مصاحف أخرى
في الفترة بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قامت جماعة من كبار الصحابة بتأليف القرآن وجمع سوره بين دفّتين، كلّ بنظم وترتيب خاصّ، وكان يسمّى مصحفا.
يقال: أوّل من جمع القرآن في مصحف، أي رتّب سوره ككتاب منظّم، هو سالم مولى حذيفة. فائتمروا فيما يسمّونه؟ فقال بعضهم: سمّوه السفر. فقال سالم: ذلك تسمية اليهود، فكرهوه. فقال: رأيت مثله في الحبشة يسمّى المصحف. فاجتمع رأيهم على أن يسمّوه المصحف. أخرجه ابن أشتة في كتاب المصاحف(1).
وهكذا قام بجمع القرآن ابن مسعود. واُبي بن كعب. وأبو موسى الأشعري، وكان مسمّى مصحفه: لباب القلوب(2). والمقداد بن الأسود. ومعاذ بن جبل.
ويبدو من حديث العراقي الذي جاء إلى عائشة يطلب إليها أن تريه مصحفا أنّ لها أيضًا مصحف كان يخصّها. روى البخاري عن ابن ماهك، قال: إنّي عند عائشة إذ جاءها عراقيّ فسألها عن مسائل: منها: أنّه طلب أن تريه مصحفها، قال: يا أُمَّ المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلّي اُؤلّف القرآن عليه، فإنّه يقرأ غير مؤلّف -أي غير مرتّب ولا منظّم، أو لاختلاف الناس في نظم آياته وعددها(3)- قالت: وما يضرّك أيّه قرأت... إلى أن قال: فأخرجت له مصحفًا وأملت عليه آي السور(4) أي عدد آيها.
وحاز بعض هذه المصاحف مقامًا رفيعًا في المجتمع الإسلامي آنذاك، فكان أهل الكوفة يقرؤون على مصحف عبد الله بن مسعود وأهل البصرة يقرؤون على مصحف أبي موسى الأشعري. وأهل الشام على مصحف أُبي بن كعب. وأهل حمص كانوا على قراءة المقداد(5).
أمد هذه المصاحف:
كان أمد هذه المصاحف قصيرًا جدًا انتهى بدور توحيد المصاحف على عهد عثمان. فذهب مصاحف الصحابة عرضة التمزيق والحرق.
قال أنس بن مالك: أرسل عثمان إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق(6).
نعم حظيت بعض هذه المصاحف عمرًا أطول، كالصحف التي كانت عند حفصة، طلبها عثمان ليقابل بها نسخ المصاحف فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردّنها عليها(7) ومن ثم ردّها وبقيت عندها حتى توفيت، فأمر بها مروان فشقّت.
ويبدو من رواية أبي بكر بن أبي داود: أن ولد اُبي بن كعب كانوا قد احتفظوا بنسخة من مصحف أبيهم بعيدًا عن آخرين قال: قدم أناس من العراق يريدون محمد بن اُبي، فطلبوا إليه أن يخرج لهم مصحف أبيه! فقال: قد قبضه عثمان، فألحّوا عليه ولكن من غير جدوى، الأمر الذي كان يدلّ على مبلغ خوفه من الحكم القائم، فلم يخرجه للعراقيّين(8).
وفي رواية الطبري: أنّ ابن عباس دفع مصحفًا إلى أبي ثابت، ووصفه بأنّه على قراءة اُبي بن كعب. وبقي إلى أن انتقل إلى نصيربن أبي الأشعث الأسديّ الكوفي فأتاه يحيى بن عيسى الفاخوري يومًا وقرأ فيه: ﴿فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى﴾(9) الأمر الذي يدلّ على أنّ هذا المصحف عاش حتى أواخر القرن الثاني، لأنّ يحيى بن عيسى توفي عام 201(10).
قال الفضل بن شاذان: أخبرنا الثقة من أصحابنا، قال: كان تأليف السور في قراءة اُبي بن كعب بالبصرة في قرية يقال ها ((قرية الأنصار)) على رأس فرسخين عند محمد بن عبد الملك الأنصاري (توفي سنة 150). أخرج إلينا مصحفًا قال: هو مصحف اُبي. رويناه عن آبائنا، فنظرت فيه فاستخرجت أوائل السور وخواتيم الرسل وعدد الآي...(11).
وجاء في روايات أهل البيت(عليهم السلام) قول الصادق(عليه السلام): أمّا نحن فنقرأ على قراءة اُبي - أي ابن كعب(12).
أمّا ابن مسعود فامتنع أن يدفع مصحفه إلى رسول الخليفة، وظلّ محتفظًا به في صرامة بالغة أدّت إلى مشاجرة عنيفة جرت بينه وبين عثمان، كان فيها إبعاده عن عمله وأخيرًا حتفه.
عندما جاء رسول الخليفة إلى الكوفة لأخذ المصاحف، قام ابن مسعود خطيبًا قائلاً: أيّها الناس إنّي غالّ مصحفي، ومن استطاع أنّ يغلّ مصحفًا فليغلل، فإنّه من غلّ يأت يوم القيامة بما غلّ ونعم الغلّ المصحف(13).
وهكذا كان يحرّض الناس على مخالفة الحكم القائم، الأمر الذي جرّ عليه الويلات، فأشخصه الخليفة إلى المدينة وجرى بينهما كلام عنيف انتهى إلى ضربه وكسر أضلاعه وإخراجه من المسجد بصورة مزرية.
روى الواقدي بإسناده وغيره: أنّ ابن مسعود لمّا استقدم المدينة دخلها ليلا، وكانت ليلة الجمعة، فلمّا علم عثمان، بدخوله، قال: أيّها النّاس إنّه قد طرقكم الليلة دويبة، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح.
قال ابن مسعود: لست كذلك ولكنّني صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يود بدر، وصاحبه يوم اُحد، وصاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين...
وصاحت عائشة: يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فقال عثمان: اسكتي.
ثم قال لعبدالله بن زمعة بن الأسود: أخرجه إخراجًا عنيفًا! فأخذه ابن زمعة، فاحتمله حتى جاء به باب المسجد، فضرب الأرض، فكسر ضلعا من أضلاعه. فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.
قال الراوي: فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبدالله بن مسعود، ورجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان، حتى اُخرج من المسجد، وهو يقول: أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله (صلى الله عليه وآله)(14).
قيل: واعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، إنّك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر، ومنعتني عطائي، قال عثمان: فإنّي اُقيدك من نفسي، فافعل بي مثل الذي فعل بك... وهذا عطاؤك فخذه: قال ابن مسعود: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطيني وأنا غنيّ عنه! لا حاجة لي به... فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي، وصلّى عليه عمّار بن ياسر في ستر من عثمان. وهكذا لمّامات المقداد صلّى عليه عمّار بوصيّة منه، فاشتدّ غضب عثمان على عمّار. قال: ويلي على ابن السوداء أما لقد كنت به عليما!(15).
هذا... ورغم ذلك كلّه فقد بقي مصحفه متداولا إلى أيام متأّخرة: يقول ابن النديم (297 - 385هـ): رأيت عدّة مصاحف ذكر نسّاخها أنّها مصحف عبد الله بن مسعود، وقد كتب بعضها منذ مائتي سنة(16).
وهكذا يبدو من الزمخشري: أنّ هذا المصحف كان معروفا حتى القرن السادس، لأنّه يقول: وفي مصحف ابن مسعود كذا... وظاهر هذه العبارة أنّه هو وجدها في نفس المصحف، لا أنّه منقول إليه(17).
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، سماحة الشيخ محمد هادي معرفة
1- الإتقان:ج1/ص58. وراجع المصاحف للسجستاني: ص11–14.
2- الكامل في التاريخ: ج3/ص55.
3- احتمله ابن حجر في فتح الباري: ج9/ص36.
4- صحيح البخاري: ج6/ص228.
5- الكامل في التاريخ: ج3/ص55. وراجع صحيح البخاري: ج6/ص225. والمصاحف للسجستاني: ص11-14. والبرهان: ج1/ص239-243.
6- صحيح البخاري: ج6 ص226.
7- المصاحف للسجستاني: ص9.
8- المصاحف للسجستاني: ص25.
9- تفسير الطبري: ج5/ص9.
10- تهذيب التهذيب: ج11/ص263.
11- الفهرست لابن القديم: ص29.
12- وسائل الشيعة: باب 74 من أبواب القراءة في الصلاة ج17/ص11/ح4.
13- المصاحف للسجستاني: ص15.
14- شرح نهج البلاغة (لابن أبي الحديد): ج3/ص43-44
15- تاريخ اليعقوبي: ج2/ص160.
16- الفهرست: ص46.
17- راجع الكشاف: ج2/ص410 وج4/ص490