باب التفكر

قد أمر الله تعالى بالتفكر و التدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين فقال الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا .

قال ابن عباس رضي الله عنه إن قوما تفكروا في الله عز و جل فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره.

خرج رسول الله ذات يوم على قوم يتفكرون فقال ما لكم تتكلمون فقالوا نتفكر في خلق الله عز و جل فقال و كذلك فافعلوا تفكروا في خلقه و لا تتفكروا فيه.

سئلت أم أبي ذر عن عبادة أبي ذر فقالت كان نهاره أجمع يتفكر في ناحية عن الناس و قال بعضهم فكر ساعة خير من قيام ليلة .

و قال آخر : الفكر مرآة تريك حسناتك و سيئاتك .

و قال آخر : الفكر مخ العقل .

و أنشد بعضهم :

إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كل شي‏ء له عبرة

و سئل عيسى (عليه السلام) من أفضل الناس قال من كان منطقه ذكرا و صمته فكرا و نظره عبرة .

و قال آخر : من لم يكن كلامه ذكرا فهو لغو و من لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو و من لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو .

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أعطوا أعينكم حظها من العبادة فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما حظها من العبادة قال النظر في المصحف و التفكر فيه و الاعتبار عند عجائبه .

و كان لقمان (عليه السلام) يطيل الجلوس وحده و كان يمر به مولاه فيقول يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك فيقول لقمان إن طول الوحدة أفهم للفكرة و طول الفكرة دليل على طريق الجنة .

و قال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم و ما علم امرؤ قط إلا عمل .

و قال آخر : الفكرة في نعم الله عز و جل من أفضل العبادة .

و قال آخر : لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله .

و قال ابن عباس رضي الله عنه : ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب .

و كان بعضهم يمشي إذا جلس يبكي فقيل ما يبكيك قال تفكرت في ذهاب عمري و قلة عملي و اقتراب أجلي .

و قال آخر : عودوا أعينكم البكاء و قلوبكم التفكر .

و قال الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة و التفكر في الآخرة يورث الحكمة و يحيي القلوب .

و قال ابن عباس (رهـ) التفكر في الخير يدعو إلى العمل به و الندم على الشر يدعو إلى تركه .

و قال الحسن إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر و بالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة .

و قال آخر : استعينوا على الكلام بالصمت و على الاستنباط بالفكر .

و قيل صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور و العزم في الرأي سلامة من التفريط و الندم و الرؤية و الفكر يكشفان عن الفطنة و مشاورة الحكماء ثبات في اليقين و قوة في البصيرة فتفكر قبل أن تعزم و تدبر قبل أن تهجم و شاور قبل أن تقدم .

فينبغي للعبد أن يفتش صبيحة كل يوم جميع أعضائه السبعة تفصيلا ثم بدنه على الجملة هل هو في الحال ملابس لمعصية بها فيتركها أو لابسها بالأمس فيتداركها بالترك و الندم أو هو متعرض لها في نهاره فيستعد للاحتراز و التباعد منها فينظر أولا في اللسان و يقول إنه متعرض للغيبة و الكذب و تزكية النفس و الاستهزاء بالغير و المماراة و الممازحة و الخوض فيما لا يعني إلى غير ذلك من المكاره فيقرر أولا في نفسه أن هذه الأحوال مكروهة عند الله تعالى و يتفكر في شواهد القرآن و أخبار الرسول و التشديد في النهي عنها و ما وعد فاعلها من العذاب ثم يتفكر في أحواله أنه كيف يتعرض لها من حيث لا يشعر ثم يتفكر أنه كيف يحترز منها و يعلم أنه لا يتم ذلك إلا بالعزلة و الانفراد بأن لا يجالس إلا صالحا ينكر عليه و يزري عليه مهما تكلم بما يكرهه الله تعالى حتى يصير ذلك مألوفا له فهكذا يكون في حيلة الاحتراز .

و يتفكر في سمعه أنه يصغي إلى الغيبة و سماع الكذب و فضول لكلام و إلى اللهو و البدعة و كيف ينبغي أن يحترز منهم بالاعتزال أو بالنهي عن المنكر مهما سمع ذلك.

و يتفكر في بطنه أنه إنما يعصي الله فيه بالأكل و الشرب إما بكثرة الأكل من الحلال فإن ذلك مكروه عند الله و مقوي للشهوة التي هي سلاح الشيطان عدو الله و إما بأكل الحرام و الشبهة فينظر من أين مطعمه و ملبسه و مسكنه و يتفكر في طريق الحلال و مداخلة ثم يتفكر في وجوه الحيل في الاكتساب منه و الاحتراز من الحرام و يقرر في نفسه أن البدن متى غذي بالحرام علا على القلب منه غشاوة فيصير غافلا و أن الثوب متى كان حراما لم تقبل فيه الصلاة و إن أكل الحلال و لبس الحلال هو أساس العبادات جميعها فهكذا يتفكر في أعضائه جميعها ففي هذا القدر كفاية عن الاستقصاء فمهما حصل بالتفكر حقيقة المعرفة بهذه الأحوال اشتغل بالمراقبة طول النهار حتى يحفظ الأعضاء من جميع القبائح ثم ينظر في الطاعات كيف يؤديها و كيف يحرسها عن النقصان و التقصير و كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل ثم يرجع إلى عضو عضو فيتفكر في الأحوال التي يتعلق بها مما يحبه الله تعالى فيقول مثلا إن العين خلقت للنظر في ملكوت السماوات و الأرض عبرة و لتستعمل في طاعة الله و لتنظر في كتاب الله و سنة رسوله عليه صلوات الله و سلامه و أنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن و السنة فلم لا أفعله و أنا قادر على ذلك و أنا أنظر إلى فلان المطيع لله فانظر بعين التعظيم فأدخل السرور على قلبه و كذلك يقول في سمعه إني قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة و علم أو استماع قراءة و ذكر فما لي أعطله و قد أنعم الله تعالى به علي و أودعنيه لأشكره فما لي أكفر نعمة الله تعالى بتضييعه و تعطيله و كذلك يتفكر في اللسان و يقول إني قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم و الذكر و التودد إلى قلوب أهل الصلاح و بالسؤال عن أحوال الفقراء و إدخال السرور على قلوبهم و كذلك يتفكر في ماله فيقول أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني مستغن عنه و مهما احتجت رزقني الله و إن كنت محتاجا الآن فإيثار الثواب أحوج مني إلى ذلك المال .

ثم يتفكر في الأسباب المهلكات التي محلها القلب و هي البخل و الكبر و العجب و الرياء و الحسد و سوء الظن و الغفلة و غير ذلك و يتفقد من قلبه هذه الصفات فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه و الاستشهاد بالعلامات عليه فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها و تخلف فإذا ادعت التواضع و البراءة من الكبر يجرب نفسه بحمل حاجته من السوق إلى داره .

لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حمل حاجته فقد برأ من الكبر.

فإذا ادعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره ثم يجربها بكظم الغيظ و هكذا في سائر الصفات كما أنه لو رأى في نفسه عجبا بالعمل فيتفكر و يقول إنما عملي بيدي و جارحتي و بقدرتي و إرادتي و إنما هو من خلق الله و فضله فهو الذي خلقني و خلق جارحتي و خلق قدرتي و إرادتي فكيف أعجب بعملي و هذه الآلات التي صح مني العمل بها من خلق الله فالفضل و المنة لله في جميع ذلك فإذا أحس في نفسه بالكبر فيزري على نفسه ما فيه من الحماقة فيقول لها بم ترين نفسك الكبر و الكبير من هو كبير عند الله و يبين لها أن أصله و مبدأه من نطفة قذرة و منتهاه إلى جيفة منتنة فإذا عرف أن الكبر مهلك و أن أصله الحماقة فيتفكر في علاج إزالة ذلك بأن يتعاطى أفعاله المتواضعين .

و إذا وجد في نفسه شهوة الطعام و الميل إلى الشهوات تفكر و قال لها إن هذه صفة البهائم و لو كان في شهوة الطعام و الوقاع كمال لكان ذلك من صفات الملائكة المقربين و مهما كان إلى الشره أقرب و هو عليه أغلب كان بالبهائم أشبه و عن الملائكة المقربين أبعد ثم ينظر و يتفكر فيما فيه النجاة من الأفعال فهو التوبة و الندم على الذنوب و العزم على ترك العود و الصبر على بلاء الله و الشكر على نعمائه و الخوف منه و الرجاء له و الزهد في الدنيا و الإخلاص و الصدق في الطاعات فليتفكر العبد في كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله تعالى فإذا افتقر إلى شي‏ء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم و أن العلوم لا يثمرها إلا الأفكار فإذا أراد أن يكتسب لنفسه حال التوبة و الندم فليفتش ذنوبه أولا و ليتفكر فيها و ليجمعها على نفسه و ليعظمها على قلبه ثم لينظر في الوعيد و التشديد الذي ورد في الشرع و ليحقق في نفسه أنه متعرض لمقت الله به حتى ينبعث له حال الندم و إذا أراد أن يستبين له من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله إليه و أياديه عليه و إذا أراد الخوف فلينظر أولا في ذنوبه الظاهرة ثم لينظر في الموت و سكراته ثم في ما بعده من مسائله منكر و نكير و عذاب القبر ثم في هول النداء عند نفخة الصور ثم في هول المحشر عند جميع الخلائق على صعيد ثم في المناقشة في الحساب و المضايقة في النقير و القطمير ثم أهوال القيامة ثم يصور في نفسه جهنم و دركها و مقامعها و أهوالها و أنواع العذاب فيها و قبيح صورة الزبانية و أنه كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب و أنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و إذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا .

و إذا أراد أن ينظر إلى الرجاء فلينظر إلى الجنة و نعيمها و ما أعد الله تعالى فيها من الملك الدائم و النعيم و الحور و اللذات فهكذا طريق الفكر الذي يطلب به العلوم فعليك بقراءة القرآن و التفكر فيه فإنه جامع لجميع المقامات الأحوال و فيه شفاء للعالمين و فيه ما يورث الخوف و الرجاء و الصبر و الشكر و سائر الصفات و فيه ما يزجر عن جميع الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العبد و يردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى و لو مائة مرة فقراءة آية بتفكر و فهم خير من ختمه بغير تفكر و فهم و ليتوقف في التأمل فيها و لو ليلة واحدة فإن تحت كل كلمة منها أسرار لا تنحصر و لا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب و كذلك مطالعة كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه قد أوتي جوامع الكلم و كل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة و إذا تأملها العاقل حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول عمره و شرح الآيات و الأخبار يطول .

فانظر إلى .

قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن روح القدس نفث في روعي أحبب ما أحببت فإنك مفارقه و عش ما شئت فإنك ميت و اعمل ما شئت فإنك مجزي به .

فهذه الكلمات جامعة حكم الأولين و الآخرين و هي كافية للمتأملين فيها طول العمر إذ لو وقفوا على معانيها و غلبت على قلوبهم غلبة يقين لاستغرقتهم و لحال ذلك بينهم و بين التلفت إلى الدنيا بالكلية فهذا طريق الفكر فيه فهذه علوم ينبغي للإنسان أن يكون مستغرق الوقت فيها دائم الفكر حتى يعم قلبه بالأخلاق المحمودة و المقامات الشريفة لينزه باطنه و ظاهره عن المكاره و الرذائل لئلا يغفل عن صفات نفسه المبعدة من الله تعالى و أحواله المقربة إليه سبحانه و تعالى بل ينبغي أن يكون لكل إنسان جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات و الصفات المنجيات و جملة المعاصي و الطاعات و يعرض نفسه عليها في كل يوم و المهلكات فهي البخل و الكبر و العجب و الرياء و الحسد و شدة الغضب و شره الطعام و حب المال و الجاه و المنجيات فهي الندم على الذنوب و الصبر على بلاء الله و الشكر على نعمائه و الزهد في الدنيا و الإخلاص في الأعمال و حسن الخلق مع الخلق و الخوف من الله تعالى و الخشوع فمهما كفي من المذمومات واحدة فيخط عليها في جريدته و يدع الفكر فيها ثم على الباقي فلا يزال يدفع عن نفسه مذموما عنها إلىأن يأتي على الجميع و كذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالمنجيات و إذا اتصف بواحدة منها كالتوبة مثلا و الندم خط عليها و اشتغل بالباقي فهذا يحتاج إليه من علت درجته و شمر جده في طلب الصالحات و أما أكثر الناس من المعدودين الصالحين فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة كأكل الشبهة و إطلاق اللسان بالغيبة و النميمة و الثناء على النفس و الإفراط في معاداة الأعداء و موالاة الأولياء و المداهنة مع الخلق في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن أكثر من يعد نفسه من وجوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه و ما لم تطهر الجوارح من الآثام لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب و تطهيره بل كل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من المعصية فينبغي أن يكون تفقدهم لها و تفكرهم فيها لإزالتها و بالجملة ينبغي للسالك لطريق الصالحين الراغب فيما عندهم و في الدار الآخرة أن يترك عن قلبه حب الجاه و المال و الثناء و التعظيم فإن ذلك بذر النفاق .

لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حب الجاه و المال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا فيها من حب الجاه و المال في دين المرء المسلم .

و لا ينقطع حب الجاه و المال من القلب إلا بالقناعة باليسير من الرزق و ترك الطمع فيما في أيدي الناس فينبغي أن لا ينقطع فكر الراغب في هذا الأمر في التفطن بخفايا هذه الصفات و استنباط طريق الإخلاص منها و هذه صفات الأتقياء الصالحين و أما أمثالنا فينبغي أن يكون تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة و النار فإن من خاف شيئا هرب منه و من رجا شيئا طلبه و قد علمنا أن الهرب من النار ترك الشهوات و الحرام و المعاصي و نحن منهمكون فيها و أن طلب الجنة بتكثير النوافل و ملازمة الطاعات و نحن مقصرون في الفرائض منها فما هذا شأن من علم الحلال و الحرام لأن الحلال يعلم ليتبع و الحرام يعلم ليجتنب فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا الحرص على الدنيا و التكالب عليها فنعوذ بالله من جميع ما يباعد من الله و نسأله التيسير لكل ما يقرب منه إنه سميع مجيب .