الباب الثّامن والثّمانون فَضل كربلاء وزيارة الحسين عليه السلام

[للحسين(1) بن أحمدَ بن المغِيرَة فيه حديث رواه شيخه أبو القاسم ـ رحمه الله ـ مصنّف هذا الكتاب نقل عنه وهو عن زائدة ، عن مولانا عليِّ بن الحسين عليهما السلام ، ذهب على شَيخُنا ـ رحمه الله ـ أن يضمّنه كتابه هذا وهو ممّا يليق بهذا الباب ويشتمل أيضاً على مَعانٍ شتّى حَسَنٍ تامّ الألفاظ ، أحببتُ إدخاله وجعلته أوَّل الباب ، وجميع أحاديث هذا الباب وغيرها ممّا يَجري مجراها يستدلُّ بها على صِحّة قبر مولانا الحسين عليه السلام بكربلاء ، لأنَّ كثيراً مِنَ المخالفين يُنكرونَ أنَّ قبرَه

بكربلاء كما ينكرون أنّ قبرَ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالغَريِّ بظهر نجف الكوفة وقد كنت استفدت هذا الحديث بمصر عن شيخي أبي القاسم عليِّ بن محمّد بن عُبْدوُس الكوفيِّ ـ رحمه الله ـ ممّا نقله عن مُزاحِم بن عبدِالوارث البّصريِّ بإسناده عن قُدامَةَ بن زائِدَة ، عن أبيه زائِدَة ، عن عليِّ بن الحسين عليهما السلام ، وقد ذاكرتُ شيخنا ابنَ قُولُوَيْه بهذا الحديث بعدَ فَراغِه مِن تصنيف هذا الكتاب ليدخله فيه فما قضى ذلك وعاجلتْه مَنيَّته ـ رضي الله عنه ـ وألْحقه بمواليه عليهم السلام .

 وهذا الحديث داخلٌ فيما أجاز لي شيخي ـ رحمه الله ـ وقد جمعت بين الرِّوايتين بالألفاظ الزَّائِدة والنّقصان والتَّقديم والتّأخير فيها حتّى صحّ بجميعه عَمّن حدَّثني به أوَّلاً ثمَّ الآن ، وذلك أنّي ما قَرَءْتُه على شيخي ـ رحمه الله ـ ولا قرءه عَليَّ ، غير أنّي أرويه عَمّن حدَّثني به عنه ، وهو :

 أبو عبدالله أحمدُ بن محمّد بن عيّاش(2) قال : حدَّثني أبو القاسم جعفر بن محمّد ابن قولُوَيه قال : حدَّثني أبو عيسى عبيدالله بن الفضل بن محمّد بن هِلال الطّائيُّ البَصريُّ قال : حدَّثني أبو عثمان سعيد بن محمّد قال : حدَّثنا محمّد بن سلاَم بن يَسار(3) الكوفيُّ قال : حدَّثني أحمدُ بن محمّد الواسطيُّ قال : حدَّثني عيسى بن أبي شَيبة القاضي قال : حدَّثني نوح بن دُرّاج قال : حدَّثني قُدامة بن زائِدة ، عن أبيه «قال : قال عليُّ بن الحسين عليهما السلام : بلغني يا زائِدَةُ أنّك تَزورُ قبرَ أبي عبدالله الحسين عليه السلام أحياناً؟ فقلت : إنَّ ذلك لَكَما بَلَغك ، فقال لي : فلما ذا تفعَلُ ذلك ولك مَكانٌ عند سُلطانك الَّذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذِكرِ فضائِلنا والواجب على هذه الاُمّة مِن حَقِّنا؟ فقلت : واللهِ ما اُريد بذلك إلاّ اللهَ وَرسولَه ، ولا أحْفِلُ بسخط مَن سَخَط ، ولا يكبُرُ في صدري مكروه ينالني بسببه ، فقال : والله إنَّ ذلك لَكذلك ، فقلت : والله إنَّ ذلك لَكذلك ، يقولها ـ ثلاثاً ـ و

اقولها ـ ثلاثاً ـ فقال : أبشِر ثمَّ أبشِر ثمَّ أبشِر(4) فَلأخبرنَك بخبر كان عندي في النُّخَبِ(5) المخزونة ، فإنّه لمّا أصابنا بالطّفّ ما أصابنا وقُتِل أبي عليه السلام وقُتِل مَن كان معه مِن وُلده وإخوته وسائر أهلِه وحملت حُرْمه ونساؤه على الأقتاب يرادّ بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صَرعى ولم يواروا فعظم ذلك في صدري واشتدَّ لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك منّي عَمّتي زَينب الكُبرى بنت عليٍّ عليهما السلام فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدِّي وأبي وإخوتي ؟!! فقلت : وكيف لا أجزع وأهْلَعُ وقد أرى سَيّدي وإخوتي وعُمُومتي وولد عَمّي وأهلي مُصرعين بدمائهم ، مرمّلينَ بالعرى ، مسلبين ، لا

يُكفَّنون ولا يُوارون ، ولا يُعرج عليهم أحدٌ ، ولا يقرُبُهم بَشرٌ ، كأنّهم أهل بيتٍ مِن الدَّيْلَم والخَزَر؟!! فقالت : لا يُجْزِ عَنَّك ما ترى ، فوالله إنَّ ذلك لعهد مِن رَسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى جَدِّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناسٍ مِن هذه الاُمّة لا تعرفهم فَراعِنَة هذه الاُمّة وهم معروفون في أهل السّماوات أنَّهم يجمعون هذه الأعضاء المُتَفَرّقَةَ فيُوارونَها وهذه الجُسومَ المُضَرَّجة ، وينصبون لهذا الطّفّ عَلَماً لِقَبر أبيك سيّد الشُّهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رَسمُه على كرورِ اللّيالي والأيّام ، وليجتهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضّلالة في مَحْوِه وتطمِيسه فلايزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره الاّ عُلوّاً ، فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر؟! فقالت : نَعَم ، حدَّثتني اُمُّ أيمن أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زارَ منزل فاطمة عليها السلام في يوم من الأيّام فعملت له حريرة ، وأتاه عليٌّ عليه السلام بطبق فيه تمرٌ ، ثمَّ قالت اُمَّ أيمن : فأتيتهم بعُسٍّ(6) فيه لبن وزُبْد ، فأكل رَسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليُّ وفاطمةُ والحسن والحسين عليهم السلام من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وشربوا من ذلك اللّبن ، ثمَّ أكل وأكلوا من ذلك التَّمر والزُّبْد ، ثمَّ غسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يده وعلي يصبُّ عليه الماء ، فلمّا فرغ من غسْل يده مسح وجهه ، ثمَّ نظر إلى عليِّ وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السّرور في وجهه ثمّ رمق بطرْفه(7) نحو السّماء مليّاً ، ثمَّ [أنّه] وجّه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ثمّ خَرَّ ساجداً وهو ينشِج(8) فأطال النَّشوج(كذا) وعلا نحيبه وجرت دموعه ، ثمَّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعُهُ تقطر كأنّها صوب المطر ، فحَزنَت فاطمة وعليُّ والحسن والحسين عليهم السلام وحزنتُ معهم لما رَأينا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهبناه أن نسأله حتّى إذا طال ذلك قال له عليُّ؛ وقالت له فاطمة : ما يُبكيك يا رَسول الله لا أبكى الله عَينيك فقد أقرح قلوبنا ما نَرى من حالك؟!

فقال : يا أخي سَرَرت بكم ـ وقال مُزاحِم بن عبدالوارث في حديثه ههنا : ـ فقال : يا حبيبي إنّي سَرَرت بكم سروراً ما سَرَرت مثله قطّ وإنّي لأنظر إليكم وأحمدُ الله علىُ نعمته عليَّ فيكم إذا هبط عليَّ ذجبرئيل عليه السلام فقال : يا محمّد إنَّ الله تبارك وتعالى اطّلع على ما في نفسِك وعرف سرورَك بأخيك وابنتك وسِبطيك فأكمل لك النِّعمة وهنَّأك العَطِيّة بأن جعلهم وذُرّيّاتهم ومحبِّيهم وشيعتهم مَعَكَ في الجنَّة لا يفرق بينك وبينهم يحبون كما نحبي(9) ويُعطون كما تعطى حتّى ترضى وفوق الرِّضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدُّنيا ومكاره تصيبهم بأيدي اُناس ينتحلون مِلّتك ويزعمون أنّهم من اُمّتك بُرَآء من الله ومنك خَبْطاً خَبْطاً(10) وقَتلاً قَتلاً ، شتّى مَصارِعُهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمدِ اللهَ عزَّوجَلَّ على خيرته وارضِ بقضائه .

 فحمدتُ اللهَ ورَضيت بقضائه بما اختاره لكم ، ثمَّ قال لي جبرئيل : يا محمّد إنَّ أخاك مُضطَهدٌ بعدَك مغلوبَ على اُمّتك متعوبُ من أعدائِك ، ثمّ مقتلول بعدَك يقتله أشرُّ الخلق والخَليقة ، وأشقى البَريّة ، يكون نظيرَ عاقِرِ النّاقة ببلد تكون إليه هِجرته وهو مَغرَسُ شيعته وشيعة ولده ، وفيه على كلِّ حال يكثر بَلواهم ويعظم مُصابهم ، وإنَّ سِبطَك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين عليه السلام ـ مقتولٌ في عِصابة من ذُريّتك وأهل بيتك وأخيار من اُمّتك بضِفَّة الفرات(11) بأرض يقال لها : كربلاء(12) ، مِن أجلِها يكثر الكَرْب والبَلاء على أعدائك وأعداء ذرِّيتك في اليوم الّذي لا ينقضي كَربُه ، ولا تَفنى حَسرتُه ، وهي أطيب بقاع الأرض(13) ، وأعظمها حُرْمةً ، يُقتَل فيها سِبْطُك وأهلُه ، وأنّها مِن بَطحاء الجَنّة ، فإذا كان ذلك اليَوم الَّذي يُقتَل فيه سِبطُك وأهلُه ، وأحاطتْ به كَتائبُ أهل ـ

الكفر واللَّعنة ، تَزَعْزَعَتِ الأرضُ مِن أقطارها ومادّتِ الجبالُ وكثر اضطرابها واصطفَقَتِ(14) البِحار بأمواجِها ، وماجَتِ السّماوات بأهلها غضباً لك يا محمّد ولِذُرّيَّتك ، واستعظاماً لما يُنْتَهك مِن حُرْمَتِك ، ولشرّ ما تكافى به في ذرِّيّتك وعِترتك ، ولا يبقى شَيءُ من ذلك إلاّ استأذن اللهَ عزَّوجَلَّ في نُصرةِ أهلك المستضعَفين المظلومين الّذين هم حُجّة الله على خَلقه بعدك فيوحي اللهُ إلى السَّماوات والأرض والجِبال والبَحار ومَن فيهنَّ : أنّي أنا الله؛ الملِكُ القادِرُ الَّذي لا يَفوتُه هارٌ ولا يعجزه مُمتنعٌ وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام ، وعزَّتي وجَلالي لأُعذِّبنَّ مَن وَتر رسولي وصَفِيّي ؛ وانتَهكَ حُرمَتَه وقَتَلَ عترتَه ونبذَ عَهدَه وظَلَم أهل بَيْته(15) عذاباً لا اُعذِّبه أحداً من العالمينَ ، فعند ذلك يَضِجّ كلُّ شيء في السّماوات والأرضين بلَعن مَن ظَلَم عِترتَك واستحلَّ حُرمَتك ، فإذا بَرزت تلك العِصابة إلى مضاجِعها تولّى الله عزَّوجلَّ قبض أرواحها بيده وهبط إلى الأرض ملائكة من السّماء السّابعة معهم آنِيةٌ من الياقوت والزُّمرُّد مملوءة من ماء الحياة وحُلَلٌ مِن حُلَلِ الجنّة وطيبٌ من طيب الجنّة ، فغَسّلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل وحَنّطوها بذلك الطّيب ، وصلَّت الملائكة صَفّاً صَفّاً عليهم ، ثمَّ يبعث الله قَوماً من اُمّتك لا يَعرِفُهم الكُفّار لم يشركوا في تلك الدِّماء بقولٍ ولا فعلٍ ولا نِيّة ، فيوارُون أجسامَهم ويقيمون رَسْماً لقبر سَيّد الشّهداء بتلك البطحاء يكون عَلَماً لأهل الحقّ ، وسَبباً للمؤمنين إلى الفَوز وتحفّه ملائكة من كلِّ سماء مائة ألف ملك في كلِّ يوم وليلة ، ويصلّون عليه ويطوفون عليه ويسبّحون الله عنده ويستغفرون الله لِمَن زارَه ويكتبون أسماءَ مَن يأتيه زائراً من اُمتك مُتقرّباً إلى الله تعالى وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعَشائرهم وبُلدانهم ، ويوسِمون في وجوههم بِميسم(16) نور عرش اللهِ : «هذا زائر قبر خَيرِ الشُّهداء وابن خيرِ الأنبياء» ، فإذا كان يوم القيامه سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم

نور تغشى منه الأبصار يدلُّ عليهم ويعرفون به ، وكأنّي بك يامحمّد بيني وبين ميكائيل ، وعليُّ أمامنا ومعنا من ملائكة اللهِ ما لا يُحصىُ عَددُهم ، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق حتّى ينجيهم الله مِن هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زارَ قبرَك يا محمّد أو قبرَ أخيك أو قبرَ سِبطيك لا يريد به غيرَ اللهِ عزَّوجلَّ ، وسَيجتهد(17) أناس ممّن حقّتْ عليهم اللّعنة مِن الله والسَّخَط أن يعفوا رَسْم ذلك القبر ويمحو أثره فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً . ثمَّ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : فهذا أبكاني وأحْزَنني ،

 قالت زَينب : فلمّا ضرب ابن مُلْجم ـ لعنه الله ـ أبي عليه السّلام ورأيت عليه أثَر الموت منه قلت له : يا أبة حدَّثتْني اُمُّ أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك ، فقال : يا بنيّة الحديث كما حدَّثَتْك اُمُّ أيمن ، وكأنّي بك وببنات أهلِك سبايا(18) بهذا البلد أذِلاّء خاشعين تخافون أن يَتَخَطّفكم النّاس ؛ فصبراً صَبراً ، فوالَّذي فَلَق الحبَّة وبَرَءَ النَّسَمة ما لله على ظَهر الأرض يومئذٍ وليُّ غيرُكم وغيرُ مُحبّيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رَسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أخبرنا بهذا الخبر: أنَّ إبليس ـ لعنه الله ـ في ذلك اليوم يطِيرُ فَرحاً فيَجول الأرض كلّها بشياطينه وعَفارِيتِه فيقول : يا معاشِرَ الشّياطين قد أدركنا مِن ذُريّة آدم الطّلبة وبلغنا في هَلاكهم الغاية وأورثناهم النّار إلاّ مَن اعتصَمَ بهذه العِصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك النّاس فيهم وحملهم على عَداوتهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم حتّى تستحكمـ[ـوا] ضَلالة الخلق وكفرهم ، ولا ينجو منهم ناجٍ ، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كَذوب ، أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالِح ولا يضرّ مع محبّكم وموالاتكم ذَنبٌ غير الكبائر؛

 قال زائدة : ثمَّ قال عليُّ بن الحسين عليهما السّلام بعد أن حدَّثني بهذا الحديث : خذه إليك ، أما لو ضربت في طلبه إباط الإبل حَولاً لكان قليلاً ](19)

 

 

 

رَجعنا إلى الأصل

 1 ـ أخبرنا أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولُوَيه القمّيُّ الفقيه ـ رحمه الله ـ قال : حدَّثني أبي ؛ وعليُّ بن الحسين ؛ وجماعة مشايخي ـ رحمهم الله ـ عن سعد بن عبدالله بن أبي خَلَف ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سِنان ، عن أبي سعيد القَمّاط قال : حدَّثني عبدالله بن أبي يَعفور «قال : سمعتُ أبا عبدالله عليه السلام يقول لرجل مِن مَواليه : يا فلان أتزورُ قبر أبي عبدالله الحسين بن عليِّ عليهما السلام؟ قال : نَعَم إني أزورُه بين ثلاث سنين أو سَنتين مرَّة ، قال له ـ وهو مصفرُّ الوجه ـ : أما واللهِ الَّذي لا إله إلاّ هو لَوْ زُرتَه لكان أفضل لك ممّا أنت فيه! فقال له : جُعلتُ فِداك أكلُّ هذا الفضل؟ فقال : نَعَم والله ، لو إنّي حدَّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتمُ الحَجَّ رأساً وما حَجَّ منكم أحَدٌ ، ويحك أما تعلم أنَّ الله اتّخذ [بفضل قبره] كربلاء حَرَماً آمِناً مبارَكاً قبل أن يتّخذ مَكّة حَرَماً ؟ قال ابن أبي يعفور : فقلت له : قد فرض اللهُ على النّاس حِجَّ البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السلام فقال : وإن كان كذلك فإنَّ هذا شيء جعله الله هكذا ، أما سمعت قول أبي أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول : إنَّ باطن القدم أحقُّ بالمسح من ظاهر القدم ولكنَّ الله فرض هذا على العِباد ؟! أو ما علمتَ أنَّ الموْقف لو كان في الحَرَم كان أفضل لأجل الحَرَم ولكنَّ الله صنع ذلك في غير الحَرَم ؟!» .

 2 ـ حدَّثني محمّد بن جعفر القرشيُّ الرَّزَّاز ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد ابن سِنان ، عن أبي سعيد القَمّاط ، عن عُمَرَ بن يزيدَ بيّاع السّابريّ ، عن أبي عبدالله عليه السلام «قال : إنَّ أرض كعبة قالت : مَن مِثلي ؛ وقد بنى الله بيته على ظَهري ويأتيني النّاس من كلِّ فجِّ عَمِيق ، وجُعِلتُ حَرمَ الله وأمنه؟!! فأوحى الله إليها أن كفّي وقَرّي ؛ فَوَعِزَّتي وجَلالي ما فضل ما فضّلت به فيما أعطيت به أرض كربلاء إلاّ بمنزلة الإبرة غَمَسَت(20) في البَحر فحملت من ماء البحر ، ولو

لا تُربة كربلاء ما فضّلتك ؛ ولو لا ما تضمّنتْه أرضُ كربلاء لما خلقتك ولا خلقتُ البيت الَّذي افتخرتِ به ؛ فقرِّي واستقرِّي وكوني دَنيّاً متواضعاً ذليلاً مَهيناً غير مُستَنكفٍ ولا مُستَكبرٍ لأرض كربلاء وإلاّ سُختُ بك(21) وهَوَيتُ بك في نار جهنّم» .

 وحدَّثني أبي ؛ وعليُّ بن الحسين ، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمّد بن عليٍّ قال : حدَّثنا عبّاد أبو سعيد العُصْفُريّ ، عن عمرَ بن يزيد بيّاع السّابري ، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام ـ وذكر مثله ـ .

 3 ـ حدَّثني أبو العبّاس الكوفيّ ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن أبي سعيد العُصْفُريّ ، عن عَمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه السلام «قال : خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدَّسها وبارَك عليها ، فما زالَتْ قبل خلْق الله الخلق مقدّسة مباركة ، ولاتزال كذلك حتّى يجعلها الله أفضلَ أرْض في الجنّة وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أولياءه في الجنّة» .

 4 ـ حدَّثني محمّد بن جعفر القرشيُّ الرَّزَّاز ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن أبي سعيد ـ عن بعض رجاله ـ عن أبي الجارود «قال : قال عليُّ بن الحسين عليهما السلام : اتّخذ الله أرض كربلاء حَرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام ، وأنّه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها رفعتْ كما هي بتربتها نوارنيّة صافية ، فجعلت في أفضل رَوضة مِن رياض الجنَّة ، وأفضل مسكنٍ في الجنَّة ، لا يسكنها إلاّ النّبيّون والمرسلون ـ أو قال أولوا العزم مِن الرُّسل ـ وأنّها لتزهر بين رياض الجنّة كما يزهر الكوكب الدُّرّيّ بين الكواكب لأهل الأرض يغشي نورها أبصار أهل الجنَّة جميعاً ، وهي تنادي : أنا أرضُ الله المقدَّسة الطيِّبة المبارَكة الّتي تضمّنت سَيّد الشّهداء وسَيّد شباب أهل الجنّة» .

 حدَّثني أبي ـ رحمه الله ـ وعليُّ بن الحسين ؛ وجماعة مشايخي ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن عليِّ ، عن عبّاد أبي سعيد العُصْفُريِّ ـ عن رَجل ـ عن أبي الجارود قال : قال عليُّ بن الحسين عليهما السلام ـ وذكر مثله ـ .

 5 ـ وروي «قال أبو جعفر عليه السلام : الغاضِريّة هي البقعة الّتي كلّم الله فيها موسى بن عِمرانَ عليه السلام ، وناجى نوحاً فيها ، وهي أكرم أرض الله عليه ، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأنبياءه ، فزوروا قبورنا بالغاضريّة» .

 6 ـ وقال أبو عبدالله عليه السلام : «الغاضريّه تربةٌ من بيت المقدس(22)» .

 7 ـ وعنهما(23) بهذا الإسناد عن أبي سعيد العُصفريِّ ، عن حمّاد بن أيّوب ، عن أبي عبدالله ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام «قال : قال رَسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : يقبر ابني بأرض يقال لها : كربلاء ، هي البقعة الّتي كانت فيها قبّة الإسلام ، الّتي نجا الله عليها المؤمنين الّذين آمنوا مع نوح في الطّوفان» .

 8 ـ وبإسناده عن ابن ميثَم التّمّار(24) ، عن الباقر عليه السلام «قال : مَن بات ليلة عرفة في كربلاء وأقام بها حتّى يعيد وينصرف وقاه الله شرّ سنته» .

 9 ـ وبهذا الإسناد عن عليِّ بن حَرب(25) ، عن الفضل بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي عبدالله عليه السلام « قال : زوروا كربلاء ولا تقطعوه ، فإنّ خير أولاد الأنبياء ضمنته ، ألا وإن الملائكة زارَتْ كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جَدِّي الحسين عليه السلام ، وما مِن ليلة تمضي إلاّ وجبرئيل وميكائيل يزورانه ، فاجتهدْ يا يحيى أن لا تفقد من ذلك الموطن» .

 10 ـ حدَّثني أبي ؛ وجماعة مشايخي ـ رحمهم الله ـ عن سعد بن عبدالله ،

عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن جعفر بن محمّد بن عبيدالله ، عن عبدالله بن ميمون القدَّاح ، عن أبي عبدالله عليه السلام «قال : مرَّ أمير المؤمنين عليه السلام بكربلاء في اُناس من أصحابه فلمّا مرَّ بِهَا اغْرَوْرَقَت عَيناهُ بالبكاء ، ثمَّ قال : هذا مناخُ رِكابهم وهذا مُلْقىُ رِحالُهم ، وهنا تُهْرَق دِماؤهم ، طوبى لك من تُربة عليك تُهرقُ دِماء الأحبَّة» .

 11 ـ حدَّثني أبي ، ومحمّد بن الحسن ، عن الحسن بن متّيل ، عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن أسباط ، عن محمّد بن سِنان ـ عمّن حدّثه ـ عن أبي عبدالله عليه السلام «قال : خرج أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام يَسيرُ بالنّاس حتّى إذا كان مِن كربلاء على مَسيرَة مِيل أو مِيلين تقدَّم بين أيديهم حتّى صار بمصارع الشُّهداء ، ثمَّ قال: قبض فيها مائتا نَبيٍّ ومائتا وَصيّ ومائتا سبط ، كلّهم شُهداء بأتباعهم ، فطاف بها على بَغلَتِه خارجاً رِجله من الرِّكاب فأنشأ يقول : مَناخ رِكاب ومَصارعُ الشُّهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم»(26) .

 12 ـ حدَّثني أبي وجماعة مشايخي ـ رحمهم الله ـ عن محمّد بن يحيى العطّار

عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن سِنان ، عن عَمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن ابي جعفر عليه السلام «قال : خلق الله تعالى كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدّسها وبارك عليها ، فما زالتْ قبل أن يخلق الله الخلق مقدّسة مباركة ، ولا تزال كذلك ، ويجعلها أفضل أرض في الجنَّة» .

 13 ـ وروى هذا الحديث جماعة مشايخنا ـ رحمهم الله ـ : أبي ؛ وأخي ؛ و غيرهم ، عن أحمدَ بن إدريسَ ، عن محمّد بن أحمد ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عليٍّ ، عن أبي سعيد العُصْفُريِّ ، عن عَمرو بن ثابت أبي المِقدام ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه السلام مثله ، وزاد فيه : «وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أولياءه في الجنَّة» .

 حدَّثني أبي ؛ وأخي ؛ وعليُّ بن الحسين ، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمّد بن عليٍّ قال : حدّثنا عبّاد أبو سعيد العُصْفُريُّ ، عن عَمْرِو بن ثابِت أبي المِقدام ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه السلام ـ وذكر مثله مع الزِّيادة ـ .

 14 ـ حدَّثني أبي ـ رحمه الله ـ عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمّد بن عليٍّ قال : حدَّثنا عبّاد أبو سعيد العُصْفُريّ ، عن صَفوانَ الجمّال «قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إنَّ اللهَ تبارَك وتعالى فضّل الأرضين والمياه بعضها على بضع ، فمنها ما تفاخَرَتْ ومنها ما بَغَتْ ، فما مِنْ ماءٍ ولا أرض إلاّ عوقبت لتركها التَّواضع لله حتّى سلّط اللهُ المشركينَ على الكَعبة ، وأرسل إلى زَمزم ماءً مالحاً حتّى أفسد طعمَه ، وإنَّ أرض كربلاء وماء الفُرات أوَّلُ أرض وأوَّلُ ماء قدَّس اللهُ تبارك وتعالى ، فباركَ الله عليهما فقال لها : تكلّمي بما فضّلك الله تعالى فقد تفاخرتِ الأرضون والمياه بعضها على بعض ؟! قالت : أنا أرض الله المقدَّسة المباركة ؛ الشِّفاء في تُربتي ومائي ، ولا فخر ، بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك ، ولا فخر على مَن دوني ، بل شُكراً لله . فأكرمها وزاد في تواضعها(27) وشكرها الله بالحسين عليه السلام وأصحابه ، ثمَّ قال أبو عبدالله عليه السلام : مَن تواضع لله رَفَعَهُ الله و مَن تكبّر وَضعه الله تعالى». 

____________

1 ـ هذا الحديث ليس من أصل الكتاب ، وإنّما أدرجه فيه بعض تلامذة المؤلّف ـ قدّس سرّه ـ فما في البحار مِن نقله عن الكتاب من غير تنبيه على ما ذكر ليس في محلّه . (الأميني ـ ره ـ)

2 ـ هو أحمد بن محمّد بن عبيدالله بن الحسن بن عيّاش الجوهري ، المتوفّى سنة 401 . قال النّجاشي ـ رحمه الله ـ : رأيت هذا الشّيخ وكان صديقاً لي ولوالديّ ، وسمعت منه شيئاً كثيراً ، ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو عنه وتجنّبته.

3 ـ في بعض النّسخ : «سيّار» .

4 ـ قال العلاّمة الأميني ـ رحمه الله ـ : ذهب غير واحدٍ من الفقهاء والمحقّقين إلى جواز زيارة الحسين عليه السلام مع أيّ خوف وضرر ، لإطلاق النّصوص كما مرّت في الباب 45 ، ولعلّ التاريخ يملي علينا دروساً من عمل الأصحاب على عهد الأئمّة صلوات الله عليهم منضمّة بتقريرهم له ، يؤكّد ما اختاره المحقّقون ولقد حمل إلينا عن أولئك أنّهم ما صدّهم عن قصد مشهد الحسين عليه السلام ما كابدوه من المثلة والتّنكيل والعقوبة بحبس وضرب وقطع يد وهتك حرمة وقابلوها بجأش طامن ، ولبّ راجح ، وشوق متأكّد ، وهذا كتابنا ينطق عليك بالحقّ في حديث مرّ [في ص 135 تحت رقم 2] في زيارة ابن بكير وإتيانه لها من أرّجان (من بلاد فارس) خائفاً مشفقاً من السّلطان والسّعاة وأصحاب المسالح ، وهو من فقهاء الطّائفة كما في رجال الكشّي ، وفيما يأتي [في الباب 91 تحت رقم 7] من حديث زيارة مثل محمّد بن مسلم على خوف ووجل وهو أكبر ثقة في الطائفة ، عدّه الصّادق عليه السلام من أوتاد الأرض وأعلام الدّين ، وفي كلا الحديثين فضلاً عن تقرير الإمام عليه السلام لفعلهما بيان ثواب جميل لهما بذلك ونصّ على أنّ ما كان من هذا أشدّ فالثّواب على قدر الخوف ، ويدلّ على مختار المحقّقين حديث هشام بن سالم الثّقة الجليل المرويّ عن الصّادق عليه السلام المذكور بطوله [في ص 133 تحت رقم 2 من الكتاب] وفيه تفصيل بيان ثواب عظيم لمن يقتل دون الحسين عليه السلام ، وأجر جميل لا يستهان به لمن حبس في إتيانه ، وجزاء جزيل لمن ضرب بعد الحبس في قصد مشهده ، إذن فلا ندحة من تعميم الحكم على جميع ما ذكر وإن صعّد وصوّب فيه المهملجون.

5 ـ في بعض النّسخ بالحاء المهملة ، وفي بعضها : «في البحر» .

6 ـ العُسّ ـ بالضّمّ والسّين المهملة المشدّدة ـ : القدح الكبير ، وفي بعض النّسخ : «بقعب» ـ بفتح القاف المعجمة ـ يقال للقدح من خشب مقعّر.

7 ـ أي نظر.

8 ـ نشج الباكي نشيجاً غُصّ بالبكاء في حلقه ، من غير انتحاب.

9 ـ من الحباء وهو العطاء بلا منٍّ ولا جزاء . وفي بعض النّسخ : «يحيون كما تحيي» ، والأنسب هو ما في المتن .

10 ـ خبط خبطاً ضرب ضرباً شديداً.

11 ـ الضِّفَّة من النّهر جانبه ، ومن البحر ساحله.

12 ـ في البحار : «بأرض تدعى كربلاء».

13 ـ في البحار : «وهي أطهر بقاع الأرض» .

14 ـ اصطفق الأشجار اضطربت ، واهتزّتت بالرّيح والعود: تحرّكت أوتاره.

15 ـ في بعض النّسخ: «أهله».

16 ـ الميسم : الحديدة أو الآلة الّتي يوسم بها .

17 ـ في البحار : «سيجدّ».

18 ـ في بعض النّسخ : «نساء».

19 ـ في صحّة الحديث وعدم صحّته أقوال لا يسعنا ذكرها.

20 ـ في بعض النّسخ : «غرست» .

21 ـ ساخت بهم الأرض أي خسفت .

22 ـ في بعض النّسخ : «من تربة بيت المقدس» . وهذه الأخبار مرسلات لا يحتجّ بها ، ولاُستاذنا الغفّاريّ ـ أيّده الله ـ في مورد بيت المقدس والكعبة والكوفة كلامٌ في هامش الفقيه ، راجع ج1 ص233 و234.

23 ـ يعني محمّد بن قولويه وعليّ بن الحسين بن بابويه.

24 ـ مشترك بين عمران الميثميّ وصالِح بن ميثم.

25 ـ في بعض النّسخ: «علي بن حارث» .

26 ـ ذكر ابن أعثم الكوفيّ المتوفّى 314 في كتابه المعروف بـ «الفتوح» في ذكر مسير عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى صفّين كلاماً طويلاً ـ إلى أن قال : ـ «ثمّ سار حتّى نزل بدير كعب فأقام هنالك باقي يومه وليلته . وأصبح سائراً حتّى نزل بكربلاء ، ثمَّ نظر إلى شاطيء الفرات وأبصر هنالك خَيلاً ، فقال : يا ابن عبّاس أتعرف هذا الموضع؟ فقال : لا يا أمير المؤمنين ما أعرفه ، فقال : أما! إنّك لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجاوزه حتّى تَبكي كبكائي ، قال : ثم بكى علي عليه السلام بكاء شديدا ، حتى اخضلّت لحيته بدموعه وسالت الدموع على صدره ، ثمّ جعل يقول : أواه ! ما لي ولآل أبي سفيان ! ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام فقال : أصبر ابا عبدالله ! فلقد لقي أبوك منهم مثل الّذي تلقى مِن بَعدي .

 قال : ثمَّ جعل عليّ عليه السلام يجول في أرض كربلاء كأنّه يطلب شيئاً ، ثمّ نزل ودعا بماء فتوضّأ وضوء الصّلاة ، ثمّ قام فصلّى ما شاء أن يصلّي ، والنّاس قد نزلوا هُنالك من قرب نينوى إلى شاطىء الفرات ، قال : ثمّ خفق برأسه خفقة فنام وانتبه فزعاً فقال : يا ابن عبّاس ألا اُحدِّثك بما رأيتُ السّاعة في منامي ؟! فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، فقال : رأيت رجالاً بيض الوجوه ، في أيديهم أعلام بيض ، وهم متقلّدون بسيوف لهم ، فخطّوا حول هذه الأرض خطّة ، ثمَّ رأيت هذه النّخيل وقد ضربت بسعفها الأرض ، ورأيت نَهراً يجري بالدَّم العبيط ، ورأيت ابني الحسين و قد غرق في ذلك الدَّم وهو يستغيثُ فلا يُغاث ، ثمّ إنّي رأيت أولئك الرّجال البيض الوجوه الّذين نزلوا من السّماء وهو ينادون : صبراً آل الرّسول صبراً! فإنّكم تقتلون على أيدي أشرار النّاس ، وهذه الجنّة مشتاقة إليك يا ابا عبدالله ، ثمّ تقدَّموا إليَّ فعزوني وقالوا : أبشر يا أبا الحسن فقد أقرَّ الله عينك بابنك الحسين غداً يوم يقوم النّاس لربّ العالمين ، ثمّ إنّي انتبهت؛ فهذا ما رأيت فوالّذي نفس علي بيده لقد حدَّثني الصّادق المصدّق أبو القاسم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّي سأرى هذه الرؤيا بعينها في خروجي إلى قتال أهل البغي علينا ، وهذه أرض كربلاء الّتي يدفن فيها ابني الحسين وشيعته وجماعة من ولد فاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّ هذه البقعة المعروفة في أهل السّماوات تذكر بأرض كرب وبلاء ، وليحشرنّ منها قوم يدخلون الجنّة بلا حساب .

 ثمّ قال : يا ابن عبّاس اطلبْ لي حولها صِيران الظّباء ، فطلبها ابن عبّاس وجدها ، ثمّ قال : يا أمير المؤمنين قد أصبتها ، فقال علي عليه السلام : الله أكبر! صدق الله ورسوله .

 ثمّ قام علي عليه السلام يهرول نحوها حتى وقف عليها ، ثمّ أخذ قبضة من بعر الظّباء فشمّها ، فإذا لها لون كلون الزَّعفران ورائحة كرائحة المِسك ، فقال عليُّ عليه السلام : نعم هي هذه بعينها ، ثمّ قال : أتعلم ما هذه يا ابن عبّاس ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين ، فقال: إنّ مسيح عيسى ابن مريم قد مرَّ بهذه الأرض ومعه الحواريّون ، فشمَّ هذه البَعر كما شممته ، وأقبلت إليه الظّباء حتّى وقفت بين يديه ، فبكى عيسى وبكى معه الحواريّون ، وهم لا يدرون لماذا يبكي عيسى عليه السّلام ، فقالوا : يا روح الله ما يُبكيك؟ ولماذا اختلست ههنا؟ فقال لهم : أتعلمون ما هذه الأرض ؟ قالوا : لا يا روح الله ، فقال: هذه أرض يقتل عليها فرخ الرَّسول أحمد المصطفى ، وفرخ ابنته الزّهراء قرينة الطّاهرة البتول مريم بنت عِمران ، ـ إلى أن قال : ـ

 قال ابن عبّاس : فلمّا رجع عليّ عليه السلام من صِفّين وفرغ من أهل النّهروان دخل عليه الأعور الهَمداني ، فقال له عليُّ عليه السّلام : يا حارث أعَلِمتَ أنّي منذ البارحة كئيب حزين فزع وَجِل ؟ فقال الحارث: ولم ذاك يا أمير المؤمنين ؟ أندما منك على قتال أهل الشّام وأهل البصرة والنَّهروان؟ فقال : لا ، ويحك يا حارث وإنّي بذلك مسرور ، ولكنّي رأيت في منامي أرض كربلاء ، ورأيت ابني الحسين مذبوحاً مطروحاً على وجه الأرض ، ورأيت الأشجار منكبة ، والسّماء مصدّعة ، والرّحال متطأمنة ، وسمعت منادياً ينادي بين السّماء والأرض وهو يقول : أفزعتمونا يا قتلة الحسين أفزعكم الله وقتلكم ، ثمَّ إنّي انتبهت وأنا منه على وَجَل لما رأيت ، فقال له الحارث : كلاّ يا أمير المؤمنين ، لا يكون إلاّ خيراً ، فقال له عليّ عليه السلام : هيهات يا حارث سبقتْ كلمة الله ونفذ قضاؤه ، وقد أخبرني حبيبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ ابني يقتله يزيد ـ زاده الله في النّار عذاباً . (راجع الفتوح ج1 ص571 إلى 574 ، طبع دار الكتب العلميّة : بيروت ـ لبنان)

27 ـ في بعض النّسخ : «وزادها لتواضعها» .