بيان كيفية التفكر في خلق الله تعالى

اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى من سماء و أرض و ما بينهما و ما فيهما فهو من خلق الله و كلما في الوجود من جوهر و عرض فيها عجائب و غرائب يظهر فيها حكمة الله و قدرته و جلاله و عظمته و إحصاء ذلك غير ممكن لأنه لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا و لكنا نشير إلى جمل منه ليكون ذلك كالمثال لما عداه فالسماوات مشاهدة بكواكبها و شمسها و قمرها و أفلاكها و حركاتها و دورانها في طلوعها و غروبها و الأرض بما فيها من جبالها و معادنها و أنهارها و بحارها و حيوانها و نباتها و ما بين السماء و الأرض و هو الجو بغيومها و أمطارها و ثلوجها و رعدها و برقها و صواعقها و قواصف ريحها فهذه الأجناس المشاهدة من السماوات و الأرض و ما بينهما و كل جنس منها ينقسم إلى أنواع و كل نوع ينقسم إلى أقسام و يتشعب كل قسم إلى أصناف و لا نهاية لانشعاب ذلك و انقسامه في اختلاف صفاته و هيئاته و معانيه الظاهرة و الباطنة و جميع ذلك مجال للفكر و كل ذلك في اختلاف صفاته و هيئاته و معانيه الظاهرة و الباطنة شاهد لله تعالى بالوحدانية دال على جلاله و كبريائه و هي الآيات الدالة عليه و قد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الآيات كما قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ و كما قال وَ مِنْ آياتِهِ من أول القرآن إلى آخره .

فنذكر كيفية التفكر في بعض الآيات فمن آياته الإنسان المخلوق من النطفة و أقرب شي‏ء إليك نفسك و فيك من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيرة و أنت غافل عنه فيا من هو غافل عن نفسه و جاهل به كيف تطمع في معرفة غيرك و قد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال وَ فِيأَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ و ذكر أنك مخلوق من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره .

و قال تعالى وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ .

و قال تعالى ألَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ .

و قال تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ .

و قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ .

ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة و العلقة مضغة و المضغة عظاما فقال وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ... الآية فكرر ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليمعن النظر و الفكر في معناه لا ليغفل عنه فانظر الآن إلى النطفة و هي قطرة من الماء قذرة لو تركت ساعة ليضربها الهواء لفسدت و أنتنت كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب و الترائب و ألقى الألفة و المحبة في قلوبهم و كيف قادهم بسلسلة الشهوة إلى الاجتماع و كيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع و كيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق و جمعه في الرحم ثم كيف خلق المولود من النطفة و سقاه بماء الحيض و غذاه حتى نما و ربا و كبر و كيف جعل النطفة و هي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم كيف قسم أجزاء النطفة و هي متشابهة متساوية إلى العظام و الأعصاب و العروق و الأوتار و اللحم ثم كيف ركب منها اللحوم و الأعصاب و العروق و الأعضاء الظاهرة فدور الرأس و شق السمع و البصر و الأنف و الفم و سائر المنافذ ثم مد اليد و الرجل و قسم رءوسهما بالأصابع و قسم الأصابع بالأنامل ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب و المعدة و الكبد و الطحال و الرحم و المثانة و الأمعاء و كل واحد على شكل مخصوص و مقدار مخصوص ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص و هيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها لعطلت العين عن الإبصار فلو ذهبنا نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب و الآيات لانقضى فيه الأعمار فانظر الآن إلى العظام و هي أجسام قوية صلبة كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ثم جعلها قواما للبدن و عمادا له ثم قدرها بمقادير مختلفة بأشكال مختلفة فمنه صغير و كبير و طويل و مستدير و مجوف و مصمت و عريض و دقيق فلما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه و ببعض أعضائه للتردد في حاجاته لم يجعله عظما واحدا بل عظاما كثيرة بينها مفاصل حتى يتيسر بها الحركة و قدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها و ربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم و ألصق بالطرف الآخر كالرباط ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه و في الآخر حفرا غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها و تنطبق عليها فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه و لو لا المفاصل لتعذر عليه ذلك ثم انظر كيف خلق عظام الرأس و كيف جعلها و ركبها و قدرها من خمسة و خمسين عظما مختلفة الأشكال و الصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما تراه فمنها ستة تختص بالقحف و أربعة عشر لللحي الأعلى و اثنان لللحي الأسفل و البقية و هي الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن و بعضها حادة تصلح للقطع و هي الأنياب و الأضراس و الثنايا ثم جعل الرقبة مركبا للرأس و ركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات فيها تحريفات و زيادات و نقصانات لينطبق بعضها على بعض و يطول ذكر وجه الحكمة فيها ثم ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة و يتصل به من أسفله عظم العصعص و هو أيضا مؤلف من ثلاثة أجزاء مختلفة ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر و عظام الكتف و عظام البدن و عظام العانة و عظام العجز ثم عظام الفخذين و الساقين و أصابع الرجلين فلا نطول بذكر عدد ذلك و مجموع عدد العظام في بدن الإنسان مائتا عظم و ثمانية و أربعون عظما سوى العظام الصغيرة التي حشي بها خلل المفاصل فانظر كيف خلق جميع ذلك من نطفة سخيفة رقيقة و ليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم غريب يعرفه الأطباء و المشرحون و إنما الغرض أن ينظر منها في مدبرها و خالقها أنه كيف دبرها مدبرها و قدرها و خالف بين أشكالها و أقدارها و خصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحدا لكان وبالا على الإنسان يحتاج إلى قطعه و لو نقص منها واحدا لكان نقصانا يحتاج إلى جبره فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها و أهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا بها على جلالة خالقها و مصورها فشتان بين النظرين ثم انظر كيف خلق الله تعالى الآلات لتحريك العظام و هي العضلات فخلق في بدن الإنسان خمسمائة عضلة و العضلة هي مركبة من لحم و عصب و ربط و أغشية و هي مختلفة الأشكال و المقادير بحسب اختلاف مواضعها و حاجاتها فأربعة و عشرون عضلة منها لتحريك حدقة العين و أجفانها فلو نقصت واحدة من جملتها اختل أمر العين و هكذا لكل عضو عضلات بعدد مخصوص و أمر الأعصاب و العروق و الأوردة و الشرايين و عددها و منابتها و انشعابها أعجب من هذا كله و شرحه يطول فللتفكر مجال في آحاد هذه الأجزاء ثم في آحاد الأعضاء ثم في جملة البدن فكل ذلك نظرا إلى عجائب أجسام البدن و عجائب المعاني و الصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان و باطنه و إلى بدنه و صفاته فترى فيه من الصنعة ما يفضي به إلى العجب و كل ذلك صنع الله في قطرة ماء قذرة فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السماوات و الأرض و كواكبها و ما حكمته في أوضاعها و أشكالها و مقاديرها و أعدادها و اجتماع بعضها و تفرق بعضها و اختلاف صورها و تفاوتمشارقها و مغاربها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السماوات و الأرض تنفك عن حكمة و حكم و هي أحكم خلقا و أتقن صنعا و أجمع للعجائب من بدن الإنسان بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السماوات و لذلك قال تعالى أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها فارجع ألان في النطفة و تأمل حالها أولا و ما صارت إليه ثانيا و تأمل لو اجتمع الإنس و الجن على أن يخلقوا للنطفة سمعا و بصرا و عقلا و قدرة و علما و روحا و يخلقوا فيها عظاما أو عروقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته و كيفية خلقته بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه فالعجب منك لو نظرت إلى صورة على حائط تأنق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان و قال الناظر إليها كأنه إنسان عظيم يعجبك من صنعة النقاش و حذقه و خفة يده و تمام فطنته و عظم في قلبك محله مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ و القلم و الحائط و باليد و القدرة و العلم و الإرادة و شي‏ء من ذلك ليس من فعل النقاش و لا خلقه بل هو من خلق الله تعالى و إنما منتهى و فعله الجمع بين الصبغ و الحائط على ترتيب مخصوص فيكثر تعجبك منه و تستعظمه و أنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب و الترائب ثم أخرجها منها و شكلها فأحسن تشكيلها و قدرها فأحسن تقديرها و تصويرها و قسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام في أرجائها و حسن أشكال أعضائها و زين ظاهرها و باطنها و رتب عروقها و أعصابها و جعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها و جعلها سميعة بصيرة عالمة ناطقة و خلق لها الظهر أساسا لبدنها و البطن لآلات غذائها و الرأس جامعا لحواسها ففتح العينين و ركب طبقاتها و أحسن شكلها و لونها و هيأتها ثم حماها بالأجفان لتسترها و تحفظها و تصقلها و تدفع الأقذاء عنها ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماوات مع اتساع أكنافها و تباعد أقطارها فهو ينظر إليها ثم شق أذينة و أودعهما ماء مرا يحفظ سمعها و يدفع الهوام عنها و حوطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى صماخها و لتحس بدبيب الهوام إليها و جعل فيها تحريفات و اعوجاجات لتكثر حركات ما يدب فيها و يطول طريقه فينتبه عن النوم صاحبها إذا قصدها دابة في حال النوم ثم رفع الأنف من وسط الوجه و أحسن شكله و فتح منخريه و أودع فيهما حاسة الشم ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه و أغذيته و ليستنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه و ترويحا لحرارة باطنه و فتح الفم و أودعه اللسان ناطقا و ترجمانا و معربا عما في القلب و زين الفم بالأسنان لتكون آلة للطحن و الكسر و القطع فأحكم أصولها و حدد رءوسها و بيض ألوانها و رتب صفوفها متساوية الرءوس و متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم و خلق الشفتين و حسن لونها و شكلها لتنطبق على الفم لتسد منفذه و ليتم بها حروف الكلام ثم خلق الحنجرة و هيأها لخروج الصوت و خلق اللسان للحركات و التقطيعات ليقطع الصوت في مخارج مختلفة الأشكال في الضيق و السعة و الخشونة و الملاسة و صلابة الجوهر و رخاوته و الطول و القصر حتى اختلفت بسببها الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقان حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة ثم زين الرأس بالشعر و الأصداغ و زين الوجه باللحية و الحاجبين و زين الحاجب برقة الشعر و زين العينين بالأهداب ثم خلق الأعضاء الباطنة و سخر كل واحد لفعل مخصوص فسخر المعدة لتنضج الغذاء و الكبد لإحالة الغذاء إلى الدم و الطحال و المرارة و الكلية لخدمة الكبد فالطحال يخدمه بجذب السوداء عنه و المرارة بجذب الصفراء عنه و الكلية تخدمه بجذب المائية و المثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثم تخرجه في طريق الإحليل و العروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ثم خلق اليدين و طولهما لتمتد إلى المفاصل و عرض الكف و قسم الأصابع الخمس و قسم كل إصبع بثلاث أنامل و وضع الأربع في جانب و الإبهام في جانب ليدور الإبهام على الجميع و لو اجتمع الأولون و الآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع في الطول و ترتيبها في صف واحد لم يقدروا إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض و البسط و الأخذ و الإعطاء فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد و إن جمعها كانت آلة للضرب و إن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له و إن بسطها و ضم أصابعها كانت مجرفة له ثم خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل و عمادا لها من ورائها حتى لا تنقطع و ليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا يتناولها الأنامل و ليحك بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمها الإنسان و ظهر به حكه لكان أعجز الخلق و أضعفهم و لم يقم أحد مقامه في حك بدنه ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه و لو في النوم و الغفلة من غير حاجة إلى طلب و لو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل.

ثم خلق هذا كله من النطفة و هي داخل الرحم في ظلمات ثلاث و لو كشف الغطاء و الغشاء و امتد البصر إليه لكان يرى التخطيط و التصوير يظهر عليها شيئا فشيئا و لا يرى المصور فهل رأيت مصورا فاعلا لا يمس مصنوعه و هو يتصرف فيه فهذا يدل على كونه قادرا لنفسه لاختراعه الأشياء من غير مماسة لأن القادر بقدرته لا يقدر على الفعل إلا بمماسة أو يماس ما ماسه فسبحان الله العظيم القادر للذات العالم للذات مخترع الأشياء و فاعلها و خالقها إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ما أعظم شأنه و أظهر برهانه ثم انظر إلى عظم قدرته و كمال رحمته فإنه لما ضاق الرحم على الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس و تحرك و خرج من ذلك المضيق و طلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه ثم لما خرج و احتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي ثم لما كان بدنه سخيفا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف و استخرجه من بين الدم و الفرث سائغا خالصا و كيف خلق الثديين و جمع فيهما اللبن و أنبت لهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليه فم الصبي ثم فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيقا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجا فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه إلى الامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن عند شدة الجوع ثم انظر إلى عطفه و رأفته كيف أخر خلق الأسنان إلى تمام الحولين لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن فإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف و يحتاج إلى الطعام الغليظ و يحتاج الطعام إلى المضغ و الطحن فأنبت له الأسنان عند الحاجة لا قبلها و لا بعدها فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة من تلك اللثات اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليه للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزا عن تدبير نفسه فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه ثم انظر كيف رزقه القدرة و التميز و العقل و الهداية تدريجا حتى بلغ و تكامل و صار مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا تصديقا لقوله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً فانظر إلى اللطف و الكرم ثم إلى القدرة و الحكمة تبهرك عجائب الفعل الرباني فالعجب كل العجب ممن يرى خطا حسنا أو نقشا على حائط فيستحسنه و يصرف جميع همه إلى التفكر في النقاش و الخطاط أنه كيف نقشه و خطه و كيف اقتدر عليه و لا يزال يستعظمه و يقول ما أحذقه و ما أكمل صنعته و أحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه و في غيره ثم يغفل عن صانعه و مصوره و لا يدهشه عظمته و لا يحيره جلاله و حكمته فهذه نبذة من عجائب بدنك التي لا يمكن استقصاؤها فهو أقرب مجال لفكرك و أجلى شاهد على عظمة خالقك و أنت غافل عن ذلك مشغول ببطنك و فرجك لا تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل و تشبع فتنام و تشتهي فتجامع و تغضب فتقابل و البهائم كلها تشاركك في معرفة ذلك و إنما خاصية الإنسان التي حجبت البهائم عنها معرفة الله تعالى بالنظر في ملكوت السماوات و الأرض و عجائب الآفاق و الأنفس إذ بها يدخل العبد في زمرة الملائكة المقربين و يحشر في زمرة النبيين و الصديقين مقربا من جوار رب العالمين و ليست هذه المنزلة للبهائم و لا لإنسان رضي من الدنيا بشهوات البهائم فإنه يكون شرا من البهيمة بكثير إذ لا قدرة للبهيمة على ذلك فأما هو فقد خلق الله له القدرة و التمكين لينظر فيشكر فعطلها و كفر نعمة الله فيها فأولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

و إذ قد عرفت طريق الفكر في نفسك فتفكر في الأرض التي هي مقرك ثم في أنهارها و بحارها و جبالها و معادنها ثم ارتفع إلى ملكوت السماوات أما الأرض فمن آياته أن خلق الأرض فراشا و مهادا و سلك فيها سبلا فجاجا و جعلها ذلولا لتمشوا في مناكبها و جعلها قارة لا تتحرك و أرسى فيها الجبال أوتادا تمنعها من أن تميد بهم ثم وسع أكنافها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها و إن طالت أعمارهم و كثرت طوافهم فقال تعالى وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ و قال تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و قد أكثر في كتابه العزيز من ذكر الأرض لتفكروا في عجائبها أ لم يجعل ظهرها مقرا للأحياء و بطنها مرقدا للأموات قال الله سبحانه و تعالى ألَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً فانظر إلى الأرض و هي ميتة فإذا نزل عليها الماء اهتزت و ربت و اخضرت و أنبتت عجائب النبات ثم انظر كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب و كيف أودع المياه تحتها ففجر العيون و أسال الأنهار تجري على وجهها و أخرج من الحجارة اليابسة و من التراب الكدر ماء رقيقا عذبا صافيا زلالا و جعل به كل شي‏ء حيا فأخرج به فنون الأشجار و النبات من حب و عنب و قضب و زيتون و نخل و رمان و فواكه كثيرة لا تحصى مختلفة الأشكال و الألوان و الطعوم و الصفات و الأراييح يفضل بعضها على بعض في الأكل تسقى بماء واحد و تخرج من أرض واحدة و لئن قلت إن اختلافها لاختلاف بذورها و أصولها فمتى كان في النواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب و متى كانت في حبة واحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .

ثم انظر إلى أراضي البوادي و قس ظاهرها و باطنها فتراها ترابا متشابها فإذا نزل عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج ألوانا مختلفة و نباتا متشابها و غير متشابه لكل واحد طعم و لون و ريح و شكل يخالف الآخر فانظر إلى كثرتها و اختلاف أصنافها و كثرة أشكالها ثم اختلاف طبائع النبات و كثرة منافعه و كيف أودع الله العقاقير المنافع فهذا النبات يغذي و هذا يقوي و هذا يقتل و هذا يبرد و هذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق و هذا يستحيل إلى الصفراء و هذا يقمع البلغم و السوداء و هذا يستحيل إليهما و هذا يصفي الدم و هذا يستحيل دما فلم ينبت من الأرض ورقة و لا نبتة إلا و فيها منافع لا يقوى البشر على الوقوف على كثرتها و لو أردنا أن نذكر اختلاف أجناس النبات و أنواعه و منافعه و أحواله و عجائبه لانقضت الأيام في وصف ذلك فيكفيك من كل جنس نبذة يسيرة تدلك على طريق الفكر في عجيب صنع الله الذي أتقن كل شي‏ء .

و من آياته الجواهر المودعة تحت الجبال و المعادن الحاصلة من الأرض ففي الأرض قطع متجاورات مختلفة فانظر إلى الجبال كيف يخرج منها الجواهر النفيسة من الذهب و الفضة و الفيروزج و اللعل و غيرها بعضها منطبعة تحت المطارق كالذهب و النحاس و الرصاص و الحديد و بعضها لا ينطبع كالفيروزج و اللعل و كيف هدى الله الناس إلى استخراجها و تنقيتها و اتخاذ الأواني و الآلات و النقود و الحلي منها ثم انظر إلى معادن الأرض من النفط و الكبريت و القير و غيرها و أقلها الملح و لا يحتاج إليه إلا لتطييب الطعام و لو خلت عنه بلدة لسارع الهلاك إليها و انظر إلى رحمة الله كيف خلق بعض الأراضي سبخة بجوهرها بحيث يجتمع فيها الماء الصافي من المطر فيستحيل ملحا مالحا محرقا لا يمكن تناول مثقال منه ليكون ذلك تطييبا لطعامك إذا أكلته فتهنا بعيشك و ما من جماد و لا حيوان و لا نبات إلا و فيه حكمة الله تعالى و لا خلق شي‏ء منها عبثا و لا لعبا و لا هزلا بل خلق الكل بالحق و كما ينبغي و على الوجه الذي ينبغي و كما يليق بحكمته و لطفه و جلاله و كرمه و لذلك قال وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ و من آياته ملكوت السماوات و ما فيها من الكواكب و من فاته عجائب السماوات فقد فاته الكل تحقيقا و الأرض و البحار و الهواء و كل جسم سوى السماوات بالإضافة إلى السماوات كقطرة في بحر أو أصغر ثم انظر كيف عظم الله أمر السماوات و النجوم في كتابه فما من سورة إلا و تشتمل على تفخيمها في مواضع و كم من قسم في القرآن بها كقوله تعالى وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ وَ السَّماءِ وَ ما بَناها و قوله وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها و كقوله فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ و قوله وَ النَّجْمِ إِذا هَوى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فقد علمت أن عجائب النطفة القذرة عجز عن معرفتها الأولون و الآخرون و ما أقسم الله بها فما ظنك بما أقسم الله تعالى به و قد أثنى على المتفكرين فيه فقال وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ .

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته .

أي تجاوز عنها من غير فكر و ذم المعرضين عنها فقال وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فأي نسبة للأرض و البحار إلى السماء و هذه متغيرات عن القرب و السماوات صلاب شداد محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله و لذلك سماه الله تعالى سقفا محفوظا فقال وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً و قال وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً و قال أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها فانظر إلى الملكوت و ليس بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء و ضوء الكواكب و تفرقها فإن البهائم تشاركك في هذا النظر و إن كان هذا المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) بقوله وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ .

فأطل أيها العاقل نظرك و فكرك و انظر إلى السماء و كواكبها و دورانها و طلوعها و غروبها و شمسها و قمرها و اختلاف مشارقها و مغاربها و دءوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها و من غير تغير في سيرها بل تجري جميعا في منازل مترتبة بحساب مقدر لا يزيد و لا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طي السجل للكتب ثم انظر إلى سير الشمس في فلكها ثم هي تطلع في كل يوم و تغرب فسبحان من خلقها و سخرها و لو لا طلوعها و لا غروبها لما اختلف الليل و النهار و لم تعرف المواقيت و أطبق الظلام على الدوام أو الضياء على الدوام و كان لا يتميز وقت المعاش عن وقت الاستراحة فانظر كيف جعل الليل لباسا و النوم سباتا و النهار معاشا و انظر إلى إيلاجه الليل في النهار و النهار في الليل و إدخاله الزيادة و النقصان عليهما على ترتيب مخصوص فكلما استكثرت من الفكر في الخلق نتج لك معرفة الخالق و إذا استكثرت من معرفة عجيب صنع الله كانت معرفتك بالله أتم و هذا كما أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه فلا تزال تطلع على غريبة من تصنيفه أو شعره فتزداد به معرفتك و تزداد بالحب له توقيرا و تعظيما و احتراما حتى أن كل كلمة من كلماته و كل بيت عجيب من شعره يزيده محلا في قلبك و تستدعي التعظيم له في نفسك فهكذا تأمل في خلق الله و تصنيفه و تأليفه فتزداد بربك علما و معرفة تم باب التفكر و الحمد لله رب العالمين .