عن مالك بن أعين الجهني، قال: أوصى علي بن الحسين × بعض ولده [1] فقال: يا بني, اشكر الله فيما أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعمة إذا شكرت عليها، ولا بقاء لها إذا كفرتها، والشاكر بشكره أسعد منه بالنعمة التي وجب عليه الشكر بها، وتلا, يعني علي بن الحسين ×, قول الله تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} إلى آخر الآية. [2]
عن أبي حمزة الثمالي, عن علي بن الحسين زين العابدين × أنه قال يوما لأصحابه: إخواني أوصيكم بدار الآخرة ولا أوصيكم بدار الدنيا فإنكم عليها حريصون وبها متمسكون, أما بلغكم ما قال عيسى ابن مريم × للحواريين؟ قال لهم: الدنيا قنطرة, فاعبروها ولا تعمروها, وقال: أيكم يبني على موج البحر دارا؟ تلكم الدار الدنيا, فلا تتخذوها قرارا. [3]
عن طاوس اليماني, عن علي بن الحسين زين العابدين × في حديث أنه قال: معاشر أصحابي, أوصيكم بالآخرة ولست أوصيكم بالدنيا فإنكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها مستمسكون. معاشر أصحابي, إن الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر فخذوا من ممركم لمقركم, ولا تهتكوا أستاركم عند من لا يخفى عليه أسراركم, وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم, أما رأيتم وسمعتم ما استدرج به من كان قبلكم من الأمم السالفة والقرون الماضية؟ ألم تروا كيف فضح مستورهم, وأمطر مواطر الهوان عليهم بتبديل سرورهم بعد خفض عيشهم ولين رفاهيتهم؟ صاروا حصائد النقم, ومدارج المثلات, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. [4]
عن الإمام العسكري ×: قال الإمام محمد بن علي الباقر ×: دخل محمد بن مسلم بن شهاب الزهري على علي بن الحسين × وهو كئيب حزين، فقال له: ما لك مغموما؟ قال: يا ابن رسول الله هموم وغموم تتوالى علي لما امتحنت به من جهة حساد نعمي، والطامعين في، وممن أرجوه، وممن أحسنت إليه فيختلف ظني, فقال له علي بن الحسين ×: أحفظ عليك لسانك تملك به إخوانك, فقال الزهري: يا ابن رسول الله إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي, فقال ×: هيهات هيهات، إياك أن تعجب من نفسك بذلك، وإياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل ما تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا.
ثم قال: يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه، يا زهري أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك فأي هؤلاء تحب أن تظلم؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه؟ وأي هؤلاء تحب أن تنتهك ستره؟ وإن عرض لك إبليس لعنه الله فضلا على أحد من أهل القبلة، فانظر إن كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن كان أصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وإن كان تربك فقل: أنا على يقين من ذنبي ومن شك من أمره، فما لي أدع يقيني لشكي، وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل: هذا فضل اخذوا به، وإن رأيت منهم جفاء وانقباضا فقل: هذا لذنب أحدثته، فإنك إن فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر أصدقاؤك، وقل أعداؤك، وفرحت بما يكون من برهم، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم.
وأعلم أن أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فائضا، وكان عنهم مستغنيا متعففا، وأكرم الناس بعده عليهم من كان مستعففا وإن كان إليهم محتاجا، فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال، فمن لم يزدحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم، ومن لم يزاحمهم فيها ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم. [5]
عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى × قال: أخذ أبي × بيدي ثم قال: يا بني, إن أبي محمد بن علي × أخذ بيدي كما أخذت بيدك وقال: إن أبي علي بن الحسين × أخذ بيدي،[6] وقال ×: يا بني, افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك، فاعتذر إليك فاقبل عذره. [7]
قال العتبي: قال علي بن الحسين × وكان من أفضل بني هاشم لابنه:
يا بني, اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له. [8]
عن علي بن الحسين × أنه كان يقول لبنيه: جالسوا أهل الدين والمعرفة، فإن لم تقدروا عليهم فالوحدة آنس وأسلم، فإن أبيتم إلا مجالسة الناس، فجالسوا أهل المروات فإنهم لا يرفثون في مجالسهم. [9]
عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي × قال: أردت سفرا فأوصاني أبي علي بن الحسين × فقال في وصيته: إياك يا بني أن تصاحب الأحمق أو تخالطه, واهجره ولا تحادثه، فإن الأحمق هجنة غائبا كان أو حاضرا، إن تكلم فضحه حمقه، وإن سكت قصر به عيه، وإن عمل أفسد، وإن استرعى أضاع، لا علمه من نفسه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، ولا يطيع ناصحه، ولا يستريح مقارنه، تود أمه أنها ثكلته، وامرأته أنها فقدته، وجاره بعد داره، وجليسه الوحدة من مجالسته، إن كان أصغر من في المجلس أعنى من فوقه، وإن كان أكبرهم أفسد من دونه. [10]
عن ابن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين × يقول لابنه: يا بني, من أصابه منكم مصيبة أو نزلت به نازلة فليتوضأ وليسبغ الوضوء، ثم يصلي ركعتين أو أربع ركعات، ثم يقول في آخرهن: يا موضع كل شكوى، ويا سامع كل نجوى وشاهد كل ملإ، وعالم كل خفية، ويا دافع ما يشاء من بلية، ويا خليل إبراهيم، ويا نجي موسى، ويا مصطفي محمد صلى الله عليه وآله، أدعوك دعاء من اشتدت فاقته، وقلت حيلته، وضعفت قوته، دعاء الغريق الغريب المضطر الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت، يا أرحم الراحمين. فإنه لا يدعو به أحد إلا كشف الله عنه إن شاء الله. [11]
* رسالته × في الزهد
عن أبي حمزة، قال: ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد من علي بن الحسين × إلا ما بلغني عن علي بن أبي طالب ×،[12] قال أبو حمزة: كان علي بن الحسين × إذا تكلم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته، قال أبو حمزة: وقرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين ×، وكتبت ما فيها، ثم أتيت علي بن الحسين ×، فعرضت ما فيها عليه، فعرفه وصححه، وكان ما فيها:[13]
بسم الله الرحمن الرحيم، كفانا الله وإياكم كيد الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين؛ أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا، المائلون إليها، المفتتنون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد، وهشيمها البائد غدا، واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا فيما زهدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، والله إن لكم مما فيها عليها دليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد أقواما إلى النار غدا، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه، إن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة- من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان- لتثبط القلوب عن تنبهها، وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله، فليس يعرف تصرف أيامها، وتقلب حالاتها وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثم استعان على ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتعظ بالصبر، فازدجر وزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين، نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة النظر، وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة.
فقد لعمري استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق، فاستعينوا بالله، وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع، فأطيع.
فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله والوقوف بين يديه، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، وحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله، فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله؛ فإن ذلك أقل للتبعة، وأدنى من العذر، وأرجى للنجاة، وقدموا أمر الله وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت من زهرة الدنيا بين يدي الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم
واعلموا أنكم عبيد الله ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا وهو موقفكم ومسائلكم، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة والعرض على رب العالمين، يومئذ لاتكلم نفس إلا بإذنه.
واعلموا أن الله لايصدق يومئذ كاذبا، ولا يكذب صادقا، ولا يرد عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، له الحجة علىخلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل.
فاتقوا الله عباد الله، واستقبلوا من إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادما قد ندم فيما فرط بالأمس في جنب الله، وضيع من حقوق الله، واستغفروا الله، وتوبوا إليه، فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئة، ويعلم ما تفعلون.
وإياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم.
واعلموا أنه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بأمره دون أمر ولي الله، كان في نار تلتهب، تأكل أبدانا قد غابت عنها أرواحها، وغلبت عليها شقوتها، فهم موتى لايجدون حر النار، ولو كانوا أحياء لوجدوا مضض حر النار، واعتبروا يا أولي الأبصار، واحمدوا الله على ما هداكم.
واعلموا أنكم لاتخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته، وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون؛ فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين. [14]
---------------
(1) من هنا في العدد القوية
(2) من هنا في تحف العقول ومجموعة ورام وبحار الأنوار
(3) الكافي ج 8 ص 14, الأمالي للمفيد ص 200, الوافي ج 26 ص 245, تحف العقول ص 252, مجموعة ورام ج 2 ص 37, بحار الأنوار ج 75 ص 148, العدد القوية ص 59
تحقيق مركز سيد الشهداء × للبحوث الإسلامية
* كتابه × إلى محمد بن مسلم الزهري يعظه
عن الإمام زين العابدين ×: كفانا الله وإياك من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك، فقد أثقلتك نعم الله بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وعرفك من سنة نبيه محمد |، فرضي لك في كل نعمة أنعم بها عليك، وفي كل حجة احتج بها عليك، الفرض بما قضى، فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك، وأبدى فيه فضله عليك، فقال: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.
فانظر أي رجل تكون غداً، إذا وقفت بين يدي الله، فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها. ولا تحسبن الله قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات! ليس كذلك.
أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه}.
واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دعيت، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غداً مع الخونة، وأن تُسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة.
إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقاً، ولم ترد باطلاً حين أدناك، وأحببت من حادّ الله.
أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسُلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم؟
فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم، إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم.
فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك! وما أيسر ما عمّروا لك، فكيف ما خربوا عليك!
فانظر لنفسك، فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً.
فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيُغفر لنا}.
إنك لست في دار مقام، أنت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه؟
طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس لمن يموت وتبقى ذنوبه من بعده!
احذر فقد نُبّئت، وبادر فقد أُجلت، إنك تعامِل من لا يجهل، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل.
تجهز، فقد دنا منك سفر بعيد، وداوِ ذنبك، فقد دخله سُقم شديد.
ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكني أردت أن ينعش الله ما قد فات من رأيك، ويرد إليك ما عَزَب من دينك، وذكرت قول الله تعالى في كتابه: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.
أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، انظر هل ابتُلوا بمثل ما ابتُليت، أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه، أم هل تراهم ذكرت خيراً أهملوه، وعلمت شيئاً جهلوه؟
بل حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامة، وكلفهم بك إذ صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بأمرك: إن أحللت أحلّوا، وإن حرّمت حرّموا.
وليس ذلك عندك، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك، ذهاب علمائهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحب الرئاسة وطلب الدنيا منك ومنهم.
أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟
قد ابتليتهم، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت، أو يدركوا به مثل الذي أدركت، فوقعوا منك في بحر لا يُدرك عمقه، وفي بلاء لا يُقدر قدره.
فالله لنا ولك، وهو المستعان.
أما بعد، فأعرض عن كل ما أنت فيه، حتى تلحق بالصالحين الذين دُفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا، ولا يفتنون بها.
رغبوا فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا.
فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ، مع كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فكيف يسلم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله؟
إنا لله وإنا إليه راجعون على من المعوّل، وعند من المستعتب؟
نشكو إلى الله بثّنا، وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك.
فانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً، وكيف صِيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً، وكيف قربك أو بُعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلاً؟
ما لك لا تنتبه من نعستك، وتستقيل من عثرتك، فتقول: والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحييت به له ديناً، أو أمتُّ له فيه باطلاً، فهذا شكرك من استحملك؟
ما أخوفني أن تكون كمن قال الله تعالى في كتابه: {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً}.
استحملك كتابه، واستودعك علمه، فأضعتها.
فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام.[15]
* موعظته × يوم الجمعة
عن سعيد بن المسيب، قال: كان علي بن الحسين × يعظ الناس، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كل جمعة في مسجد رسول الله |، وحفظ عنه وكتب، كان يقول:
أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه، ويحك يا ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه.
ابن آدم، إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى قبرك وحيدا، فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.
ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، وأعد الجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تك مؤمنا عارفا بدينك، متبعا للصادقين، مواليا لأولياء الله، لقاك الله حجتك، وأنطق لسانك بالصواب، وأحسنت الجواب، وبشرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعييت عن الجواب، وبشرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم، وتصلية جحيم.
واعلم يا ابن آدم، أن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود يجمع الله- عز وجل- فيه الأولين والآخرين، ذلك يوم ينفخ في الصور، وتبعثر فيه القبور، وذلك يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، وذلك يوم لاتقال فيه عثرة، ولا يؤخذ من أحد فدية، ولا تقبل من أحد معذرة، ولا لأحد فيه مستقبل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.
فاحذروا أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها، وحذركموها في كتابه الصادق، والبيان الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده عند ما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا، فإن الله- عز وجل- يقول: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.
وأشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه كما قد خوفكم من شديد العقاب، فإنه من خاف شيئا حذره، ومن حذر شيئا تركه، ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الدنيا الذين مكروا السيئات، فإن الله يقول في محكم كتابه: {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف}.
فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب، والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم، فإن السعيد من وعظ بغيره، ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} وإنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: {وأنشأنا بعدها قوما آخرين} فقال عز وجل: {فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون}؛ يعني يهربون، قال: {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون} فلما أتاهم العذاب {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين}.
وايم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم.
ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب، فقال عز وجل: {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين}.
فإن قلتم أيها الناس: إن الله- عز وجل- إنما عنى بهذا أهل الشرك، فكيف ذلك وهو يقول: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
اعلموا عباد الله، أن أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين، ولا ينشر لهم الدواوين، وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله- عز وجل- لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملا لآخرته، وايم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وصرف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلا بالله.
فازهدوا فيما زهدكم الله- عز وجل- فيه من عاجل الحياة الدنيا، فإن الله- عز وجل- يقول- وقوله الحق-: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.
فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكرون ولا تركنوا إلى الدنيا، فإن الله- عز وجل- قال لمحمد صلى الله عليه وآله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنها دار بلغة ومنزل قلعة ودار عمل، فتزودوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها، وقبل الإذن من الله في خرابها، فكان قد أخربها الذي عمرها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها، فأسأل الله العون لنا ولكم على تزود التقوى والزهد فيها، جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا الراغبين لآجل ثواب الآخرة، فإنما نحن به وله، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [16]
* عند شهادته ×
عن عثمان بن عثمان بن خالد, عن أبيه قال: مرض علي بن الحسين × مرضه الذي توفي فيه, فجمع أولاده محمدا والحسن وعبد الله وعمر وزيدا والحسين, وأوصى إلى ابنه محمد × وكناه بالباقر وجعل أمرهم إليه, وكان فيما وعظه في وصيته أن قال: يا بني إن العقل رائد الروح, والعلم رائد العقل, والعقل ترجمان العلم, واعلم أن العلم أتقى واللسان أكثر هذرا, واعلم يا بني أن صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين إصلاح شأن المعاش ملء مكيال: ثلثاه فطنة وثلثه تغافل, لأن الإنسان لا يتغافل عن شيء قد عرفه ففطن فيه, [17] واعلم أن الساعات يذهب غمك وأنك لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى فإياك والأمل الطويل, فكم من مؤمل أملا لا يبلغه, وجامع مال لا يأكله, ومانع مال سوف يتركه, ولعله من باطل جمعه ومن حق منعه, أصابه حراما وورثه عدوا احتمل إصره وباء بوزره {ذلك هو الخسران المبين}. [18]
عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر ×: لما حضرت أبي علي بن الحسين × الوفاة ضمني إلى صدره وقال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة, وبما ذكر أن أباه أوصاه به: يا بني اصبر على الحق وإن كان مرا. [19]
عن أبي حمزة الثمالي, عن أبي جعفر × قال: لما حضر علي بن الحسين × الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي × حين حضرته الوفاة, وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله. [20]
عن أبي عبد الله × قال: لما كانت الليلة التي وعد بها علي بن الحسين × قال لمحمد بن علي ×ابنه: يا بني ابغني وضوء، قال أبي ×: فقمت فجئته بوضوء, فقال: لا نبغ هذا فإن فيه شيئا ميتا، قال: فخرجت فجئت بالمصباح فإذا فيه فأرة ميتة، فجئته بوضوء غيره، فقال: يا بني هذه الليلة التي وعدت بها، فأوصى بناقته أن يحضر لها عصام ويقام لها علف فحصلت لها ذلك، فتوفي فيها صلوات الله عليه.
فلما دفن × لم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر، فضربت بجرانها القبر ورغت وهملت عيناها، فأتي محمد بن علي × فقيل له: إن الناقة قد خرجت إلى القبر، فأتاها فقال: مه، قومي الآن بارك الله فيك، فثارت حتى دخلت موضعها، ثم لم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر، فضربت بجرانها القبر، ورغت وهملت عيناها، فأتي محمد بن علي × فقيل له: إن الناقة قد خرجت إلى القبر، فأتاها فقال: مه، الآن قومي, فلم تفعل، فقال: دعوها فإنها مودعة، فلم تلبث إلا ثلاثة أيام حتى نفقت، وإنه كان ليخرج عليها إلى مكة فيعلق السوط بالرحل، فلم يقرعها قرعة حتى يدخل المدينة. [21]
[1] في كفاية الأثر وبهجة النظر والعوالم: "ابنه محمد بن علي ×"
[2] الأمالي للطوسي ص 501, وسائل الشيعة ج 16 ص 313, البرهان ج 3 ص 290, بحار الأنوار ج 68 ص 49, تفسير نور الثقلين ج 2 ص 529, تفسير كنز الدقائق ج 7 ص 34. نحوه: كفاية الأثر ص 240, بهجة النظر ص 70, العوالم ج 19 ص 40
[3] الأمالي للمفيد ص 43, بحار الأنوار ج 70 ص 107
[4] الأمالي للصدوق ص 220, حلية الأبرار ج 3 ص 282, بحار الأنوار ج 75 ص 147
[5] تفسير الإمام العسكري × ص 25, الاحتجاج ج 2 ص 320, مجموعة ورام ج 2 ص 93, بحار الأنوار ج 89 ص 242
[6] من هنا في تحف العقول ومشكاة الأنوار وبحار الأنوار
[7] الكافي ج 8 ص 152, مسائل علي بن جعفر ص 342, مجموعة ورام ج 2 ص 147, أعلام الدين ص 235, الوافي ج 10 ص 450, وسائل الشيعة ج 16 ص 294, تحف العقول ص 282, مشكاة الأنوار ص 69, بحار الأنوار ج 75 ص 141
[8] مناقب آل أبي طالب × ج 4 ص 165, الدر النظيم ص 587, بحار الأنوار ج 46 ص 95, مستدرك الوسائل ج 12 ص 363
[9] رجال الكشي ص 497, مسائل علي بن جعفر × ص 337, بحار الأنوار ج 71 ص 196, مستدرك الوسائل ج 8 ص 328
[10] الأمالي للطوسي ص 613, وسائل الشيعة ج 12 ص 34, بحار الأنوار ج 71 ص 197
[11] الكافي ج 2 ص 560, الوافي ج 9 ص 1621, حلية الأبرار ج 4 ص 294
[12]
[13]
[14]
[15] تحف العقول ص 274, الوافي ج 26 ص 255, بحار الأنوار ج 75 ص 131
[16] الكافي ج 8 ص 72, مجموعة ورام ج 2 ص 48, أعلام الدين ص 223, الوافي ج 26 ص 248, البرهان ج 1 ص 608. ونحوه: الأمالي للصدوق ص 503, بحار الأنوار ج 75 ص 143, تحف العقول ص 249
[17] الى هنا في مستدرك الوسائل
[18] كفاية الأثر ص 239, بهجة النظر ص 69, بحار الأنوار ج 46 ص 230, العوالم ج 19 ص 39, مستدرك الوسائل ج 9 ص 37
[19] الكافي ج 2 ص 91, مشكاة الأنوار ص 22, مجموعة ورام ج 1 ص 17, الصراط المستقيم ج 2 ص 162, الوافي ج 4 ص 340, وسائل الشيعة ج 15 ص 237, بحار الأنوار ج 46 ص 153, العوالم ج 18 ص 297
[20] الكافي ج 2 ص 331, الأمالي للصدوق ص 182, الخصال ج 1 ص 16,مجموعة ورام ج 2 ص 163, الوافي ج 5 ص 966, وسائل الشيعة ج 16 ص 48, بحار الأنوار ج 46 ص 153, العوالم ج 18 ص 297, تحف العقول ص 246 باختصار
[21] مختصر البصائر ص 59, الكافي ج 1 ص 468, بصائر الدرجات ص 483, مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 141, الوافي ج 3 ص 765, إثبات الهداة ج 4 ص 64, حلية الأبرار ج 3 ص 299, مدينة المعاجز ج 4 ص 275, بحار الأنوار ج 46 ص 148,العوالم ج 18 ص 297