دعاؤه عليه السلام في حال القنوت

ودعا (عليه السلام) في قنوته وأمر أهل قمّ بذلك لما شكوا من موسى بن بغا:  الحمد لله شكراً لنعمائه، واستدعاءاً لمزيده واستخلاصاً له وبه دون غيره(1)، وعياذاً به من كفرانه، والالحاد في عظمته وكبريائه، حمد من يعلم ان ما به من نعماء فمن عند ربّه، وما مسّه من عقوبة فبسوء جناية يده، وصلّى الله على محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وذريعة المؤمنين الى رحمته، وآله الطاهرين ولاة أمره. اللّهم انك ندبت الى فضلك، وأمرت بدعائك، وضمنت الاجابة لعبادك، ولم تخيّب من فزع اليك برغبته، وقصد اليك بحاجته، ولم ترجع يد طالبة صفراً من عطائك، ولا خائبة من نحل هباتك، واي راحل رحل اليك فلم يجدك قريباً، أو أيّ وافد وفد عليك فاقتطعته عوائق الرد دونك بل أي محتفر من فضلك لم يمهه فيض جودك(2) وأي مستنبط لمزيدك أكدى(3) دون استماحة سجال(4) عطيّتك. اللّهم وقد قصدت اليك برغبتي، وقرعت باب فضلك يد مسألتي وناجاك بخشوع الاستكانة قلبي، ووجدتك خير شفيعٍ لي اليك، وقد علمت ما يحدث من طلبتي قبل ان يخطر بفكري، أو يقع في خلدي فصل اللّهم دعائي اياك باجابتي، واشفع مسألتي نجح طلبتي.
 اللّهم وقد شملنا زيغ الفتن، واستولت علينا غشوة(5)، الحيرة، وقارعنا الذل والصغار، وحكم علينا غير المأمونين في دينك، وابتزّ امورنا معادن الابن(6) ممن عطّل حكمك وسعى في اتلاف عبادك، وافساد بلادك. اللّهم وقد عاد فينا دولة بعد القسمة، وامارتنا غلبة بعد المشورة وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للامّة، فاشتريت الملاهي والمعازف(7) بسهم اليتيم والأرملة، وحكم في ابشار المؤمنين أهل الذمة، وولى القيام بامورهم فاسق كل قبيلة، فلا ذائدٌ يذودهم عن هلكة، ولا راع ينظر اليهم بعين الرحمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من مسغبة(8)، فهم اولوا ضرع(9) بدار مضيعة، واسراء مسكنة وحلفاء كآبة وذلة. اللّهم وقد استحصد(10) زرع الباطل، وبلغ نهايته، واستحكم عموده واستجمع طريده، وخذرف(11) وليده، وبسق فرعه(12)، وضرب بجرانه(13)، اللّهم فأتح له من الحق يداً حاصدة تصرع قائمه، وتهشم(14) سوقه وتجب(15) سنامه وتجدع(16) مراغمه، ليستخفي الباطل بقبح صورته، ويظهر الحق بحسن حليته. اللّهم ولا تدع للجور دعامة إلاّ قصمتها، ولا جنّة إلاّ هتكتها ولا كلمة مجتمعة إلاّ فرقتها، ولا سريّة ثقل إلاّ خففتها، ولا قائمة علو إلاّ حططتها، ولا رافعة علم إلاّ نكستها، ولا خضراء إلاّ ابرتها. اللّهم فكوّر شمسه، وحط نوره، واطمس ذكره، وارم بالحق رأسه، وفضّ جيوشه، وارعب قلوب أهله، اللّهم ولا تدع منه بقيّة إلاّ أفنيت، ولا بنية(17) إلاّ سويّت ولا حلقة إلاّ فصمت، ولا سلاحاً إلاّ أكللت ولا حدّاً إلا أفللت ولا كراعاً(18) إلاّ اجتحت(19)، ولا حاملة علم إلاّ نكست. اللّهم وارنا انصاره عباديد(20) بعد الالفة، وشتى بعد اجتماع الكلمة ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الامة.
 واسفر لنا عن نهار العدل وارناه سرمداً لا ظلمة فيه، ونوراً لا شوب معه، واهطل علينا ناشئته وانزل علينا بركته، وادل(21) له ممن ناواه، وانصره على من عاداه. اللّهم واظهر به الحق واصبح به في غسق(22) الظلم وبهم الحيرة اللّهم وأحي به القلوب الميتة، واجمع به الأهواء المتفرقة، والآراء المختلفة، واقم به الحدود المعطلة، والاحكام المهملة واشبع به الخماص(23) الساغبة، وارح به الابدان المتعبة، كما الهجتنا بذكره واخطرت ببالنا دعاءك له، ووفقتنا للدعاء اليه وحياشة أهل الغفلة عليه، واسكنت في قلوبنا محبّته، والطمع فيه، وحسن الظن بك، لاقامة مراسمه، اللّهم فآت لنا منه على أحسن يقين يا محقق الظنون الحسنة ويا مصدق الآمال المبطنة(24). اللّهم واكذب به المتألين(25) عليك فيه، واخلف به ظنون القانطين من رحمتك والآيسين منه، اللّهم اجعلنا سبباً من اسبابه، وعلماً من أعلامه ومعقلاً من معاقله، ونضّر وجوهنا بتحليته، واكرمنا بنصرته، واجعل فينا خيراً تظهرنا له وبه، ولا تشمت بنا حاسدي النعم، والمتربصين بنا حلول الندم، ونزول المثل، فقد ترى يارب براءة ساحتنا، وخلوّ ذرعنا من الاضمار لهم على احنة(26)، والتمنّي لهم وقوع جائحة، وما تنازل(27) من تحصينهم بالعافية، وما اضبّوا(28) لنا من انتهاز الفرصة، وطلب الوثوب بنا عند الغفلة، اللّهم وقد عرفتنا من أنفسنا، وبصرتنا من عيوبنا خلالاً نخشى ان تقعد بنا عن استيهال اجابتك، وأنت المتفضل على غير المستحقين، والمبتدىء بالاحسان غير السائلين فآت لنا من امرنا على حسب كرمك وجودك وفضلك وامتنانك، انّك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد، إنّا اليك راغبون، ومن جميع ذنوبنا تائبون.
 اللّهم والداعي اليك، والقائم بالقسط من عبادك، الفقير الى رحمتك، المحتاج الى معونتك على طاعتك إذا ابتدأته بنعمتك، والبسته اثواب كرامتك، والقيت عليه محبة طاعتك، وثبّتّ وطأته في القلوب من محبتك، ووفقته للقيام بما اغمض فيه أهل زمانه من امرك، وجعلته مفزعاً لمظلوم عبادك، وناصراً لمن لا يجد له ناصراً غيرك، ومجدّداً لما عطل من أحكام كتابك، ومشيداً لما درس(29) من اعلام دينك سنن نبيّك عليه وآله سلامك وصلواتك ورحمتك وبركاتك، فاجعله اللّهم في حصانة من بأس المعتدين واشرق به القلوب المختلفة من بغاة الدين، وبلغ به أفضل ما بلغت به القائمين بقسطك من أتباع النبيين. اللّهم وأذلل به من لم تسهم له في الرجوع الى محبتك، ومن نصب له العداوة، وارم بحجرك الدامغ من اراد التأليب(30) على دينك باذلاله وتشتيت امره، واغضب لمن لا ترة له ولا طائلة(31)، وعادى الأقربين والأبعدين فيك منّاً عليه لا منّاً منه عليك. اللّهم فكما نصب نفسه غرضاً فيك للأبعدين، وجاد ببذل مهجته لك في الذب عن حريم المؤمنين، وردّ شر بغاة المرتدين المريبين، حتى أخفى ما كان جهر به من المعاصي، وابدى ما كان نبذه(32) العلماء وراء ظهورهم مما أخذت ميثاقهم على أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه، ودعا الى افرادك بالطاعة، والاّ يجعل لك شريكاً من خلقك يعلو أمره على أمرك مع ما يتجرّعه فيك من مرارات الغيظ الجارحة بحواس القلوب، وما يعتوره من الغموم، ويفرغ من احداث الخطوب، ويشرق به من الغصص التي لا تبتلعها الحلوق، ولا تحنوا عليها الضلوع(33)، من نظرة الى امر من امرك ولا تناله يده بتغييره وردّه الى محبّتك. فاشدد اللّهم ازره بنصرك، واطل باعه فيما قصر عنه من اطراد الراتعين(34) في حماك، وزده في قوّته بسطة من تأييدك، ولا توحشنا من انسه، ولا تخترمه(35) دون امله من الصلاح الفاشي في أهل ملته، والعدل الظاهر في امته.
 اللّهم وشرّف بما استقبل به من القيام بأمرك لدى موقف الحساب مقامه وسرّ نبيّك محمداً صلواتك عليه وآله برؤيته، ومن تبعه على دعوته واجزل له على ما رأيته قائماً به من أمرك ثوابه، وابن قرب دنوّه منك في حياته، وارحم استكانتنا من بعده، واستخذاءنا(36) لمن كنا نقمعه به إذ افقدتنا وجهه، وبسطت ايدي من كنا نبسط ايدينا عليه لنرده عن معصيته، وافتراقا بعد الالفة والاجتماع تحت ظلّ كنفه، وتلهفنا عند الفوت على ما اقعدتنا عنه من نصرته، وطلبنا من القيام بحق مالا سبيل لنا الى رجعته. واجعله اللّهم في أمن مما يشفق عليه منه، وردّ عنه من سهام المكائد ما يوجّهه أهل الشنئان(37) اليه، والى شركائه في امره ومعاونيه على طاعة ربّه، الذين جعلتهم سلاحهه وحصنه ومفزعه وانسه الذين سلوا عن الأهل والأولاد، وجفوا الوطن، وعطلوا الوثير من المهاد(38) ورفضوا تجاراتهم، واضرّوا بمعايشهم، وفقدوا في انديتهم(39) بغير غيبة عن مصرهم، وخاللوا(40) البعيد ممن عاضدهم على أمرهم، وقلوا(41) القريب ممن صدّ عن وجهتهم(42)، فائتلفوا بعد التدابر والتقاطع في دهرهم وقطعوا الاسباب المتصلة بعاجل حطام الدنيا، فاجعلهم اللّهم في أمن حرزك، وظلّ كنفك، وردّ عنهم بأس من قصد اليهم بالعداوة من عبادك، واجزل لهم على دعوتهم من كفايتك ومعونتك، وامدهم(43) بتأييدك ونصرك، وازهق بحقّهم باطل من اراد اطفاء نورك، اللّهم واملأ بهم كل افق من الافاق وقطرٍ من الاقطار قسطاً وعدلاً ومرحمةً وفضلاً، واشكرهم على حسب كرمك وجودك وما مننت به على القائمين بالقسط من عبادك وادخرت لهم من ثوابك ما يرفع لهم به الدرجات، انك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد.
*******
(1) استخلاصاً به دون غيره (خ ل).
(2) أمهى اللبن: اكثر ماؤه، حفر البئر حتى أمهى: اي بلغ الماء.
(3) أكدى الرجل: اذا بخل او قلّ خيره او يأس.
(4) السماحة: الجود، السجال: العطاء.
(5) الغشوة - بالتثليث- الامر المتلبّس، مأخوذ من غشوة الليل وهي ظلمته.
(6) أبنه بشيء: اتّهمه.
(7) المعازف: الملاهي.
(8) المسغبة: المجاعة.
(9)ضرع - بالتحريك- الضعيف.
(10) احصد الزرع واستحصد: حان له ان يحصد.
(11) الخذروف - بالذال المعجمة-: شيء يدوّره الصبيّ يخيط في يديه فيسمع له دويّ، خذرف: أسرع.
(12) بسق النخل: طال.
(13) ضرب الاسلام بجرانه: ثبت واستقرّ.
(14) هشم: كسر.
(15) جبّ: قطع.
(16) تجدع - بالذال والدال-: اذا قطعت انفه.
(17) البنية: ما بنيته.
(18) الكراع: اسم لجميع الخيل.
(19) الجرح: الاستيصال.
(20) العباديد: الفرق من الناس الذاهبون في كلّ وجه.
(21) الادالة: الغلبة.
(22) غسق الليل: اشتدّ ظلمته.
(23) خميص الحشا: ضامر البطن.
(24) المبطئة (خ ل).
(25) في النهاية: منه الحديث: ويل للمتألّين من امتي، يعني الذين يحكمون على الله ويقولون: فلان في الجنّة وفلان في النار.
(26) الاحنة: الحقد.
(27)ما يتناولهم (خ ل)، وكأنه عطف على براءة.
(28) اضبيء الرجل على الشيء: اذا سكت.
(29) ورد (خ ل).
(30) التأليب: التحريض.
(31)بينهم طائلة: اي عداوة، والطائلة: القدرة والغنى والفضل والمنفعة.
(32) النبذ: طرحك الشيء امامك.
(33) فلان احنى الناس ضلوعاً عليك: اي اشفقهم عليك، حنوت عليه: عطفت عليه.
(34) رتع في المكان: أقام.
(35) اخترمته المنيّة: أخذته.
(36) استخذء: خضع.
(37) شنأ: ابغضه مع عداوة وسوء خلق.
(38) الوثير: الفراش الواطي، المهاد: الفراش.
(39) ندا القوم: اجتمعوا.
(40) الخلالة: الصداقة.
(41) قلاه: ابغضه.
(42) صدّ عنهم وعن وجهتهم (خ ل).
(43) ايّدهم (خ ل).