شكوك واعتراضات

شكوك واعتراضات

 

يقول بلاشير: لماذا اختار أبو بكر لهذه المهمة الخطيرة مثل زيد وهو شابّ حدث لم يتجاوز العشرين، في حين وجود ذوي الكفاءات من كبار الصحابة؟ ولنفرض عكورة المورد حالت دون اللجوء إلى شخصيّة كبيرة مثل علي بن أبي طالب فلماذا أغفلوا سائر فضلاء الصحابة ممّن لهم سابقة وعهد قديم بنزول القرآن وصحبة الرسول؟ وهل أنّ واقعة اليمامة أطاحت بجميع قرّاء الصحابة القدامى، ولم يبق سوى زيد وهو حديث العهد بالقراءة وبالقرآن؟ الأمر الذي يثير شكوكنا في القضية ولا نكاد نصدّق بأنّ زيدًا هو الذي جمع القرآن.

 

أضف إلى ذلك أنّ التاريخ لم يحدّد بالضبط بدء قيامه بهذا العمل، ومتى انتهى منه؟ فلو صحّ أنّه قام بجمع القرآن بعد واقعة اليمامة، لكان بقي من عمر أبي بكر خمسة عشر شهرًا، وهذه فترة تضيق بإنجاز هكذا عمل خطير، الذي يتطلب جهودًا واسعة لجمع المصادر والالتقاء مع رجال كانت عندهم آيات أو سور وكانوا قد انتشروا في البلاد، فإنّ هذا وذاك يتطلّبان وقتًا أوسع وأعوانًا كثيرين، ممّا لا يمكن إنجازه في تلك المدة القصيرة.

 

هذا والرواية تقول: إنّ زيدًا جمع القرآن في صحف وأودعها عند أبي بكر، ثم صارت عند عمر ثم ابنته حفصة.!

 

فإذا كانت الغاية من جمع القرآن هي ملاحظة المصلحة العامة العامّة كما ينبّه على ذلك أنّ ورثة أبي بكر لم يختصّروا بتلك الصحف، وإنّما انتقلت إلى عمر، الخليفة بعده، فلماذا خصّصها عمر بابنته حفصة ولم يجعلها في متناول المسلمين عامًّا؟ كما أنّه لِمَ صارت الصحف وديعة اختصاصيّة عند أبي بكر من غير أن تجعل في مكان هو معرض عامّ؟

 

وهكذا اعترض المستشرق شفالي على قضيّة جمع زيد للقرآن.

 

والذي يستنتجه بلاشير من شكوكه هذه: أنّ كبار الصحابة هم الذين قاموا بجمع القرآن بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ورتّبوه ورتّبوا سوره، الأمر الذي كانت وظيفة الخلافة الإسلاميّة أن تقوم به ولكنّها غفلت عنه.

 

وربّما أدّت هذه الغفلة إلى الطعن في القائمين بأعضادها. ومن ثم أوزعت إلى شابّ حدث لا يتهموه أن ينسخ عن بعض مصاحف الصحابة مصحفًا يمتاز به الخليفة أيضًا أمّا أصل القيام بجمع القرآن فلا(1).

 

قلت: إذا كانت شرائط إنجاز عمل - مهما كان ضخمًا - متوفّرة، وفي المتناول القريب، فإنّ إنجازه يتحقّق في أقرب وقت ممكن. ولا سيّما إذا كان العمل فوتيًّا يحاول المتصدّون إنجازه في أقرب فرصة ممكنة. وهكذا كانت قضيّة جمع القرآن في الصدر الأوّل..

 

أمّا المصادر الأوّلية فكانت متوفّرة في نفس المدينة، محفوظة على أيدي الصحابة الأُمناء، وكان حملة القرآن وحفظته موجودين لا يفارقون مسجد سيّدهم الذي ارتحل من بينهم في عهد قريب - ليل نهار- والاتصال بهم سهل التناول. لاسيّما وسور القرآن كانت مكتملة، وبقي جمعها في مكان، لا أكثر. إذن فقد كانت الأسباب مؤاتية والظروف مساعدة. أضف إليها: أنّ السلطة -وبيدها القدرة- إذا حاولت إنجاز هكذا عمل متهيئ الأسباب، فإنّه لا يستدعي طولا في مدة العمل بعد توفّر هذه الشروط.

 

هذا وزيد لم يعمل سوى جمع القرآن في مكان وحفظه عن الضياع والانبثاث ولم يعمل فيه نظما ولا ترتيبًا ولا أيّ عمل فكريّ آخر، فإنّ هكذا عملاً بسيطًا لا يتطلب جهودًا طويلة ولا فراغًا واسعًا.

 

نعم كانت الغاية من ذلك هي مراعاة المصلحة العامّة: حفظ القرآن عن الضياع، الأمر الذي تحقّق بإيداع الصحف المشتملة على تمام القرآن في مكان أمين ولم يكن يومذاك احتياج إلى مراجعة تلك الصحف بعد أن كان حفظة القرآن وحاملوه منتشرين بين أظهر الناس بكثرة، والناس يومذاك حافظون لجلّ آيات ترتبط والحياة المعيشيّة والسياسيّة وما أشبه.

 

هذا.. وفي أواخر عهد عمر أصبحت نسخ المصاحف المحتوية على جميع آي القرآن وسوره كثيرة، ومجموعة على أيدي كبار الصحابة الموثوق بهم رأى أنّ الحاجة العامّة إلى تلك الصحف المودعة عنده هبطت إلى درجة نازلة جدًا، ومن ثم تملكها هو، ولم تعد حاجة إليها سوى في دور توحيد المصاحف على عهد عثمان.

 

المصدر:

 كتاب التمهيد في علوم القرآن، سماحة الشيخ محمد هادي معرفة

 

1- مترجم وملخص عن مجلة (خواندنيها) الفارسية في سنتها الثامنة العدد:44 بتاريخ 13 بهمن 1326هـ ش طهران