بيان ذم الغنى و مدح الفقر

اعلم وفقك الله أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر و نحن نبين فضل الفقير على الغني و نذكر فضلا ذكره بعض المتكلمين ردا على بعض العلماء الأغنياء حيث احتج بأغنياء الصحابة و شبه نفسه بهم و قد ذكر من ذلك .

أن عيسى (عليه السلام) قال يا علماء السوء تأمرون الناس يصومون و يصلون و يتصدقون و لا تفعلون ما تأمرون و تدرسون ما لا تعلمون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول و الأماني و تعملون بالهوى و ما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم و قلوبكم دنسة و بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب و يبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم و يبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته و لا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم و العمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم لقد أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون ويلكم حتى متى تصفون الطريق للمدلجين و تقيمون في محل المتحيرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليلوكوها لكم مهلا مهلا ويلكم ما ذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره و جوفه وحش مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم و أجوافكم منه وحشية معطلة يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء و لا كأحرار كرام يوشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم يدفعكم المعلم من خلفكم حتى يسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى فيوقفكم على سوءاتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم .

و بعد فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا فسروره ممزوج بالتنغيص فيتفجر عنه أنواع الهموم و فنون المعاصي و إلى التلف و البوار مصيره فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه و لم يبق له دينه خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين فيا لها من مصيبة ما أفظعها و رزية ما أجلها ألا فراقبوا الله و لا يغرنكم الشيطان و أولياؤه من الإنس بالحجج الداحضة عند الله فإنما يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير و الحجج يزعمون أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت لهم أموال فيتزين المغرور بذكرهم ليعذره الناس على جمع المال و لقد دهاه الشيطان و لا يشعر .

ويحك أيها المغرور احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان و من الذي يسلم لك أن مال عبد الرحمن كان صالحا مشكورا عليه بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف قال أناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنا لنخاف على عبد الرحمن فيما تركه فقال كعب و ما تخافون عليه كسب طيبا و أنفق طيبا و ترك طيبا فبلغ ذلك أبا ذر رحمه الله فخرج مغضبا يريد كعبا فمر بلحيي عظم بعير فأخذه بيده ثم انطلق يطلب كعبا فقيل لكعب إن أبا ذر يطلبك فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به و أخبره الخبر فأقبل أبو ذر يقتص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر رضي الله عنه فقال أبو ذر هيه يا ابن اليهودية تزعم أنه لا بأس بما ترك عبد الرحمن .

لقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو أحد و أنا معه فقال يا أبا ذر فقلت لبيك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا و هكذا عن يمينه و عن شماله و قدامه و خلفه و قليل ما هم ثم قال يا أبا ذر فقلت نعم يا رسول الله صلى الله عليك و سلم بأبي أنت و أمي قال و ما سرني أن يكون لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله ثم أموت يوم أموت و لا أترك منه قيراطين ثم قال يا أبا ذر أنت تريد الأكثر و أنا أريد الأقل .

فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد هذا و أنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف كذبت و كذب من قال فلم يرد عليه حرفا حتى خرج.

و متى زعمت أن أخذ المال الحلال أفضل و أعلى من تركه فقد أزريت بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و المرسلين و نسبتهم إلى قلة الرغبة في الزهد و متى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه فقد زعمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينصح الأمة إذ نهاهم عن جمع المال كذبت و رب السماء على رسول الله ص لقد كان للأمة ناصحا و عليهم مشفقا و بهم رءوفا .

و قيل إن جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا في الرخاء شاكرين و في الضراء صابرين و في السراء حامدين و كانوا لله متواضعين و عن حب العلو و التكاثر ورعين لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم و رضوا بالبلغة منها و رجوا الدنيا و صبروا على مكارهها و تجرعوا مرائرها و زهدوا في نعيمها و زهرتها .

و قد بلغنا أنه كان بعضهم إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا و قالوا ذنب عجلت عقوبته و إذا رأوا الفقر مقبلا فرحوا و قالوا مرحبا بشعار الصالحين .

و بلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح و عند عياله شي‏ء أصبح كئيبا حزينا و إذا لم يكن عندهم شي‏ء أصبح فرحا مسرورا فقيل له إن الناس إذا لم يكن عندهم شي‏ء حزنوا و إذا كان عندهم شي‏ء فرحوا و أنت لست كذلك قال إني إذا أصبحت و عند عيالي شي‏ء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة .

و بلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا و أشفقوا و قالوا ما لنا و للدنيا و ما يراد بها فكأنهم على جناح خوف و إذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا و استبشروا و قالوا الآن تعاهدنا ربنا فهذه أحوال السلف و نعتهم و فيهم من الفضل أكثر مما وصفناه فبالله أ كذلك أنت و سأصف أحوالك أيها المفتون و ذلك أنك تطغى عند الغنى و تبطر في الرخاء و تمرح عند السراء و تغفل عند شكر ذي النعماء و تقنط عند الضراء و تسخط عند البلاء نعم و تبغض الفقر و تأنف من المسكنة و ذلك فخر المرسلين و أنت تأنف من فخرهم و تذخر المال و تجمعه خوفا من الفقر و ذلك من سوء الظن بالله تعالى و قلة اليقين بضمانه و كفى به إثما و عساك أن تجمع المال لنعيم الدنيا و زهرتها و شهواتها و لذاتها .

و بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم و نبتت عليه أجسامهم .

و قال بعض أهل الحكمة ليجيئن يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها و أنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة و مصيبة نعم و عساك تجمع المال للتكاثر و العلو و الفخر و الزينة في الدنيا .

و قد بلغنا أن من طلب الدنيا ليكاثر بها أو ليفاخر بها لقي الله تعالى و هو عليه غضبان و أنت غير مكترث لما حل بك من غضب الله حين أردت التكاثر و العلو نعم و عساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله تعالى و أنت تكره لقاء الله تعالى و الله للقائك أكره و أنت في غفلة و عساك أن تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا.

و قد بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة شهر .

و أنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله نعم و لعلك تخرج من دينك أحيانا لتوفير دنياك و تفرح بإقبال الدنيا عليك و ترتاح لذلك سرورا .

و قد بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال من أحب دنياه و سر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه .

و عساك مصيبتك في معاصيك أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك نعم و خوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب و عساك ترضى المخلوقين بمساخط الله كيما تكرم و تعظم ويحك فكأن احتقار الله لك في القيامة أهون من احتقار الناس إياك و عساك تخفي من المخلوقين مساويك و لا تكترث باطلاع الله عليك فيها و كان الفضيحة عند الله أهون عليك من الفضيحة عند الناس و كان العبد عندك أعلى قدرا من الله .

قيل صحب رجل عيسى ابن مريم (عليه السلام) فقال أكون معك و أصحبك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغذيان و معهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفين و بقي رغيف فقام عيسى ع إلى النهر فشرب ماء ثم رجع فلم يجد الرغيف فقال للرجل من أخذ الرغيف قال لا أدري قال فانطلق و معه صاحبه فرأى ظبية معها خشفان لها فدعا أحدهما فأتاه فذبحه فأشوى منه فأكل هو و ذلك الرجل ثم قال للخشف قم بإذن الله فقام فذهب فقال للرجل أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف قال لا أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء فأخذ عيسى (عليه السلام) بيد الرجل فمشيا على الماء فلما جاوزاه قال أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف قال لا أدري قال فانتهيا إلى مفازة فجلسا فجمع عيسى (صلى الله عليه وآله وسلم) ترابا أو كثيبا فقال كن ذهبا بإذن الله فصار ذهبا فقسمه ثلاثة أثلاث فقال ثلث لي و ثلث لك و ثلث لمن أخذ الرغيف قال فأنا أخذت الرغيف فقال فكله لك قال و فارقه عيسى (عليه السلام) فانتهى إليه رجلان في المفازة و معه المال فأرادا أن يأخذاه منه و يقتلاه فقال هو بيننا أثلاث قال فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري طعاما فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث لأي شي‏ء أقاسم هؤلاء هذا المال لكني أصنع في هذا الطعام سما فأقتلهما ففعل و قال أولئك لأي شي‏ء نجعل لهذا ثلث المال و لكن إذا رجع قتلناه و اقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه و أكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة و أولئك الثلاثة قتلى عنده فمر بهم عيسى (عليه السلام) و هم على تلك الحال فقال لأصحابه هذه الدنيا فاحذروها .

و حكي أن ذا القرنين أتي على أمة من الأمم ليس في أيديهم شي‏ء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبورا فإذا أصبحوا تعهدوا لتلك القبور و كنسوها و صلوا عندها و رعوا البقل كما ترعى البهائم و قد قيض الله لهم معاشا من نبات الأرض فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال لهم أجب الملك ذا القرنين فقال ما لي إليه حاجة فأقبل إليه ذو القرنين و قال أرسلت لتأتينني فها أنا ذا قد أتيتك فقال له لو كانت لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين ما لي أراكم على الحال التي لم أر أحدا من الأمم عليها قالوا و ما ذلك قال ليس لكم دنيا و لا شي‏ء أ فلا اتخذتم الذهب و الفضة فاستمتعتم بها قالوا إنما كرهناها لأن أحدا لم يعط منها شيئا إلا تاقت نفسه و دعته إلى ما هو أفضل منه فقال ما لكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعهدتموها فكنستموها و صليتم عندها قالوا أردنا إذا نظرنا إليها و أملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل قال و أراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض أ فلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها و ركبتموها و استمتعتم بها فقالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبورا لها و رأينا في نبات الأرض بلاغا و إنما يكفي ابن آدم أدنى العيش من الطعام إن ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعما كائنا ما كان من الطعام ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال يا ذا القرنين أ تدري من هذا قال لا و من هو قال ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطانا على أهل الأرض فغشم و ظلم و عتا فلما رأى الله عز و جل ذلك منه حسمه بالموت فصار كالحجر الملقى قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال يا ذا القرنين هل تدري من هذا قال لا و من هذا قال ملك ملك بعد هذا و قد كان يرى ما صنع الذي قبله بالناس من الغشم و الظلم و التجبر فتواضع و خشع لله عز و جل و أمر بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله ليجزيه في آخرته ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين ثم قال و هذه الجمجمة كان قد صارت هكذا فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين هل لك في صحبتي فأتخذك أخا و وزيرا و شريكا فيما آتاني الله من هذا المال قال ما أصلح أنا و أنت في مكان و لا أن نكون جميعا فقال ذو القرنين و لم قال لأجل أن الناس كلهم لك عدو و لي صديق قال و لم قال يعادونك على ما في يديك من الملك و المال و الدنيا و لا أجد أحدا يعاديني لرفضي لذلك و لما عندي من الحاجة و قلة الشي‏ء قال فانصرف ذو القرنين متعجبا منه و متعظا به .