باب محاسبة النفس

قال الله تعالى وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ .

و قال تعالى وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً .

و قال تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ.

و قال تعالى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .

و قال تعالى ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.

و قال تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ .

و قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ .

فعرف أهل البصائر أن الله لهم بالمرصاد و أنهم سيناقشون في الحساب و يطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات و اللحظات فينبغي أن يتحقق أنه لا ينجى من هذه الأخطار إلا لزوم محاسبة النفس و مراقبة الحق و مطالبة النفس في الأنفاس و الحركات بلزوم الطاعات فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف يوم القيامة حسابه و حضر عند السؤال جوابه و حسن منقلبه و مآبه و من لم يحاسب نفسه و هون عليه أمر الآخرة و اتبع نفسه شهواتها و لذات الدنيا دامت حسرته و طال في عرصات القيامة موقفه و قادته الشهوات و اللذات إلى الخزي و المقت فلا ينجى من هذه الأهوال العظيمة إلا لزوم الطاعة و الصبر عليها و مرابطة النفس على ما يرضى الرب لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

فلزوم الطاعة لا يصح إلا مع لزوم المحاسبة للنفس فحتم على كل ذي حزم آمن بالله و اليوم الآخر أن لا يغفل نفسه في حركاتها و سكناتها فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها و يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز الذي لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فانقضاء هذه الأنفاس ضائعة أو مصروفة إلى ما يجلبه الهلاك خسران عظيم هائل لا تسمح به نفس عاقل فإذا أصبح العبد و فرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك يفرغ المجلس لمشارطته فيقول للنفس ما لي بضاعة إلا العمر و مهما فني رأس المال حصلت الخسارة و وقع اليأس من التجارة و هذا اليوم الجديد قد أمهلني الله تعالى فيه و أنسأ في أجلي و أنعم علي به و لو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا حتى أعمل فيه صالحا فاحسبي أنك توفيت ثم رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها و اعلمي يا نفس أن اليوم و الليلة أربع و عشرون ساعة .

و قد ورد في الخبر أنه ينشر للعبد كل يوم أربعة و عشرون خزانة مصفوفة فتفتح له منها خزانة فيراها مملوة نورا من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح و السرور و الاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلة عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار و تفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح نتنها و يتغشاه ظلامها و هي الساعة التي عصى الله فيها فيناله من الهول و الفزع ما لو قسم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها و تفتح له باب خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره و لا ما يسوؤه و هي الساعة التي نام فيها أو غفل عنها أو اشتغل بشي‏ء من مباحات الدنيا فيتحسر على خلوها و يناله من غبن ذلك ما يلحقه حزن عظيم.

و ناهيك به من حسرة و غبن و هكذا على خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه اجتهدي اليوم في أن تعمري خزائنك و لا تدعها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملك الأبد و لا تميلي إلى الكسل و الدعة و الاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك و تبقى عندك حسرته لا تفارقك و إن دخلت الجنة فألم الغبن و حسرته لا يطاق .

و قال بعضهم : هب أن المسي‏ء قد عفي عنه أ ليس قد فاته ثواب المحسنين أشار به إلى الغبن و الحسرة و قد قال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ فهذه وصية لنفسه ثم يستأنف لها وصية في أعضائها السبعة و هي العين و الأذن و اللسان و البطن و الفرج و اليد و الرجل فإنها رعايا خادمة لنفسه .

أما العين فتحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم أو إلى عورة مسلم أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار بل عن كل فضول مستغن عنه فإن الله تعالى يسأل عبده عن فضول النظر كما يسأله عن فضول الكلام ثم إذا صرفها عن هذا لم يقنع به حتى يشغلها بما فيه صلاحها و هو ما خلقت له من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار و النظر إلى أعمال الخير للاقتداء و النظر في كتاب الله و سنة رسوله ص و مطالعة كتب الحكمة للاتعاظ و الاستفادة و هكذا ينبغي أن يفعل في كل عضو عضو لا سيما اللسان و البطن .

و أما اللسان فلأنه منطلق بالطبع و لا مئونة عليه في الحركة و جنايته عظيمة بالغيبة و الكذب و النميمة و تزكية النفس و مذمة الخلق و الطعن و اللعن و الدعاء على الأعداء و المماراة في الكلام و غير ذلك فهو يتصدى ذلك كله مع أنه خلق للذكر و التذكير و تكرار العلم و التعليم و إرشاد عباد الله إلى طريق الله و إصلاح ذات البين و سائر خيراته فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول نهاره إلا في الذكر فنطق المؤمن ذكر و صمته فكرة و نظره عبرة و ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فيحذرها مغبة الإهمال و يعظها كما يعظ العبد الآبق المتمرد فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية و لكن الوعظ و التأديب يؤثر فيها و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين و قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ .

و روى عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لرجل سأله أن يوصيه و يعظه إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فأمضه و إن كان غيا فانته عنه .

و قال بعض الحكماء إذا أردت أن يكون العقل غالبا للهوى فلا تعمل بقضاء الشهوة .

و قال لقمان : إن المؤمن أبصر العاقبة فأمن الندامة .

و روى شداد بن أوس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الأحمق من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله .

دان نفسه أي حاسب نفسه و يوم الدين هو يوم الحساب و قوله تعالى أإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمحاسبون .

و قال بعضهم : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توازنوا و تأهبوا للعرض الأكبر .

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) دان نفسه و عمل لما بعد الموت .

معناه وزن الأمور أولا و قدرها و نظر فيها و تدبرها ثم أقدم عليها فباشرها.

سئل جبرئيل (عليه السلام) عن الأحساب فقال إن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

و قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى و قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً .

و قال بعضهم : إذا جلست تعظ الناس فكن واعظا لنفسك و قلبك و لا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك و الله رقيب على باطنك .

و حكي أنه كان بعض العلماء و كان له جماعة يترددون إليه و يديمون المجالسة معه للإفادة فكان يكرم من بينهم شابا و يقدمه عليهم فقال له بعض أصحابه كيف تكرم هذا و هو شاب و نحن شيوخ فدعا بعدة طيور و ناول كل واحد منهم طائرا و سكينا و قال ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد و دفع إلى الشاب مثل ذلك و قال له كما قال لهم فرجع كل واحد منهم بطائره مذبوحا و رجع الشاب و طائره في يده حي فقال ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك فقال لم أجد موضعا لا يراني فيه أحد إذ الله مطلع علي في كل مكان فاستحسنوا منه هذه المراقبة و حكي أن زليخا لما خلت بيوسف (عليه السلام) قامت فغطت وجه صنم كان لها فقال يوسف (عليه السلام) ما لك أ تستحين من مراقبة جماد و لا أستحي من مراقبة الملك الجبار .

و حكي عن بعض الأحداث أنه راود جارية على نفسها فقالت أ لا تستحي فقال ممن و ما يرانا إلا الكواكب فقالت و أين مكوكبها .

و قال بعضهم : اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك و اجعل شكرك لمن لا ينقطع نعمه عنك و اجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه و اجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه و سلطانه .

و قيل لم يتزين القلب بشي‏ء أفضل من علم العبد بأن الله شاهده حيث كان.

و قال سليمان بن علي لحميد الطويل عظني فقال لئن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم و لئن كنت تظن أنه لا يراك فقد كفرت.

و قال آخر : عليك بالمراقبة لمن لا تخفى عليه خافية و عليك بالرجاء لمن يملك الوفاء و عليك بالحذر لمن يملك العقوبة و قال آخر إن المنافق ينظر فإذا لم ير أحدا دخل مدخل السوء و إنما يراقب الناس و لا يراقب الله تعالى فنعوذ بالله من الجهل و الغفلة فهو رأس كل شقاوة و هو أساس كل خسران فينبغي للعبد أن يراقب الله عند همه بالفعل و سعيه بالجارحة فيتوقف عن الهم و السعي ليبين له أنه لله تعالى فيمضيه أو هو لهوى النفس فيتقيه .

و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم و لا يرائي بشي‏ء من عمله و إذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا و الآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا .

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : رحم الله أقواما يحسبهم الناس مرضى و ما هم بمرضى .

قال الحسن أجهدتهم العبادة قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : طوبى لمن طال عمره و حسن عمله.

و قال الحسن لقد أدركت أقواما و صحبت طوائف منهم ما كانوا يفرحون بشي‏ء من الدنيا أقبل و لا يتأسفون على شي‏ء منها أدبر و لهي كانت أهون في أعينهم من هذا التراب الذي تطاونه بأرجلكم إن كان أحدهم ليعيش عمره كله ما طوي لأحدهم ثوب و لا أمر أهله بصنعة طعام قط و لا جعل بينه و بين الأرض شيئا قط و أدركتهم عاملين بكتاب الله و سنة نبيهم إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم إذا عملوا الحسنة فرحوا بها و دأبوا في شكر الله و إذا عملوا السيئة حزنتهم و سألوا الله أن يغفرها و الله ما زالوا على ذلك. و قال إن قوما أرادوا سفرا فحادوا عن الطريق فانتهوا إلى راهب منفرد عن الناس فنادوه فأشرف عليهم من صومعته فقالوا يا راهب إنا قد أخطأنا الطريق فكيف الطريق فأومأ برأسه إلى السماء فعلم القوم ما أراد فقالوا يا راهب إنا سائلوك فهل أنت مجيبنا فقال اسألوا و لا تكثروا فإن النهار لا يرجع و إن العمر لا يعود و الطالب حثيث فعجب القوم من كلامه فقالوا يا راهب علام الخلق غدا عند مليكهم فقال على نياتهم فقالوا أوصنا فقال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما بلغ البغية ثم أرشدهم الطريق و أدخل رأسه في صومعته .

و قال آخر : مررت بصومعة راهب من رهبان الصين فناديته يا راهب فلم يجبني فناديته الثانية فلم يجبني فناديته الثالثة فأشرف علي و قال يا هذا ما أنا براهب إنما الراهب من رهب الله في سمائه و عظمه في كبريائه و صبر على بلائه و حمده على نعمائه و تواضع لنعمته و ذل لعزته و استسلم لقدرته و خضع لمهابته و فكر في حسابه و عقابه فنهاره صائم و ليله قائم قد أسهره ذكر النار و مسألة الجبار فذلك هو الراهب و أما أنا فكلب عقور حبست نفسي في هذه الصومعة عن الناس لئلا أعقرهم فقلت يا راهب فما الذي قطع الخلق عن الله عز و جل بعد إذ عرفوه فقال يا أخي لم يقطع الخلق عن الله إلا حب الدنيا و زينتها لأنها محل المعاصي و الذنوب فالعاقل من رمى بها عن قلبه و تاب إلى الله من ذنبه و أقبل على ما يقربه من ربه.

و قيل لبعضهم لو سرحت لحيتك قال إني إذا لفارغ .

عن رجل من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال صليت الصبح خلفه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه فلما سلم انفتل عن يمينه و عليه كآبة فمكث حتى طلعت الشمس ثم قلب يده و قال و الله لقد رأيت أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون شعثا غبرا صفرا قد باتوا لله سجدا و قياما يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم و جباههم و كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في الريح و هملت أعينهم حتى تبل ثيابهم و كان القوم باتوا غافلين يعني من كان حوله .

و قال بعضهم : بين ما أنا أسير في طريقي إذ سمعت صوتا فقصدته و إذا برجل يردد هذه الآية يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قال ثم غشي عليه فلما أفاق سمعته يقول أعوذ بك من مقام الكذابين أعوذ بك من أعمال البطالين أعوذ بك من إعراض الغافلين ثم قال لك خشعت قلوب الخائفين و إليك فزعت آمال المقصرين و لعظمتك ذلت قلوب العارفين ثم قال أين القرون الماضية و أهل الدهور السالفة في التراب يبلون و على الزمان يفنون .

و اعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك و هي أمارة بالسوء ميالة إلى الشر فراره عن الخير و أمرت بتزكيتها و تقويمها و قودها بالقهر إلى عبادة ربها و خالقها و بمنعها عن ميلها إلى شهواتها و لذاتها فإن أهملتها جمحت و شردت و لم تظفر بها بعد ذلك و إن لازمتها بالتوبيخ و العذل و اللائمة كانت النفس المطمئنة التي تدخل في زمرة عباد الله الصالحين فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها و معاتبتها و لا تشتغل بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولا بوعظ نفسك .

قيل أوحى الله تعالى إلى بعض أنبياء بني إسرائيل عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس و إلا فاستحي مني .

و قال الله تعالى وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ و سبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها و غباوتها فإنها أبدا تتغرر بفطنتها و هدايتها و يشتد أنفها و استنكافها إذا نسبت إلى الحمق فتقول لها يا نفس ما أعظم جهلك تدعين الحكمة و الذكاء و الفطنة و أنت أشد الناس غباوة و حمقا أ ما تعرفين ما بين يديك من الجنة و النار و أنك صائرة إلى إحداهما على القرب فما لك تفرحين و تضحكين و تشتغلين باللهو و أنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم و عساك اليوم أو غدا تختطفين فأراك ترين الموت بعيدا و يراه الله قريبا أ ما تعلمين أن كل ما هو آت قريب و أن البعيد ما ليس بآت أ ما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول و من غير مواعدة و مواطاة و أنه لا يأتي في شتاء دون صيف و لا في صيف دون شتاء و لا في نهار دون ليل و لا في ليل دون نهار و لا يأتي في الصبا دون الشباب و لا في الشباب دون الصبا بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون الموت فيه فجأة و إن لم يكن الموت فيه فجأة فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت فما لك لا تستعدين للموت و هو أقرب إليك من كل قريب أ ما تتدبرين قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ويحك يا نفس إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك و إن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك و أقل حياءك ويحك يا نفس لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوتك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه و مقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله و غضبه و شدة عقابه أ فتظنين أنك تطيقين عذابه هيهات جربي نفسك إن ألهتك عن النظر إلى أليم عقابه فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام أو قربي إصبعك من النار ليبين لك قدر طاقتك أم تغترين بكرم الله تعالى و فضله و استغنائه عن طاعتك و عبادتك فما لك لا تعولين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل و لا تكلينه إلى كرم الله تعالى و إذا أرهقك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضي إلا بالدينار و الدرهم فما لك تنزعين الروح في طلبها و تحصيلها من وجوه الحيل فلم لا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثرك على كنز أو يسخر عبدا من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك و لا طلب أ فتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا و قد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها و أن رب الدنيا هو رب الآخرة و أن ليس للإنسان إلا ما سعى .

ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك و دواعيك الباطلة فإنك تدعين الإيمان بلسانك و أثر النفاق ظاهر عليك أ لم يقل لك سيدك و مولاك وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و قال في أمر الآخرة وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة فكذبته بأفعالك و أصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر و وكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ما هذا من علامة الإيمان .

ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب و تظنين أنك إذا مت انفلت و تخلصت و هيهات أ تحسبين أن تتركي سدى أ لم تكوني نطفة من مني يمنى ثم كنت علقة فخلق فسوى أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فإن كان هذا إضمارك فما أكفرك و أجهلك أ ما تتفكرين أنه مما ذا خلقك من نطفة خلقك فقدرك ثم السبيل يسرك ثم أماتك فأقبرك أ فتكذبينه في قوله ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكوني مكذبة فما لك لا تأخذين حذرك و لو أن يهوديا أو نصرانيا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه و تركته و جاهدت نفسك فيه أ فكان قول الأنبياء المؤيدين بالعصمة و المعجزات و قول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودي يخبر عن حدس و تخمين و ظن مع نقصان عقل و قصور علم و العجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له ببرهان و دليل أ فكان قول الأنبياء و العلماء و الحكماء أقل عندك من قول صبي من جملة الأغبياء أم صار حر جهنم و أنكالها و زقومها و ما وعد الله فيها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أو أقل منه ما هذا بأفعال العقلاء بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك و من عقلك فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك و آمنت به فما لك تسوفين العمل و الموت لك بالمرصاد و لعله يختطفك من غير مهل فبما ذا أمنت استعجال الأجل و هب أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أ فتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح و يقدر على قطع العقبة بها إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك .

أ رأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله و ظنه أن تفقه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة أو حسابه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه اعتمادا على كرم الله سبحانه ثم هب أن الجهد في آخر العمر نافع و أنه موصل إلى الدرجات العلى فلعل اليوم آخر عمرك فلم لا تشتغلين فيه فما المانع لك من المبادرة و ما الباعث لك على التسويف هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهوتك لما فيه من التعب و المشقة أ فتنظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات هذا يوم لا يخلقه الله تعالى قط .

و لم يخلقه فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره و لا يكون المكاره قط خفيفة على النفوس هذا محال وجوده .

أ ما تتأملين منذ كم تعدين نفسك و تقولين غدا و غدا فقد جاء الغد و صار يوما فكيف وجدته أ ما علمت أن غدا الذي جاء و صار يوما له حكم الأمس لا بل ما تعجزين عنه اليوم فأنت غدا عنه أعجز لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعبد العبد بقلعها فإذا عجز عن قلعها للضعف و أخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة و هو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة و رسوخا و يزيد القالع ضعفا و وهنا فما لا يقدر عليه في الشباب فلا يقدر عليه في المشيب بل من العناء رياضة الهرم و من التعذيب تهذيب الذنب و القضيب الرطب يقبل الانحناء فإذا جف و طال عليه الزمان لم يقبل ذلك فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية و تركنين إلى التسويف فما لك تدعين الحكمة و أية حماقة تزيد على هذه الحماقة و لعلك تقولين ما يمنعني من الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات و قلة صبري على الآلام و المشقات فما أشد غباوتك و أقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد و لا مطمع في ذلك إلا في الجنة فإن كنت ناظرة لشهوتك فانظري لها في مخالفتها فرب أكلة تمنع أكلات كثيرة و ما قولك في عقل مريض أشار عليه طبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصح و يتهنأ بشربه طول عمره و أخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضا مزمنا و امتنع عن شربه طول عمره فما يقتضي العقل في قضاء حق الشهوة أ يصبر الثلاثة الأيام ليتنعم طول العمر أم يقضي شهوته في الحال و ليت شعري ألم الصبر على الشهوات أعظم شدة و أطول مدة أم ألم النار فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفي أو لحمق جلي أما الكفر الخفي فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب و قلة معرفتك بعظم قدر الثواب و العقاب و أما الحمق الجلي فاعتمادك على كرم الله و عفوه من غير التفات إلى مكره و استغنائه عن عبادتك مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من خبز أو حبة من المال أو كلمة واحدة تستمعينها من الخلق بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل و بهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة .

من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الأحمق من اتبع نفسه هواها و تمنى على الله .

ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا و لا يغرنك بالله الغرور فانظري فما أمرك بمهم لغيرك و لا تضيعي أوقاتك فالأنفاس معدودة فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك فاغتنمي الصحة قبل السقم و الفراغ قبل الشغل و الغنى قبل الفقر و الشباب قبل الهرم و الحياة قبل الممات و استعدي للآخرة على قدر بقائك فيها يا نفس أنى تستعدين للشتاء بقدر طول مدته فتجمعين له القوت و الكسوة و الحطب و جميع الأسباب و لا تتكلين في ذلك على فضل الله و كرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة و لبد و لا حطب و غير ذلك فإنه قادر على ذلك أ فتظنين يا نفس أن زمهرير جهنم أخف بردا و أقصر مدة من زمهرير الشتاء أم تظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي هيهات كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبة و النار و سائر الأسباب فكذلك لا يندفع حر النار و بردها إلا بحصن التوحيد و خندق الطاعات و إنما كرم الله تعالى في أن عرفك طريق التحصيل و يسر لك أسبابه كما أن كرم الله تعالى في دفع برد الشتاء أن خلق النار و هداك إلى استخراجها من بين حديدة و حجر حتى تدفعي به برد الشتاء عن نفسك و كما أن شراء الحطب و الجبة مما تستعينين به و يستغني خالقك عنه و إنما تشترينه لنفسك إذ خلقه سببا لاستراحتك فطاعتك أيضا هو مستغن عنها و إنما هي طريقك إلى نجاتك فمن أحسن فلنفسه و من أساء فعليها و الله غني عن العالمين .

ويحك يا نفس انزعي عن جهلك و قيسي آخرتك بدنياك فما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة و كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا و كما بدأكم تعودون و سنة الله و لن تجد لسنة الله تبديلا و لا تحويلا .

ويحك يا نفس ما أراك إلا ألفت الدنيا فأنست بها فعسر عليك مفارقتها و أنك مقبلة على مقاربتها و تؤكدين في نفسك مودتها فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله و ثوابه و عن أهوال القيامة و أحوالها فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك و بين محبيك أ فترى أن من دخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فمد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أ هو معدود من العقلاء أو من الحمقى أ ما تعلمين أن الدنيا دار ملك الملوك و ما لك فيها إلا مجاز و كل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت فلذلك .

قال سيد البشر (صلى الله عليه وآله وسلم) إن روح القدس نفث في روعي أحبب ما أحببت فإنك مفارقه و اعمل ما شئت فإنك تجزى به و عش ما شئت فإنك ميت .

ويحك يا نفس أ ما تعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا و يأنس بها مع أن الموت من ورائه فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة و إنما يتزود من السم المهلك و هو لا يدري أ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا و علوا ثم ذهبوا و خلوا و كيف أورث الله أرضهم و ديارهم أعداءهم أ ما تراهم كيف يجمعون ما لا يأكلون و يبنون ما لا يسكنون و يأملون ما لا يدركون يبني كل واحد قصرا مرفوعا إلى جهة السماء و مقره قبر محفور تحت الأرض فهل في الدنيا حمق و إيكاس أعظم من هذا يعمر الواحد دنياه و هو مرتحل عنها يقينا و يخرب آخرته و هو صائر إليها قطعا .

أ ما تستحين يا نفس من مساعدة هؤلاء على حماقتهم و احسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدين إلى هذه الأمور و إنما تميلين بالطبع إلى السنة و الاقتداء فقيسي عقل الأنبياء و العلماء و الحكماء بعقل هؤلاء المكبين على الدنيا و اقتدى من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل و الذكاء .

يا نفس ما أعجب أمرك و أشد جهلك و أظهر طغيانك عجبا لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجلية و لعلك يا نفس أسكرك حب الجاه و أدهشك عن فهمك أ ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجدوا لك و أطاعوك فما تعرفين أن بعد خمسين سنة لا يبقى لا أنت و لا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك و سجد لك و سيأتي زمان لا يبقى ذكرك و لا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا فكيف تبيعين يا نفس ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي و الأظهر أن لا يبقى هذا المقدار هذا إن كنت ملكا من ملوك الأرض سلم إليك الشرق و الغرب و كيف و أنت ربما لا يسلم إليك أمر محلتك بل أمر دارك فضلا عن محلتك فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك و عمى بصيرتك فما لك لا تتركينها ترفعا عن خسة شركائها و تنزها عن كثرة عنائها و توقيا عن سرعة فنائها أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها و ما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا يخلو بلدك عن جماعة من اليهود و المجوس يسبقونك بها و يزيدون عليك في نعيمها و زينتها فأف لدنيا يستبقك بها هؤلاء الأخساء فما أجهلك و أخس همتك و أسقط رأيك إذ رغبت عن أن تكوني في زمرة المقربين من الصديقين و النبيين في جوار رب العالمين أبد الآبدين لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الهالكين الجاهلين أياما قلائل فيا حسرة عليك إذ خسرت الدنيا و الدين .

فبادري ويحك يا نفس فقد أشرفت على الهلاك و اقترب الموت و ورد النذير فمن ذا يصلي عنك بعد الموت و من ذا يصوم عنك بعد الموت و من ذا يرضى عنك رب العالمين بعد الموت .

ويحك يا نفس ما لك إلا أيام معدودة و هي بضاعتك إن اتجرت فيها و قد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف إذا ضيعت البقية و أصررت على طغيانك أ ما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك و القبر بيتك و التراب فراشك و الدود أنيسك و الفزع الأكبر بين يديك أ ما علمت يا نفس أن عسكر الموتى على باب البلد ينتظرون قدومك و قد آلوا كلهم على أنفسهم بالأيمان الغليظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم أ ما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوما ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم و أنت في أمنيتهم و يوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه تضيعين أيامك في الغفلة و البطالة.

ويحك يا نفس أ ما تستحين تزينين ظاهرك للخلق و تبارزين الله في السر بالعظائم تستحيين من الخلق و لا تستحيين من الخالق أ هو أهون الناظرين عليك أ تأمرين الناس بالخير و أنت متلطخة بالرذائل تدعين إلى البر و أنت عنه فارة و تذكرين الله و أنت عنه ناسية أ ما تعلمين يا نفس أن المذنب أنتن من العذرة و أن العذرة لا تطهر غيرها فلم تطمعين في تطييب غيرك و أنت غير طيبة في نفسك .

ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق المعرفة لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك .

ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حمارا لإبليس يقودك إلى حيث يريد و يسخر بك و مع هذا فتعجبين بعملك و كيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك .

ويحك يا نفس ما أوقحك ويحك ما أجهلك ويحك ما أجرأك على المعاصي ويحك كم تعقدين فتنقضين ويحك كم تعهدين فتغذرين ويحك يا نفس أ تشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها أ ما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا جمعوا كثيرا و بنوا مشيدا و أملوا بعيدا فأصبح جمعهم بورا و بنيانهم قبورا و أملهم غرورا .

ويحك يا نفس أ ما لك بهم عبرة أ ما لك إليهم نظرة أ تظنين أنهم دعوا إلى الآخرة و أنت من المخلدين هيهات هيهات ساء ما تتوهمين ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك فأبتن على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل يكون قبرك أ ما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان و كلح الوجوه و بشرى العذاب فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء فالعجب كل العجب منك يا نفس إنك مع هذا تدعين البصيرة و الفطنة و من فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك و لا تحزنين لنقصان عمرك و ما ينفع مال يزيد و عمر ينقص .

ويحك يا نفس تعرضين عن الآخرة و هي مقبلة عليك و تقبلين على الدنيا و هي معرضة عنك فكم من مستقبل يوما لم يستكمله و كم من مؤمل لغد لم يبلغه و أنت تشاهدين ذلك في إخوانك و أقاربك و جيرانك و ترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدا أمره في الدنيا و نهاه حتى يسأله عن عمله دقيقة و جليلة سره و علانيته فانظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يديه و بأي لسان تجيبين و أعدي للسؤال جوابا و للجواب صوابا و اعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال و في دار زوال لدار مقامه و في دار حزن و نصب لدار نعيم و خلود اعملي قبل أن لا تعملي اخرجي من الدنيا اختيارا خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار و لا تفرحي بما عندك من زهرات الدنيا فرب مسرور مغبون و رب مغبون لا يشعر فويل لمن له الويل ثم لا يشعر يضحك و يفرح و يلهو و يمزح و يأكل و يشرب و قد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا و سعيك لها اضطرارا و رفضك لها اختيارا و طلبك للآخرة ابتدارا و لا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي و يبتغي الزيادة فيما بقي و ينهى الناس و لا ينتهي .

و اعلمي يا نفس أنه ليس للدين عوض و لا للإيمان بدل و لا للجد خلف و من كانت مطيته الليل و النهار فإنه يسار به و إن لم يسر فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة و اقبلي هذه النصيحة فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار و ما أراك بها راضية و لا لهذه الموعظة واعية فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد و القيام فإن لم تزل فبالمواظبة على الصيام فإن لم تزل فبقلة المخالطة و الكلام فان لم تزل فبصلة الأرحام و الألطاف بالأيتام فإن لم تزل فاعلمي أن ظلمة الذنوب قد تراكمت على باطنك و ظاهرك فوطني نفسك على النار فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك فإن القنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك .

ثم انظر الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة و هل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك فإن سمحت فاستقي الدمع من بحر الرحمة فقد بقي منك موضع للرجاء فواظبي على النياحة و البكاء و استغيثي بأرحم الراحمين و اشتكي إلى أكرم الأكرمين و أدمني الاستغاثة و لا تملي طول الاستكانة لعله أن يرحم ضعفك فإن مصيبتك قد عظمت و بليتك قد تفاقمت و تماديك قد طال فلا ملجأ و لا منجى إلا إلى مولاك فافزعي إليه بالتضرع و اخضعي في تضرعك على قدر عظم جهلك و كثرة ذنوبك لأنه يرحم المتضرع الذليل و يغيث الطالب المتلهف و يجيب دعوة المضطر و قد أصبحت و الله مضطرة و إلى رحمة الله محتاجة و قد ضاقت بك السبل و انقطعت منك الحيل و لم تنجع فيك العظات و لم يكسرك التوبيخ و المطلوب منه كريم و المسئول منه جواد و المستعان به رحيم رءوف و الرحمة واسعة و الكرم فائض و العفو شامل و قولي يا أرحم الراحمين يا رحمان يا رحيم يا حليم يا عظيم يا كريم أنا المذنب المصر أنا الجري‏ء الذي لا ينتهي أنا المتمادي الذي لا يستحي هذا مقام المتضرع المسكين و البائس الفقير و الضعيف الحقير و الهالك الغريق فعجل إغاثتي و فرجي و أرني آثار رحمتك و أذقني برد عفوك و مغفرتك و ارزقني قوة عصمتك يا أرحم الراحمين. و كان بعضهم كثير البكاء يقول في بكائه إلهي أنا الذي كلما طال عمري زادت ذنوبي أنا الذي كلما هممت بترك خطيئة عرضت لي شهوة أخرى ويلي خطيئة لم تبل و صاحبها في طلب أخرى ويلي إن كانت النار لي مقيلا و مأوى ويلي إن كان المقامع لرأسي تهيأ .

و قال آخر سمعت بالكوفة في بعض الليالي عابدا يناجي ربه و هو يقول يا رب و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك و لا عصيتك إذ عصيتك و أنا بمكانك جاهل و لا بنظرك مستخف و لكن سولت لي نفسي الأمارة و غرني سترك المرخى علي فعصيتك بجهلي و خالفتك بفعلي فمن عذابك الآن من يستنقذني أو بحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني وا سوأتاه من الوقوف بين يديك غدا إذا قيل للمخفين جوزوا و للمثقلين حطوا أ مع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي و كلما طال عمري كثرت معاصي فإلى متى أتوب و إلى متى أعود أ ما آن لي أن أستحيي من ربي .

فهكذا ينبغي أن يخاطب الإنسان نفسه و يعاتبها و ينبهها فمن أهمل المعاتبة و التنبيه لم يكن لنفسه مراعيا و يوشك أن لا يكون الله تعالى عنه راضيا تم كتاب المحاسبة .