية بالخليفة عثمان لإخراج أبي ذرّ من الشام ليصفو له الجو، فكان نصيب أبي ذرّ التبعيد عن دار الهجرة، وموته وحيداً بالربذة.

ولم يقض معاوية على تلك الحركة الاصلاحية التي قام بها أبو ذرّ، بل توسّعت بصورة أرغمته على إثارة العصبية بين القبائل، وبثّ روح التفرقة بين الناس، وبذل كلّ ما في وسعه في مقابلة علي وأنصاره كما تقدّم.

وتقف الكوفة ـ التي هي أهمّ مراكز الإسلام ويعترف الاُمويون بخطرها على الدولة ـ موقف المعارضة والإنكار للأوضاع الشاذة التي ارتكبها ولاة الأمر، ويترأس المعارضة الصحابي الجليل حجر بن  عدي وخلصاء أصحابه، فقاموا يطالبون بالحقّ، وينتصرون للعدل، ويتألّمون لهجر تعاليم الإسلام والخروج على نظامه المقدّس، وينبّهون الاُمويين على تلك الأخطاء التي ارتكبوها، والمخالفة لأحكام الإسلام بصورة واضحة بما لا مجال للدفاع عنهم.

فكان موقف اُمراء الاُمويين في الكوفة كالمغيرة بن شعبة موقف تريث وتأنيب واستعمال طرق الاقناع لزعماء هذه الحركة عسى أن يتحوّلوا عن هذا الرأي، ويسالموا معاوية ويكونوا في جملة المؤيدين لسياسته، ولكن الأمر يزداد شدة يوماً بعد يوم، ويكثر الناقمون وبالأخص عندما أعلن الوالي زياد بن سمية على المنبر إلزام الناس بالبراءة من علي(عليه السلام) وشتمه، وهم يرون أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) هو بطل الإسلام وناشر دعوته، وأنّه أقرب الناس إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وأشدّهم تمسكاً بسيرته وإحياء سنته.

ولما ولي زياد الكوفة استقر رأيه ورأي معاوية على الوقيعة بهم، فزوروا شهوداً ـ وما أكثرهم في ذلك العهد ـ من الذين استخدمهم معاوية بصلاته فشهدوا على حجر(67) وأصحابه بما يستطيعون أن يردوا بعض الإنكار عنهم، فكانت خاتمة مطاف حياتهم في مرج عذراء بتلك الصورة المؤلمة.

*   *   *

لقيت الاُمة في سبيل الانتصار للحقّ والانضمام لجانب أهل البيت(عليهم السلام)وهم أهله، أنواع العذاب.

أمّا أهل البيت أنفسهم فكانوا في الدور الاُموي ـ دور الإرهاب والظلم يلاقون المصائب على أيدي تلك الفئة التي تضمر العداء لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحاول القضاء عليهم بكلّ وسيلة.

وتزلّف الناس إليهم، بالعداء لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتطوّع آخرون بضرب الأحاديث المكذوبة على صاحب الرسالة، استجابة لاقتراح معاوية، واتباعاً لأوامره التي أصدرها بلاطه الجائر، فكانت هناك مجموعة أحاديث كلّفت بيت المال مئات الآلاف من الدنانير، وقليلاً ما يبذلون، فإنّ اُولئك الدجالين يبيعونهم دينهم، وأنّهم يريدون أن يجعلوا من الفأرة جملاً، ويحاولون إدخال الأسد في البيضة.

يريدون أن يجعلوا ممّن حارب الإسلام هو وأبوه من قبل شخصية تعترف الاُمّة الإسلامية بأنها شخصية روحانية طاهرة مطهّرة، تمنحه الاُمة ثقتها، وتنقاد له بدافع العقيدة، وهذا أمر لا يكون.

إنّهم يريدون أن يجعلوا لمعاوية حقّ وراثة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتولي سلطانه وهو عدوّه الألد، إنّهم يريدون أن يجعلوا من أبي سفيان شخصية إسلامية تتفانى في نصرة الدين، وهو لا يجهل أحد حاله.

ومن هذا وذاك فإنّ قبول مثل هذه الاُمور تحتاج إلى قوّة تسيطر على العقل، وتطفئ شعلته، ولا يستبعد ما للمال من عوامل مؤثرة، فهي في الواقع أقوى من السيف، ولذلك أصبحت لتلك المفتريات أثرها، وطابعها الخاص، وإذا بمعاوية تحاك له أحاديث المدح، فيصبح أمين هذه الاُمّة وخصماً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) حتى عد عليّ(عليه السلام)ذلك من أعظم مصائبه، فقال: أنزلني الدهر حتى قيل علي ومعاوية(68)، وأصبح أبو سفيان بمقتضى تلك الأوضاع المقلوبة مسلماً صحابياً له مكانته ومناقبه.

وأبو طالب مؤمن قريش وناصر الإسلام الأوّل، وحامي دعوته ومن بذل جهده لنصرة دعوة الحقّ، وتفانيه بالدفاع عن محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بدافع العقيدة والعاطفة وموجات الحقّ تردد أناشيده وترسمها على لوحة الخلود:

ولقد علمت بأنّ دين محمد *** من خير أديان البرية دينا(69)

وساند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته وبذل أقصى جهده في حمايته، وأعزّ اللّه جانبه فيه، وألجم أعداءه عن مقابلته، يُسمى كافراً ولا ينطق بشهادة أن لا إلـه إلاّ اللّه، وتذهب أتعابه سدى وتسند إليه كلمة الكفر؟ ! وما ذلك إلاّ رغبة لنوال من لا رغبة له إلاّ أن ينال من علي(عليه السلام)، ويحاول أن يخمل ذكره، ولا ترضى نفس ابن أبي سفيان ان تكون لعليّ تلك السلسلة الطاهرة التي لم تنجسها الجاهلية بأرجاسها، وهو والرسول الأعظم ركيضا رحم ورضيعا لبن.

ومعاوية أعلم بنفسه من هو وابن من، ولكنّه تمكّن بمكره وخداعه، وجلب ما استطاع بخيله ورجله، في تركيز هذه الفكرة.

وما ذنب أبي طالب ولم  يبق في كنانته سهماً إلاّ رماه في نصرة الدين، ولكن عليّاً هو سبب تلك المؤخذات  المفتعلة على أبي طالب، وما ذنب علي(عليه السلام) إلاّ أنّه على الحقّ ومعاوية على الباطل ، فعداء معاوية لعلي عداوة جوهرية يستحيل تحويلها; هي عداوة الشر للخير والخبيث للطيب والباطل للحقّ والكفر للإيمان.

وإلاّ فأبو طالب في الخصال والخلق مثال للحنيفية وتجسيد لقيم إبراهيم الخليل. وأبوسفيان في الخصال مجمع للنقائص التي جاء الإسلام ليحاربها، وفي الخلق انعكاس لمجتمع الجاهلية الذي يرتكس في الضلال والغواية.

ولذا أقام معاوية سياسته على النيل من مكانة الإمام علي، واستخدم الوسائل الدينية التي يتّبعها والتي ينفذ من خلالها الى أذهان العامة فعبّر عن عداء دنيء وأخذ بجعل سمة ملكه وعنوان دينه لعن الإمام العادل، وقد وضع لها مكاناً في التاريخ الذي ينوي إقامته لبني اُمية في الشام، فصرّح أن ستكون هذه السياسة العدائية يشبّ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، وقد تمكّن من نفوس أهل الشام خلال حكمه وحكم أخيه من قبل «وبلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّى بهم عند مسيرهم الى صفّين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها... ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته الى أن جعلوا لعن علي سنّة، ينشأ عليها الصغير، ويهلك عليها الكبير»(70).

وكتب الى عماله بهذه السياسة. وكان همه أن يجري اللعن من على المنبر النبويّ الشريف، وكتبت اُمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الى معاوية: إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله... ويروي ابن عبد ربّه أنّ بعض العلماء قال لولده: يا بنيّ إنّ الدنيا لم تبنِ شيئاً إلاّ هدّمه الدين، وإن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا، ألاترى أنّ قوماً لعنوا علياً ليخفضوا منه، فكأنّما أخذوا بناصيته جراً الى السماء(71).

بذرة التشيّع ونموّها

ومهما يكن من أمر فقد نشأ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتكوّن في عهد صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو أوّل(72) من وضع بذرة التشيّع في حقل الإسلام، يوم غرس دوحة شريعته الغراء جنباً إلى جنب وسواء بسواء، ولم يزل غارسها(صلى الله عليه وآله وسلم)يتعاهدها بالسقي والعناية حتى ثبتت ونمت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته، حيث كان يتعاهدها أهل بيته وخلّص أصحابه، وقد قام كلّ بما يجب عليه من رعايتها، وتحمل من نكبات واضطهاد في سبيل حفظها من تلك السلطات التي كانت تحاول القضاء عليها لمحو ذكر آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد وقفوا أمام تلك التيارات وقفة اخلاص وإيمان وثبات على مبدأ الحقّ، ولم يأبهوا يوماً ما إلى سلطة أو سياسة، ومرّت تلك الأدوار العصيبة المظلمة، ولم يزل ذلك الغرس ثابت الجذور نامي الفروع، يسقى من ماء غير آسن، حتى أفرعت دوحته وامتدّت أغصانه وأينع ثمره بحفيد النبيّ الكريم ووارث علمه الإمام  جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام).

كان الإمام الصادق(عليه السلام) مهتمّاً في تلك الفترة المارّة الذكر ببثّ العلوم ونشر المعارف الإسلامية بين طبقات المجتمع، فأقبل الناس على مدرسته وازدحموا على أبوابها ينتهلون من علومه، ويقتبسون من أنوار معارفه، وأقبلت وفود طلاب العلم من الأقطار الإسلامية، حتى أصبح عدد تلاميذه والمنتمين إلى مدرسته أربعة آلاف، منهم أئمة مذاهب كأبي حنيفة، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وابن عيينة ، والأعمش، وغيرهم، وكذلك منهم رؤساء طوائف وأعلام الحديث والفقه(73) .

وكثر التأليف في عصره، ودوّن فقه أهل البيت وحديثهم بصورة واسعة، حتى اُحصي ما دوّنوه في عصره، فكان أربعمائة مؤلّف لأربعمائة مؤلّف ممّن سمعوا الحديث منه، فدوّنوه وعرفت بالاُصول الأربعمائة، وستأتي الإشارة لذلك عند ذكر تدوين الفقه الجعفري.

وبالجملة فإنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) هو أقدم المذاهب، وقد تخطّى في العصر الاُموي تلك العقبات التي حاول الاُمويون بها أن يعرقلوا سيره، ويقفوا في طريق انتشاره، وسيأتي بيان مقاومة العباسيين له، ومعارضتهم لانتشاره.

أخطاء تاريخية لابن خلدون

وأودّ هنا أن أعود للإشارة عمّا تجنّاه ابن خلدون على الحقائق التاريخية إذ يصف هذا المذهب بالبدعة حيث يقول في مقدمته: وشذّ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به(74).

وليس من الغريب صدور مثل هذا القول من رجل كان يحقد على العرب ويضمر لهم كل سوء، وليس ببعيد تحامله على سادة أهل البيت(عليهم السلام) وأئمة المسلمين فهو يتعصب عليهم، ويتجاهل مكانتهم، هذا مع جهله بمذهبهم فإنّه لم يقرأ كتب المذهب وإنّما قرأ كتب الخصم، ولم يتصل بزعمائه، وإنّما اتصل بأعدائه، فراق له ما سمع من قالة السوء، واستعذب ما قرأ في كتب المناوئين لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وشيعتهم .

ولعلّ هالة الاكبار والتقدير لابن خلدون التي أحاطت بشخصيته من قبل بعض الكتاب أبعدتهم عن الوقوف على شخصية هذا الرجل بواقعها، والتعرف على ما تضمنته من أخطاء ومخالفات للحقيقة.

ولقد رأينا دوماً أنّ ابن خلدون موضع إجلال أكثر الباحثين والكتاب ، سيراً على طريقة السلف، وبرغم ما تضمنته مقدمته من علوم في الاجتماع والعمران، إلاّ أنّ ذلك لا يبيح لنا أن نتغاضى عن مواقف وقفها تجاه العرب وحضارتهم، فيجرّدهم من ذلك ويسلبهم فضائلهم فيصفهم بأنّهم اُمّة متوحشة، وهم أهل نهب وعبث، بل هم أداة خراب للأوطان التي يتغلبون عليها إلى غير ذلك ممّا يدلّنا بكلّ وضوح على  تعصّبه أو تجاهله، كما يصفه لنا الاُستاذ موسى سلامة بقوله:

والخطأ البارز في ابن خلدون هو تنقصه حضارة العرب، فإنّه هنا أعمى كامل العمى، لا يرى بصيصاً من نور... ، هذا مع  أني أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية، فإنّه مثلاً خان معظم الاُمراء والملوك الذين خدمهم، ثمّ إنّه سرق كلّ ما كتبه إخوان الصفا وعزاه إلى نفسه، انتهى .

ولا أدل على تجاهله أو تحامله من كلمته هذه في مذهب أهل البيت(عليهم السلام)ووصفه لهم بالشذوذ.

ولو كان له قليلاً من التأمل; لما قال هذا القول الذي لم يتوصل إليه بالنتائج العلميّة، وهذه الكلمة هي التي بعثتنا على خوض غمرات البحث والتعرّف على المذاهب، وعوامل انتشارها، وأسرار نجاح المذاهب الأربعة وأسباب خلودها دون غيرها من مذاهب المسلمين، فاتّضح لنا أنّ ذلك مستند إلى دواعي السلطة، واغراء المادة، التي من أجلها نسي ابن خلدون نفسه، فجرى قلمه بظلم الحقّ والحقيقة.

ولا يستبعد ذلك من إنسان تربّع على دست قضاء دولة لا ترغب في اظهار فضل آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) اُسوة بأخواتها التي سارت على ذلك من قبل، فهو عبد لسلطانه ، وأسير لشيطانه.

ومهما كانت مكانته التي احتلها من علم الاجتماع المعاصر أو غيره من العلوم فإنّ رأي ابن خلدون هذا لا ينبعث إلاّ عن جهل، أو عقل أعمى لا يبصر الحقائق، وأسوأ ألوان الجهل جهل مواقف آل محمد في الدفاع عن الإسلام، وتفانيهم في نشر تعاليمه وتعليم الناس أحكام الإسلام وفرائضه، ومحاربة ذوي العقائد الفاسدة، وقيامهم بتعليم الاُمة مستمدّين من الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)بما لا مجال للشك في ذلك، ولكن ابن خلدون لتحامله نقل كثيراً من الأشياء مبتعداً عن طريق الواقع، وقد صبّها في قالب رغباته، وتساهل في إبداء الحقيقة، وجعلها في طيّات الخفاء والكتمان.

وابن خلدون إذا كان أسير عقدة تتحكّم فيه وتقضّ مضجعه ساع الى السلطة وباحث عن المجد لا يهدأ عن سعيه في سبيل الحكم والانضمام الى السلاطين، فكيف له أن يحتلّ موقعاً لدى الملوك وسلاطين الزمن إذا ترك لعقله الحرية ولنفسه الخيار في قول الحق (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ)(75). وكيف يمكن أن يخالف مذهب الحكّام ويعمل على استخلاص الحقيقة، وبحث دوافع العداء لأهل البيت(عليهم السلام) ؟ فهو في نظر علم الاجتماع نتاج بيئة ومحيط فبقي كما نشأ! ولكن العالم من ينتزع نفسه ويخلصها ممّا يراه قاهر التأثير وجبريّ النتيجة ليستطيع أن يقدّم للناس مادة علمه بتجرد، وتكون نظرته بالغة الوضوح تحمل شواهد صحتها. ذلك في مقابل النظرة العصرية لابن خلدون ومكانته في علم الاجتماع اليوم.

أمّا النظر الى ابن خلدون  من خلال الواقع والحكم عليه من حقائق سيرته ووقائع تأريخه، فهو من رجال العصور الذين أذعنوا للحكام وشاركوهم وساندوهم في محاربة أهل البيت أو الغض من مكانتهم والنيل منهم، ولقد كان ذلك سبيل من طمع في متاع الدنيا وعطاء الحكام فحسب، فكيف والحال مع ابن خلدون وهو يجوب الأقطار من أجل رغبته في الحكم نفسه؟!

المذهب الجعفري والدولة العباسية

كانت سيطرة الطبقة الحاكمة تلجئ المفكّرين إلى كبت الشعور، وتلجم الألسن عن قول الحقّ، ومن التجأ إلى المعارضة فقد عرض نفسه إلى السخط وجعلها هدفاً للنقمة، وبذلك ضاعت أكثر الحقائق ، وأثّرت تلك السيطرة على سير المسلمين وتقدّمهم لعدم الحرية في الرأي والعقيدة، ولولا ذلك لما حدثت تلك الحوادث التي أخّرت المسلمين.

لقد كان اُولئك الحكام يعمدون دائماً إلى خلق مشكلات يفرقون بها كلمة الاُمّة، ويثيرون الشحناء ويشغلون الأفكار، لاستخدام الأكثر لمصالحهم الذاتية، وقد أجهدوا أنفسهم في ربط العقائد في دستورهم الذي يتمشى مع رغباتهم، وإنّ أهمّ مشكلة في تاريخ الإسلام هي مشكلة الخلافة أو الاعتقاد بالإمامة بأنّه منصب إلهي كالنبوّة، فكما أنّ اللّه سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، ويؤيّده بالمعجزة التي هي كنصٍّ من اللّه عليه، فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيّه بالنصّ عليه، فالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مبلّغ عن اللّه، والإمام مبلّغ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

والشيعة تعتقد أنّ تلك المنزلة لم تحصل إلا لعلي وولده والإمامة متسلسلة في اثني عشر إماماً، كما نصّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك. ولا ترى تلك الخلافة الإلهية لغير عليّ وبنيه(عليهم السلام)، ولا يسعنا التعرّض لبحث الإمامة ولكنّا نريد الإشارة بهذه العجالة إلى الادوار التاريخية التي سار فيها شيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)في المحافظة على وصايا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من التمسك بالكتاب والعترة.

وقد قام أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر تلك الدعوة في الصدر الأوّل وتحملوا ما تحملوا في سبيل ذلك، ومرّ ذكر الدور الاُموي وما لقي فيه آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وشيعتهم من الاضطهاد والمحنة فلا نتعرض للبيان بأكثر من ذلك.

وكان من نتائج تلك الحركة الفكرية الواسعة النطاق والنهضة العلمية التي ازدهرت في عصر الإمام الصادق(عليه السلام)، هو انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في الأقطار الإسلامية.

وكانت الدولة العباسية في طفولتها تعارض حركة انتشار المذهب من وراء الستار، إذ ليس في إمكانها التظاهر في المعارضة، لأنّهم في حاجة ملحة لاستمالة أعيان أهل البيت(عليهم السلام) والاستعانة بزعماء الشيعة لتثبيت أركان الدولة.

ولم يكن هناك شهرة لأحد سوى الإمام الصادق(صلى الله عليه وآله وسلم) والتاريخ يدلّنا بوضوح على ذلك.

أما مالك بن أنس فقد كان في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) كأحد رجال المدينة، ولم ينتشر ذكره إلاّ بعد سنة (148 هـ ) وهي سنة وفاة الإمام الصادق(عليه السلام) وكان ضربه بالسياط وإهانته في سنة (146 هـ ) أي قبل وفاة الإمام الصادق بأقلّ من سنتين، وبعد سنة (148 هـ ) وجّه المنصور نظره نحو مالك وأمره أن يضع كتاباً يحمل الناس عليه ويوزّع نسخاً في الامصار ولا يكون غيره.

وكان غرض المنصور من ذلك هو معارضة انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، لأنّه يثقل عليه تخليد ذكر جعفر بن محمد(عليه السلام) وقيام ولده الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) بعده والتفاف الناس حوله حتّى لقّبوه بالعالم، وهو هو في زهده وورعه وعلمه.

لم يغب عن مالك مغزى هذا التكليف فأجابه: يا أمير المؤمنين لا تفعل; أمّا هذا الصقع فقد كفيتكه، وأمّا الشام ففيه الرجل الذي علمته ـ يعني الأوزاعي ـ وأما أهل العراق فهم أهل العراق(76).

فكان المنصور يشدّ أزر الأوزاعي ويراسله ويلحظ مالكاً ويواصله حتى ازدحم الناس على باب داره التي أصبحت كأبواب دور الملوك، وبذل جهده بالانتصار إلى أهل الرأي وهو يأمل من وراء ذلك كلّه تغليب مذهبه على مبادئ أهل البيت، ولما أشتدّ جانب الدولة وقوي ساعدها، أظهر المنصور ما كان يضمره، فأعلن مقاومة أهل البيت ومعارضة انتشار مذهبهم، وشدّد النكير على أهله.

معارضة المنصور والرشيد للمذهب

وكان المنصور يأمل بالإمام أبي حنيفة عندما رعاه بعنايته ونصره وقدّمه على كثير من الفقهاء أن يوجد منه شخصية علمية تقف أمام انتشار مذهب جعفر بن محمد(عليه السلام) ولكنه قد خاب أمله، فهذا الإمام أبو حنيفة يصرح للملأ بأنه ما رأى أعلم من جعفر بن محمد(عليه السلام)وأنه أعلم الاُمة(77).

وسأله رجل يوماً عن رجل وقف ماله للإمام فمن يكون المستحق؟ فأجاب أبو حنيفة: المستحق هو جعفر الصادق لأنّه هو الإمام الحقّ(78).

وذهبت تلك المحاولات فاشلة، ولم يزل المذهب الجعفري يتّسع في الاقطار وينتشر في العواصم، وكثر أتباعه رغم تلك المحاولات والخطط التي خطها المنصور ومن بعده المهدي والهادي والرشيد، وقد بذل الرشيد كلّ ما في وسعه من تحويل أنظار الناس عن آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأظهر تعظيم مالك بن أنس، فكان يجلس بين يديه تأدّباً يتعلم منه العلم، ويأمر أولاده وخواصه باحترامه.

وكان يقرّب الفقهاء وينظر إلى الشافعي نظر عطف وحنان لأنّه قرشي، وأرسله إلى مصر صحبة الوالي، وأمره باحترامه وإكرامه، وتقريب أصحابه وأعطاه سهم ذي القربى.

فيما عامل أهل البيت(عليهم السلام) بالشدة والقسوة، من تتبع أنصارهم، والقضاء على من أتهمه في موالاتهم، حتى ثقل عليه أن يكون علي بن أبي طالب(عليه السلام)رابع الخلفاء، فحاول أن ينفي ذلك ويعاقب من يثبته.

قال أبو معاوية: دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا معاوية هممت بمن أثبت خلافة عليّ فعلت به وفعلت، قال أبو معاوية: فسكت فقال لي: تكلم. قلت: إن أذنت لي تكلّمت. قال: تكلّم.

فقلت: يا أمير المؤمنين، قالت تيم: منا خليفة رسول اللّه. وقالت عدي: منا خليفة رسول اللّه. وقالت بنو اُمية: منا خليفة الخلفاء، فأين حظّـكم يا بني هاشم من الخلافة؟ واللّه ما حظّـكم إلاّ ابن أبي طالب(79)، وبهذا استطاع أبو معاوية ان يصرف الرشيد عن رأيه.

واستعمل في معاملة أهل البيت(عليهم السلام) مالا يستعمله أحد وفيه صبابة من الرحمة، لقد سجن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) وهو عالم عصره، ومن له السلطة الروحية وضيّق عليه حتى قتله بالسمّ، وبذلك أنزل بالمسلمين خسارة فادحة إذ لم يتهيأ لهم الاتصال بالإمام والأخذ من علومه وآرائه إلاّ في مدة قليلة، وتتبع بقية أهل البيت وشيعتهم، وطلبهم تحت كل حجر ومدر، وكان بحكم السياسة العمياء التي لا تعرف إلاّ غايتها، ولا تفرق بين الحق والباطل، ولا ترى سوى السيطرة على الناس بأيّ طريق وبأي نوع كان، فإنّه قد حمل الناس على العداء لآل محمد، وحاول قلع بذرة حبّهم التي غرسها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسقاها بماء غديره العذب، تلك البذرة الطيبة التي أينعت فأثمرت وجنى ثمرها رجال العلم، وصلحاء الاُمّة، رغم تلك المحاولات والجهود الجبّارة التي بذلها العباسيون، وهم يطلبون من وراء ذلك استقرار ملكهم بالوراثة الشرعية، بادعائهم الخلافة دون آل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

دخل شريك القاضي على المهدي. فقال له المهدي: ما ينبغي أن تقلد الحكم بين المسلمين، قال: ولم؟

قال: لخلافك على الجماعة، وقولك بالإمامة.

فقال شريك: أما قولك بخلافك على الجماعة، فعن الجماعة أخذت ديني فكيف أخالفهم وهم أصلي في ديني؟ وأما قولك بالإمامة، ما أعرف إلاّ كتاب اللّه وسنة رسوله، وأما قولك: مثلك ما يقلد في الحكم فهذا شيء أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ فاستغفروا اللّه منه. وإن كان صواباً فامسكوا عليه.

قال المهدي: ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

قال : ما قال فيه جدّك العباس وعبد اللّه، قال: وما قالا فيه؟

قال: فأمّا العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وكان يرى كبراء المسلمين يسألونه عمّا ينزل من النوازل، وما احتاج هو(عليه السلام) إلى أحد حتى لحق باللّه. وأمّا عبد اللّه فإنّه كان يضرب بين يديه بسيفين، وكان في حروبه سيفاً منيعاً وقائداً مطاعاً، فلو كانت إمامته على جور، كان أوّل من يقعد عنها أبوك لعلمه وفقهه في أحكام اللّه، فسكت المهدي ولم يمض بعد هذا المجلس إلاّ قليلاً حتى عزل شريكاً(80).

تغلب المذهب الجعفري

وعلى أيّ حال فقد تغلّب المذهب الجعفري على سائر الأقطار الإسلامية، فكانت له في بغداد من القوة والنشاط ما استطاع أن يقاوم الدولة التي ما برحت تطارد الشيعة وتناصر خصومهم، ولكنّهم ثبتوا في وجه الطغيان بكلّ ثبات، وأقاموا شعائرهم الدينية بدون خفاء وتكتّم، وكانت الدولة تعد هذا التظاهر تهديداً لها وخطراً عليها.

وفي أيام المأمون كانت الغلبة للمذهب الجعفري في جميع الأقطار بل امتدّت دعوة التشيع إلى رجال الدولة أنفسهم، فكان منهم الوزراء والاُمراء وقوّاد الجيش والكتاب، ورؤساء الدواوين، الأمر الذي دعا المأمون إلى التظاهر بالتشيّع، والميل إلى العلويين، لأنّه خشي على زوال ملكه فدعا الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إلى البيعة، والتنازل عن العرش، ولكنّ الإمام ردّ هذه الدعوة علماً منه بأنّها مفتعلة، ولكنه تفادى إيقاع نفسه في التهلكة بقبول ولاية العهد قبولاً شكلياً لا أكثر ولا أقل.

وقبل ولاية العهد بعد أخذ ورد، وأكثر المأمون عقد المجالس للمناظرة في الإمامة، وقد نجح بما دبّره في سياسته ودهائه، إذ استمال قلوب الشيعة وأمن ثورة العلويين المتوقعة، وفاخر علماء الأديان الاُخرى بالرضى وعلوم الرضا(عليه السلام).

وفي أيام المعتصم التجأ الشيعة إلى التكتم نوعاً ما، ولكنّا نراهم يخرجون على الدولة بعدّة كاملة، وقوّة لم تستطع الدولة معارضتها، وذلك عندما استخرجوا جنازة الإمام الجواد(عليه السلام) في سنة (220 هـ ) عندما حاول دفنه سرّاً، ولم يسمح لأحد فى تشييعه، ولكنّ الشيعة خرجوا بذلك الموكب المهيب الذي يربو عددهم على اثني عشر ألف والسيوف على عواتقهم، فشيّعوا جنازة الإمام رغم معارضة السلطة.

قوة المعارضة أيام المتوكل

واشتدّ الأمر وعظمت المحنة في أيام المتوكل العباسي، فكان بغض الإمام عليّ وشيعته يأكل قلبه كما تأكل النار يابس الحطب، وكان لا يذوق طعم الراحة ولعليّ(عليه السلام) ذكر في الوجود، ولشيعته مجتمع زاهر بالعلم محتفظ بكرامته، مستقل بمواهبه، منفصل عن الدولة، وقد تتبّع العلويين وحطّ من كرامة أهل البيت(عليهم السلام)ولم يسمح لأيّ أحد أن يذكرهم بخير.

ويدلّنا على  شدة بغضه وتحامله أنّ نصر بن علي الجهضمي حدّث بحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، أنّه أخذ بيد الحسن والحسين وقال: من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة ، فأمر المتوكل بضربه ألف سوط إلى أن كلّمه جعفر بن عبد الواحد بأنّ نصراً لم يكن شيعياً وإنّما هو من أهل السنّة، فضرب خمسمائة سوط وعفى عن الباقي(81).

ويحدّثنا المقريزي: أنّ يزيد بن عبد اللّه أمير مصر، أمر بضرب جندي تأديباً لشيء صدر منه، وعندما أحسّ الجندي بألم الضرب، أقسم على الأمير بحقّ الحسن والحسين أن يعفو عنه، فأمر الأمير بضربه ثلاثين سوطاً جزاء لهذا القسم، وكتب إلى المتوكل في بغداد يخبره بخبر الجندي، فورد الكتاب على يزيد يأمره بضربه مائة سوط وحمله إلى بغداد(82). ولعلّ النطع والسيف كانت خاتمة المطاف لذلك الجندي، وأمر بضرب أحمد بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ألف سوط، لأتّهامه بسبّ الشيخين حتى مات.

قال في الحضارة الإسلامية نقلاً عن المنتظم: وكانت الحكومة إذا أرادت أن تعاقب شيعيّاً لمذهبه لم تذكر اسم علي، بل يجعل سبب العقوبة أنّه شتم أبا بكر وعمر(83).

وما أكثر من عوقب بهذه الوسيلة. ولكن أنصار المتوكل وحزبه الذين يرون البغض لعليّ وشيعته يقرّبهم إليه زلفاً. نالوا بذلك إربهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة.

وخلاصة القول أنّ المتوكل اشتدّ في العداء لأهل البيت(عليهم السلام) والنيل منهم، حتّى دفعه حقده الى هدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وهدم المشهد الشريف واستقدم أبا الحسن الهادي(عليه السلام) من المدينة إلى سامراء في سنة (236 هـ ) وعامله بالشدّة والأذى، وتوصل المنحرفون عن آل علي إلى إساءة الإمام الهادي(عليه السلام) فسعوا به إلى المتوكل وأخبروه أنّ في منزله سلاحاً وكتباً من شيعته، فهجموا على داره ليلاً ولم يعثروا على أيّ شيء من ذلك(84)، ومازال الإمام الهادي(عليه السلام)مقيماً في سامراء إلى أن مات مسموماً سنة (254 هـ )، وكانت مدة اقامته فيها 18 سنة.

الشيعة ونصرة أهل البيت(عليهم السلام)

ومرّت الأدوار، وتعاقبت الأيام، والشيعة يلاقون الأذى ويخوضون غمار الحروب ويواجهون المصاعب، ويتجرّعون من ولاة الأمر ضروب المحن، كلّ ذلك في سبيل نصرة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ونشر مذهبهم على وجه البسيطة، وما دفعهم إلى تحمّل ذلك إلاّ حبّهم لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وامتثالهم لأوامر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في المحافظة عليهم ووصاياه المتكررة باتباعهم.

ولقد بذل الشيعة كلّ ما في وسعهم لنصرة أهل البيت الذين عنهم يأخذون تعاليم دينهم، وكانوا في هذه الأدوار يتصلون بمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) مهما كلّفهم الأمر، فلا يقعد بهم خوف ظالم ولا تحول دونهم ودون الاتصال بهم تلك الارهابات التي اتخذها أعداء آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وسيلة لفصل الاُمة  عنهم، فهم من زمان علي(عليه السلام) إلى زمان الإمام الحسن العسكري يأخذون عنهم معالم الدين حتى وقعت الغيبة الصغرى، وسيأتي بيان ذلك عند ذكرنا للنهضة العلميّة عند الشيعة بعد عصر الأئمة(عليهم السلام).

وكان الإمام العسكري قد جلبه المتوكل مع أبيه علي الهادي(عليه السلام) إلى سامراء، وما زال مع أبيه إلى أن التحق أبوه بالرفيق الأعلى وبقي العسكري مدّة إمامته القصيرة في سامراء ، ست سنين في نكد وأذى، وانفرد بعد أبيه بما يقصده به العباسيون من الإساءة والغضّ من مقامه، والتضييق عليه والسجن إلى أن اغتاله المعتمد العباسي بالسم في سامراء لثمان خلون من ربيع الأوّل سنة (260 هـ )، ودفن مع أبيه في دارهما حيث قبرهما الآن، وكان عمره الشريف ثمان وعشرين سنة.

وفي ذلك العهد كان مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ينتشر في البلاد الإسلامية، وأصبحت قم من عواصم العلم للشيعة، وفيها من رواة حديث أهل البيت(عليهم السلام)عدد كثير، ومن المؤلفين في الحديث والفقه وفنون العلم جم غفير، وكذلك الكوفة وبغداد والمدائن وسامراء والشام عاصمة الاُمويين كما سيأتي بيانه.

وإنّ تمسك الشيعة بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) لا لتحزب أو تعصّب، ولا لطعن في مذاهب المسلمين أو حطّ من كرامة أحد من أئمة المذاهب، ولكنّ الأدلة الشرعية أخذت بأعناقهم، لوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)لحكم الأدلة القاطعة وتعبداً بسنة سيد النبيين(صلى الله عليه وآله وسلم). ولو وجدوا طريقاً للأخذ عن غيرهم لاتّبعوه، ولم يتحملوا المحن في سبيل أتباعهم، ولكن لا طريق الى ذلك، بل وجدوا الحقّ معهم، والحق أحقّ أن يتّبع، ولأنّهم(عليهم السلام) كانوا يمثّلون الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في خلقه وهديه وورعه وزهده، فهم عدل القرآن متكاتفين معه يمتثلون أوامره ويسارعون إلى تنفيذه، واطلعوا على أسرار أحكامه، ودقائق أطواره، والقرآن قد اشاد بفضلهم كثيراً.

ولقد بذلوا جهدهم في هداية الناس، كما بذلوا لهم النصح ليرشدوهم إلى طرق السعادة، وقد نشروا العلم والعدل، وقاوموا الجهل والظلم، وليس هذا مجرد فرض، وإنّما هو أمر واقع وحقيقة ظاهرة لا يمكن انكارها، ووجد الناس فيهم أئمة هدى: لا يخالفون الحقّ، ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّ إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثيرة ورعاته قليل(85).

وهم أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومهبط الوحي، ولم تسمح الأدلة بمخالفتهم والأخذ عن غيرهم، وهم عدل القرآن وسفينة نوح باتباع علم الهداية والرشاد.

أحاديث النبيّ في أهل البيت(عليهم السلام)

وقد صرّح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بوجوب اتباعهم والتمسك بهم في مواطن عديدة، واشتهر حديث الثقلين كالشمس في رائعة النهار وحديث: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى» من الأحاديث الثابتة التي أيّدها الرواة وتناقلتها كتب التاريخ .

أخرج أحمد في مسنده(86) والطبراني في مسنده(87) بالإسناد إلى ابن عباس قال، قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «من سرّه أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليتول علياً من بعدي وليوال وليّه، وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنّهم عترتي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذّبين بفضلهم من اُمتي، القاطعين صلتي لا أنالهم اللّه شفاعتي».

وأخرج ابن حجر في صواعقه قال، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «في كلّ خلف من اُمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين. وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى اللّه فانظروا من توفدون»(88).

وأخرج جماعة من الحفاظ عن أبي ذر الغفاري، قال: قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم»(89).

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد ومكان العينين من الرأس ولا يهتدي الرأس إلاّ بالعينين»(90).

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «اُوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولّى اللّه، ومن أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض اللّه»(91).

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم من آمن بي وصدّقني فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّ ولايته ولايتي وولايتي ولاية اللّه»(92).

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أنزل اللّه آية وفيها : (يا أيها الذين آمنوا ) إلاّ وعليّ رأسها وأميرها»(93).

وأخرج عن حذيفة قال، قالوا: يارسول اللّه ألا تستخلف علياً؟ قال : «إن تولوا عليّاً تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم»(94).

وأخرج بطريق آخر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن تستخلفوا علياً وما أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجّة البيضاء»(95).

وأخرج النسائي في الخصائص من طريق عمران بن حصين عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّاً مني وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي»(96).

وأخرج أيضاً من طريق اُم سلمة قالت: سمعت رسول اللّه يقول: «من سبّ علياً فقد سبني»(97).

وأخرج عن حبشي بن جنادة السلولي قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «عليّ مني وأنا منه فلا يؤدي عني إلاّ أنا أو علي»(98).

وأخرج الحاكم من طريق أبي ذر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني»(99).

وأخرج أيضاً من طريق أبي ثابت مولى أبي ذر عن اُم سلمة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(100).

وعن ابن عباس قال: كنّا نتحدّث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب(101).

وعن أبي هريرة قال، قال عمر بن الخطاب : لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لئن تكون لي خصلة منها أحب إليّ من أن اُعطى حمر النعم. قيل: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: تزويجه فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وسكناه المسجد مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يحل فيه ما يحل له(102).

وأخرج الحاكم أيضاً قال: كنّا مع رسول اللّه فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها فمشى قليلاً، ثم قال: «إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر. قال أبو بكر: أنا هو ؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: «لا ولكن خاصف النعل»، يعني علياً فأتيناه وبشرناه، فلم يرفع رأسه كأنّه سمعه من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)(103).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فأين تذهبون وأنّى تؤفكون والأعلام قائمة والآيات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيّكم وهم أزمة الحقّ، وأعلام الدين وألسنة الصدق، فانزلوهم منازل القرآن، وردّوهم ورود إليهم العطاشى.

أيّها الناس خذوها من خاتم النبيين إنه يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلي منا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون ، واعذروا من لا حجة لكم عليه وأنا هو، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزت فيكم راية الإيمان؟»

وقال(عليه السلام): «اُنظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وان نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(104).

وأخرج الحاكم عن الكناني; قال : سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ بباب الكعبة: من عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا أبو ذر. سمعت رسول اللّه يقول: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تأخر عنها غرق»(105).

وأخرج البخاري عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: بلى، فأهدها، قال: سألنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: «قولوا اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

وعن ابن عباس ـ أخرجه الترمذي ـ قال: قال رسول الله: «أحبّوا الله لما يغذوكم به وأحبّوني لحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي بحبّي».

وعنه أيضاً قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لو أنّ رجلاً صفّ بين الركن والمقام، فصلّى وصام، ثم لقي الله مبغضاً لأهل بيت محمد دخل النار»(106).

وعن أبي سعيد الخدري قال، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أبغضنا أهل البيت فهو منافق».

وعن أبي سعيد أيضاً قال: قال(صلى الله عليه وآله): «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلاّ أدخله الله النار»(107).

وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمار بن ياسر، قال: وقف على عليّ سائل وهو راكع في تطوع فأعطاه خاتمه فنزلت : (إنما وليكم اللّه ورسوله

والذين آمنوا...) ـ الآية ـ(108).

وأخرج السيوطي عن ابن عباس أنّها نزلت في عليّ(109).

وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس مثله، وأخرج

أيضاً عن عليّ(عليه السلام)(110).

وأخرج ابن جرير مثله(111).

ولهذا شواهد كثيرة لا يمكن انكارها; وسيأتي مزيد بيان حول هذه الآية وغيرها في الأجزاء الآتية.

وعلى كلّ حال، فالأخذ عن أهل البيت(عليهم السلام) بموجب هذه النصوص

وغيرها التي لا يسعنا حصرها لازم شرعاً، والرجوع لغيرهم لا يحصل

معه صحة العمل.

ونحن مع احترامنا للمذاهب الأربعة، لا نستطيع أن نتخطى أوامر الرسول في اتباع آله ووجوب الأخذ عنهم، ولنا بحديث الثقلين(112) وحديث الغدير(113)وآية التطهير(114)، وآية الموالاة(115) كفاية لبراءة الذمة وصحة العمل بمذهبهم(عليهم السلام) . ولو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)، أو تهيأ لنا إيثار غيرهم عليهم أو تمكّنا من تحصيل نيّة القربة في مقام العمل على مذهب غيرهم لاتّبعناه، على أنّه لا دليل للجمهور في رجحان شيء من مذاهبهم فضلاً عن وجوبها، وكيف لا وأئمّة المذاهب أنفسهم قد أخذوا عن أهل البيت(عليهم السلام)، وجعلوا ذلك فخراً لهم وسبباً لنجاحهم، فهذا الإمام أبو حنيفة كان يأخذ بأقوال عليّ(عليه السلام) حتى جعلوا ذلك من مرجحات مذهبه على غيره من المذاهب لقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(116) ذكر ذلك المقدسي في أحسن التقاسيم(117).

وكان أبو حنيفة يفتخر بالأخذ عن الصادق(عليه السلام) ويقول: «لولا السنتان لهلك النعمان»(118).

ونرى مالك بن أنس هو أحد تلاميذ الصادق(عليه السلام)، وعنه أخذ الشافعي وأخذ أحمد بن حنبل عنه، وكان الشافعي لا يروي إلاّ عن عليّ(عليه السلام) ولذلك اتّهموه بالتشيع فافتخر بذلك قائلاً:

أنا الشيعيّ في ديني وأصلي *** بمكة ثم دارى عسقلية

بأطيب مولد وأعز فخر *** وأحسن مذهب يسمو البرية(119)

ورماه يحيى بن معين بالرفض وقال: طالعت كتابه في السير فوجدته لم يذكر إلاّ علي بن أبي طالب، وقد أظهر الشافعي ذلك في قوله:

يا راكباً قف بالمحصّب من منى *** واهتف بقاعد خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيح إلى منى  *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبّ آل محمد *** فليشهد الثقلان أني رافضي(120)

وكذلك الإمام أحمد كان يفضّل عليّاً على الصحابة، وسئل يوماً عن أفضل أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، قيل فعلي؟ قال: سألتموني عن أصحابه وعليّ نفس محمد(121).

إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره، على أنّا نجد أهل المذاهب متفرّقين، كلّ يذهب إلى رجحان مذهبه وبطلان غيره، ويقيم كلّ فريق أدلة للغلبة والظهور على الآخر، ولسنا بصدد البحث عن ذلك، ولكن الغرض أنّ أخذ الشيعة عن أهل البيت(عليهم السلام) إنّما هو لدلالة الكتاب والسنة ، ويرون ضرورة الأخذ باُصول الدين وفروعه عنهم، فهم سفن النجاة وأمان الاُمّة، وباب حطّة من دخله كان من الآمنين، والعروة الوثقى التي لاانفصام لها، وأحد الثقلين لا يضل من تمسك بهما ولا يهتدي من ضلّ عن أحدهما(122).

وقد أشرنا للأسباب التي دعت لمقاومة مذهبهم من قبل ذوي النفوذ والسلطة بأوهام حاولوا تركيزها بدون اقامة دليل شرعي، ولا برهان عقلي.

وقد سرت تلك الاُمور المرتجلة يتلقفها السذّج فماً عن فم، ويتوارثونها جيلاً عن جيل كقضيّة مسلمة، والحقّ أنّها شبه أوهام تناقلتها الألسن، وساعدتها الظروف والأحوال فصعب هجرها.

ومع هذا كلّه فإنّ تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح، فقد انتشر المذهب بصورة واسعة النطاق متجاوزاً أوامر الحكام ومتخطياً حدود قوتهم، إذ لم تنفع قسوتهم في دفع الناس عن آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تثمر سياستهم الجائرة في تحويل الاُمة عن الاُصول الكبرى والمنابع الاُولى .

وهنا أمر آخر لا بدّ من توضيحه: هو أنّ تلك المعارضات التي أجهد الساسة أنفسهم في تركيزها، وآزرهم على ذلك مرتزقة باعوا ضمائرهم بأبخس الثمن، إنّما كانت بعيدة كلّ البعد عن الواقع، ولا تجد من اُولئك المتشدّقين بذمّ الشيعة والحطّ من كرامة أهل البيت(عليهم السلام) من أقام دليلاً منطقياً، يستطيع أن يغطي به باطله ويستر به أكاذيبه، وإنّما هم يتحمسون للظلم ويهرجون لدعاته، والحقيقة بعيدة عنهم، والدين يتبرأ ممّا قالوا.

ونسبوا إلى الشيعة اُموراً كثيرة، لا يسعنا عرضها الآن، حتى أنّهم نسبوا إليهم القول باُلوهية الأئمة، وهذا نهاية الحمق وغاية الجنون، وإنّ الاعتدال في القول خير من التهوّر، ومن اعتدل فكره  اعتدل قوله.

من أين أخذوا ذلك عن الشيعة وبأيّ دليل يثبتونه؟ ! نعم حملهم بغض الشيعة والتحامل على أهل البيت(عليهم السلام) على إضافة طوائف الغلاة الى الشيعة المخلصين، وحاولوا ربط عقائدهم بعقائد الشيعة، مع الفرق البيّن وعدم إمكان ذلك إلاّ أن يظلموا الحقيقة، بتجرئِهم على أهل البيت(عليهم السلام) بنسبة الغلاة إلى أتباعهم ، وهنا يلزمنا التعرّض لذكر موقف الأئمة من التبرؤ من هذه النسبة ومعاملة الشيعة لتلك الفرق.

 

الغلاة

موقف أهل البيت(عليهم السلام) من الغلاة

إنّ أعظم شيء على الشيعة هو حمل فرق الغلاة عليهم وإضافتها إليهم; ولقد كان الحكام وزبانيتهم وراء نشاط تلك الفرق الضالة ومؤازرتهم بالسياسة، وسهلت لهم الطرق ليصلوا إلى غايات في نفوسهم من الوقيعة في الشيعة، والحطّ من كرامة أهل البيت(عليهم السلام)، إذ كانوا لا يستطيعون أن ينالوا من عقائدهم أو ينتقصوهم بشيء، والأمر واضح كلّ الوضوح، فإنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام)لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتعاليمهم هي المحور الذي يدور عليها نظام الإسلام، فكان دخول الغلاة في صفوف الشيعة عبارة عن حركة سياسية أوجدتها عوامل من جهة، والفتك بالإسلام من جهة اُخرى، لأنّ دخول الغلاة في الإسلام كان انتصاراً لمبادئهم ، إذ لم يجدوا طريقاً للانتقام من الإسلام إلاّ باختراع المغالاة في بعض العقائد الإسلامية عندما عجزوا عن مقابلته بالقوة وجهاً لوجه، وانهزموا أمام قوم وطأوا أرضهم بأقدام لا تتأخر خطوة إلى الوراء إمّا الموت أو الفتح، فأذلّوا عزيزهم، وأسروا ذراريهم، وأخذوا منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقد عالج أهل البيت(عليهم السلام) هذه المشكلة الخطرة، وعرفوا الدوافع التي دعت هؤلاء الكفرة إلى الالتحاق بصفوف الشيعة، واتّضح لهم غايات خصومهم الذين يريدون أن يوقعوا بهم، فكان أهل البيت(عليهم السلام) يعلنون للملأ البراءة من الغلاة وجاهروا بلعنهم، وأمروا شيعتهم بالتبرؤ منهم والابتعاد عنهم، وتلقى الشيعة تلك الأوامر الشريفة بالقبول والامتثال، فأعلنوا البراءة وملأوا  كتبهم من التبريء منهم، وافتوا بحرمة مخالطتهم، واجتمعوا على نجاستهم وعدم جواز غسل ودفن موتاهم وتحريم اعطائهم الزكاة، ولم يجوّزوا للغالي أن يتزوّج المسلمة ، ولا المسلم أن يتزوّج الغالية ولم يورثوهم من المسلمين وهم لا يرثون منهم.

وكان الإمام الصادق(عليه السلام) يلعن المغيرة بن سعيد ويصرّح بكذبه وكفره، ولعن أبا الخطاب وأصحابه وجميع الدعاة إلى المبادئ الفاسدة، وكان هذا الإعلان من الإمام الصادق(عليه السلام) قد أوقف سريان دائها القاتل، ولم يبق من تلك الفرق إلاّ الاسم في التاريخ وبادت بمدة قصيرة.

وقال(عليه السلام) لمرازم: قل للغالية توبوا إلى اللّه فإنّكم فساق كفار مشركون، وقال(عليه السلام) له: إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر يا فاسق انا بريء منك.

قال مرازم: فلما قدمت الكوفة قلت له، يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بريء منك، قال بشار: وقد ذكرني سيدي قلت: نعم ذكرك بهذا، قال: جزاك اللّه خيراً.

ولما دخل بشار الشعيري على أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال له: أخرج عني لعنك اللّه، واللّه لا يظلّني وإياك سقف أبداً، فلما خرج قال(عليه السلام): ويله ما صغّر اللّه أحداً تصغير هذا الفاجر، إنه شيطان ابن شيطان خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه، وليبلغ الشاهد الغائب إني عبد اللّه وابن أمته ضمّتني الأصلاب والأرحام، وإني لميّت ومبعوث ثم مسؤول(123).

وكتب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) ابتداءً منه إلى أحد مواليه: «إنّي أبرأ إلى اللّه من ابن نصير الفهري وابن بابه القمي فابرأ منهما، واني محذرك وجميع موالي، ومخبرك اني العنهما عليهما لعنة اللّه، يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً وأنه باب، ويله لعنه اللّه سخر منه الشيطان فأغواه فلعن اللّه من قبل منه، يامحمد إن قدرت أن تشدخ رأسه فافعل»(124).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) يوماً لأصحابه: «لعن اللّه المغيرة بن سعيد لعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق، إنّ المغيرة كذب على أبي، وان قوماً كذبوا على مالهم! أذاقهم اللّه حر الحديد، فواللّه مانحن إلاّ عبيد خلقنا اللّه واصطفانا مانقدر على ضر ولا نفع إلاّ بقدرته، إن رحمنا فبرحمته، وإن عذّبنا فبذنوبنا، ولعن اللّه من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا، ولعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا».

وقال(عليه السلام): «إنّ أبا منصور كان رسول إبليس: لعن اللّه أبا منصور، قالها ثلاثاً».

وقال(عليه السلام): «إنّا أهل بيت صادقون لا نعدم من كذاب يكذب علينا عند الناس يريد ان يسقط صدقنا بكذبه علينا، ثم ذكر المغيرة وبزيغ والسري وأبا الخطاب، ومعمر وبشار الشعيري وحمزة اليزدي وصائد النهدي، فقال: لعنهم اللّه اجمع وكفانا مؤنة كلّ  كذاب»(125).

وعن حمدويه قال: كنت جالساً عند أبي عبد اللّه وميسرة عنده، فقال له ميسرة: جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون إلى هذا الموضع فانقطعت أخبارهم وآثارهم وفنيت آجالهم. قال(عليه السلام): ومن هم؟ قلت: أبو الخطاب وأصحابه، فقال(عليه السلام) ـ وكان متكئاً ورفع بنظره إلى السماء ـ : «على أبي الخطاب لعنة اللّه والملائكة والناس اجمعين، فأشهد باللّه أنه كافر فاسق مشرك، وانه يحشر مع فرعون في أشدّ العذاب».

وذكر عنده أصحاب أبي الخطاب والغلاة فقال(عليه السلام): «لا تقاعدوهم ، ولا تواكلوهم ولا تشاربوهم ، ولا تصافحوهم ولا توارثوهم»(126).

وقال(عليه السلام): «إن من الغلاة من يكذب حتى أنّ الشيطان يحتاج إلى كذبه».

وقال(عليه السلام): «إن قوماً يزعمون أني لهم إمام، واللّه ما أنا لهم بإمام، مالهم لعنهم اللّه! أقول كذا ويقولون كذا، إنما أنا إمام من أطاعني، ومن قال بأننا أنبياء فعليه لعنة اللّه، ومن شكّ في ذلك فعليه لعنة اللّه»(127).

هذا بعض ماورد في الغلاة الذين حاول خصوم آل محمد الحاقهم بالشيعة لغاية الحطّ من كرامة المبدأ، وليظهروهم للملأ بأبشع المظاهر وأشنعها، ويعلنوا للعالم أنّ الشيعة يعتقدون في الأئمة الاُلوهية، فلا يصلح عدّهم من المسلمين فتراق بذلك دماؤهم وتنهب أموالهم، وكم حدّثنا التاريخ عن تلك الفظائع السود; ومن أراد أن يعرف موقف الشيعة من طوائف الغلاة فليرجع إلى كتاب : «روض الجنان» للشهيد الثاني المتوفى سنة (996هـ )(128)، و«نهج المقال» للميرزا محمد الاستربادي المتوفى سنة (1026هـ )(129) و «الانتصار» للسيد المرتضى المتوفى سنة (436 هـ)(130)، و«التهذيب» للشيخ الطوسي المتوفى سنة (460هـ )(131)، و«السرائر» لابن إدريس المتوفى سنة (598 هـ )(132) و«المنتهى»(133) و«نهاية الإحكام»(134) و «التذكرة»(135) و«القواعد»(136)و«التبصرة»(137) للعلامة الحلي المتوفى سنة (726 هـ )، و«البحار» للشيخ المجلسي المتوفى سنة (1111 هـ )(138)، و«الدروس» للشهيد الأول المتوفى سنة (786 هـ )(139) و«جامع المقاصد» للشيخ علي الكركي المتوفى سنة (940هـ)(140)و«الشرايع»(141) و«المعتبر»(142) و«المختصر النافع»(143) للمحقق أبي القاسم الحلي المتوفى سنة (676 هـ ) و «الجواهر»(144) للشيخ محمد حسن المتوفى سنة (1266 هـ ). وغيرها من الكتب الفقهية التي تنصّ بإجماع على كفر الغلاة ونجاستهم وبعدهم عن الدين وأن لا رابطة بينهم وبين الشيعة.

كما أنّ كتب الرجال طافحة بذمّهم والتبرؤ منهم ومن معتقداتهم، ويلعنونهم بلغة واحدة.

فأملنا بأبناء المستقبل أن لا يركنوا إلى الأوهام والأباطيل وأن يطلبوا الحقيقة، فالعلم يطلب منهم أداء رسالته، والحقّ يدعوهم إلى مؤازرته، فقد آن أن تماط عن العيون غشاوات التعصب التي منعتها من رؤية الحق وأبرزت الواقع معكوساً; إذ هي كعدسة المصور فليعتدل الكتّاب عن هذه السيرة الملتوية، وليغيّروا خططهم ولغتهم في ذكر الشيعة  ولا يلتفتوا لأوضاع تلك العصور المظلمة التي جنت على الإسلام جناية لا تغفر، وملأوا القلوب بالأحقاد والضغائن، ونسبوا مبدأ التشيّع إلى عبد اللّه بن  سبأ اليهودي، وطعنوا بذلك على أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين عرفوا بتشيعهم لعلي، ويتجاوز عددهم المئات وغيرهم ممن تكتّم جرياً مع الظروف ومتابعة الأحوال، على أنّ كلمات اللغويين والمفسّرين قد أجمعت على أنّ معنى الشيعة هي الموالاة لعلي إذ أصبح علماً في ذلك.

عبد اللّه بن سبأ

أما عبد اللّه بن سبأ، ذلك الشخص الوهمي الذي وصفوه بصفات البطولة والإقدام، وجعلوه صاحب السلطة المطلقة في المجتمع الإسلامي، وقالوا عنه إنه استطاع أن يسيطر على أهل مصر ويقود منهم جيشاً لقتل الخليفة عثمان، وأن أبا ذر تعلّم منه ، وعماراً أخذ بآرائه، وحرب الجمل من دسائسه، ووقعة صفين من تصلّبه، ومبادئ التشيع من تفكيره... وقد ورد ذكره في كثير من الكتب حتى أصبحت قصته وكأنّها حقيقة ملموسة وقضية واقعية. وهؤلاء لم يلتفتوا الى أن الإساءة المتحققة من وراء هذه الاُكذوبة لا تقتصر على الشيعة والطعن في اُصولها وإنّما تشمل صميم حركة الإسلام ورجالاته حيث جعلوا لهذا اليهودي قدرات سحرية تمكنه من قيادة جموع المسلمين كيف شاء وتوجيه رجالات الدين كيف أراد يتلاعب بسلوكها وأفكارها بشكل لا يليق إلاّ بمن اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً.

والّذي يلفت النظر هو أنّ بعض الشيعة ترجموا له ، وذكروه للتبرؤ منه، وأخف عبارة يقولونها في ترجمته: عبد اللّه بن سبأ ألعن من أن يذكر(145).

وإذا أردنا أن نرجع لواقع هذه الشخصية، وما لها من صلة في الواقع وذلك على ضوء البحث الدقيق، فإنّ النتائج العلميّة تثبت لنا عدم ثبوت هذه الشخصية، وأنّها اُسطورة وحديثها خرافة، وهي من مبتكرات التعصب الطائفي، ودسائس السياسة، للحطّ من قيمة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، والوقيعة في شيعتهم .

ولو أنّ هؤلاء الذين ذكروا عبد اللّه بن  سبأ بتلك الصورة المدهشة، لينالوا من مقام الشيعة، وقفوا قليلاً أمام مصادر هذه الاُسطورة، ومنحوا لها بعض الوقت من التأمل، لانكشف لهم الواقع وظهر أنّ المصدر الوحيد هو الطبري المتوفى سنة (310 هـ ) ولم يسبقه أحد في ذكرها(146)، والكلّ رواها عنه وهو يرويها عن سيف بن عمر بسلسلة مظلمة مجهولة ، وسيف قد أجمع علماء الرجال على أنه كذاب، وسيأتي الحديث عن قصة ابن سبأ في الجزء السادس من هذا الكتاب.

ولنصغ  الآن إلى حديث الاُستاذ كرد علي حول مذهب التشيع وعلقة ابن سبأ به. يقول الاُستاذ كرد علي في خطط الشام:

عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والإئتمام لعليّ ابن أبي طالب والموالاة له. ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: أمر الناس بخمس فعلوا باربع وتركوا واحدة ولما سئل عن الأربع، قال : الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج، قيل فما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية عليّ ابن أبي طالب.

قيل له: وإنها لمفروضة معهن، قال: نعم هي مفروض معهن. ومثل أبي ذرّ الغفاري، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وخالد بن سعيد بن العاص، وقيس بن سعد ابن عبادة.

وأما ما ذهب إليه بعض الكتّاب من أن مذهب التشيّع من ابتداع عبد اللّه ابن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهم وقلة معرفة بحقيقة مذهبهم، ومن علم منزلة هذا  الرجل عند الشيعة، وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم فيه; علم مبلغ هذا القول من الصواب، ولا ريب في أنّ أوّل ظهور الشيعة كان في الحجاز بلد المتشيّع له. انتهى(147).

ويقول الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء(رحمه الله) حول الغلاة ونسبتهم للشيعة:

أما الشيعة الإمامية فيبرأون من تلك الفرق براءة التحريم،  على أنّ تلك الفرق لا تقول بمقالة النصارى بل خلاصة مقالتهم بل ضلالتهم أنّ  الإمام هو اللّه سبحانه ظهوراً واتحاداً أو نحو ذلك مما يقول به كثير من متصوفة الإسلام ومشاهير مشائخ الطرق، وقد ينقل  عن الحلاّج والكيلاني، والرفاعي، والبدوي وأمثالهم من الكلمات ـ وان شئت فسمها كما يقولون  شطحات ـ ما يدل بظاهره على أنّ لهم منزلة فوق الربوبية، وأنّ لهم مقاماً زائداً عن الاُلوهية (لو كان ثمة موضع لمزيد ) وقريب من ذلك ما يقول به أرباب وحدة الوجود، أو الموجود.

أمّا الشيعة الإمامية وأعني بهم جمهرة العراق وإيران، وملايين المسلمين في الهند ومئات الاُلوف في سوريا والأفغان، فإنّ جميع تلك الطائفة من حيث كونها شيعة يبرأون من تلك المقالات، ويعدّونها من أبشع الكفر والضلالات، وليس دينهم إلاّ التوحيد المحض، وتنزيه الخالق عن كلّ مشابهة للمخلوق، أو ملابسة لهم في صفة من صفات النقص والإمكان والتغيير والحدوث، وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية، إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم في الحكمة والكلام، من مختصرة أو مطولة(148).

وعلي أيّ حال فإنّ الشيعة براء مما نسب إليها من الغلوّ، وأما أهل المقالات في الغلوّ كالبيانية والمنصورية وغيرهم فإنّ نسبتهم إلى الشيعة ظلم ـ وما أكثر الظلم للشيعة ـ وتهجم على اُمة تدين للّه بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة، ولآله بالمودة.

وأستطيع الجزم بأن هذه الاُمور لم تخف على اُولئك القوم الذين أصبحوا يتهجمون على الشيعة بالطعن في عقائدهم، إذ نسبوا إليهم هذه المقالات الفاسدة التي يقول بها الغلاة. نعم إنّهم يعرفون الأمر ولكنّ الحقّ مرّ لا يمكن أن تتقبله أذواقهم، ولقد أعجزهم الأمر عن مؤاخذة الشيعة والطعن في عقائدهم، عندما وجدوا طرق المؤاخذات أمامهم مغلقة فلا يستطيعون منها النفوذ إلى مقاصدهم، فالتجأوا إلى هذه الخرافات والأباطيل التي لا تثبت أمام التدقيق والتحقيق. كيف يستطيعون مؤاخذة الشيعة ومنهم صحابة الرسول والتابعين لهم بإحسان؟ كأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وجارية بن قدامة، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وصعصعة بن صوحان، والمقداد الكندي وغيرهم.

ومن الغريب أنّ أكثر الكتاب قد نسبوا لأصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) تأثرهم بآراء ابن سبأ، وأيّ طعن على الإسلام وعلى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم من هذا بأن يسيطر يهودي على عقول أصحاب النبيّ ومن تأدبوا بآدابه; وإليك ما كتبه بعض كتاب العصر الحاضر عند ذكره لعبد اللّه بن سبأ ونسبة ظهور التشيع إليه، إذ يقول:

إنّ هذا الشيطان هو عبد اللّه بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يبثّ دعوته بخبث وتدرّج ودهاء، واستكثر اتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة إلى أن يقول: وعني بالتأثير في أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح;  فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعات كان على رأسهم في الفسطاط الفاقعي بن حرب العتكي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر بن عتاب، وعبد اللّه بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمر بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتير السكوني، وكان على رأس من استغواهم ابن سبأ في الكوفة: عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر بن مالك بن الحارث النخعي ، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد اللّه ابن الأصم. ومن البصرة: حرقوص بن زهير السعدي، وحكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلاّ ثلاثة نفر: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن حذيفة، وعمار بن ياسر(149).

هكذا يقول، ونبرأ إلى اللّه مما يقول، ليت شعري أيّ جرأة أعظم من هذه الجرأة على أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصفهم بهذه الصفة بأنّهم مخدوعون بدعوة ذلك الشيطان، واستجابوا لما جاء به هذا اليهودي المزعوم، وهم خريجو مدرسة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاة الحقّ وأتباعه، ولكنّ الشيطان خدع هذا الكاتب، فجاء بهذا الافتراء وهو: يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ  يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(150).

ونحن نأمل من كتّابنا الذين يكتبون لذات الحقّ ولا يميل بهم الهوى، ولا تستولي عليهم النزعات الطائفية، أن يوجّهوا عنايتهم لإظهار الحقيقة عند دراستهم لقضية ابن سبأ بأن يدرسوها دراسة مؤرخ لا يتحيّز ولا يتعصّب، ولا يقصد إلاّ خدمة العلم وإظهار الحقّ، ويقف موقف المدقّق على مصادرها ورواتها والظروف التي أوجدتها، ليتّضح له الأمر، ويتميّز الحقّ من الباطل.

وأعود فأقول مؤكّداً: إنّ قضية ابن سبأ اُسطورة خرافية أوجدتها عدّة عوامل للحط من تعاليم الإسلام والنيل من رجاله، بأ نّهم قد تأثروا بآراء رجل يهودي فأوردهم موارد الهلكة، من دون تميز وتفكير، إلى غير ذلك ممّا يؤدي إليه إيجاد هذه الخرافة من مناقضات.

هذا مع أنّ سندها باطل، وراويها وهو سيف بن عمرو كذاب، وسيأتي التحقيق حول ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب .

 

انتشار المذهب الجعفري

انتشاره في الأقطار الإسلامية

وخلاصة القول أنّ المذهب الجعفري انتشر بقوّته ومقوماته من دون استناد إلى سلطة، أو عوامل الترغيب في اعتناقه، وأنّ أوّل ظهور الشيعة كان في بلد الحجاز، وهو أوّل أرض بذرت فيه بذرة التشيّع، وفي المدينة المنورة في القرن الرابع انتشر بصورة ظاهرة، وقد عظم ذلك على من يسوؤهم انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، كابن حزم فقد وصف المدينة المنورة بما لا يليق بها لوجود الشيعة فيها.

كما انتشر التشيّع في الشام، وكان أبو ذر الغفاري هو الذي نشر المذهب هناك، ولا يزال في قرية الصرفند بين صيدا وصور، مقام معروف باسم أبي ذر، اُتخذ مسجداً معموراً.

وهم اليوم عدد كثير اشتركوا في إدارة البلاد وشغلوا مناصب مهمّة في حكومة سوريا، ومنهم التجار والأطباء، ولهم مركز مهمّ هناك، وتقام عندهم مآتم عزاء الحسين(عليه السلام) علناً في عاصمة الاُمويين، ويحضرها كثير من أهل السنة، والخطيب يفصح بمخازي معاوية ويزيد وبني اُمية مستنبطاً ذلك من التاريخ الصحيح .

ويقول ابن جبير في رحلته في وصف المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس: إنّ الشيعة أكثر من السنيين وقد عموا البلاد بمذهبهم(151).

ويقول كرد علي: وفي دمشق يرجع عهدهم ـ أي الشيعة ـ إلى القرن الأوّل للهجرة، وفي أكناف حوران وهم مهاجرة جبل عامل، وفي شمال لبنان والمتن والبترون وهم مهاجرة بعلبك، ولا يقلّ عدد الشيعة في الشام من الإمامية عن مائتي ألف نسمة(152).

أما جبل عامل وهو البلد الواقع بين صفد جنوباً ونهر الأوليّ شمالاً ، وغور الحولة وما والاها إلى أرض البقاع شرقاً، والبحر المتوسط غرباً فقد كان بدء التشيع في جبل عامل بفضل الجهود التي بذلها المجاهد في اللّه أبو ذر الغفاري رضي اللّه عنه وانتشر بسبب دعوته، وكانت حركة العلم واسعة حتى اليوم، فالتشيّع في لبنان منتشر بكثرة ويسير بكلّ نظام وهدوء، محفوظ الحقوق، مرعي الجانب، ولهم في جامعة النجف الأشرف جماعة، وتخرج منها عدد كثير من أبطال العلم، وحملة دعوة الاصلاح ، ومنهم المجتهدون المجاهدون في نصرة الدين وجمع كلمة المسلمين.

ويقول الاُستاذ كرد علي أيضاً: إنّ في حمص قرى للشيعة خاصة، وفي نفس المدينة جماعات ظاهرة ومستترة، وفي أعمال أدلب قرى الغوغة ونبل وغيرهما، وكلها شيعة وفيهما إلى اليوم السادة بنو زهرة نقباء الأشراف في مدينة حلب، وكلّ هؤلاء من بقايا زمن الحمدانيين، ومن فلول شيعة حلب يوم تشتت شملهم(153).

يشير بذلك إلى الكارثة التي أصابت الشيعة عندما أفتى الشيخ نوح الحنفي بكفر الشيعة واستباحة دمائهم تابوا أو لم يتوبوا، فقتل بسبب هذه الفتوى أربعون ألفاً من الشيعة، وانتهبت أموالهم واُخرج الباقون إلى القرى.

وغلب مذهب التشيع في حلب بصورة ظاهرة ولهم قوة استطاعوا ان يمنعوا سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب عن بناء المدرسة الزجاجية، وذلك في سنة (517 هـ ) وسرى التشيّع في أفريقيا بانتشار عظيم، إلى أن قاومته السلطة، يوم كان أمير أفريقيا المعز بن باديس، فإنّه فتك بالشيعة فتكاً ذريعاً وذلك في عام (407 هـ ) فقد أوقع بهم وقيعة عظيمة ونسبوا ذلك إلى سبّ الشيخين وهي المادة التي يطبقها الولاة على من يريدون الفتك به من أيّ الفرق كان.

وذلك أنّ المعز بن باديس مرّ على جماعة من الشيعة في القيروان وقد سأل عنهم، فلما أحس الناس من المعز الميل عنهم انصرفت العامة من فورها إلى مجتمعات الشيعة، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وتوجّه العسكر للنهب، و شجّعهم عامل القيروان فقتل منهم خلق كثير، واُحرقوا بالنار، ونهبت دورهم، وتتبعوهم في جميع أفريقيا، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قرب القيروان فتحصّنوا به، فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتدّ عليهم الجوع فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم ، ولجأ منهم بالمدينة إلى الجامع فقتلوا كلّهم (154).

وهذه إحدى النكبات الفظيعة التي لاقاها التشيّع وما أكثرها، ومع ذلك فإنّ التشيّع اليوم منتشر في أفريقيا الوسطى والجنوبية زهاء عشرة ملايين نسمة.

وفي اندونيسيا عدد كثير من الشيعة يقدر بثمانية ملايين نسمة، وللعلويين هناك اليد الطولى في نشر المذهب، وكان منهم العـلاّمة السيد محمد السيد عقيل صاحب المؤلفات القيّمة «كالنصائح الكافية» و «العتب الجميل» و«تقوية الإيمان» و «القول الفصل» . وكان يقيم في سنغافورا ، وكانت لهم أندية أدبية تربط أواصر بعضهم مع بعض .

أمّا في مصر فقد انتشر التشيّع عند انتشار الإسلام هناك، وذلك بواسطة أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين شهدوا فتح مصر، وهم المقداد بن الأسود الكندي وأبو ذر الغفاري، وأبو رافع ، وأبو أيوب الأنصاري، فهؤلاء هم دعاة التشيع وأنصاره.

ولمّا دخلها عمار بن ياسر أيّام عثمان دعا إلى التشيع ونمت روحه، حتى أصبحت البلاد كلّها إلى جانب علي، وأجمعوا على مقاومة عثمان.

ثم دخلها بعد ذلك قيس بن سعد والياً فركز دعائم التشيع هناك، وخفق لواؤه وكثرت جنوده، لكن بدخول عمرو بن العاص تأخّر سير تلك الحركة إلى أن زال ملك الاُمويين، فأظهر المصريون ما انطوت عليه قلوبهم من الولاء لعليّ(عليه السلام)، ولازال التشيّع يظهر في مصر ويخفى حسب العوامل التي تدعو إلى خفائه وظهوره، وهو اليوم منتشر هناك وفيه فئات كثيرة.

وفي الهند ظهر التشيع هناك وانتشر بسبب الروابط المتصلة بين العرب والهنود، وقد اعتنق مذهب التشيّع جماعة كبيرة من الوثنيين بمساعي المرشدين الذين دخلوا بلاد الهند من الشيعة، ومنهم جماعة كثيرة باقون إلى اليوم، ولهم امارات في جميع الأقطار الهندية، ولا يخلو بلد منهم، وهناك بلد يختصّ بهم واُخرى يكونون الأكثرية بها، وهي لكنهور وهي المركز الوحيد للشيعة في الهند وعاصمة مملكة اودة الفانية ومنبع علمائها قديماً، وتعدّ اليوم من أكبر البلاد العلمية، وفيها مدارس عربية أهمّها الجامعة السلطانية، ومنها مدرسة الواعظين وهي تختصّ بالتبليغ، والمدرسة الناظمية وقد أسّسها العلامة السيد أبو الحسن كما أسس الجامعة السلطانية، وفي لكنهور الشيء الكثير من آثار الشيعة كالمساجد والحسينيات، ومن البلدان جانبور، بتن

آباد، مظفر آباد، لاهور، بنجاب(155) .

وبعد استقلال الباكستان وانفصالها عن الهند لعب الشيعة دوراً كبيراً في بناء باكستان الحديثة وحافظوا على مواقعهم في المجتمع الجديد ومنهم العلماء ورجال الدين وكبار التجار والاُدباء وحملة الشهادات.

وتنتشر في عموم الباكستان المساجد والحسينيات وأصبح وجودهم متميزاً وفي انتشار وتوسع. وقد أذنت للعلامة السيد حيدر جوادي كراروي بترجمة كتابنا «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» الى اللغة الاُردية لكثرة الطلبات وإقبال الشباب على قرائته وقامت بنشره مكتبة تعمير أدب في لاهور عام (1388 هـ ) وأهدانا السيد أبرار حسين شيرازي نسخة عن مكتبة تعمير أدب نحتفظ بها الآن، وقد بلغتني أخبار تبهج النفس وتسر المؤمن لذلك الإقبال على مبادئ أهل البيت والتقيّد بمنهجهم في الحياة والإلتزام بأقوالهم وتعاليمهم وتزايد أعداد الشباب وارتباطهم بالمجامع الشيعية والمراكز الدينية في مختلف أنحاء الباكستان.

أمّا في تركيا فقد انتشر المذهب بصورة محسوسة وكثر أتباعه، ولكنّ السلطان سليم المتوفى سنة (926 هـ ) قاوم الشيعة وقتل منهم مقتلة عظيمة.

يقول إبراهيم الطبيب الأوّل للجيش التركي: وكان السلطان سليم شديد التعصب على أهل الشيعة، ولا سيّما أنّه كان في تلك الأيام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعية تنافي مذهب أهل السنة، وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة، فقتلوا نحو أربعين ألف رجل، وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنّه يؤجر على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدّهم(156).

ومع هذا فهم اليوم في تركيا عدد كثير منتشرون في أطراف البلاد.

وفي السعودية، فالقطيف وقراها شيعة خالصة، وأما الاحساء وقاعدتها هفوف فالشيعة فيها يشاطرون غيرهم، كما أنّ في قطر يوجد كثير من الشيعة، ولا يزال من الاحساء والقطيف في النجف الأشرف مهاجرون لتحصيل  علم أهل البيت(عليهم السلام)، ومنهم علماء مبرّزون واُدباء لهم مكانتهم الأدبية والعلمية، وفي البحرين للتشيّع مكانة، ولأهله قوّة، وقد برز منه علماء خدموا الاُمّة الإسلامية، بمؤلفاتهم القيّمة وآثارهم الجليلة، التي تعدّ في الواقع من أعظم التراث الشيعي، ولهم في النجف الأشرف الآن بعثات تتلقى العلوم الدينية، ومنهم علماء مبرّزون واُدباء مشهورون.

وفي الأفغان انتشر التشيّع من زمن بعيد، ويقدر عددهم اليوم بعشرة ملايين، ويوجد منهم في النجف زهاء ثلاثة آلاف نسمة منهم من يدرس الفقه الجعفري، ومنهم من يلتمس الرزق، وقد برز منهم علماء لهم مكانتهم العلمية.

وهاجر كثير من الشيعة إلى أمريكا من السوريين وجبل عامل للتجارة والزراعة من قبل نصف قرن، وينوف عددهم اليوم على خمسين ألفاً، وهم ذوو شأن وعزة هناك يقيمون شعائر الإسلام علناً، وقد بنوا مسجداً فخماً

في الولايات المتحدة، وفي أمريكا من الشيعة قوم من الفرس والهنود

وقليل من العراقيين.

كما دخل مذهب التشيّع إلى الصين منذ القرن الرابع ولهم عدد كثير هناك حتى اليوم.

وفي روسيا كان للشيعة في البلاد الروسية حرية واسعة في إقامة الشعائر الدينية كبلاد بخارى والقوقاس، وكانوا قبل الحرب العالمية سنة (1332 هـ ) يتواردون بكثرة لزيارة المشاهد المقدسة، ويفدون مهاجرين لطلب العلم، وإلى اليوم منهم جماعة في النجف، حالت دون وصولهم لأوطانهم ودون الصلات لهم في بلادهم هذه السلطة الحاضرة.

أما العراق فقد انتشر فيه مذهب أهل البيت في الصدر الأول، وقام بذلك أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الكوفة، والمدائن والبصرة، وعرفت الكوفة بأنّها علوية النزعة، وقام رجال الدعوة في الدفاع عن أهل البيت(عليهم السلام)، وتحمّلوا في عهد معاوية ما تحمّلوا  كما مرّ بيان ذلك.

وفي المدائن كان سلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان قد نشرا دعوة التشيّع هناك، وكذلك البصرة وغيرها من مدن العراق من الشمال إلى الجنوب، وانتشر التشيع فيها بصورة ظاهرة، والعراق، اليوم معروف بتشيعه لأهل البيت وولائهم للعترة الطاهرة، والشيعة هم الأكثرية في العراق، وقد قاوموا ظلم الأتراك بثورات سجّلها التاريخ بكلّ فخر لهم في محاربة الاستبداد، وقاوموا الاستعمار الانكليزي، وأعلنوا ثورة العشرين التي شيّدت صرح الاستقلال الوطني .

أما في إيران، فقد كانت بلاد فارس مسرحاً للجيوش الإسلامية وكان اهتمام الحكام منصبّاً على استدرار الأموال وتعيين العمال الذين ينفذون سياسة النظام القائم ويلبون رغبات السلطان، ونزحت قبائل عربية كثيرة ورغم عداء الاُمويين وعملهم على إبعاد العناصر المعروفة من

الشيعة وإرسالهم مع الجيوش فإنّ الكثير من القبائل عُرف بالتشيع ولم

تتخلّ عن هويتها.

وكانت قم وحدها في القرن الأول شيعية، وكان سير التشيع في إيران ثقيل الخطى وهم شيعة بني العباس، وفيهم من يذهب إلى تقديس الاُمويين ومناصرتهم، كما أنّ في خراسان نواصب وغلاة في معاوية يدّعون نبوّته، ولكنّ مذهب أهل البيت انتشر في بلاد إيران بصورة تدريجية على ممر الأدوار، حتى أصبحت إيران اليوم كلّها شيعة حكومة وشعباً، وقامت بخدمة المذهب ونشر مآثر أهل البيت وعمارة مراقدهم.

أما عدد الشيعة في اليمن فكثير جداً حسبما بلغنا ممّن زاروا بلادهم هناك، وقد انتشر التشيع في بقاع اليمن منذ صدر الإسلام، ولكن المذاهب الزيدية بمرور الزمن أخذ بعض علمائها يتأثرون بنزعات السلفية ويخشون اتهامات الابتداع التي شهرت بوجه الشيعة منذ مئات السنين لتنفير الناس منهم وإبعاد المسلمين عنهم وإخراجهم بمظهر الابتعاد عن الجماعة. وشاع اتجاه الأخذ ببعض مقولات المتخلفين والسلفية من أهل التعصّب والجمود، وانتشرت بين الصفوف في اليمن. ولكن مذهب أهل البيت له وجود في اليمن ـ وكما علمت ـ فإنّ من مهمات رجال المذهب جلاء اُصول الزيدية والعودة الى جوهر تعاليم الشهيد زيد بن الإمام زين العابدين، ورفض التباعد عن الشيعة المفروض لأغراض اُخرى تجهد في رسم ملامح بعيدة عن الاُصول الزيدية. فالشهرستاني يفضل تأكيد صفة الاعتزال على حقيقة التشيّع، فيدّعي أنّهم يعظّمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)(157) ممّا يدحضه تراث علمائهم ومراجعهم ومصنفيهم الزاخر بعبقات الولاء لأهل البيت(عليهم السلام)، وأشعارهم المشحونة بالإخلاص وصادق الحبّ، كنظم العلاّمة مصنف الهداية اللؤلؤية وهو من رجالهم ومراجعهم في القرن التاسع الهجري:

وإنّي وحبّي للنبيّ وآله *** وما اشتملت مني عليه ضلوع

وإن أفَلَت منهم شموس طوالع *** يكون لها بعد الاُفول طلوع

ومنها:

أبا الله لي غير التشيّع مذهباً *** ومن لامني فيه فلست أطيع

بني المصطفى لي اُسرة وجماعة *** ومذهبهم لي روضة وربيع

أصمّ إذا حدثت عن قول غيرهم *** وإن حدثوني عنهم فسميع

وبالله إنّي في التشيّع واحد *** وإن كثرت لدي جموع(158)

أمّا الشوكاني الذي تعرّض لعدوى السلفية وأصابته حمى التيمية، فبعُد عن اُصول الزيدية، وتمكّن من الادعاء فراح يشمل الزيدية بالتهم الباطلة التي وجّهت الى الشيعة الإمامية والتي يبرأ منها كلّ مسلم، فيقول في رسالته (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) واصفاً أبناء بلده من الزيدية بالتشيّع، وإن العوام طبائعهم مجبولة على التشيع الى حد يقصر عنه الوصف، حتى لو أنّ أحدهم سمع النقص بالجناب الإلهي والجناب النبوي لم يغضب له عشر معشار ما يغضبه إذا سمع التنقّص بالجناب العلوي بمجرد الوهم والاتهام الذي لا حقيقة له، انتهى .

وآخر عبارته مصادق ما وقع فيه هو ما شاب معتقده.

وهذه أهم الاصقاع التي تنبسط فيها منابت الشيعة، ولهم في جميع أصقاع العالم جاليات منتشرة. وسنتحدث عن بعض مآثر الشيعة وتراثهم القيّم وخدماتهم الإسلامية، ومواقفهم في وجوه الظلمة بصراحة لا أثر فيها للخداع والغش، ولا يشوهها الحرص على الصلات والجوائز وطلب المناصب.

كما سنتكلم عن آدابهم التي تأثّرت بآداب الإسلام وثقافته، وأنّ ذهنيتهم صقلتها التجارب، فكانت أكثر ما تعنى بالافكار العميقة، والمعاني الدقيقة، وأنهم يمتازون بالعواطف الثورية الهائجة لاستنهاض الاُمّة من كبوتها، وإيقاظها من غفلتها.

والشيء الذي يجب الالتفات إليه هو أنّ تاريخ الشيعة لم يدرس الدراسة الكافية التي ترفع الغموض الذي يكتنف مبادئهم  وتطورهم ، إذ المصادر التي يستمدّ منها المعلومات عن الشيعة مضطربة لا توضّح الطريق الموصل إلى الحقيقة، لأنّها مصادر لم تسلم من سيطرة التعصب الأعمى وغلبة الأهواء المردية والتحيّز الممقوت.

كما أنّ كتّاب الفرق قد سلكوا طريق الافتراء والتحامل ، ولم يكتبوا للعلم بل كانت كتاباتهم مجردة عن كل ماله صلة بالحقيقة، وسنوضح ذلك ان شاء اللّه عسى أن نكشف جانباً مهماً له تمام الصلة بحياتنا الاجتماعية، لأن ليس من اللائق أن يتعايش الشيعي مع أخيه السنّي في اطار العلاقات الاجتماعية فيجد أحدهما من الآخر ما يوثق العلاقات ويمتن المودة، وإذا ما جاءت مناسبة يبدي بها الشيعي فرحه لذكرى تتعلق بآل البيت، أو يظهر فيها حزنه لحادثة الطف أو غيرها من الفواجع، وجد من أخيه امتعاضاً أو اتهاماً، وعند التحقق يجد الشيعي أن أخاه السنّي متأثر بأقول زرعتها أقلام لا ترقب الله، أو ألسنة لا ترعى حرمة الدين. ولقد عشنا في العراق مواسم لا تفرق فيها بين السنّة والشيعة، لأن الشيعة باعتبارهم الأغلبية عملوا على جعل المواسم مناسبات تلهب المشاعر الوطنية وتخدم قضايا الاُمة الإسلامية في مواجهة القوى الأجنبية المستعمرة أو الحكام الظلمة. وقد عشت ايضاً تعاطف إخواننا السنّة في المواسم والمواقف، كما رأيت ماذا صنعت السلفية في النفوس حتى أثمرت نصباً كريهاً وحقداً بغيضاً وأنا اُقيم خارج العراق.

ونسير على ما دأبنا عليه من سلوك التجرّد لكشف الحقيقة، والله الموفق للسداد.

 

تصفيـة الحسـاب

 

أسباب الخلاف وعوامل التفرقة

يطالعنا التاريخ بحوادث مؤلمة، ونزاع بين طوائف المسلمين عامة وبين الشيعة والسنة بصورة خاصة، فإذا أردنا أن نبحث عن الأسباب التي أدّت إلى حدوث تلك المنازعات نجدها سياسية قبل أن تكون دينية، وقد اتّـضح لنا في الأبحاث السابقة أنّ تدخل أولي النفوذ والسلطة هو الذي جرّ الاُمّة الى تلك المنازعات، وأوقعهم في ورطة الاختلاف، ونشوء تلك المعارك التي اضطرمت نارها، وتنوعت أسبابها بصورة ظاهرة، ويعود ذلك إلى سبب رئيسي هو عامل السياسة.

فذهبت آلاف من النفوس ، واتّسعت بذلك شقّة الخلاف ، وفتحت باب الظنون والإتهامات، ونحن لا يتعلّق لنا غرض بذكر الخلاف بين جميع طوائف المسلمين لأنّا نعلم أنّ هذا الخلاف قديم عميق، ومن المؤسف أنّ كثيراً من قادة المسلمين لم يلتفتوا إلى ماوراء ذلك من خطر يهدد كيان الاُمّة، ويقضي على وحدتها التي هي أقوى جهاز تستطيع به الانتصار على خصومهم، الذين وقفوا لهم يتحينون الفرص للوثبة عليهم والتشفي منهم، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

وحيث كان بحثنا عن المذهب الجعفري وعوامل انتشاره، فنحن لا نتعرّض إلاّ بالإشارة لأسباب الخلاف المتكوّن بين السنة والشيعة، وقد مرّت عليه قرون وقرون، ولم تسعد الاُمّة يوماً ما برفع سوء التفاهم وإزالة تلك الحواجز التي تقف بينها وبين وحدتها التي أمر اللّه سبحانه وتعالى جميع المسلمين بالمحافظة عليها، وعالج الدين الإسلامي مشاكل الخلاف وبيّنها بأدق صورة.

فنحن نرى أنّ هذا الخلاف القائم بين الطائفتين مبنيّ على سببين رئيسيّين هما:

1 ـ الخلاف في الخلافة الإسلامية ومن هو المتأهّل اهليّة صالحة للولاية العامة والرئاسة الشاملة، وهي لا تحصل إلاّ لِمَن خصّه اللّه بالكمال، وخلّصه من شوائب بالنقص في الأقوال والأفعال، ونزّهه عن الظلم للرعية، حتى يقيم الحدود و (اللّه أعلم حيث يجعل رسالته )(159)، والشيعة لا يرون تحقّق تلك الشروط وحصول هاتيك الصفات إلاّ في من اختاره اللّه وأمر نبيّه بالنصّ عليه.

2 ـ عوامل السلطة، فإنّ الطبقة التي سيطرت على نظام الحكم رأت من نفسها عدم انطباق تلك الشروط عليها، والشيعة لا يرون قيمة لسلطان لا يتمسك حقّ التمسك بالشرع، ولا يتنزّه عن الظلم ولا يتورّع عن المحارم، وليس له قابلية تحمل أعباء الخلافة الإسلامية، وإنّ من هؤلاء الذين تربعوا على دست الحكم يريدون أن يكسبوا ثقة الاُمّة ويركزوا أنفسهم بالسلطتين الروحية والزمنية فينالوا الثقة التامة، ويصبحوا اُمراء المسلمين بحقّ مع عدم انطباق ما يؤهلهم لذلك، فهم إذاً يرون الشيعة حزباً معارضاً، وعقيدتهم لا تتمشى مع أغراضهم، فكانوا لا يعارضون العقائد، ما دامت لا تعارض سياستهم وأغراضهم الخاصة، والناس في أذهانهم ذلك العصر الذي كانوا يسيرون به في حرية العقيدة، وحرية العبادة بأمن تحت ظلال السلطة وأمام القانون.

أما إذا كانت العقيدة مخالفة لرأيهم أو أنّ لها دخلاً في سياسة الدولة، فلا يسمح القانون بإظهارها، ولا تقعد السلطة عن مقاومتها، ومن الواضح أنّ عقائد الشيعة تخالف دستور الحكومة في أغلب الأشياء التي تخرج عن مقاييس حرية الرأي أو سلامة النية والقصد الحكيم والعقائد الصحيحة، ومن هذا التجأ القانون إلى عدم المساواة في العقائد من جهة، وإلى مساواتها من جهة اُخرى، فترى مواقف الحكومة مختلفة اختلافاً كليّاً، وتقف في أكثر حالاتها موقف الحيرة خوفاً من انتشار العقائد التي لها أثرها عند المفكرين فتصبح الأقلية أكثرية، ولا يمكنها الوقوف أمام جارف الانكار، فهي تلتجئ أبداً إلى خلق مشكلات تفرّق بها كلمة الاُمّة لتثير الشحناء، وتشغل الأفكار، وذلك هو قانون الظلمة وأصحاب المصالح الشاذة يهديه إليه طبعهم وبقاء الحالة عبر العصور بين معسكرين، معسكر الظلم ومعسكر العدل.

الاتّهام بالتشيّع

وعلى هذا الأساس حاولوا إبراز الشيعة في ذلك المجتمع بصورة تدعو إلى مقاومتهم من كلّ الجهات وفصلهم عن المجتمع الإسلامي بالطعن في عقائدهم مرّة، وبالخروج على الجماعة مرّة اُخرى .

فوجّهوا إليهم التهم، وتقوّلوا الأقاويل التي لا نصيب لها من الصحّة، ولا خط لها من الحقيقة، وإنّما هي اتّهامات كاذبة وافتراءات محضة تمكّنت من قلوب السذّج فأصبحت كالأمر الواقع ، لكثرة العوامل التي دعت إلى تركيز تلك المفتريات في أذهان الناس، وتجنيد السلطة لاشاعتها أقوى الطاقات.

وأنت إذا نظرت بعين البصيرة تجد تلك المؤاخذات والاتّهامات التي رميت بها الشيعة غير محدودة بحد، بل تتسع باتساع غرض السلطة الحاكمة التي لعبت دورها في مقاومة الشيعة على ممر أدوار التاريخ، فيبرز في فترة ضرب معين وفي اُخرى بشكل مغاير.

وسارت الاُمور على ذلك الشكل الذي قضى على حرية التفكير في فهم الاُمور، وأن لا يكون إلاّ ما تراه السلطة وما تتمسك به.

يدخل الإمام  مالك بن أنس على أبي جعفر المنصور، فيوجّه إليه سؤالاً: من أفضل الناس بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

وهنا يقف مالك موقف الحيرة عندما يريد أن يعبّر عن رأيه الصحيح، فربّما يخالف رأي المنصور فيكون عرضة للنقمة، كما نقم منه من قبل، لمخالفته في فتوى طلاق المكره.

ولكنّه درس نفسية المنصور وعرف أغراضه المكنونة، فاجابه: أبو بكر، وعمر، فقال المنصور: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين.

وبالطبع أنّ رأيه محترم والرعية تابعة له فلا يمكن لأحد مخالفته، ومن ذهب إلى غير هذا فإنّما يعرّض نفسه للسخط ويصبح في قائمة المتهمين لمعارض الدولة، وناهيك بما وراء ذلك من بلاء ومحن، ويمكننا ان نعتبر مسألة التفضيل بين الخلفاء بدعة سياسية، ودعاية من دعايات التفرقة منذ أول نشوئها في البيئات الاُموية في الشام، وفي غير الشام، ومن المعلوم عند الراسخين في دراسة التاريخ أنّ مسألة التفضيل بين الخلفاء إنّما كانت بهذا الشكل الحتمي لا من حيث الواقع، وإلاّ لو ترك الأمر بدون تدخل السلطة فيه لما كانت المسألة من المسائل المشكلة التي ابتليت بها الاُمّة حتى أصبح القائل بأفضلية عليّ على الشيخين مبتدعاً زائغاً عن الحقّ سيّء المذهب، رافضياً خبيثاً، زنديقاً مارقاً، إلى ما هنالك من التعابير التي اتخذها المتزلفون لرضا السلطة.

وإذا رجعنا للواقع من حيث الواقع بدون مغالطة و لاتعصّب في ضوء التفكير الحر، والدراسات الصحيحة الخالية من نزعة الأهواء، نجد أنّ ترتيب الخلفاء حسب أزمنة خلافتهم ليست حجة على فضل بعضهم على بعض وجدارتهم بالحكم، وإنّما هي تقليد أعمى ، وجمود على اتباع السلف، الذين عرفت نزعاتهم وأهواؤهم وميلهم للسلطة التي أصبحت ترغم الناس على ربط العقائد بدستور الدولة، فترى  المأمون يخلق مشكلة القول بخلق القرآن ويحمل الناس عليه بالقهر، ولا يجعل للتفكير في الأمر مجالا فيقع ما يقع من قتل وتكفير إلى غير ذلك ، ويأتي من بعده المتوكل فيخالف رأيه ، ويقضي على ما أمر به المأمون ، ويحمل الناس على القول بقدم القرآن بالقهر والقوة .

ويأتي القادر العباسي سنة (422 هـ ) فيحمل الناس على الاعتقاد بما يراه في فضل الصحابة ، وتكفير المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، ويؤلّف بذلك كتاباً يُتلى على الناس في كلّ جمعة ، كما أنّه حملهم بالقهر على الاعتقاد بالسنة ، واستتابة من خالفه من المعتزلة والشيعة ، وأخذ خطوطهم بالتوبة ، وبعث إلى السلطان محمود ، يأمره ببثّ السنة في خراسان ، ففعل ذلك ، وبالغ و قتل جماعة ونفى جماعة آخرين من المعتزلة والشيعة وغيرهم ، وأمر بلعنهم على المنابر ، وذلك في سنة (408 هـ)(160) .

وفي سنة (403 هـ ) يصدر مرسوم من البلاط العباسي يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر وأنّهم ليسوا من أبناء علي (161) ، ونشر هذا المرسوم ووزّعت نسخه ، وألزم علماء بغداد بتوقيعه ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه من الاُمور الّتي تدخلت بها الدولة لغاياتها الخاصة ، ولا يريدون بذلك إلاّ فتح باب المناقشات ، لا بصورتها الواقعية ولكن بالصورة الّتي يريدون من ورائها الشغب والاختلاف بين الاُمة للنفوذ إلى مصالحهم الخاصّة ، وإلاّ فيلزمهم إعطاء الحرية الكاملة في المناقشات العلمية الّتي تختلف فيها الاُمة، ولا يؤدي اختلافها الى فرقة بل الى غناء في الأفكار وتقدم في المواهب والمقدرات، وهو ما يهدّد ملكهم وسلطويتهم، لذلك حسروا الخلاف فيما يسيء الى وحدة الاُمة واختلقوا أسباب تفرّق المجتمع الإسلامي وتركوهم يخوضون غمرات المعارك المذهبية والعقائد الدينية، وتدخّلوا بقسوة في حياة الفكر وعاملوا المفكرين الذين يأبون الانصياع لمخطّط الحكام بكلّ صنوف الأذى والكبت.

ضحايا المبدأ

والغرض أنّ نظر الدولة لموقف الشيعة إلى جنب آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتبرونه موقفاً معارضاً لسياستهم ، ومحاولة ظاهرة للقضاء على كيان الملك الذي تربّعوا على دسته بدون أهليّة ، وهو من حقّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهم يحذرونهم أشدّ الحذر ، ويدفعون الناس إلى التبرؤ منهم بشتّى الوسائل ، حتى أصبحت تهمة التشيّع طريقاً الى الهلاك يفرون منها ويرون أنّها أعظم من تهمة الزندقة .

قال الزمخشري في كيفية الصلاة على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) : وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد ، فمكروه لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولأنّه يؤدي إلى الاتّهام بالرفض ، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم(162) .

وأمثال هذه الفتاوى كثيرة جداً . وقد تركوا القول بأشياء رغم حصتها وثبوت تشريعها، وليس لهم في تركها إلاّ لأن الشيعة تقول به ، ومتابعتهم تؤدي إلى الرفض، كما مرّ بنا شيء منه  وسيأتي ذكره.

ومن هذا نعرف عظيم حراجة الموقف ، وإلى أيّ حد انتهى الأمر في الابتعاد عن شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، في عصر تأصّلت به روح العداء في قلوب الناس الذين ساروا مع الدولة جنباً لجنب ، وهل الرفض إلاّ حبّ أهل البيت (عليهم السلام) ، كما يوضح لنا الشافعي بقوله :

إذا في مجلس ذكروا عليّاً *** وسبطيه وفاطمة الزكية

يقال تجاوزاً يا قوم هذا *** فهذا من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن من اُناس *** يرون الرفض حبّ الفاطمية

ويقول :

قالوا ترفضت قلت كلاّ *** ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لكن توليت غير شك *** خير إمام وخير هادي

إن كان حب الوصي رفضاً *** فإني أرفض العباد(163)

وأظرف شيء ما يحدّثنا به الخطيب عن الفتح بن شخرف قال : حملتني عيني فنمت، فبينما أنا نائم إذا أنا بشخصين فقلت للذي يقرب مني : من أنت يا هذا؟ فقال : من ولد آدم، قلت : كلنا من ولد آدم ، فما الذي وراك ؟ قال لي: علي بن أبي طالب ، قلت له : أنت قريب منه ولا تسأله ، قال : أخشى أن يقول الناس إني رافضي(164) .

وكان الفضل بن دكين يتشيع فجاءه ولده يوماً يبكي فقال له : ما لك؟ فقال: إنّ الناس يقولون انك تتشيّع فانشأ يقول :

وما زال بي حبيك حتى كأنني *** برجع جواب السائلي عنك أعجم

ولا سلم من قول الوشاة وتسلمي *** سلمت وهل حي على الناس يسلم(165)

وإنّ أمراً يدعو الولد إلى هذا الحذر ، ويحمله على البكاء لعظيم جداً ، ولا غرابة من ذلك فإنّه يخشى على أبيه القتل ، وعلى داره الهدم ، وماله النهب ، طبقاً لقانون الدولة المقرر تنفيذه في حقّ الشيعة ، لأنّهم كانوا ينفّذون هذا القانون في حقّ من اتهم بالميل للعلويين .

كان إبراهيم بن هرثمة شاعراً مجيداً مدح آل البيت بأبيات منها :

ومهما (أُلام) على حبّهم *** فإنّي أحبّ بني فاطمة

بني بنت من جاء بالمحكما *** ت وبالدين والسنة القائمة

فلست اُبالي بحبّي لهم *** سواهم من النعم السائمة

ولما دخل على المنصور قال : لا مرحباً ولا أهلاً يا إبراهيم، قد بلغني عنك أشياء لولا ذلك لفضلتك على نظرائك فأقر لي بذنوبك فاستعفاه فعفى عنه حفظاً لدمه ، وقال : لئن بلغني عنك أمر أكرهه لأقتلنّك .

ولما دخل إبراهيم المدينة أتاه رجل من العلويين فسلّم عليه، فقال له إبراهيم تنح عني لا تشط بدمي(166) .

وهذا منصور النميري أنشأ أبياتاً منها :

آل النبي ومن بحبّهم *** يتطامنون مخافة القتل

أمن النصارى واليهود ومن *** في اُمة التوحيد في أزل

إلاّ مصالة ينصرونهم *** بظبا الصوارم والقنا الذّبل فغضب الرشيد وأرسل إليه من يقتله فوجده ميتاً، فقال : لقد هممت أن أخرج لسانه من قفاه. وأراد أن ينبش عظامه فيحرقها ولكنه لم يفعل(167) .

وقطعوا لسان ابن قرايا لأنّه كان يمدح آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وينشد الأشعار فيهم، فثارت العامة في بغداد ، وقدم للقاضي ، فحكم عليه بقطع لسانه ويده استناداً إلى مادة الحطّ من كرامة الصحابة ، بمدحه عليّاً (عليه السلام) وتفضيله عليهم .

وليت الأمر ينتهي عند هذا الحدّ، ولكنّهم تبعوه عندما أخذ للمارستان ، ورموه بالحجارة ، فالقى نفسه في دجلة فغرق وأخرجوه ميتاً وأحرقوا جسده، ووقعت بذلك معركة بين السنة والشيعة وذلك في سنة (574 هـ)(168) .

وقامت البينة على الحسن بن محمد بن أبي بكر الشيعي ، بأنه سبّ الصحابة عند القاضي شرف الدين المالكي ، فحكم عليه بضرب عنقه بسوق الخيل بدمشق في جمادى الاُولى سنة (744 هـ )(169) .

وأمثال هذه الفظائع كثيرة لا يسعنا عرضها ، ولكنّا أوردنا طرفاً منها لنأخذ صورة عن أعمال الدولة وسياستها مع الشيعة، يروي ابن ربّه عن الرياشي: سمعت محمد بن عبدالحميد يقول: قلت لابن أبي حفصة ما أغراك ببني علي؟ قال: ما أحد أحبّ إليّ منهم، ولكني لم أجد شيئاً أنفع عند القوم منه. وهنا أمر مهم يلزمنا أن نتساءل عنه .

وهو : أنّ الاقدام على سفك دم المسلم باسم الشريعة هو جرأة عظيمة ، وأنّ دولة تدّعي السير على نظام الشرع كان يلزمها أن تتّخذ طريقاً للخلاص من الإنكار والمؤاخذة، كما اتخذت ذلك في كثير من القضايا المخالفة لنظام الإسلام .

إذاً ماذا اتخذوا تجاه هذه الفظائع وهذه المنكرات في معاملة الشيعة ؟ أليس في الاُمة علماء ينبهون الحكومة والعامة على هذا الخطأ عند مخالفتهم نصوص الكتاب والسنة بإراقة الدماء في عمل لا يستوجب ذلك ؟ وكيف سكت العلماء عن هذا الفعل الشنيع ؟ ولم تقتصر سياستهم على إراقة الدماء وإنزال الأذى بالشيعة بل قاموا بحملة مضادّة يسعون بها الى مواجهة اعتقادات الشيعة.

نعم إنّهم لم يغفلوا عن ذلك واتخذوا التدابير اللازمة في رد المنكرين باُمور منها :

1 ـ إنّهم رفعوا مقام الصحابة على الاطلاق ، ومنعوا الناس عن الخوض في أحاديثهم وحوادثهم ، وجعلوا لهم منزلة العصمة الادعائية ، وقرنوهم بالرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعلوا مؤاخذتهم بشيء إنّما هو مؤاخذة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). وأنّ الطعن في حديثهم هو طعن في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ذكر عند الرشيد حديث أبي هريرة : أنّ موسى لقي آدم فقال : أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة ، فقال القرشي: أين لقي آدم موسى ؟ فغضب الرشيد، وقال : النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث رسول الله(170) .

وبهذا اُلجمت الاُمة ليحرموها حرية التفكير ، وألزموها بالنزول لإرادتهم، فمن خرج عن ذلك عدّ زنديقاً والزنديق يقتل ، وبالطبع أنّ الشيعة لا تقيم لهذا الحكم وزناً فهم في نظر القانون يحلّ قتلهم من هذه الجهة ، ومع ذلك فقد وضعت أحاديث كاذبة على صاحب الرسالة في تكريم الصحابة مطلقاً ، وبمقتضى ذلك لا يشملهم نظام الإسلام وأحكامه . وسيأتي بيان رأي الشيعة في الصحابة وأنه أعدل الآراء .

2 ـ إنّ مبادئ الشيعة وعقائدهم مستقاة من ينبوع أهل البيت (عليهم السلام) ، ويرونهم نصب أعينهم يقيمون الصلاة ، ويحتفظون بشعائر الدين، فكيف يحكم عليهم بالكفر ؟ فلا بد إذاً من سلوك طريق لاتّهام الشيعة بما يخالف الإسلام ، وبالفعل سلك خصوم الشيعة طريقاً نجحوا فيه ، وذلك في تركيز فكرة الغلوّ عند الشيعة في أذهان العامة ، وأنّ الشيعة يدّعون لآل البيت(عليهم السلام)الربوبية ، وقام بنشر هذه الفكرة بين العامة اُولئك الدجالون الذين يفترون على الله الكذب ، ومن قصّاص ووعاظ وزهاد ، يتّصفون بالتدين وهم جزارون لا يتورعون عن المحارم .

3 ـ إنّ الشيعة لما عرفوا بموالاة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبتهم لهم ، وأخذ الأحكام عنهم ، أصبح ولاة الأمر يحذرون الانكار عليهم من رجال الفكر الذين لا يخدعون بأقوال الدجالين من وعاظ وقصّاص ، لكيلا تتّسع عليهم دائرة المؤاخذة ، وربما يطالبون بشيء أوضح مما مرّ في تكفير الشيعة والطعن في عقائدهم. ولذا لجأوا الى الطعن في الاُمور التي من شأنها أن يحكم على معتقدها بالكفر وهم يعلمون أن الشيعة قبل غيرهم يكفّرون من ينحرف على هذا النحو الذي صوّرته أبواق الخلفاء.

أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حبّ علي وشيعته

وإنّ هناك أحاديث صحيحة وردت في أهل البيت وشيعتهم لا مجال لإنكارها ، إذاً كيف يصنعون وليس في امكانهم انكار تلك الأحاديث في مدح الشيعة ولزوم اتّباع آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخذت تلك الأحاديث مكانتها في المجتمع الإسلامي ؟ ولم تستطع الارهابات محوها من الأذهان ، وليس في قدرة السلطة أن تفرض طاعتها على الشيعة قهراً .

فَلْنَرَى إذاً كيف استطاعوا ان يفهموا الناس انحراف الشيعة عن الدين مع وجود تلك الأحاديث الصحيحة؟ أيكفي أن يستندوا إلى المادتين الأوليتين أم أنّ الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك ؟

نعم الأمر أهمّ من أن يتهاون فيه ، ويلزمهم أن يتخذوا شيئاً يستطيعون فيه تغيير تلك الأحاديث ، أو وضع زيادة يصلون من ورائها لغايتهم المقصودة ، فكانت النتيجة أن توضع زيادة تلحق ببعض الأحاديث ليبطل الاستدلال بها ، وإليك بعض الأحاديث الواردة في محبة أهل البيت (عليهم السلام) كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(171) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين يقدم عدوك غضاباً مقمحين(172) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد أخذ بيد حسن وحسين ـ فقال :

من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة(173) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

حبّ علي براءة من النار ، حبّ علي براءة من النفاق شيعة علي هم الفائزون(174).

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة(175) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة(176) .

ولما نزلت (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى)(177) قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : علي وفاطمة وابناهما(178) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

يا عليّ أنت وشيعتك في الجنة(179) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

يا أبا الحسن أنت وشيعتك في الجنة(180) .

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

يا علي أنت وشيعتك تردون على الحوض رواء(181) .

ولمّا نزلت: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية)(182) قال: هو أنت يا علي، هو أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين(183) .

هذا نزر من تلك الأحاديث الصحيحة الواردة عن صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم)في فضل علي وأهل بيته (عليهم السلام) وإلزام الناس باتباعهم ، وكثير غيرها

كحديث الثقلين الذي مرت الإشارة(184) إليه، وحديث مثل أهل بيتي(185) ،

وباب حطة(186) وغيرها .

تحريف الأحاديث

وهنا تأتي يد الوضع فتعمل عملها بالتحريف أو بإلحاق زيادة لهذه الأحاديث ، ولكنّها زيادة تدلّ بنفسها على نفسها ، وإليك انموذجاً من تلك الموضوعات على صاحب الرسالة . فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : «يا علي أنت وأصحابك في الجنة ، وأنت وشيعتك في الجنة».  فيأتي الفضل بن غانم بوضع زيادة والحاقها بهذا الحديث ، وهي : ألا إن ممن يحبّك قوماً يضفزون الاسلام بألسنتهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، لهم نبز يسمّون الرافضة فإذا لقيتهم فجاهدهم فإنهم مشركون(187) .

ويأتي أبو يحيى الحماني بزيادة عن علي (عليه السلام) أنه قال : قلت : يا رسول الله ما العلامة فيهم؟ قال : يقرضونك بما ليس فيك ويطعنون على أصحابي ويشتمونهم .

وبلفظ آخر : يا علي ينتحلون حبّك يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وعلامتهم أنّهم يسبّون أبا بكر وعمر .

وبصورة اُخرى : وسيأتي قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون(188). ورواية اُخرى: قالوا: يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟ قال: قال: لا يشهدون جمعة ولا جماعة ويطعنون في السلف(189). وكتحريف حديث الثقلين بوضع سنّتي مكان عترتي(190) .

وهكذا تجرّأ اُولئك المتقرّبون لأسيادهم بالكذب على الله ورسوله بوضع تلك الزيادة في الأحاديث الواردة عن صاحب الرسالة بمدح شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ، فأصبحت تلك الاُكذوبة مقررة بصورة رسمية كقانون تسير عليه السلطة التنفيذية ، وتلقاها السذج بكلّ قبول ، وأخذت مكانتها من ذوي العقول القاصرة. لأن السلطة اشترت ذمم الكذبة ومن ليس له من الدين إلاّ اسمه وزيّه فباعوا دينهم بدنياهم وتجرأوا على مقام رسول الله دون وازع وهم يعلمون إنّما هم بذلك يتبوأون مقعدهم من النار، وتلقوا ما أمروا به من الجائرين وأضافوه الى الأحاديث الصحاح التي لا يشك بها، لأنّها تصدر عن حقّ وتنطق بحقيقة وتتعلق بواقع رسول الله وتتصل برسالته. وبأمر الحكام الظالمين يتحول أنصار العترة الطاهرة وشيعة ابن عمّ المصطفى ووصيّه الى مشركين على لسان صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله)، لأنّ السلطة تسعى الى هدم الوجود الشيعي الذي يهدّد سلطانهم.

وبوحي من السلطة يصبح قتل الموحّدين سُنة، وعلى لسان محمد وهو الذي كان يدعو الى عدم قتل الكفار عند ترديد الشهادة، ويغني عن بيان ذلك قصة قتل زيد لكافر ردّد الشهادة.

ثم يشمل الوضع الجمعة والجماعة وإنّما جاءت هذه الزيادة، لأنّ الشيعة لا يعترفون إلاّ بإمامة السلطان العادل فلا يجيزون الصلاة خلف اُولئك المتسلطين الجائرين وجعلوا أوّل شروطها الخمسة وأحكامها: السلطان العادل. وأما صلاة الجماعة فهي لدى الشيعة مجال اقتداء ولا يقتدون إلاّ بشروط معروفة لا ينطبق أي منها على زبانية الحكام أو المتصدين للإئتمام إذا دخل وقت الصلاة وهم على سماط الشرب أو مائدة اللهو فترى أن كل زيادة تتمّ استجابة لغرض وتمرّ على الناس بواسطة أعضاء لجان الوضع التي كثر تشكيلها وأصبحت من دعائم الحكم.

أما العلماء فقابلوها بالإنكار ، وصرّحوا بوضعها بكلّ صراحة ، وأنّ رواتها كذّابون . منهم الفضل بن غانم المروزي القاضي ، الذي كان مشهوراً بفساد الأخلاق ومتهماً في دينه، وكان غير مقبول الرواية ، وقد ترك الحفاظ أحاديثه وطعنوا فيه .

قال الدارقطني : الفضل بن غانم ليس بالقوي ، وقال يحيى بن معين : ضعيف ليس بشيء(191) .

وغير ذلك من أقوال رجال العلم ، وكيف يؤتمن على حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من عرف عنه حبّ الغلمان وفساد الأخلاق، كما جاء ذلك في ترجمته(192) .

ومنهم سوار بن مصعب الهمداني الكوفي الأعمى ، قال فيه يحيى بن معين: سوار بن مصعب ليس بشيء ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال النسائي وغيره : متروك ، وقال أبو داود : ليس بثقة ، وقال أحمد وأبو حاتم : متروك الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه ، وقال الحاكم، روى عن الأعمش وابن خالد المناكير(193) .

ولا نطيل الكلام بذكر الآخرين من رجال هذه الزيادة كأبي جناب الكلبي، وسويد بن سعيد ، فقد نصّ الحفاظ على كذبهم وعدم قبول روايتهم ، كما أ نّهم نصّوا على هذه الزيادة بالوضع ، وصرح بذلك علي بن محمد الشوكاني(194) وابن حجر(195) وابن تيمية(196) والخطيب البغدادي(197) والسيوطي(198)وغيرهم .

والغريب أنّ هذه الحقيقة يقرّرها الكثير من العلماء وينصّون على كذب هذه الزيادة ، ولكن هناك حثالة من المتعصّبين الذين لا يروق لهم إلاّ إيقاع الفرقة بين صفوف المسلمين ، جعلوا هذه الاُكذوبة وسيلة للوقيعة بشيعة أهل البيت(عليهم السلام) وتقرّبوا إلى ولاة الجور بنشرها وادخالها في قالب الاعتبار ، ولكنّها محاولة فاشلة ، فجولة الباطل ساعة ، وجولة الحقّ إلى قيام الساعة .

أحكام جائرة

والغرض أنّ ولاة الجور اتّخذوا هذه الاُمور كقانون يحكمون به على المعارضين لأحكامهم ، فكان من الخطر البالغ أن يجهر الإنسان بأيّ رأي حرّ ، أو يذهب إلى خلاف ما تراه السلطة الحاكمة ، ومن سوء حظّ الرجل أن يكون له خصوم يسعون به عند السلطان ، فتنطبق بحقّه هذه المادة فيكون نصيبه القتل أو السجن .

لذلك نرى أنّ الكثير من غير الشيعة حكم عليهم بهذه المادة وليس لهم ذنب إلاّ التحرّر عن الجمود الفكري، والصراحة بشيء يخالف غرض الدولة.

فهذا المولى ظهير الدين الأردبيلي ، حكم عليه بالإعدام واتّهم بالتشيع ، وذلك لأنّه ذهب إلى عدم وجوب مدح الصحابة على المنبر وأنّه ليس بفرض، فقبض عليه وقدم للمحاكمة وحكم عليه القاضي بالاعدام ، ونفذ الحكم في حقّه فقطعوا رأسه ، وعلّقوه على باب زويلة بالقاهرة(199) .

وامتنع أحد القضاة من المبايعة للخليفة المقتدر ، وقال : وهو صبي لا تصحّ مبايعته ، فحكموا عليه بالقتل وذبح أمام الملأ بدمشق .

وهذا سليمان بن عبد القوي المعروف بأبي العباس الحنبلي المتولد سنة (657 هـ) والمتوفى سنة (716 هـ)، كان من علماء الحنابلة ، ومن المبرزين في عصره ، ودرس في أكثر مدارس الحنابلة في مصر ، فقد نسب إلى الرفض ، وقامت عليه الشهود في ذلك حتى تعجب هو من هذه النسبة واستغربها فقال:

حنبليّ رافضيّ ظاهري *** أشعريّ أنّها إحدى الكبر

وقد عزر في القاهرة لمدحه علياً بأبيات منها:

كم بين من شك في خلافته *** وبين من قيل إنه الله

ونسب إلى هجاء الشيخين ، والحطّ من مقام عمر بن الخطاب لقوله في شرح الأربعين: إنّ أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص ، وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك هو عمر بن الخطاب ، لأنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنة فمنعهم مع علمه بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اكتبوا لأبي شاه» وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «قيدوا العلم بالكتابة» فلو ترك الصحابة يدون كل واحد منهم ما سمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لانضبطت السنة ، فلم يبق بين آخر الاُمة وبين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ الصحابي الذي دوّنت روايته ، لأنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم، كما تواتر البخاري ومسلم . انتهى .

وبهذه الصراحة نسب هذا الحنبلي إلى الرفض ، وناله الضرب والسجن والتبعيد عن وطنه ، وفصل عن وظيفة التدريس(200).

ومن أغرب الأشياء ما يحدّثنا المقدسي عند دخوله إلى اصفهان بقوله : وفيهم بله وغلو في معاوية ، ووصف لي رجل بالزهد والتعبّد ، فقصدته وتركت القافلة خلفي ، فبتّ عنده تلك الليلة ، وجعلت أسأله ـ إلى ان قلت ـ : ما قولك في الصاحب ؟ فجعل يلعنه .

قلت : ولم ؟ قال : انّه أتى بمذهب لا نعرفه ، قلت : وما هو ؟ قال : إنه يقول إنّ معاوية لم يكن مرسلاً .

قلت: وما تقول أنت؟ قال: أقول: كما قال الله عزّ وجلّ: (لا نفرّق بين أحد من رسله)، أبو بكر كان مرسلاً، وعمر كان مرسلاً، ثم عدّ الأربعة، ثم قال: ومعاوية كان مرسلاً.

قلت لا تفعل : أما الأربعة فكانوا خلفاء ، ومعاوية كان ملكاً ، وقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكاً» فجعل يشنع عليّ، وأصبح يقول للناس : هذا رجل رافضي .

قال المقدسي : فلو لم أهرب وأدركت القافلة لبطشوا بي(201) .

وعلى هذا سار الناس على غير هدى يزدحمون في دائرة ضيّقة ، وقد سلبوا حرية الرأي وحرية التفكير . فلذلك تراهم لا يعرفون معنى الطعن، ولا يهتدون لطرق المؤاخذة ، ولا يتورعون في أمر ، ولا يقفون عند حدٍّ، وإنّما هي فوضى الاتّهام والتقوّل ، فكان كلّ من يورد حديثاً في فضل علي (عليه السلام)يتّهم بالتشيع أو الزندقة على حد تعبيرهم .

وكذلك كلّ من يناقش أعمال السلف طبقاً للموازين العلمية والحوادث التاريخية يتهم بالتشيع ; لذلك نراهم يحكمون على اُناس بشيء وهم لا يتصفون به .

فقد حكموا على الحاكم أبي عبدالله النيسابوري «صاحب المستدرك» بأنّه شيعي ، لذكره في كتابه حديث الطائر المشوي(202) ، وحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه»(203)، وبالطبع أنّ ثبوت هذين الحديثين الصحيحين يخالفان سياسة الدولة ، وهل يستطيع أحد أن يتفوّه بشيء منها ؟ وقد عقدت الألسن وكمت الأفواه ، فمن يستطيع الخروج على نظام الدولة إذ لا قيمة لمعايير الحقّ ومقاييس العقل .

ومن أغرب الأشياء ما ذهب إليه ابن كثير في تاريخه: (ج10 /ص21) وهو أنّ شهاب الدين أحمد المعروف بابن عبد ربه مؤلف العقد الفريد كان من الشيعة، بل إنّ فيه تشيّعاً شنيعاً، وذلك لأنّه روى أخبار خالد القسري وما هو عليه من سوء الحال .

يقول ابن كثير : وقد نسب إليه ـ أي لخالد ـ أشياء لا تصح ، لأنّ صاحب العقد كان فيه تشيّع شنيع ومغالاة في أهل البيت (عليهم السلام) ، وربّما لا يفهم أحد كلامه ما فيه من التشيّع ، وقد اغترّ به شيخنا الذهبي(204) فمدحه بالحفظ وغيره، ونحن نكلّ أمر هذه التهمة إلى قرّاء العقد الفريد وذوقهم السليم، لأنّ خالد بن عبدالله القسري في واقع الحال بعيد عن الإسلام بُعد ابن عبدربّه عن الشيعة، ولكن السياسة جعلت خالداً وهو المتّهم في دينه ـ كما يذكر ابن خلكان ـ قائماً في اطفاء البدع والضلال.

ومهما يكن من أمر فالشيء المهم الذي نريد التنبيه عليه هو أنّ تلك الخلافات التي وقعت بين المسلمين إنّما هي من الاُمور التي اتخذتها السلطة لأغراضها الخاصة .

وإنّ تلك الاتهامات التي أتّهم بها رجال الاُمة فاُريقت بها دماؤهم ، إنّما كانت بسبب حرية الرأي وقوة التفكير المخالف للسياسة في ذلك العصر ، فإنهم يريدون أن يجعلوا رجال الفكر وحملة العلم من الاُمة كقطيع غنم يوجهونهم إلى أيّ جهة أرادوا بدون تفكير منهم أو اختيار . ولذلك فقد اجتاز المسلمون دوراً عصيباً من أدوار القهر والقمع السياسيين والضغط الاجتماعي السافر .

*   *   *

وممّا تقدّم نستنتج ما لتلك النظم الموضوعة رغبة ورهبة ومن التأثير العميق في روح الجماعات ، واستخدامها كلّ الوسائل لحملها على العداء للشيعة ، فلا نستغرب إذاً تعبيرهم عن التشيّع بكونه بدعة كما هو في كثير من عبارات أهل الحديث ، فالبدعة هنا في مقابلة سنة السياسة لا سنة الشريعة المقدسة .

وإذا أردنا اجراء الحساب معهم عمّا ارتكبوه في حقّ الشيعة فلا يستطيعون الجواب بشيء ، لأنّهم ساروا مع التقاليد السياسية التي أجمع عليها الحكام واتفق عليها الظلمة عبر العهود الطويلة التي ذاق فيها الشيعة الأمرّين. ومن الغريب بل المستهجن أن تتلقى العقول حتى اليوم ما سنّه الاُمويون والعباسيون وابتدعوه من طرق مخالفة لروح الإسلام وأعمال منافية لأحكام الشريعة، وإلاّ فما هي بدعة التشيع وهم مجمعون على أنّ الشيعة هم الذين شايعوا علياً وتابعوه ، ومن الغريب جداً أن تكون متابعة علي والأخذ عنه ومحبة أهل بيته بدعة ؟ «ما جاءنا بهذا من سلطان» .

أليس في ذلك مخالفة صريحة لأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي الدالة بوضوح على وجوب حبّه ولزوم اتّباعه ، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا علي لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(205).

ولما سئل الإمام أحمد بن حنبل عما يروى أنّ علياً (عليه السلام) قسيم الجنة والنار فقال أحمد : وما تنكرون من ذا ؟ أليس قد روينا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال : «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» قالوا بلى . قال : فأين المؤمن ؟ قالوا : في الجنة . قال : فأين المنافق ؟ قالوا : في النار ، قال أحمد : فعلي قسيم الجنة والنار(206) .

وعلى أيّ حال فإنّ خصوم الشيعة لم يظفروا يوماً ما بالذي حاولوا تحقيقه من وراء اتخاذ تلك الوسائل في مقابلة الشيعة ، وقد أحاط الفشل بتلك العوامل، ولم تنجح النجاح المأمول في عرقلة سير انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ولم تؤثر تلك الدعايات لأنّها أسباب بعيدة عن الواقع ، لذلك وقف تيّارها وأخذ المذهب في الانتشار ، فأصبح في أقطار العالم عدد من الإمامية لا يقلّ عن تسعين مليوناً . وبذلك يصبح لنا أن نحاسب الكتّاب الذين تولّعوا بذم الشيعة ، والتهجم عليهم خضوعاً لمؤثرات العاطفة ، واستجابة لدواعي الفرقة بين طوائف المسلمين ، ولا أدري بماذا استساغوا هذا النقد وتولّعوا بالذم .

وإذا أردنا أن نحاسب الناقمين على الشيعة طبقاً للمنطق الصحيح; فإنّ الأرقام تقف عن مسايرتنا ، وربّما تقصر عن الاحصاء .

ولا نريد منهم إلاّ الاعتدال في الحكم وترك المغالطات والتقوّلات ، فإنّ ذلك نقص بمن يدّعي العلم والثقافة ، فقد مرّت العصور وانتهت الأوضاع التي تقتضي إثارة الفتن ، وإيقاد نار البغضاء بين المسلمين ، فما لهم يضربون على وتر الطائفية بين آونة واُخرى ، ولحساب من يكون هذا ومن هو الرابح في تلك المعركة ؟ نعم إنّما الربح في جانب أعداء الإسلام .

إن من يفسح لفكره المجال في البحث النزيه والتحقيق العادل عما اتّهم به الشيعة من اُمور تخالف الإسلام فإنّه يقف على خلاف ما قيل عنهم .

إنّ كلّ ما اُحيط بالتشيّع من اُمور تبتعد به عن دائرة الواقع إنّما هي اُمور مصطنعة لا تمت الى الحقيقة بشيء ، ولا يفوتنا أن ننبّه عن أعمال الكذّابين الذين اتخذتهم السياسة الجائرة لدعم كيانها .

إنّ هؤلاء باعوا ضمائرهم ، واشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق . ومن المستحسن أن نشير لبعضهم وقد عبرنا عنهم بلجان الوضع كما تقدّم، وهي من جملة بدع معاوية ومن معالم سنّته وسياسته التي تلقّفها بأمانة بنو العباس.

لقد سعى معاوية الى إرساء حقده الاُموي وكرهه الجاهلي لشخصية الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) على أساس له طابع ديني والظرف مهيّأ له بعد إنقياد أهل الشام لإرادته، فقرن سنته السيئة في لعن الإمام بحملة مسعورة لوضع الأحاديث في عثمان لمقابلة الأحاديث الصحيحة والمشهورة عن الإمام، فقام بإغداق الأموال ويزيدها حسب رغبة من يرضى لنفسه بالكذب والدنية، فتهافت كثيرون ممّن لهم شأن في علم الحديث على السحت الحرام غير آبهين بلظى النار التي أوعدهم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بها .

الوضع والحديث النبوي

حركة الوضع

اتّسع نطاق الكذب على الله وعلى رسوله ، وتلاطمت أمواج الافتراء وتصدر قوم لا أمانة لهم ، ولا دين يردعهم ، ولا عهد لهم بالصدق ، فحدثوا الناس بالأكاذيب ، ونمقوا وزوروا ، ووضعوا من الأحاديث كيفما شاءت رغباتهم ، ارضاء لسلطان لا يرعى للصدق حرمة ، ولا يرى للدين قيمة ، فدرج الناس على ذلك وتلقنوا تلك الأحايث بلا تمحيص ولا تتبّع .

ولا اُريد أن أتعرّض لعهد الصحابة وما حدث فيه من أحاديث ، فإنّ يد الوضاعين انتحلت سلسلة تتصل بهم في الحديث ، لأنّ أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)أجلّ قدراً وأعلى منزلة من تعمد الكذب عليه ، إلاّ من صارعته الدنيا فصرعته وباع آخرته بدنياه فكان نصيبه الخسران ، وما هو من مصداق الصحبة في شيء كسمرة بن جندب وغيره ، الذي كان يساومه معاوية في وضع الأحاديث أو تحريف ما أنزل الله بمئات من الآلاف من الدنانير كما هو مشهور عنه .

ولكن نريد أن نتعرّض لعصر اشتداد الفوضى والخروج على حدود الأمانة في النقل ، يوم دار الزمان دورته ، ودبّ داء الحسد والتنافس على حبّ الرئاسة والتقرب الى السلطان ، عندما اشتدت حاجته إلى مرتزقة يجعلهم قنطرة إلى غايته ، ليبرر مواقفه المخالفة لأحكام الدين ، فكان ما كان من تشجيع للكذابين والوضاعين ، فكانت هناك سلسلة أحاديث موضوعة رغبة في نواله ، وطلباً لاستصفاء ودّه ،وقد فتحت باب التقرب إلى السلطان بمفاتيح الأكاذيب، فدخل الكثير منهم .

فهذا غياث بن إبراهيم يدخل على المهدي، وكان المهدي يحب الحمام، فطلب منه المهدي أن يحدّثه ، فيأتي بحديث عن أبي هريرة، قال: لا سبق إلاّ في حافر أو خف ـ وأضاف إليه أو جناح ـ  فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم ، فلما قام غياث قال المهدي : أشهد أنّ  قفاك قفا كذاب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جناح ولكنه أراد أن يتقرب إليّ(207).

ويدخل أبو البختري وهب بن وهب قاضي بغداد على هارون الرشيد ، وهارون يطير في الحمام، فقال: هل تحفظ في هذا شيئاً ؟ فقال : نعم ، حدثني هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطير الحمام(208) ، فنرى القاضي هنا سريع الارتجال بوضع الأحاديث رغبة لنوال السلطان وتحبّباً إليه، بدون التفات إلى مؤاخذة أو خوف من الله تعالى .

وكان شاه بن بشر بن ماميان معروفاً بالوضع في الدولة العباسية . ومن أحاديثه عن جابر بن عبدالله مرفوعاً : أتاني جبرئيل وعليه قباء أسود ومنطقة وخنجر ، فقلت ما هذا ؟ فقال : يأتي زمان يكون لباسهم كهذا قلت : يا جبرئيل من يكون رئيسهم ؟ قال : من ولد العباس(209) .

واستجلب الرشيد إسحاق المعروف بأبي حذيفة المتوفى سنة (200 هـ) ، وهو معروف بالكذب ومشهور بالوضع ، فأمره الرشيد أن يجلس في مسجد ابن رغبان ويحدث الناس، فأخذ إسحاق يحدّث بالأكاذيب ، ويروي عن خلق من الثقات أكثرهم ماتوا قبل أن يولد(210) .

واستقدم المهدي أبا معشر السندي ، وأشخصه إلى بغداد ، وقال : تكون بحضرتنا تفقه من حولنا . وكان أبو معشر ماهراً بوضع الأحاديث والقصص . قال ابن جزرة : أبو معشر أكذب من تحت السماء(211) وصنف كتاب المغازي . وروى عنه الواقدي وابن سعد ، وقد نعم في بغداد برضا كثير من رجال البلاط العباسي ، وقد استمد منه الطبري معلومات عن التاريخ الانجيلي ومن تاريخ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما استمد منه بنوع خاص معلومات تاريخية تنتهي إلى عام وفاته.

السلطة ووضع الحديث

وناهيك ما ابتدعه هؤلاء من الأحاديث حبّاً للدنيا بما يقرّبهم عند السلطان زلفى ، لمخالفتهم الشرع وخروجهم عن سلطان العقل .

وهناك عناصر في الوضع من طراز آخر ، وهم الذين قاموا بنصر مبادئهم في وضع الأحاديث على لسان صاحب الرسالة بدون مبالاة .

فهذا نعيم بن حماد بن معاوية المتوفى سنة (227 هـ) كان ماهراً في وضع الحديث، متجرئاً على مقام صاحب الرسالة. قال الذهبي : وكان يضع الحديث في تقوية السنة ، وحكايات في ثلب أبي حنيفة وكان صلباً في السنة(212) .

ومنهم أحمد بن عمرو بن مصعب بن بشر ، كان من الوضاعين ومن أهل السنة المجودين ، ووضع بذلك كتباً في تقوية السنة كلّها موضوعة منتشرة عند الخراسانيين في عصره ، وكان معروفاً في نصرة السنة بوضع الأحاديث الكاذبة عن الثقات(213) .

ومنهم علي بن أحمد بن محمّد بن عمر وكان شديد العصبية في السنة يضع الأحاديث في نصرتها (214) .

ومنهم أحمد بن عبد الله الأنصاري كان من الوضّاعين لنصرة السنة ، وهو واضع الحديث عن ابن عمر مرفوعاً في قوله تعالى :( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه )(215) قال : فأما الذين ابيضت وجوههم : أهل السنّة، وأما الذين اسودت وجوههم: أهل البدعة وغيرهم(216)، وسيأتي الحديث عنهم في الأجزاء الآتية.

لقد كان خطر اُولئك الدجالين عظيماً جداً ، فإنّهم تزلّفوا لولاة الأمر بوضع الأحاديث ، فاتخذوا منهم أعواناً على حلّ مشاكل يعجزهم حلّها بالقوة، ولكنهم جعلوا ما يضعونه وسيلة لتعزيز مركزهم أولاً ، ومقابلة خصومهم ثانياً، واشغال الرأي العام ثالثاً ، وكان الأمر الذي يهمّهم قبل كلّ شيء هو أمر الشيعة الذين آثروا تضحية النفس على الإذعان للخصم، ولم تربطهم معهم رابطة ، ولم يعترفوا بصحة تلك الولاية الجائرة ، فلا يصحّ لهم السكوت عن معارضتها وهم غاصبون للخلافة ظالمون لنظام الحكم الإسلامي الذي جعلوا منه ملوكية مستبدة ومؤسسة ظالمة لا تمت الى قيم العدل الإسلامي إلاّ بالاسم، لذلك سلكت السلطة معهم طرق المكر والخداع والتمويه على الناس، حتى بلغ بهم الأمر الى وضع الأحاديث بخروج الشيعة عن الإسلام كما مرّ بيانه ، وهي تدلّ بمنطوقها على تحليل دمائهم ومعاملتهم معاملة الكفرة، وهيهات أن ينطبق ذلك على الواقع ، ورجال الاُمة لم يكونوا بتلك الدرجة من الجهل وعدم المعرفة بحيث يجهلون الشيعة وما لهم من الأثر في المجتمع الإسلامي ، فقبول مثل تلك المنكرات أمر شاق يصعب تحقيقه ويبعد نجاحه ، ولكن السلطة بذرت تلك البذرة في أذهان السواد، وجعلت تتعهدها وتحسن رعايتها بيد علماء السوء ، الذين اتخذوهم أعواناً في ساعة هم أحوج إليهم فيها من السيف والجند ، فقوّة فتكهم اثمرت الشحناء بين أفراد المجتمع الإسلامي، وتركوا لها قرحة دامية في جسم الاُمة أعجز رجال الاصلاح علاجها حتى أيامنا هذه .

وقد كان اُولئك الدجّالون على أنواع في الوضع ، واختلاف في الغاية . فمنهم من يضع الحديث طمعاً في الدنيا وتزلفاً لولاة الأمر وهم الذين نعبّر عنهم بلجنة الوضع، وأول من اتخذ ذلك معاوية بن أبي سفيان(217) كما تقدم معنا.

ومنهم من كان يتعصّب لمبدئه فيضع الحديث تقوية له ، ومخالفة لخصمه ويعدّون ذلك تديّناً ، وسينالون الجزاء عليه يوم الجزاء .

ومنهم من يضع الحديث في نصرة مذهبه ، وهؤلاء يرون الانتصار لمذهبهم انتصاراً للحقّ ومقاومة للباطل ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فراحوا يضربون الأحاديث بمهارة، ويخلقون الحكايات والقصص .

ويطول بنا الحديث إذا أردنا التوسّع في البحث عن الوضاعين والكذابين ، ولعلّ لنا في الوقت متسعاً فننشر اسماءهم ، وقد أحصى شيخنا الأميني منهم عدداً بلغ ستمائة وعشرين ، ومجموع ما وضعوه من الأحاديث وما قلبوا أسانيده على اختلاف الأهواء والنزعات فكان 408324 حديثاً(218).

وقد أخرجنا من تلك الموضوعات ما يقارب الأربعمائة في الفضائل والمناقب وفي بعضها أساطير لا أحاديث ، وحكايات يصنعها القصاصون بمهارة ويبثّونها بين الناس .

ومن أعظم تلك الافتعالات هي اسطورة ابن سبأ التي لا زالت تحتل مكانتها فوق صفحات التاريخ وتأخذ وقتاً من كتّاب عصرنا الحاضر .

ولعمري إنّها محنة، ولكن كيف المخرج ؟ وهل يتسنى لنا تصفية الحساب لنعالج هذه المشاكل ؟ كيف وقد سرى داؤها في المجتمع ، وأخذها المهرّجون مأخذ القبول وجعلوها بمحلّ الاعتبار ، وراحوا يؤيدون تلك الموضوعات إذ وافقت أغراضهم ، وجعلوها في منهاج الاحتجاج ، ولم يلتفتوا لحالها وحال رواتها ممّن أعماه التعصّب ، فضعفت مواهب إدراكه ، ولم يستطع تمييز الحقّ من الباطل ، وقد خانه الاتزان والتعقّل ،فهوّس وهرّج وموّه وافترى ، وحاول إخفاء حقيقة لا يمكن إخفاؤها .

القصّاصون وأثرهم في المجتمع

ولابدّ لنا من الإشارة الى بعض أعمال القُصاص وما لهم من الأثر في توجيه الرأي العام لقبول تلك المنكرات عند العامة . فإنّهم قاموا في المساجد والجوامع والطرقات والأندية يبثّون تلك المنكرات نصرة للسلطة ، وتأييداً للمبادئ المبتدعة ، ولقد اتخذت السياسة منهم سلاحاً فاتكاً . فكانوا ينشرون القصّاصين في ساحات الحرب يشجعون الجند على التضحية حتى تطوّرت الحالة الى اختراع الأحاديث والقصص لايقاع الفتن بين طوائف المسلمين. ولقد خضعت العامة لتصديقهم وقبول مفتعلاتهم ، حتى أصبح من العسير الإنكار عليهم .

يحدّثنا الشعبي : أنّه أنكر على قاصّ حدّث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الله خلق صورين ، له في كل صور نفختان .

فقال الشعبي : اتق الله يا شيخ ولا تحدث بالخطأ أن الله لم يخلق إلاّ صوراً واحداً . فقال القصاص : يا فاجر إنّما حدثني فلان عن فلان وترد عليّ ؟ ثم رفع نعله فضربه ، وتتابع القوم عليه بالضرب فما خلص نفسه حتى حلف أنّ الله خلق ثلاثين صوراً في كل صور نفخة(219) .

وحدّث أحدهم بحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار . فلم يبق أحد منهم إلاّ وأخرج لسانه يومئ به الى ارنبة أنفه(220) .

وأنكر الطبري على قاص ببغداد ما يحدّث به من الأكاذيب فرمى العامة باب دار الطبري بالحجارة حتى سدّوه ، وصعب الخروج منه .

ونزل القصاص الى غمار العامة يقصون لهم القصص الدينية، والأساطير والنوادر في المساجد والطرق ، وينالون بها مالاً كثيراً ، وكان يجتمع اليهم الرجال والنساء(221).

قال ابن الجوزي في المنتظم : وكان القصاص في أواخر القرن الرابع أكبر مثيري الفتن بين السنة والشيعة(222) .

وعلى أيّ حال فلو حاولت أن أصف هنا عظيم الأثر الذي تركته تلك الأوهام والأكاذيب التي وضعها الدجالون والقصاصون الذين يلقنون العوام إياها وبالأخص بغض الشيعة وعداء أهل البيت(عليهم السلام) ; لطال بنا الحديث ، وعظمت قائمة الحساب ، ولكنا نقتصر على هذا القدر ولا نلمّ بجميع العوامل التي دفعت الناس الى التهجّم على الشيعة ، فذلك يحتاج الى وقت طويل ، وصفحات تزيد على صفحات هذا الكتاب .

ولهذا نقتصر على نتيجة واحدة في تصفية الحساب ، وهي لفت نظر أبناء العصر الحاضر الى رعاية حقوق الاُمة ، وأن يستعرضوا تاريخ الشيعة بدون تعصّب وتحيّز، وان يلحظوا تطور المذهب الجعفري وسيره في طريق التقدم بما لديه من القوى الحيوية ، والقدرة على مقاومة الطوارئ ، وتخطّي تلك الحواجز التي وقفت في طريقه ، ما لو وقف بعضها في طريق غيره من المذاهب لما استطاع ان يخطو خطوة واحدة ، لأنّها عوامل جبارة تجعله أقوى من كلّ ظرف ومعترك يختلقه الظلمة والجبارون، وسيبقى على هذه القوّة محتفظاً بعوامل البقاء والدوام حتى تظهر دولة الحقّ وتقوم الساعة.

على أنّ المذهب الجعفري ليس باستطاعة أي أحد مؤاخذته بشيء في ذاته، فهو موافق للشعور المتطور والوجدان ، ولكتاب الله العزيز ، والسنة المستقيمة ، وقد وجد العقل السليم فيه بغيته ، كما أنّ باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه، وقد برهن بغزارة مادته ، ومرونة أحكامه ، ودقّة بحوثه ، وسلامة قواعده ، ونقاوة اُصوله وفروعه على أنّه أقوى مصدر للتشريع الإسلامي ، ويتطور مع الزمن ومع كثرة الحوادث .

ولكنّ المؤسف أن نرى الكثير ممن كتبوا عن التشريع الإسلامي قد اقتصروا على ذكر المذاهب الأربعة فحسب ، وإذا انجر الحديث الى ذكر اختلاف الآراء وتعدّد الأقوال في مسألة فقهية ذكروا آراء رؤساء المذاهب البائدة ولم يذكروا أقوال أهل البيت وآراءهم .

عذرنا اُولئك القوم الذين دوّنوا الفقه في العصور الغابرة، لأنّ الخشية من ذكر مذهب أهل البيت (عليه السلام) قد ارغمتهم على الاعراض عن ذكره ، فإنّ التعرض لذلك إنّما هو تعرّض للخطر ، ولكنّا نعجب من المتأخرين الذين ساروا تلك السيرة الملتوية، ولم يعطوا مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حقه من العناية في البحث .

ولا يستبعد أنّ التقليد من حيث هو قد دعاهم لمخالفة الواقع ، وإلاّ فما المانع من التعرّض لذكرمذهب أهل البيت (عليه السلام) عندما يكتبون عن التشريع الإسلامي ؟ وقد انتشر في أقطار الأرض ، وعبر الى ما وراء البحار ، وأصبح مؤيدوه يتجاوز عددهم التسعين مليوناً(223)، ولكنّ هناك عوامل حالت بينهم وبين الاحتكاك بمذهب أهل البيت (عليه السلام) ، وليس عليهم كلفة في معرفته إلاّ أن يقرأوا الكتب المدونة في ذلك ليقفوا على الحقيقة، وعليهم أن يتقبلوا الحقّ وإن كان مرّاً أو يرفضوه إن وجدوا لديهم أدلة عقلية .

ولعلّ تلك الدعايات المارّة الذكر قد خامرت الأدمغة ، وتوارثتها الأجيال وهي التي أدّت إلى ابتعادهم عن الحقيقة . ولذلك عجز المصلحون عن مسألة التوفيق بين المسلمين، ورفع سوء التفاهم، مع ما بذلوه من النصح واجهدوا أنفسهم لتحقيق هذه الغاية، وهذا أمر غريب جداً فإنّه لم يكن هناك شيء من الاُمور المتضادة التي لا يمكن بحثها ، والوقوف على حقيقتها ، حتى أصبح من الصعب التوفيق بين المسلمين ، ونبذ تلك الخلافات ، فالشيعة لم يكن لهم مذهب يخالف بأحكامه كتاب الله وسنة رسوله .

وأرى من الخير أن أتعرّض هنا لما ذكره المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم» عن عدول الناس عن مذهب الشيعة ـ بالأخص ـ في أربع مسائل ، ونجيب عن ذلك باختصار من القول ، وموجز من البيان .

عدول الناس عن المذاهب

إعلم أنّ الناس قد عدلوا عن مذهب أبي حنيفة في أربع : صلاة العيدين إلاّ بزبيد(224)، وصدقة النخيل ، وتوجيه الميت عند الموت ، وإلتزام الأضحية .

وعدلوا عن مذهب مالك في أربع : الصلاة قدام الإمام إلاّ بالمغرب ويوم الجمعة بمصر ، وفي أكل لحوم الكلاب(225) إلاّ بمدينتين بالمغرب تباع جهراً ، وتطرح في عرائس مصر ويثرب سرّاً ، وفي الخروج من الصلاة بتسليمة واحدة .

وعدلوا عن مذهب الشافعي في أربع: الجهر بالبسملة إلاّ بالمشرق في مساجد أصحابه، وكذلك القنوت بالفجر ، وفي اختصار النية في تكبيرة الافتتاح ، وفي ترك القنوت في الوتر .

وعدلوا عن مذهب داود في أربع : تزويج ما فوق الأربع ، وإعطاء الاُنثيين النصف ، ولا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ، وفي مسألة العول .

وعدلوا عن أصحاب الحديث في أربع : المتعة في الحجّ، والمسح على العمامة ، وترك التيمم في الرمل ، وانتفاء الوضوء في القهقهة .

وعدلوا عن مذهب الشيعة في أربع : المتعة ، ووقوع طلاق الثلاث واحدة ، والمسح على الرجلين ، والحيعلة في الأذان(226) .

وتلك المسائل التي عدلوا فيها عن المذاهب موجودة في كتب الفقه ، ولا حاجة بنا إلى التعرض لذكرها; لأنا قد أفردنا بحثاً خاصاً بالفقه وسيأتي. نعم الشيء المهم هو النظر في هذه المسائل التي يقول فيها المقدسي بعدول الناس عنها في المذهب الجعفري ، فهل هي بدعة فتركها الناس أم أنّها من المسائل المقررة في الشريعة الإسلامية ؟ فلا بد لنا من البحث ـ بإيجاز ـ عن هذه المسائل لنرى ما هو الحقّ:

المتعة وتشريعها

أمّا عدولهم عن متعة النساء فإنّما هو عدول عمّا شرّعه الله ورسوله للمسلمين، وقد عمل به أصحابه من بعده مدة خلافة أبي بكر ، وشطراً من خلافة عمر ، واستمروا على العمل بها حتى نهى عنها عمر بقوله : «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهي عنهما واُعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء»(227) فإباحة المتعة مقطوع به على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وادعاء النسخ لذلك الحكم لا يثبت .

وكان ابن عباس حبر الاُمة يأمر الناس بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر فقال : على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلمّا قام عمر قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، فأتموا الحج والعمرة وأبقوا نكاح هذه النساء ، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة .

وأخرج مسلم في باب نكاح المتعة من صحيحه عن أبي نضرة، قال : كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت فقال : إنّ ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما(228) .

وقد ذهب إلى القول بها جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأمير المؤمنين علي(عليه السلام)، كما روي عنه أنه قال: لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ(229).

ومنهم عبدالله بن عباس، وكان يقول : ما كانت المتعة إلاّ رحمة رحم الله بها اُمة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) لولا نهيه ـ يعني عمر ـ عنها ما احتاج إلى الزنا إلاّ شقيّ(230) .

ومنهم عبدالله بن عمر، أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عبدالله ابن عمر، قال : سأل رجل ابن عمر عن متعة النساء فقال : والله ما كنّا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زانين ولا مسافحين(231) .

ومنهم عبدالله بن مسعود، قال : كنّا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لنا شيء ، فقلنا ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل . ثم قرأ عبدالله: (يأيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(232) .

وأخرج البخاري عن جابر بن عبدالله وسلمة بن الأكوع أنّه قال : كنّا في جيش فأتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إنّه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا(233) .

وأخرج مسلم عن عمران بن حصين أنّه قال: تمتعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال رجل برأيه ما شاء(234) .

وعلى أيّ حال فإنّ تشريع زواج المتعة في الإسلام بشروطه المعتبرة فيه قد اتفق عليه السنة والشيعة ، ودلّ عليه القرآن الكريم كقوله تعالى : (فما استمتعتم به منهن فآتوهن اُجورهن فريضة)(235) .

وعلى هذا الاتفاق ساروا على القول بها في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأيام أبي بكر وشطراً من عهد عمر إلى أن نهى عنها كما مرّ، فافترقوا عند هذا الحدّ، فالشيعة أخذوا بحلّيتها ولم يتركوا قول رسول الله لقول عمر .

ولم يحلّ ذلك من أن يقول فيها جماعة من الصحابة ، منهم جابر بن عبدالله ومعاوية، وابن مسعود، وعمرو بن حريث ، واسماء بنت أبي بكر ، وأبو سعيد، وسلمة ابنا اُمية بن خلف وغيرهم .

وقال بها جماعة من التابعين منهم طاووس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة(236) .

وسيأتي تفصيل البحث في الأجزاء القادمة إن شاء الله .

الطلاق الثلاث واحدة

اتّفقت الإمامية على أنّ طلاق الثلاث واحدة ، فلو طلّقها ثلاثاً بدون مراجعة لم تحرم عليه ، ويجوز له مراجعتها ولا تحتاج إلى محلل .

نعم الطلاق المحرّم الذي لا تحل المطلقة بعده لمطلقها إلاّ بالمحلل الشرعي، إنّما هو لو طلقها ثم راجعها، وهكذا ثلاثاً حرّمت عليه في الطلاق الثالث ، وهو المسبوق برجعتين مسبوقتين بطلاقين ، وحينئذ لا تحل المطلقة بعد لمطلّقها حتى تنكح زوجاً غيره ، وبه جاء التنزيل: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) الى قوله عزّ وجل: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) ـ الآية ـ(237) .

وقد خالف الأكثر من علماء السنة ، فجعلوا قول الزوج لزوجته : أنت طالق ثلاثاً يوجب تحريمها ولا تحلّ إلاّ بالمحلل ، وقد كان على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعدّ طلاق الثلاث واحدة ، كذلك في أيام أبي بكر وشطراً من عهد عمر بن الخطاب .

أخرج مسلم في صحيحه بسند عن ابن عباس أنّه كان الطلاق على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة : فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه(238)، وجعل البتة واحدة(239).

وأخرج عن أبي الصهباء أنّه قال لابن عباس : أتعلم أنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وثلاث من إمارة عمر فقال ابن عباس : نعم(240).

وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام(صلى الله عليه وآله وسلم) غضبان، ثم قال : أيلعب في كتاب الله وأنا بين أظهركم(241).

وعن ابن عباس أنّ ركانة طلّق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): كيف طلقتها ؟ قال : ثلاثاً . فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : في مجلس واحد ؟ قال : نعم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت(242) .

وأخرج الترمذي بلفظه عن عبدالله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله إنّي طلقت امرأتي البته، فقال ما أردت بها؟ قلت واحدة. قال: والله، قلت والله، قال: فهو ما أردت(243).

قال الآلوسي في تفسيره : وفي وقوع الثلاث بلفظ واحد وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض خلاف ، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض ، لأنّه بدعة محرمة وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين(244).

قال الشوكاني : وقع الخلاف في الثلاث إذا وقعت في وقت واحد ، هل يقع جميعها ويتبع الطلاق أم لا ؟ ثم ذكر القائلين بالوقوع : وهم أئمّة المذاهب الأربعة وغيرهم ثم قال : وذهب بعض من أهل العلم : لا يتبع بل يقع واحدة فقط ، وحكى ذلك عن أبي موسى ، ورواية عن علي (عليه السلام) ، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، ورجاء ، والهادي والقاسم ، والباقر، إلى آخره(245).

والحاصل أنّه لا خلاف عند المسلمين بوقوع الطلاق الثلاث واحدة ، في عهد النبي وأبي بكر وشطراً من إمارة عمر ، وبعد ذلك ألزم عمر الناس بوقوع مثل هذا الطلاق اجتهاداً منه ، وعند هذه النقطة تفترق الشيعة عن السنة ، فالشيعة يأخذون بقول النبي ويتبعون ما شرّعه ولا يلتزمون بتنفيذ اجتهاد عمر وترك تلك النصوص الدينية المقدسة من الكتاب والسنة ، فقد دعته مصلحة رآها ولكن المصلحة عندنا هي اتباع الرسول امتثالاً لقوله تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(246).

يقول الاُستاذ الغزالي : وجمهور الفقهاء الأقدمين جعلوه بدعياً ويقع الطلاق به، وهم في هذا يتبعون اجتهاد عمر إلى أن يقول : وبدلاً من أن يلتزموا منهج السنة آثروا البدعة المحرّمة، ونطقوا بالطلقات الثلاث دفعة واحدة ، وكان ذلك إذا حدث في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)غضب منه أشد الغضب ولم يجعله إلاّ واحدة(247) .

المسح على الرجلين

المسح على الرجلين مشروع على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رواه الجمهور عن معلى بن عطاء عن أبيه عن إدريس بن أبي أويس الثقفي: أنّه رأى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ ومسح على قدميه. وأخرج مسلم في صحيحه عن عبد اللّه بن عمر أنه قال : تخلف عنا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فأدركنا وقد حضرت الصلاة ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى : « ويل للأعقاب من النار »(248).

قال القرطبي : وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح فهو أدل على جوازه منه في منعه، لأنّ الوعيد إنّما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة بل سكت عن نوعها ، وذلك دليل على جوازه ووجوب المسح هو أيضاً مرويّ عن بعض الصحابة والتابعين(249).

والغرض أنّ أهل السنة اختلفوا في فرض الرجلين ، فقال قوم : فرضهما المسح.

 

 (67) حجر بن عدي بن معاوية بن جبلة بن الأدبر، كان من فضلاء الصحابة ومن شيعة عليّ(عليه السلام) وحضر معه حروبه ـ وكان على كنده يوم صفين، وعلى الميسرة يوم النهروان ـ حمله زياد بأمر معاوية في اثني عشر رجلاً موثقين في الحديد فقتل معاوية ستة منهم حجر واستحيا ستة وأوصى حجر من حضر من أهله أن لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً فإني ملاق معاوية غداً على الجادة، وكان قتله في مرج عذراء سنة إحدى وخمسين للهجرة، المصنف ج3 ص 139.

(68)  فرحة الغري ص7 .

(69)  إيمان أبي طالب ص289.

(70) مروج الذهب ج3 ص 41 ـ 42 .

(71) العقد الفريد ج5 ص 108 .

(72)  أصل الشيعة واُصولها ص184 .

(73)  الإمام الصادق(عليه السلام)، لأبي زهرة ص 66، حلية الأولياء ج3 ص198 ـ 199.

(74)  مقدمة ابن خلدون ص274.

(75) البقرة: 256 .

(76)  الديباج المذهب ص72 .

(77)  جامع أسانيد أبي حنيفة ج1 ص222 .

(78)  تاريخ العلويين لمحمد أمين غالب ص140.

(79)  تاريخ بغداد ج5 ص244 .

(80)  تاريخ بغداد ج9 ص292 .

(81) تاريخ بغداد: ج2 ص281 .

(82)  تاريخ بغداد ج4 ص153 .

(83)  الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجريج1 ص111.

(84)  مروج الذهب ج4 ص 95 ـ 96.

(85)  نهج البلاغة، صبحي الصالح ص358.

(86)  فضائل أحمد بن حنبل ج2 ص664 ح1132، المعجم الكبير: 5/194، حلية الأولياء ج1 ص86 .

(87)  انظر فرائد السمطين ج1 ص53 .

(88)  الصواعق المحرقة ج2 ص441.

(89)  الصواعق المحرقة ج2 ص653.

(90)  أمالي الطوسي ص482 ح1053.

(91)  أمالي الطوسي ص248، ح 437.

(92) بحار الأنوار ج38 ص231، ح 8 .

(93)  حلية الأولياء ج2 ص64.

(94)  حلية الأولياء ج1 ص64.

(95)  حلية الأولياء ج2 ص64.

(96)  الخصائص ص32 .

(97) المصدر السابق ج24.

(98)  الخصائص للنسائي ص78.

(99)  المستدرك للحاكم ج3 ص139، ح 4641.

(100)  انظر المستدرك ج2 ص122.

(101)  المستدرك للحاكم ج3 ص134، ح4628.

(102)  المستدرك للحاكم ج3 ص135 ح4632.

(103)  انظر المستدرك ولهذه الأحاديث طرق كثيرة ذكرها الحفاظ يمكن مراجعتها.

(104)  نهج البلاغة،  صبحي الصالح ص143.

(105)  المستدرك للحاكم ج3 ص16 ح4720.

(106) بحار الأنوار: 26/315 ح160، مع اختلاف يسير .

(107) المستدرك للحاكم ج3 ص 150 .

(108)  المعجم الأوسط للطبراني ج7 ص129 ـ 130 / 6228.

(109)  الدر المنثور ج2 ص519 ـ 520.

(110)  مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه الاصفهاني ص 233/335.

(111)  تفسير الطبري ج4 ص389 /9521 ـ 9524.

(112)  مسند أحمد ج6 ص244 ، ح 21145.

(113)  الرياض النضرة ج3 ص126 ـ 127.

(114)  الأحزاب: 33.

(115)  المائدة: 55.

(116)  لهذا الحديث طرق كثيرة يتجاوز عددها المائة.

(117)  انظر مطالب السؤول ص641.

(118)  التحفة الاثني عشرية ص8 .

(119)  مناقب الشافعي للفخر الرازي ص51 .

(120)  جواهر العقدين ص254 .

(121)  انظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج2 ص120 .

(122)  الفضائل، أحمد بن حنبل ج2 ص585 / 990.

(123)  تنقيح المقال ج1 ص170/ 1294.

(124)  رجال الكشي ص520/ 999.

(125)  رجال الكشي ص305 / 549.

(126)  رجال الكشي ص297 / 525.

(127)  الشيعة في التاريخ لمحمد حسين الزيني ص178، نقلاً عن منهج المقال.

(128)  رجال الكشي ص 301 / 539.

(129)  نهج المقال ص323 ـ 327.

(130)  الانتصار ص88.

(131)  التهذيب ج1 ص223 .

(132)  السرائر ج1 ص356 .

(133)  المنتهى ج3 ص224.

(134)  نهاية الإحكام ج1 ص274 .

(135)  التذكرة ج1 ص68.

(136)  القواعد ج1 ص191 .

(137)  التبصرة ص35 .

(138)  بحار الأنوار ج80 ص44 .

(139)  الدروس ج1 ص124 .

(140)  جامع المقاصد ج1 ص164 .

(141)  الشرايع ج1 ص45 .

(142)  المعتبر ج1 ص95 ـ 96 .

(143)  المختصر النافع : 22 .

(144)  الجواهر ج6 ص81 .

(145)  منتهى المقال  ج4 ص186 / 1726.

(146)  تاريخ الطبري ج2 ص 615 و 647 ـ 648.

(147)  خطط الشام  ج6 ص251 ـ 256 .

(148)  انظر نهج الحقّ وكشف الصدق، للعلامة الحلي ص73 و 75 و 77 .

(149)  حملة رسالة الإسلام، لمحب الدين الخطيب ص23.

(150)  الحج : 4 .

(151)  رحلة ابن جبير ص252 .

(152)  خطط الشام لكرد علي ج6 ص252 .

(153)  خطط الشام ج6 ص247 .

(154)  الكامل لابن الأثير ج9  ص123 ط 1 .

(155)  تاريخ الشيعة ص258 .

(156)  مصباح الساري ونزهة القاري ص123 ـ 124.

(157)  الملل والنحل ج1 ص84 .

(158)  اُنظر البدر الطالع ج1 ص 26 .

(159)  الأنعام: 124 .

(160)  شذرات الذهب ج3 ص186 .

(161)  تاريخ أبي الفداء ج2 ص150 .

(162)  الكشاف ج3 ص558 .

(163)  جواهر العقدين ص254 .

(164)  تاريخ بغداد ج12 ص386 .

(165)  تاريخ بغداد ج12 ص351 .

(166)  تاريخ بغداد ج6 ص127 .

(167)  زهر الآداب ج3 ص70 .

(168)  شذرات الذهب ج4 ص246 .

(169)  شذرات الذهب ج6 ص140 .

(170)  تاريخ بغداد ج4 ص7 .

(171)  صحيح مسلم ج1 ص 48 ، والترمذي ج2 ص298 ، وأحمد في مسنده ج2 ص102 ط 2 .

(172)  أخرجه الطبراني في الصواعق المحرقة لابن حجر ص93 .

(173)  أخرجه الحاكم ج2 ص149 ، وأحمد في مسنده ج2 ص25 ط 2 .

(174)  أخرجه الديلمي في كنوز الحقائق ج1 ص255، ح 3235 و 3244 .

(175)  أخرجه الحاكم في المستدرك ج2 ص126 .

(176)  كنوز الحقائق ج1 ص388 ، ح4795 .

(177)  الشورى : 23 .

(178)  أخرجه الطبري في ذخائر العقبى ص52 .

(179)  بشارة المصطفى ص153 .

(180)  احقاق الحق ج7 ص309 .

(181)  كنوز الحقائق ج2 ص368 ، ح10030 .

(182)  البيّنة : 7 .

(183)  أخرجه الخطيب في تاريخه من طريق اُم سلمة ج12 ص358 .

(184)  المستدرك ج3 ص161 ، ح4711 .

(185)  المستدرك ج3 ص163 ، ح4720 .

(186)  الجامع الصغير ج2 ص177 ، ح5592 ، بشارة المصطفى ص88 .

(187)  تاريخ بغداد ج12 ص358 .

(188)  الاشاعة في أشراط الساعة ص112 .

(189)  شرح الهمزية، للهيثمي ص224.

(190)  كنز العمال ج1 ص173، ح 875 و 876

(191)  لسان الميزان ج5 ص467 ، 6624 .

(192)  لسان الميزان ج4 ص445 وتاريخ بغداد ج12 ص357 .

(193)  لسان الميزان ج3 ص128 .

(194)  الفوائد المجموعة ص380 / 88 .

(195)  الموضوعات لابن الجوزي ج1 ص397 .

(196)  العلل المتناهية ج1 ص164 /254 .

(197)  تاريخ بغداد ج12 ص353 / 6790 .

(198)  اللآلي المصنوعة  ج1 ص345 ـ 346 .

(199)  شذرات الذهب ج7 ص173 .

(200)  تاريخ علماء بغداد، للسلامي ص59 .

(201)  أحسن التقاسيم ج2 ص299 .

(202)  المستدرك ج3 ص141 ـ 142 / 4650 .

(203)  المستدرك ج3 ص126 ـ 4601 .

(204)  ميزان الاعتدال ج2 ص434 / 2482 .

(205)  الاستيعاب لابن عبد ربه ج3 ص1100 .

(206)  كفاية الطالب ص63 .

(207)  تاريخ بغداد ج12 ص324 .

(208)  تاريخ بغداد ج13 ص458 / 7323 .

(209)  الموضوعات لابن الجوزي  ج2 ص34 .

(210)  تاريخ بغداد ج6 ص346 .

(211)  تاريخ بغداد ج4 ص431 .

(212)  ميزان الاعتدال ج7 ص44 .

(213)  تاريخ بغداد ج5 ص74 .

(214)  شذرات الذهب ج3 ص226 .

(215)  آل عمران : 106 .

(216)  الدر المنثور  ج2 ص111 ـ 112 .

(217)  شرح النهج ج1 ص258 .

(218)  الغدير ج5 ص245 .

(219)  تحذير الخواص للسيوطي ص204 .

(220)  الأغاني  ج12 ص5 .

(221)  تحذير الخواص لليسوطي ص211 ـ 212 .

(222)  اُنظر المنتظم  ج15 ص59 .

(223) لا يخفى انّ هذا العدد، يكون من سالف الزمان وأمّا الآن فعددهم يقدّر ما بين 250 الى 300 مليون، كما لا يخفى.

(224) زبيد، اسم وادي في اليمن به مدينة يقال لها الحصيب، ثم غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف ـ أي مدينة زبيد ـ إلاّ به. معجم البلدان ج3 ص 131، حرف الزاء مادة زبيد.

(225)  سيأتي الكلام في الجزء الثاني حول جواز أكل الكلاب في مذهب مالك .

(226)  أحسن التقاسيم ج1 ص40 .

(227)  تفسير الرازي ج10 ص50 .

(228)  صحيح مسلم ج2 ص1023 ، 17 .

(229)  تفسير الرازي ج10 ص50 .

(230)  تفسير القرطبي ج5 ص136 .

(231)  مسند أحمد ج9 ص503 ، ح5694 .

(232)  صحيح مسلم ج4 ص129، والآية في سورة المائدة: 78 .

(233)  صحيح البخاري ج5 ص1967 ح4827، نيل الأوطار، للشوكاني ج6 ص124 .

(234)  صحيح مسلم ج2 ص48 .

(235)  النساء : 24 .

(236)  صحيح مسلم ج4 ص183، نيل الأوطار للشوكاني ج6 ص133 .

(237)  البقرة : 229 ـ 230 .

(238)  صحيح مسلم ج4 ص183 .

(239)  صحيح الترمذي ج5 ص133 .

(240)  صحيح مسلم ج4 ص183 .

(241)  نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص226 .

(242)  نيل الأوطار للشوكاني ج6 ص232 .

(243)  صحيح الترمذي ج5 ص131 .

(244)  روح المعاني للآلوسي ج1 ص137 .

(245)  فتح القدير للشوكاني ج1 ص238 .

(246)  الحشر : 7 .

(247)  حقوق الإنسان للاُستاذ محمد الغزالي ص172 .

(248) صحيح مسلم ج1 ص 147 نعم هو موجود في بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص 17.

(249) ما عثرنا على هذا النّص، راجع تفسيره ج6 ص 91.

 

 

        

وقال آخرون : فرضهما الغسل وذهب بعضهم الى التخيير بين المسح والغسل ، كما هو مذهب ابن جرير وداود الظاهري وغيرهما(1).

أما الشيعة فاتفقوا على وجوب المسح لدلالة الآية الكريمة وهو قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم )(2) بالنصب عطفاً على موضع برؤوسكم كما هو المعروف باللغة العربية وهو كالعطف على المحل ، وقرأ غيرهم بالخفض على المجاورة، وهو شاذ في اللغة ورد في مواضع لا يلحق بها غيرها ولا يقاس عليها سواها، ولا يجوز حمل كتاب اللّه على الشذوذ الذي ليس بمعهود ولا مألوف ، والإعراب بالمجاورة إنّما يكون عند من أجازه ، عند فقدان حرف العطف.

وقد صحّ في صفة وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طريق أهل البيت (عليهم السلام) أنه غسل وجهه وذراعيه ثم مسح رأسه وقدميه ، وصحّ عن ابن عباس أنه قال : ما أجد في كتاب اللّه إلا غسلتين ومسحتين(3). وسنقف على بيان ذلك في الجزء الخامس من هذا الكتاب إن شاء اللّه.

الأذان وحيَّ على خير العمل

إنّ كلمة « حي على خير العمل » كانت على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) جزءً من الأذان ومن الإقامة ، ولكنهم ادعوا نسخها بعد ذلك ، والصحيح انّها كانت على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وشطراً من عهد عمر ، ولكنّه نهى عنها كما نهى عن متعة النساء(4)، ولقد أبدلوا مكانها كلمة الصلاة خير من النوم ، كما يروي مالك بن أنس في موطئه : أنّ المؤذن جاء الى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

قال الزرقاني في شرح الموطأ : هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، أنه قال لمؤذنه : إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم.(5)

ولا وزن لما جاء عن محمد بن خالد بن عبد اللّه الواسطي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)استشار الناس لما ينبههم الى الصلاة ، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود ، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى ، فاُرِي النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له عبد اللّه بن زيد وعمر بن الخطاب فطرق الأنصاري رسول اللّه ليلا. فأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلالا فأذن به.

أما رجل هذه الرواية وهو محمد بن خالد بن عبد اللّه الواسطي كذاب لا يصح أخذ الأحاديث عنه. وقد نصّ على ذلك يحيى بن معين ، وضعّفه أبوزرعة ، وأنكر عليه ابن عدي أحاديثه ، وقال يحيى : هو رجل سوء(6) فلا يلتفت الى ما يرويه في تشريع الأذان على الرؤيا ، وقد ذكر الناس رؤيا عبد اللّه بن زيد في تشريع الأذان، فلما سمع الحسين بن علي (عليه السلام) غضب وقال : الوحي ينزل على الرسول ويزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبد اللّه بن زيد والأذان وجه دينكم ، ولقد سمعت أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول : أهبط اللّه ملكاً عرج برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء ـ إلى أن ـ قال : وبعث اللّه ملكاً لم ير في السماء قبل ذلك الوقت فأذن وأقام وذكر كيفية الأذان ، ثم قال جبرئيل للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا محمد ، هكذا أذن للصلاة.

وقد أجمعت الإمامية على كون الأذان من الأحكام التي نزل بها الوحي من اللّه لا يرجع ذلك الى رؤيا كما يقولون ، وكلمة « حي على خير العمل » جزء من الأذان ، وقول : « الصلاة خير من النوم » ، إنّما هو من اجتهادات الخليفة عمر ، وقد صحّ عن ابنه عبد اللّه أنه كان يقول في أذانه : « حي على خير العمل» وكذلك أبي اُمامة بن سهل بن حنيف كما ذكره ابن حزم في المحلى(7)، وكان أهل البيت يأتون بها لثبوتها وعدم دليل على نسخها ، وأذّن بها الحسين بن علي صاحب فخ(8) وعلى ذلك استمرت الشيعة في اتباع أهل البيت(عليهم السلام) وعدم الرجوع لغيرهم وكان ذلك شعارهم في جميع الأدوار.

والغرض أنّ هذه الاُمور التي يقول عنها المقدسي بعدول الناس فيها عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن من الاُمور المبتدعة بل هي مقررة في الاسلام.

وسيأتي في مباحث الفقه مزيد بيان حول هذه المسائل وغيرها.

أما المسائل التي عدل عنها الناس ـ كما يقول المقدسي ـ عن المذاهب الاُخرى فلا يسع المجال للبحث عنها هنا.

وكيف كان فإنّ مذهب أهل البيت يرتبط بكتاب اللّه وسنة رسوله ارتباطاً وثيقاً ولا دخل فيه للرأي ولا للقياس ، كما أنّه بعيد كلّ البعد عمّا أحيط به من تهم رماه بها خصومه، كما أوضحنا ذلك في الأبحاث السابقة.

وهنا نقف عن مواصلة البحث عمّا حلّ بالمسلمين من عوامل الفرقة من جراء الخلافات التي أوهنت الكثير من روابطهم وكدّرت صفو مودتهم.

وكان التعصّب هو العامل القوي في قطع تلك الروابط والمعول الهدام لصرح الاُخوة الإسلامية.

والآن نتحول للبحث عن حياة أئمة المذاهب بعد أن تعرضنا لبيان نشأة المذاهب وعوامل انتشارها.

وفي هذا الجزء سنعرض لحياة الإمام أبي حنيفة من حيث نشأته ومقومات شخصيته ، وفي الجزء الثاني لحياة الإمام مالك بن أنس ، وفي الجزء الثالث لحياة الإمام الشافعي ، وفي الجزء الرابع لحياة الإمام أحمد بن حنبل.

أما البحث عن الإمام الصادق (عليه السلام) فلم نقتصر عليه في جزء واحد ، بل التزمنا أن نذكر طرفاً من أخباره في كل جزء ابتداءً من الجزء الأول .

ولا أقول بأنّي قد استوفيت البحث في هذه الموسوعة عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام)وماله من آثار ومآثر ، ومناقب ومفاخر فدراسة حياته لا تستوفى بسهولة ، وإنّ ذلك أمر يشقّ على الباحث مهما أنفق من جهد في هذا السبيل وفي أيّ ناحية يسلك في دراسة حياته (عليه السلام) ليفرغ منها فراغاً تاماً ويحيط بها احاطة تامة فإنّه يجد نفسه في البداية لا في النهاية.

وليس ذلك لغموض يكتنف جوانب عظمته ، أو وجود زوائد في دراسة حياته، أو اندفاع وراء العاطفة لرفع مكانته وعلوّ مقامه ، فهو أرفع من ذلك.

وإنّما اتّساع دائرة معارفه ، وتعدد نواحي شخصيته ، وعظيم أثره في بعث الفكر الإسلامي ، وجهاده المتواصل في سبيل إسعاد الاُمة ، ورفع مستوى المجتمع الإسلامي ، هو سبب في قصور الباحث عن إدراك الغاية المطلوبة في الدراسة عن شخصيته (عليه السلام)والنفوذ إلى معرفة كنهها. وإنّ العلم والحق لكفيلان باظهار مآثر الإمام ، وللعلم حكمه، وللحق أتباعه ، ونسأل اللّه التسديد وهو وليّ التوفيق.

 

(1)  بداية المجتهد ج1 ص41 ـ 42 .

(2) المائدة: 6.

(3) سنن الدارقطني ج1 ص96 ، ح5.

(4) الفصول المهمة للحجة شرف الدين ص61 ـ 64.

(5) سنن الدارقطني  ج1 ص243 ، ح40.

(6)  تهذيب التهذيب  ج9 ص119 / 6096.

(7) المحلّى ج3 ص 160 .

(8)  ظهر الحسين بن علي بن الحسن السبط بالمدينة المنورة ، وكان معه جماعة من الطالبيين وحاربه عامل العباسيين فهزمه الحسين وبايعه الناس على كتاب اللّه وسنة رسوله للمرتضى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرسل له العباسيون جيشاً فقتل يوم التروية بفخ، ومما هو جدير بالذكر ان موسى بن عيسى العباسي أرسل رجلا إلى عسكر الحسين حتّى يراه ويخبره عنه ، فمضى الرجل ورجع وقال له : ما أظن القوم إلا منصورون فقال: وكيف ذاك يابن الفاعلة ؟ قال الرجل لأني ما رأيت فيهم إلاّ مصلياً أو مبتهلا أو ناظراً في مصحف أو معداً للسلاح ، فضرب موسى يداً على يد وبكى ثم قال : هم واللّه اكرم خلق اللّه ، وأحق بما في أيدينا منا ، ولكن الملك عقيم لو ان صاحب هذا القبر يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف.