كتاب 53- كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر و أعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن

بسْم اللّه الرّحْمن الرّحيم ، هذا ما أمر به عبْد اللّه عليّ أمير الْمؤْمنين مالك بْن الْحارث الْأشْتر في عهْده إليْه حين ولّاه مصْر جباية خراجها و جهاد عدوّها و اسْتصْلاح أهْلها و عمارة بلادها أمره بتقْوى اللّه و إيْثار طاعته و اتّباع ما أمر به في كتابه منْ فرائضه و سننه الّتي لا يسْعد أحد إلّا باتّباعها و لا يشْقى إلّا مع جحودها و إضاعتها و أنْ ينْصر اللّه سبْحانه بقلْبه و يده و لسانه فإنّه جلّ اسْمه قدْ تكفّل بنصْر منْ نصره و إعْزاز منْ أعزّه و أمره أنْ يكْسر نفْسه من الشّهوات و يزعها عنْد الْجمحات فإنّ النّفْس أمّارة بالسّوء إلّا ما رحم اللّه ثمّ اعْلمْ يا مالك أنّي قدْ وجّهْتك إلى بلاد قدْ جرتْ عليْها دول قبْلك منْ عدْل و جوْر و أنّ النّاس ينْظرون منْ أمورك في مثْل ما كنْت تنْظر فيه منْ أمور الْولاة قبْلك و يقولون فيك ما كنْت تقول فيهمْ و إنّما يسْتدلّ على الصّالحين بما يجْري اللّه لهمْ على ألْسن عباده فلْيكنْ أحبّ الذّخائر إليْك ذخيرة الْعمل الصّالح فامْلكْ هواك و شحّ بنفْسك عمّا لا يحلّ لك فإنّ الشّحّ بالنّفْس الْإنْصاف منْها فيما أحبّتْ أوْ كرهتْ و أشْعرْ قلْبك الرّحْمة للرّعيّة و الْمحبّة لهمْ و اللّطْف بهمْ و لا تكوننّ عليْهمْ سبعا ضاريا تغْتنم أكْلهمْ فإنّهمْ صنْفان إمّا أخ لك في الدّين و إمّا نظير لك في الْخلْق يفْرط منْهم الزّلل و تعْرض لهم الْعلل و يؤْتى على أيْديهمْ في الْعمْد و الْخطإ فأعْطهمْ منْ عفْوك و صفْحك مثْل الّذي تحبّ و ترْضى أنْ يعْطيك اللّه منْ عفْوه و صفْحه فإنّك فوْقهمْ و والي الْأمْر عليْك فوْقك و اللّه فوْق منْ ولّاك و قد اسْتكْفاك أمْرهمْ و ابْتلاك بهمْ و لا تنْصبنّ نفْسك لحرْب اللّه فإنّه لا يد لك بنقْمته و لا غنى بك عنْ عفْوه و رحْمته و لا تنْدمنّ على عفْو و لا تبْجحنّ بعقوبة و لا تسْرعنّ إلى بادرة وجدْت منْها منْدوحة و لا تقولنّ إنّي مؤمّر آمر فأطاع فإنّ ذلك إدْغال في الْقلْب و منْهكة للدّين و تقرّب من الْغير و إذا أحْدث لك ما أنْت فيه منْ سلْطانك أبّهة أوْ مخيلة فانْظرْ إلى عظم ملْك اللّه فوْقك و قدْرته منْك على ما لا تقْدر عليْه منْ نفْسك فإنّ ذلك يطامن إليْك منْ طماحك و يكفّ عنْك منْ غرْبك و يفي‏ء إليْك بما عزب عنْك منْ عقْلك إيّاك و مساماة اللّه في عظمته و التّشبّه به في جبروته فإنّ اللّه يذلّ كلّ جبّار و يهين كلّ مخْتال أنْصف اللّه و أنْصف النّاس منْ نفْسك و منْ خاصّة أهْلك و منْ لك فيه هوى منْ رعيّتك فإنّك إلّا تفْعلْ تظْلمْ و منْ ظلم عباد اللّه كان اللّه خصْمه دون عباده و منْ خاصمه اللّه أدْحض حجّته و كان للّه حرْبا حتّى ينْزع أوْ يتوب و ليْس شيْ‏ء أدْعى إلى تغْيير نعْمة اللّه و تعْجيل نقْمته منْ إقامة على ظلْم فإنّ اللّه سميع دعْوة الْمضْطهدين و هو للظّالمين بالْمرْصاد و لْيكنْ أحبّ الْأمور إليْك أوْسطها في الْحقّ و أعمّها في الْعدْل و أجْمعها لرضى الرّعيّة فإنّ سخْط الْعامّة يجْحف برضى الْخاصّة و إنّ سخْط الْخاصّة يغْتفر مع رضى الْعامّة و ليْس أحد من الرّعيّة أثْقل على الْوالي مئونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في الْبلاء و أكْره للْإنْصاف و أسْأل بالْإلْحاف و أقلّ شكْرا عنْد الْإعْطاء و أبْطأ عذْرا عنْد الْمنْع و أضْعف صبْرا عنْد ملمّات الدّهْر منْ أهْل الْخاصّة و إنّما عماد الدّين و جماع الْمسْلمين و الْعدّة للْأعْداء الْعامّة من الْأمّة فلْيكنْ صغْوك لهمْ و ميْلك معهمْ و لْيكنْ أبْعد رعيّتك منْك و أشْنأهمْ عنْدك أطْلبهمْ لمعايب النّاس فإنّ في النّاس عيوبا الْوالي أحقّ منْ سترها فلا تكْشفنّ عمّا غاب عنْك منْها فإنّما عليْك تطْهير ما ظهر لك و اللّه يحْكم على ما غاب عنْك فاسْتر الْعوْرة ما اسْتطعْت يسْتر اللّه منْك ما تحبّ ستْره منْ رعيّتك أطْلقْ عن النّاس عقْدة كلّ حقْد و اقْطعْ عنْك سبب كلّ وتْر و تغاب عنْ كلّ ما لا يضح لك و لا تعْجلنّ إلى تصْديق ساع فإنّ السّاعي غاشّ و إنْ تشبّه بالنّاصحين و لا تدْخلنّ في مشورتك بخيلا يعْدل بك عن الْفضْل و يعدك الْفقْر و لا جبانا يضْعفك عن الْأمور و لا حريصا يزيّن لك الشّره بالْجوْر فإنّ الْبخْل و الْجبْن و الْحرْص غرائز شتّى يجْمعها سوء الظّنّ باللّه إنّ شرّ وزرائك منْ كان للْأشْرار قبْلك وزيرا و منْ شركهمْ في الْآثام فلا يكوننّ لك بطانة فإنّهمْ أعْوان الْأثمة و إخْوان الظّلمة و أنْت واجد منْهمْ خيْر الْخلف ممّنْ له مثْل آرائهمْ و نفاذهمْ و ليْس عليْه مثْل آصارهمْ و أوْزارهمْ و آثامهمْ ممّنْ لمْ يعاونْ ظالما على ظلْمه و لا آثما على إثْمه أولئك أخفّ عليْك مئونة و أحْسن لك معونة و أحْنى عليْك عطْفا و أقلّ لغيْرك إلْفا فاتّخذْ أولئك خاصّة لخلواتك و حفلاتك ثمّ لْيكنْ آثرهمْ عنْدك أقْولهمْ بمرّ الْحقّ لك و أقلّهمْ مساعدة فيما يكون منْك ممّا كره اللّه لأوْليائه واقعا ذلك منْ هواك حيْث وقع و الْصقْ بأهْل الْورع و الصّدْق ثمّ رضْهمْ على ألّا يطْروك و لا يبْجحوك بباطل لمْ تفْعلْه فإنّ كثْرة الْإطْراء تحْدث الزّهْو و تدْني من الْعزّة و لا يكوننّ الْمحْسن و الْمسي‏ء عنْدك بمنْزلة سواء فإنّ في ذلك تزْهيدا لأهْل الْإحْسان في الْإحْسان و تدْريبا لأهْل الْإساءة على الْإساءة و ألْزمْ كلّا منْهمْ ما ألْزم نفْسه و اعْلمْ أنّه ليْس شيْ‏ء بأدْعى إلى حسْن ظنّ راع برعيّته منْ إحْسانه إليْهمْ و تخْفيفه الْمئونات عليْهمْ و ترْك اسْتكْراهه إيّاهمْ على ما ليْس له قبلهمْ فلْيكنْ منْك في ذلك أمْر يجْتمع لك به حسْن الظّنّ برعيّتك فإنّ حسْن الظّنّ يقْطع عنْك نصبا طويلا و إنّ أحقّ منْ حسن ظنّك به لمنْ حسن بلاؤك عنْده و إنّ أحقّ منْ ساء ظنّك به لمنْ ساء بلاؤك عنْده و لا تنْقضْ سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الْأمّة و اجْتمعتْ بها الْألْفة و صلحتْ عليْها الرّعيّة و لا تحْدثنّ سنّة تضرّ بشيْ‏ء منْ ماضي تلْك السّنن فيكون الْأجْر لمنْ سنّها و الْوزْر عليْك بما نقضْت منْها و أكْثرْ مدارسة الْعلماء و مناقشة الْحكماء في تثْبيت ما صلح عليْه أمْر بلادك و إقامة ما اسْتقام به النّاس قبْلك و اعْلمْ أنّ الرّعيّة طبقات لا يصْلح بعْضها إلّا ببعْض و لا غنى ببعْضها عنْ بعْض فمنْها جنود اللّه و منْها كتّاب الْعامّة و الْخاصّة و منْها قضاة الْعدْل و منْها عمّال الْإنْصاف و الرّفْق و منْها أهْل الْجزْية و الْخراج منْ أهْل الذّمّة و مسْلمة النّاس و منْها التّجّار و أهْل الصّناعات و منْها الطّبقة السّفْلى منْ ذوي الْحاجة و الْمسْكنة و كلّ قدْ سمّى اللّه له سهْمه و وضع على حدّه فريضة في كتابه أوْ سنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) عهْدا منْه عنْدنا محْفوظا فالْجنود بإذْن اللّه حصون الرّعيّة و زيْن الْولاة و عزّ الدّين و سبل الْأمْن و ليْس تقوم الرّعيّة إلّا بهمْ ثمّ لا قوام للْجنود إلّا بما يخْرج اللّه لهمْ من الْخراج الّذي يقْووْن به على جهاد عدوّهمْ و يعْتمدون عليْه فيما يصْلحهمْ و يكون منْ وراء حاجتهمْ ثمّ لا قوام لهذيْن الصّنْفيْن إلّا بالصّنْف الثّالث من الْقضاة و الْعمّال و الْكتّاب لما يحْكمون من الْمعاقد و يجْمعون من الْمنافع و يؤْتمنون عليْه منْ خواصّ الْأمور و عوامّها و لا قوام لهمْ جميعا إلّا بالتّجّار و ذوي الصّناعات فيما يجْتمعون عليْه منْ مرافقهمْ و يقيمونه منْ أسْواقهمْ و يكْفونهمْ من التّرفّق بأيْديهمْ ما لا يبْلغه رفْق غيْرهمْ ثمّ الطّبقة السّفْلى منْ أهْل الْحاجة و الْمسْكنة الّذين يحقّ رفْدهمْ و معونتهمْ و في اللّه لكلّ سعة و لكلّ على الْوالي حقّ بقدْر ما يصْلحه و ليْس يخْرج الْوالي منْ حقيقة ما ألْزمه اللّه منْ ذلك إلّا بالاهْتمام و الاسْتعانة باللّه و توْطين نفْسه على لزوم الْحقّ و الصّبْر عليْه فيما خفّ عليْه أوْ ثقل فولّ منْ جنودك أنْصحهمْ في نفْسك للّه و لرسوله و لإمامك و أنْقاهمْ جيْبا و أفْضلهمْ حلْما ممّنْ يبْطئ عن الْغضب و يسْتريح إلى الْعذْر و يرْأف بالضّعفاء و ينْبو على الْأقْوياء و ممّنْ لا يثيره الْعنْف و لا يقْعد به الضّعْف ثمّ الْصقْ بذوي الْمروءات و الْأحْساب و أهْل الْبيوتات الصّالحة و السّوابق الْحسنة ثمّ أهْل النّجْدة و الشّجاعة و السّخاء و السّماحة فإنّهمْ جماع من الْكرم و شعب من الْعرْف ثمّ تفقّدْ منْ أمورهمْ ما يتفقّد الْوالدان منْ ولدهما و لا يتفاقمنّ في نفْسك شيْ‏ء قوّيْتهمْ به و لا تحْقرنّ لطْفا تعاهدْتهمْ به و إنْ قلّ فإنّه داعية لهمْ إلى بذْل النّصيحة لك و حسْن الظّنّ بك و لا تدعْ تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها فإنّ للْيسير منْ لطْفك موْضعا ينْتفعون به و للْجسيم موْقعا لا يسْتغْنون عنْه و لْيكنْ آثر رءوس جنْدك عنْدك منْ واساهمْ في معونته و أفْضل عليْهمْ منْ جدته بما يسعهمْ و يسع منْ وراءهمْ منْ خلوف أهْليهمْ حتّى يكون همّهمْ همّا واحدا في جهاد الْعدوّ فإنّ عطْفك عليْهمْ يعْطف قلوبهمْ عليْك و إنّ أفْضل قرّة عيْن الْولاة اسْتقامة الْعدْل في الْبلاد و ظهور مودّة الرّعيّة و إنّه لا تظْهر مودّتهمْ إلّا بسلامة صدورهمْ و لا تصحّ نصيحتهمْ إلّا بحيطتهمْ على ولاة الْأمور و قلّة اسْتثْقال دولهمْ و ترْكاسْتبْطاء انْقطاع مدّتهمْ فافْسحْ في آمالهمْ و واصلْ في حسْن الثّناء عليْهمْ و تعْديد ما أبْلى ذوو الْبلاء منْهمْ فإنّ كثْرة الذّكْر لحسْن أفْعالهمْ تهزّ الشّجاع و تحرّض النّاكل إنْ شاء اللّه ثمّ اعْرفْ لكلّ امْرئ منْهمْ ما أبْلى و لا تضمّنّ بلاء امْرئ إلى غيْره و لا تقصّرنّ به دون غاية بلائه و لا يدْعونّك شرف امْرئ إلى أنْ تعْظم منْ بلائه ما كان صغيرا و لا ضعة امْرئ إلى أنْ تسْتصْغر منْ بلائه ما كان عظيما و ارْددْ إلى اللّه و رسوله ما يضْلعك من الْخطوب و يشْتبه عليْك من الْأمور فقدْ قال اللّه تعالى لقوْم أحبّ إرْشادهمْ يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول و أولي الْأمْر منْكمْ فإنْ تنازعْتمْ في شيْ‏ء فردّوه إلى اللّه و الرّسول فالرّدّ إلى اللّه الْأخْذ بمحْكم كتابه و الرّدّ إلى الرّسول الْأخْذ بسنّته الْجامعة غيْر الْمفرّقة ثمّ اخْترْ للْحكْم بيْن النّاس أفْضل رعيّتك في نفْسك ممّنْ لا تضيق به الْأمور و لا تمحّكه الْخصوم و لا يتمادى في الزّلّة و لا يحْصر من الْفيْ‏ء إلى الْحقّ إذا عرفه و لا تشْرف نفْسه على طمع و لا يكْتفي بأدْنى فهْم دون أقْصاه و أوْقفهمْ في الشّبهات و آخذهمْ بالْحجج و أقلّهمْ تبرّما بمراجعة الْخصْم و أصْبرهمْ على تكشّف الْأمور و أصْرمهمْ عنْد اتّضاح الْحكْم ممّنْ لا يزْدهيه إطْراء و لا يسْتميله إغْراء و أولئك قليل ثمّ أكْثرْ تعاهد قضائه و افْسحْ له في الْبذْل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته إلى النّاس و أعْطه من الْمنْزلة لديْك ما لا يطْمع فيه غيْره منْ خاصّتك ليأْمن بذلك اغْتيال الرّجال له عنْدك فانْظرْ في ذلك نظرا بليغا فإنّ هذا الدّين قدْ كان أسيرا في أيْدي الْأشْرار يعْمل فيه بالْهوى و تطْلب به الدّنْيا ثمّ انْظرْ في أمور عمّالك فاسْتعْملْهم اخْتبارا و لا تولّهمْ محاباة و أثرة فإنّهما جماع منْ شعب الْجوْر و الْخيانة و توخّ منْهمْ أهْل التّجْربة و الْحياء منْ أهْل الْبيوتات الصّالحة و الْقدم في الْإسْلام الْمتقدّمة فإنّهمْ أكْرم أخْلاقا و أصحّ أعْراضا و أقلّ في الْمطامع إشْراقا و أبْلغ في عواقب الْأمور نظرا ثمّ أسْبغْ عليْهم الْأرْزاق فإنّ ذلك قوّة لهمْ على اسْتصْلاح أنْفسهمْ و غنى لهمْ عنْ تناول ما تحْت أيْديهمْ و حجّة عليْهمْ إنْ خالفوا أمْرك أوْ ثلموا أمانتك ثمّ تفقّدْ أعْمالهمْ و ابْعث الْعيون منْ أهْل الصّدْق و الْوفاء عليْهمْ فإنّ تعاهدك في السّرّ لأمورهمْ حدْوة لهمْ على اسْتعْمال الْأمانة و الرّفْق بالرّعيّة و تحفّظْ من الْأعْوان فإنْ أحد منْهمْ بسط يده إلى خيانة اجْتمعتْ بها عليْه عنْدك أخْبار عيونك اكْتفيْت بذلك شاهدا فبسطْت عليْه الْعقوبة في بدنه و أخذْته بما أصاب منْ عمله ثمّ نصبْته بمقام الْمذلّة و وسمْته بالْخيانة و قلّدْته عار التّهمة و تفقّدْ أمْر الْخراج بما يصْلح أهْله فإنّ في صلاحه و صلاحهمْ صلاحا لمنْ سواهمْ و لا صلاح لمنْ سواهمْ إلّا بهمْ لأنّ النّاس كلّهمْ عيال على الْخراج و أهْله و لْيكنْ نظرك في عمارة الْأرْض أبْلغ منْ نظرك في اسْتجْلاب الْخراج لأنّ ذلك لا يدْرك إلّا بالْعمارة و منْ طلب الْخراج بغيْر عمارة أخْرب الْبلاد و أهْلك الْعباد و لمْ يسْتقمْ أمْره إلّا قليلا فإنْ شكوْا ثقلا أوْ علّة أو انْقطاع شرْب أوْ بالّة أوْ إحالة أرْض اغْتمرها غرق أوْ أجْحف بها عطش خفّفْت عنْهمْ بما ترْجو أنْ يصْلح به أمْرهمْ و لا يثْقلنّ عليْك شيْ‏ء خفّفْت به الْمئونة عنْهمْ فإنّه ذخْر يعودون به عليْك في عمارة بلادك و تزْيين ولايتك مع اسْتجْلابك حسْن ثنائهمْ و تبجّحك باسْتفاضة الْعدْل فيهمْ معْتمدا فضْل قوّتهمْ بما ذخرْت عنْدهمْ منْ إجْمامك لهمْ و الثّقة منْهمْ بما عوّدْتهمْ منْ عدْلك عليْهمْ و رفْقك بهمْ فربّما حدث من الْأمور ما إذا عوّلْت فيه عليْهمْ منْ بعْد احْتملوه طيّبة أنْفسهمْ به فإنّ الْعمْران محْتمل ما حمّلْته و إنّما يؤْتى خراب الْأرْض منْ إعْواز أهْلها و إنّما يعْوز أهْلها لإشْراف أنْفس الْولاة على الْجمْع و سوء ظنّهمْ بالْبقاء و قلّة انْتفاعهمْ بالْعبر ثمّ انْظرْ في حال كتّابك فولّ على أمورك خيْرهمْ و اخْصصْ رسائلك الّتي تدْخل فيها مكايدك و أسْرارك بأجْمعهمْ لوجوه صالح الْأخْلاق ممّنْ لا تبْطره الْكرامة فيجْترئ بها عليْك في خلاف لك بحضْرة ملإ و لا تقْصر به الْغفْلة عنْ إيراد مكاتبات عمّالك عليْك و إصْدار جواباتها على الصّواب عنْك فيما يأْخذ لك و يعْطي منْك و لا يضْعف عقْدا اعْتقده لك و لا يعْجز عنْ إطْلاق ما عقد عليْك و لا يجْهل مبْلغ قدْر نفْسه في الْأمور فإنّ الْجاهل بقدْر نفْسه يكون بقدْر غيْره أجْهل ثمّ لا يكن اخْتيارك إيّاهمْ على فراستك و اسْتنامتك و حسْن الظّنّ منْك فإنّ الرّجال يتعرّضون لفراسات الْولاة بتصنّعهمْ و حسْن خدْمتهمْ و ليْس وراء ذلك من النّصيحة و الْأمانة شيْ‏ء و لكن اخْتبرْهمْ بما ولّوا للصّالحين قبْلك فاعْمدْ لأحْسنهمْ كان في الْعامّة أثرا و أعْرفهمْ بالْأمانة وجْها فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمنْ ولّيت أمْره و اجْعلْ لرأْس كلّ أمْر منْ أمورك رأْسا منْهمْ لا يقْهره كبيرها و لا يتشتّت عليْه كثيرها و مهْما كان في كتّابك منْ عيْب فتغابيْت عنْه ألْزمْته ثمّ اسْتوْص بالتّجّار و ذوي الصّناعات و أوْص بهمْ خيْرا الْمقيم منْهمْ و الْمضْطرب بماله و الْمترفّق ببدنه فإنّهمْ موادّ الْمنافع و أسْباب الْمرافق و جلّابها من الْمباعد و الْمطارح في برّك و بحْرك و سهْلك و جبلك و حيْث لا يلْتئم النّاس لمواضعها و لا يجْترءون عليْها فإنّهمْ سلْم لا تخاف بائقته و صلْح لا تخْشى غائلته و تفقّدْ أمورهمْ بحضْرتك و في حواشي بلادك و اعْلمْ مع ذلك أنّ في كثير منْهمْ ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احْتكارا للْمنافع و تحكّما في الْبياعات و ذلك باب مضرّة للْعامّة و عيْب على الْولاة فامْنعْ من الاحْتكار فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) منع منْه و لْيكن الْبيْع بيْعا سمْحا بموازين عدْل و أسْعار لا تجْحف بالْفريقيْن من الْبائع و الْمبْتاع فمنْ قارف حكْرة بعْد نهْيك إيّاه فنكّلْ به و عاقبْه في غيْر إسْراف ثمّ اللّه اللّه في الطّبقة السّفْلى من الّذين لا حيلة لهمْ من الْمساكين و الْمحْتاجين و أهْل الْبؤْسى و الزّمْنى فإنّ في هذه الطّبقة قانعا و معْترّا و احْفظ للّه ما اسْتحْفظك منْ حقّه فيهمْ و اجْعلْ لهمْ قسْما منْ بيْت مالك و قسْما منْ غلّات صوافي الْإسْلام في كلّ بلد فإنّ للْأقْصى منْهمْ مثْل الّذي للْأدْنى و كلّ قد اسْترْعيت حقّه و لا يشْغلنّك عنْهمْ بطر فإنّك لا تعْذر بتضْييعك التّافه لإحْكامك الْكثير الْمهمّ فلا تشْخصْ همّك عنْهمْ و لا تصعّرْ خدّك لهمْ و تفقّدْ أمور منْ لا يصل إليْك منْهمْ ممّنْ تقْتحمه الْعيون و تحْقره الرّجال ففرّغْ لأولئك ثقتك منْ أهْل الْخشْية و التّواضع فلْيرْفعْ إليْك أمورهمْ ثمّ اعْملْ فيهمْ بالْإعْذار إلى اللّه يوْم تلْقاه فإنّ هؤلاء منْ بيْن الرّعيّة أحْوج إلى الْإنْصاف منْ غيْرهمْ و كلّ فأعْذرْ إلى اللّه في تأْدية حقّه إليْه و تعهّدْ أهْل الْيتْم و ذوي الرّقّة في السّنّ ممّنْ لا حيلة له و لا ينْصب للْمسْألة نفْسه و ذلك على الْولاة ثقيل و الْحقّ كلّه ثقيل و قدْ يخفّفه اللّه على أقْوام طلبوا الْعاقبة فصبّروا أنْفسهمْ و وثقوا بصدْق موْعود اللّه لهمْ و اجْعلْ لذوي الْحاجات منْك قسْما تفرّغ لهمْ فيه شخْصك و تجْلس لهمْ مجْلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك و تقْعد عنْهمْ جنْدك و أعْوانك منْ أحْراسك و شرطك حتّى يكلّمك متكلّمهمْ غيْر متتعْتع فإنّي سمعْت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول في غيْر موْطن لنْ تقدّس أمّة لا يؤْخذ للضّعيف فيها حقّه من الْقويّ غيْر متتعْتع ثمّ احْتمل الْخرْق منْهمْ و الْعيّ و نحّ عنْهم الضّيقو الْأنف يبْسط اللّه عليْك بذلك أكْناف رحْمته و يوجبْ لك ثواب طاعته و أعْط ما أعْطيْت هنيئا و امْنعْ في إجْمال و إعْذار ثمّ أمور منْ أمورك لا بدّ لك منْ مباشرتها منْها إجابة عمّالك بما يعْيا عنْه كتّابك و منْها إصْدار حاجات النّاس يوْم ورودها عليْك بما تحْرج به صدور أعْوانك و أمْض لكلّ يوْم عمله فإنّ لكلّ يوْم ما فيه و اجْعلْ لنفْسك فيما بيْنك و بيْن اللّه أفْضل تلْك الْمواقيت و أجْزل تلْك الْأقْسام و إنْ كانتْ كلّها للّه إذا صلحتْ فيها النّيّة و سلمتْ منْها الرّعيّة و لْيكنْ في خاصّة ما تخْلص به للّه دينك إقامة فرائضه الّتي هي له خاصّة فأعْط اللّه منْ بدنك في ليْلك و نهارك و وفّ ما تقرّبْت به إلى اللّه منْ ذلك كاملا غيْر مثْلوم و لا منْقوص بالغا منْ بدنك ما بلغ و إذا قمْت في صلاتك للنّاس فلا تكوننّ منفّرا و لا مضيّعا فإنّ في النّاس منْ به الْعلّة و له الْحاجة و قدْ سألْت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) حين وجّهني إلى الْيمن كيْف أصلّي بهمْ فقال صلّ بهمْ كصلاة أضْعفهمْ و كنْ بالْمؤْمنين رحيما و أمّا بعْد فلا تطوّلنّ احْتجابك عنْ رعيّتك فإنّ احْتجاب الْولاة عن الرّعيّة شعْبة من الضّيق و قلّة علْم بالْأمور و الاحْتجاب منْهمْ يقْطع عنْهمْ علْم ما احْتجبوا دونه فيصْغر عنْدهم الْكبير و يعْظم الصّغير و يقْبح الْحسن و يحْسن الْقبيح و يشاب الْحقّ بالْباطل و إنّما الْوالي بشر لا يعْرف ما توارى عنْه النّاس به من الْأمور و ليْستْ على الْحقّ سمات تعْرف بها ضروب الصّدْق من الْكذب و إنّما أنْت أحد رجليْن إمّا امْرؤ سختْ نفْسك بالْبذْل في الْحقّ ففيم احْتجابك منْ واجب حقّ تعْطيه أوْ فعْل كريم تسْديه أوْ مبْتلى بالْمنْع فما أسْرع كفّ النّاس عنْ مسْألتك إذا أيسوا منْ بذْلك مع أنّ أكْثر حاجات النّاس إليْك ممّا لا مئونة فيه عليْك منْ شكاة مظْلمة أوْ طلب إنْصاف في معاملة ثمّ إنّ للْوالي خاصّة و بطانة فيهم اسْتئْثار و تطاول و قلّة إنْصاف في معاملة فاحْسمْ مادّة أولئك بقطْع أسْباب تلْك الْأحْوال و لا تقْطعنّ لأحد منْ حاشيتك و حامّتك قطيعة و لا يطْمعنّ منْك في اعْتقاد عقْدة تضرّ بمنْ يليها من النّاس في شرْب أوْ عمل مشْترك يحْملون مئونته على غيْرهمْ فيكون مهْنأ ذلك لهمْ دونك و عيْبه عليْك في الدّنْيا و الْآخرة و ألْزم الْحقّ منْ لزمه من الْقريب و الْبعيد و كنْ في ذلك صابرا محْتسبا واقعا ذلك منْ قرابتك و خاصّتك حيْث وقع و ابْتغ عاقبته بما يثْقل عليْك منْه فإنّ مغبّة ذلك محْمودة و إنْ ظنّت الرّعيّة بك حيْفا فأصْحرْ لهمْ بعذْرك و اعْدلْ عنْك ظنونهمْ بإصْحارك فإنّ في ذلك رياضة منْك لنفْسك و رفْقا برعيّتك و إعْذارا تبْلغ به حاجتك منْ تقْويمهمْ على الْحقّ و لا تدْفعنّ صلْحا دعاك إليْه عدوّك و للّه فيه رضا فإنّ في الصّلْح دعة لجنودك و راحة منْ همومك و أمْنا لبلادك و لكن الْحذر كلّ الْحذر منْ عدوّك بعْد صلْحه فإنّ الْعدوّ ربّما قارب ليتغفّل فخذْ بالْحزْم و اتّهمْ في ذلك حسْن الظّنّ و إنْ عقدْت بيْنك و بيْن عدوّك عقْدة أوْ ألْبسْته منْك ذمّة فحطْ عهْدك بالْوفاء و ارْع ذمّتك بالْأمانة و اجْعلْ نفْسك جنّة دون ما أعْطيْت فإنّه ليْس منْ فرائض اللّه شيْ‏ء النّاس أشدّ عليْه اجْتماعا مع تفرّق أهْوائهمْ و تشتّت آرائهمْ منْ تعْظيم الْوفاء بالْعهود و قدْ لزم ذلك الْمشْركون فيما بيْنهمْ دون الْمسْلمين لما اسْتوْبلوا منْ عواقب الْغدْر فلا تغْدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهْدك و لا تخْتلنّ عدوّك فإنّه لا يجْترئ على اللّه إلّا جاهل شقيّ و قدْ جعل اللّه عهْده و ذمّته أمْنا أفْضاه بيْن الْعباد برحْمته و حريما يسْكنون إلى منعته و يسْتفيضون إلى جواره فلا إدْغال و لا مدالسة و لا خداع فيه و لا تعْقدْ عقْدا تجوّز فيه الْعلل و لا تعوّلنّ على لحْن قوْل بعْد التّأْكيد و التّوْثقة و لا يدْعونّك ضيق أمْر لزمك فيه عهْد اللّه إلى طلب انْفساخه بغيْر الْحقّ فإنّ صبْرك على ضيق أمْر ترْجو انْفراجه و فضْل عاقبته خيْر منْ غدْر تخاف تبعته و أنْ تحيط بك من اللّه فيه طلْبة لا تسْتقْبل فيها دنْياك و لا آخرتك إيّاك و الدّماء و سفْكها بغيْر حلّها فإنّه ليْس شيْ‏ء أدْعى لنقْمة و لا أعْظم لتبعة و لا أحْرى بزوال نعْمة و انْقطاع مدّة منْ سفْك الدّماء بغيْر حقّها و اللّه سبْحانه مبْتدئ بالْحكْم بيْن الْعباد فيما تسافكوا من الدّماء يوْم الْقيامة فلا تقوّينّ سلْطانك بسفْك دم حرام فإنّ ذلك ممّا يضْعفه و يوهنه بلْ يزيله و ينْقله و لا عذْر لك عنْد اللّه و لا عنْدي في قتْل الْعمْد لأنّ فيه قود الْبدن و إن ابْتليت بخطإ و أفْرط عليْك سوْطك أوْ سيْفك أوْ يدك بالْعقوبة فإنّ في الْوكْزة فما فوْقها مقْتلة فلا تطْمحنّ بك نخْوة سلْطانك عنْ أنْ تؤدّي إلى أوْلياء الْمقْتول حقّهمْ و إيّاك و الْإعْجاب بنفْسك و الثّقة بما يعْجبك منْها و حبّ الْإطْراء فإنّ ذلك منْ أوْثق فرص الشّيْطان في نفْسه ليمْحق ما يكون منْ إحْسان الْمحْسنين و إيّاك و الْمنّ على رعيّتك بإحْسانك أو التّزيّد فيما كان منْ فعْلك أوْ أنْ تعدهمْ فتتْبع موْعدك بخلْفك فإنّ الْمنّ يبْطل الْإحْسان و التّزيّد يذْهب بنور الْحقّ و الْخلْف يوجب الْمقْت عنْد اللّه و النّاس قال اللّه تعالى كبر مقْتا عنْد اللّه أنْ تقولوا ما لا تفْعلون و إيّاك و الْعجلة بالْأمور قبْل أوانها أو التّسقّط فيها عنْد إمْكانها أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرتْ أو الْوهْن عنْها إذا اسْتوْضحتْ فضعْ كلّ أمْر موْضعه و أوْقعْ كلّ أمْر موْقعه و إيّاك و الاسْتئْثار بما النّاس فيه أسْوة و التّغابي عمّا تعْنى به ممّا قدْ وضح للْعيون فإنّه مأْخوذ منْك لغيْرك و عمّا قليل تنْكشف عنْك أغْطية الْأمور و ينْتصف منْك للْمظْلوم امْلكْ حميّة أنْفك و سوْرة حدّك و سطْوة يدك و غرْب لسانك و احْترسْ منْ كلّ ذلك بكفّ الْبادرة و تأْخير السّطْوة حتّى يسْكن غضبك فتمْلك الاخْتيار و لنْ تحْكم ذلك منْ نفْسك حتّى تكْثر همومك بذكْر الْمعاد إلى ربّك و الْواجب عليْك أنْ تتذكّر ما مضى لمنْ تقدّمك منْ حكومة عادلة أوْ سنّة فاضلة أوْ أثر عنْ نبيّنا (صلى الله عليه وآله) أوْ فريضة في كتاب اللّه فتقْتدي بما شاهدْت ممّا عملْنا به فيها و تجْتهد لنفْسك في اتّباع ما عهدْت إليْك في عهْدي هذا و اسْتوْثقْت به من الْحجّة لنفْسي عليْك لكيْلا تكون لك علّة عنْد تسرّع نفْسك إلى هواها و أنا أسْأل اللّه بسعة رحْمته و عظيم قدْرته على إعْطاء كلّ رغْبة أنْ يوفّقني و إيّاك لما فيه رضاه من الْإقامة على الْعذْر الْواضح إليْه و إلى خلْقه مع حسْن الثّناء في الْعباد و جميل الْأثر في الْبلاد و تمام النّعْمة و تضْعيف الْكرامة و أنْ يخْتم لي و لك بالسّعادة و الشّهادة إنّا إليْه راجعون و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليْه و آله و سلّم الطّيّبين الطّاهرين و سلّم تسْليما كثيرا و السّلام .