نظرة في روايات الكتب الأربعة

 المقدمة الخامسة

* النظر في صحة روايات الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيبين.

* مناقشة الأدلة القائمة على صحة جميعها.

* إبطال هذه الأدلة وتفنيدها، وإثبات عدم صحة جميع روايات الكتب الأربعة ولزوم النظر في سند كل رواية منها وفحصها.

 

نظرة في روايات الكتب الأربعة إن إبطال - ما قيل من أن روايات الكتب الأربعة كلها صحيحة - يقع في فصول ثلاثة:

 

الفصل الأول النظر في صحة روايات الكافي وقد ذكر غير واحد من الاعلام أن روايات الكافي كلها صحيحة ولا مجال لرمي شئ منها بضعف سندها. وسمعت شيخنا الأستاذ الشيخ محمد حسين النائيني - قدس سره - في مجلس بحثه يقول: (إن المناقشة في إسناد روايات الكافي حرفة العاجز). وقد استدل غير واحد على هذا القول بما ذكره محمد بن يعقوب في خطبة كتابه: (أما بعد فقد فهمت يا أخي ما شكوت.. وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها، وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها، وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع (فيه) من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام،   والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدى فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله (تعالى) بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملتنا، ويقبل بهم إلى مراشدهم.. وقد يسر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير، فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه، وعمل بما فيه في دهرنا هذا، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا، إذ الرب عز وجل واحد، والرسول محمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وآله واحد، والشريعة واحدة، وحلال محمد حلال، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ووسعنا قليلا كتاب الحجة، وإن لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها).

ووجه الاستدلال: إن السائل إنما سأل محمد بن يعقوب تأليف كتاب جامع لفنون علم الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام، ومحمد بن يعقوب قد لبى دعوته فألف له كتاب الكافي. والظاهر أنه كتب الخطبة بعد إتمام الكتاب وقال، وقد يسر تأليف ما سألت، فهذه شهادة من محمد بن يعقوب بأن جميع ما ألفه في كتابه من الآثار الصحيحة عن الصادقين سلام الله عليهم.

أقول: أما ما ذكر من أن الظاهر أن الخطبة قد كتبها محمد بن يعقوب بعد تأليف كتاب الكافي فغير بعيد، بل هو مقطوع به في الجملة لقوله: (ووسعنا قليلا كتاب الحجة..). وأما ما ذكر من شهادة محمد بن يعقوب بصحة جميع روايات كتابه وأنها من الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام، فيرده: أولا: إن السائل إنما سأل محمد بن يعقوب تأليف كتاب مشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين سلام الله عليهم، ولم يشترط عليه أن لا يذكر فيه غير الرواية الصحيحة، أو ما صح عن غير الصادقين عليهم السلام، ومحمد بن يعقوب قد أعطاه ما سأله، فكتب كتابا مشتملا على الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام في جميع فنون علم الدين، وإن اشتمل كتابه على غير الآثار الصحيحة عنهم عليهم السلام، أو الصحيحة عن غيرهم أيضا استطرادا وتتميما للفائدة، إذ لعل الناظر يستنبط صحة رواية لم تصح عند المؤلف، أو لم تثبت صحتها.

ويشهد على ما ذكرناه: أن محمد بن يعقوب روى كثيرا في الكافي عن غير المعصومين أيضا ولا بأس أن نذكر بعضها:

١ - ما رواه عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن هشام ابن الحكم، قال: (الأشياء لا تدرك إلا بأمرين..) .

٢ - ما رواه بسنده عن أبي أيوب النحوي، قال: (بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل..)، ورواه أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن النضر بن سويد .

٣ - ما رواه بسنده عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: (لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين عليه السلام ارتج الموضع بالبكاء) .

٤ - ما رواه بسنده عن إدريس بن عبد الله الأودي، قال: (لما قتل الحسين عليه السلام، أراد القوم أن يوطئوه الخيل) .

٥ - ما رواه بسنده عن الفضيل، قال: (صنايع المعروف وحسن البشر يكسبان   المحبة) .

٦ - وما رواه بسنده عن ابن مسكان عن أبي حمزة، قال: (المؤمن خلط عمله بالحلم..) .

٧ - ما رواه بسنده عن اليمان بن عبيد الله، قال: رأيت يحيى بن أم الطويل وقف بالكناسة..) .

٨ - ما رواه بسنده عن إسحاق بن عمار، قال: (ليست التعزية إلا عند القبر..) .

٩ - ما رواه بسنده عن يونس، قال: (كل زنا سفاح، وليس كل سفاح زنا..) وهو حديث طويل عقد محمد بن يعقوب له بابا مستقلا  وأيضا روى بسنده عن يونس، قال: (العلة في وضع السهام على ستة لا أقل ولا أكثر) وأيضا قال: (إنما جعلت المواريث من ستة أسهم..) . وقد جعل لهما أيضا محمد بن يعقوب بابا مستقلا.

١٠ - ما رواه بسنده عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: (أخذني العباس بن موسى..) .

١١ - ما رواه عن كتاب أبي نعيم الطحان، رواه عن شريك، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن زيد بن ثابت أنه قال: (من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء) .

١٢ - ما رواه بسنده عن إسماعيل بن جعفر، قال: (اختصم رجلان إلى داود   عليه السلام في بقرة..) .

وثانيا: لو سلم أن محمد بن يعقوب شهد بصحة جميع روايات الكافي فهذه الشهادة غير مسموعة، فإنه إن أراد بذلك أن روايات كتابه في نفسها واجدة لشرائط الحجية فهو مقطوع البطلان، لان فيها مرسلات وفيها روايات في اسنادها مجاهيل، ومن اشتهر بالوضع والكذب، كأبي البختري وأمثاله. وإن أراد بذلك أن تلك الروايات وإن لم تكن في نفسها حجة، إلا أنه دلت القرائن الخارجية على صحتها ولزوم الاعتماد عليها، فهو أمر ممكن في نفسه، لكنه لا يسعنا تصديقه، وترتيب آثار الصحة على تلك الروايات غير الواجدة لشرائط الحجية، فإنها كثيرة جدا. ومن البعيد جدا وجود أمارة الصدق في جميع هذه الموارد، مضافا إلى أن إخبار محمد بن يعقوب بصحة جميع ما في كتابه حينئذ لا يكن شهادة، وإنما هو اجتهاد استنبطه مما إعتقد أنه قرينة على الصدق.

ومن الممكن أن ما اعتقده قرينة على الصدق لو كان وصل إلينا لم يحصل لنا ظن بالصدق أيضا، فضلا عن اليقين.

وثالثا: أنه يوجد في الكافي روايات شاذة لو لم ندع القطع بعدم صدورها من المعصوم عليه السلام فلا شك في الاطمئنان به. ومع ذلك كيف تصح دعوى القطع بصحة جميع روايات الكافي، وأنها صدرت من المعصومين عليهم السلام. ومما يؤكد ما ذكرناه من أن جميع روايات الكافي ليست بصحيحة: أن الشيخ الصدوق - قدس سره - لم يكن يعتقد صحة جميع ما في الكافي  وكذلك شيخه محمد بن الحسن بن الوليد على ما تقدم من أن الصدوق يتبع شيخه في التصحيح والتضعيف .  والمتحصل أنه لم تثبت صحة جميع روايات الكافي، بل لا شك في أن بعضها ضعيفة، بل إن بعضها يطمأن بعدم صدورها من المعصوم عليه السلام. والله أعلم ببواطن الأمور.  

 

الفصل الثاني النظر في صحة روايات من لا يحضره الفقيه وقد استدل على أن روايات كتاب من لا يحضره الفقيه كلها صحيحة - بما ذكره في أول كتابه - حيث قال: (ولم أقصد في قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته، وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره، وتعالت قدرته، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع.. وغيرها من الأصول والمصنفات التي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي رضي الله عنهم).

والجواب: أن دلالة هذا الكلام على أن جميع ما رواه الشيخ الصدوق في كتابه - من لا يحضره الفقيه - صحيح عنده، وهو يراه حجة - فيما بينه وبين الله تعالى - واضحة، إلا أنا قد ذكرنا: أن تصحيح أحد الاعلام المتقدمين رواية لا ينفع من يرى اشتراط حجية الرواية بوثاقة راويها أو حسنه، على أنا قد علمنا من تصريح الصدوق نفسه - على ما تقدم - إنه يتبع في التضعيف والتصحيح شيخه ابن الوليد، ولا ينظر هو إلى حال الراوي نفسه، وأنه ثقة أو غير ثقة. أضف إلى ذلك أنه يظهر من كلامه المتقدم:

أن كل رواية كانت في كتاب شيخه ابن الوليد أو كتاب غيره من المشايخ العظام والعلماء الاعلام يعتبرها الصدوق رواية صحيحة، وحجة فيما بينه وبين الله تعالى. وعلى هذا الأساس ذكر في كتابه طائفة من المراسلات، أفهل يمكننا الحكم بصحتها باعتبار أن الصدوق   يعتبرها صحيحة؟ وعلى الجملة: إن أخبار الشيخ الصدوق عن صحة رواية وحجيتها إخبار عن رأيه ونظره، وهذا لا يكون حجة في حق غيره.

 

الفصل الثالث النظر في صحة روايات التهذيبين وقد استدل على ما قيل من صحة جميع روايات التهذيبين بما حكاه المحقق الكاشاني في الوافي عن عدة الشيخ - قدس سره - من أنه قال فيه: (إن ما أورده في كتابي الاخبار إنما آخذه من الأصول المعتمد عليها)، فإن في هذا الكلام شهادة على أن جميع روايات كتابيه مأخوذة من هذه الكتب فهي صحيحة. والجواب:

 

أولا: أنا لم نجد في كتاب العدة هذه الجملة المحكية عنه. والظاهر أن الكاشاني نسب هذه الجملة إلى الشيخ لزعمه أنه المستفاد من كلامه، فإن الشيخ - بعد ما ذكره اختياره - وهو حجية خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله، أو عن أحد الأئمة عليهم السلام، وكان ممن لا يطعن في روايته، ويكون سديدا في نقله، قال: (والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فإني، وجدتها مجمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم، ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشئ لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف أو أصل مشهور وروايته، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه، سكتوا وسلموا الامر في ذلك، وقبلوا قوله..). وقال بعد ما ذكر جملا من الاعتراض على حجية الخبر وأجاب عنها: (ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الاخبار التي أشرنا إليها ما ظهر من الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها، فإني وجدتها مختلفة   المذاهب في الاحكام، ويفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات من العبادات والاحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم، واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا، ومثل اختلافهم في باب الطهارة في مقدار الماء الذي لا ينجسه شئ، ونحو اختلافهم في حد الكر، ونحو اختلافهم في استئناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين، واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس، واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة وغير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى أن بابا منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوي.

وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام في الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفي). فقد تخيل المحقق الكاشاني دلالة هاتين الجملتين على: أن الشيخ لا يذكر في كتابيه إلا الروايات المأخوذة من الكتب المعتمدة، المعول عليها عند الأصحاب، ولكن من الظاهر أن هذا تخيل لا أساس له، ولا دلالة في كلام الشيخ على أن جميع روايات كتابيه مأخوذة من كتاب معروف أو أصل مشهور، بل ولا إشعار فيه بذلك أيضا.

على أن الشيخ ذكر أن عدم إنكار الحديث الموجود في كتاب معروف أو أصل مشهور إنما هو فيما إذا كان الراوي ثقة، فأين شهادة الشيخ بأن جميع روايات الكتاب المعروف، أو الأصل المشهور صحيحة، ولا ينكرها الأصحاب؟. ومما يؤيد ما ذكرناه أن الشيخ ذكر في غير مورد من كتابيه: أن ما رواه، من الرواية ضعيف لا يعمل به، وقد رواها عن الكتب التي روى بقية الروايات عنها، فكيف يمكن أن ينسب إليه أنه يرى صحة جميع روايات تلك الكتب؟

 

وثانيا: لو سلمنا أن الشيخ شهد بصحة جميع روايات كتابيه، فلا تزيد هذه الشهادة على شهادة الصدوق بصحة جميع روايات كتابه، فيجري فيها ما ذكرناه في شهادة الصدوق من أن الشهادة على صحة الحديث وحجيته لا تكون حجة في   حق الآخرين، بعد ما كانت شرائط الحجية مختلفة بحسب الأنظار. وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أنه لم تثبت صحة جميع روايات الكتب الأربعة، فلا بد من النظر في سند كل رواية منها، فإن توفرت فيها شروط الحجية أخذ بها، وإلا فلا.