تأليـف الآيـات

تأليـف الآيـات

 

وأمّا تأليف الآيات ضمن كلّ سورة، على الترتيب الموجود، فهذا قد تحقّق في الأكثر الساحق.. وفق ترتيب نزولها: كانت السورة تبتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فتسجّل الآيات التي تنزل بعدها من نفس هذه السورة، واحدة تلو أُخرى تدريجيًا حسب النزول، حتى تنزل بسملة أخرى، فيعرف أنّ السورة قد انتهت وابتدأت سورة أّخرى.

 

قال الإمام الصادق (عليه السلام): "كان يعرف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء لأّخرى"(1).

 

قال ابن عباس: "كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف فصل سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم، فيعرف أنّ السورة قد ختمت وابتدأت سورة أّخرى"(2).

 

كان كتبة الوحي يعرفون بوجوب تسجيل الآيات ضمن السورة التي نزلت بسملتها، حسب ترتيب نزوله واحدة تلو أّخرى كما تنزل، من غير حاجة إلى تصريح خاصّ بشأن كلّ آية.

 

هكذا ترتّبت آيات السور وفق ترتيب نزولها، على عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهذا ما نسميه (الترتيب الطبيعي) وهو العامل الأوّل الأساس للترتيب الموجود بين الآيات في الأكثريّة الغالبة، سوى ما شذّ على خلاف هذا الترتيب.

 

والمعروف أنّ مصحف علي (عليه السلام) وضع على دقّة كاملة من هذا الترتيب الطبيعي للنزول. الأمر الذي تخلّفت عنه مصاحف سائر الصحابة، على ما سوف نشير.

 

روى جابر عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: إذا قام قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) ضرب فساطيط لم يعلّم الناس القرآن، على ما أنزل الله جلّ جلاله فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنّه يخالف التأليف(3) أي التأليف الحاضر في ترتيب سوره وبعض آياته، كما ننبّه..

 

وهناك عامل آخر عمل في نظم قسم من الآيات على خلاف ترتيب نزولها، وذلك بنّص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعيينه الخاصّ: كان يأمر- أحيانًا - بثبت آية في موضع خاصّ من سورة سابقة كانت قد ختمت من قبل. ولا شك أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرى المناسبة القريبة بين هذه الآية النازلة والآيات التي سبق نزولها، فيأمر بثبتها معها بإذن الله تعالى.

 

وهذا جانب استثنائي للخروج عن ترتيب النزول، كان بحاجة إلى تصريح خاصّ: روى أحمد في مسنده عن عثمان بن أبي العاص قال:" كنت جالسًا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ شخص ببصره، ثم صوّبه". ثم قال: أتاني جبرئيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى...﴾ فجعلت في سورة النحل بين آيات الاستشهاد وآيات العهد. وروى أنّ آخر آية نزلت قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ﴾ فأشار جبرئيل أن توضع بين آيتي الربا والدين من سورة البقرة(4).

 

        وعن ابن عباس والسدّي: أنها آخر مانزلت من القرآن. قال جبرئيل: ضعها في رأس الثمانين والمائتين(5).

 

وعن ابن عباس أيضًا: قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا(6).

 

هذا ممّا لاختلاف فيه، كما صرّح بذلك أبو جعفر بن الزبير(7).

 

وربّما كانت السورة تفتتح، وقبل أن تكتمل تفتتح سورة أُخرى وتكتمل هذه الأخيرة قبل أن تكتمل الأُولى. وذلك كان بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبإشارته.

 

كما في سورة البقرة هي أُولى سورة ابتدأ نزولها بالمدينة بعد الهجرة.. لكنّها استمرّ نزولها سنوات حتى إلى ما بعد سنة الست.. إذ فيها الكثير من آيات نزلن في هذه الفترات المتأخّرة، منها آية ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ (8)... انّها نزلت عندما تحرّج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة لمكان أساف ونائلة عليهما، وكان المشركون وضعوهما على الجبلين يطوفون بهما ويلمسونها.. فنزلت الآية دفعًا لتوهّم الحظر.. الأمر الذي يستدعي نزولها بعد صلح الحديبيّة في عمرة القضاء(9) وهو عام الست من الهجرة.. أو لعلّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر بوضع الآية في هذا الموضع من السورة.. والله العالم.

 

وهكذا نزلت آيات الحج في نفس العام وثبتت في هذه السورة بالذات!

 

 

كما نجد آيات ثبتت في مواضع من السور، لا تلتئم وتاريخ نزولها، فهل كان ذلك بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) الخاصّ، أو لسبب آخر لا نعرفه؟ الأمر الذي نجهله حتى الآن...

 

* من ذلك ما نجده في سورة الممتحنة: تبتدئ السورة بآيات (1- 9) نزلت في العام الثامن بعد الهجرة، بشأن حاطب بن أبي بلتعة، كان قد كاتب قريشًا يخبرهم بتأهّب النبيّ (صلى الله عليه وآله) لغزو مكة، وكان النبيّ يحاول الإخفاء.

 

وتتعقّب هذه الآيات آيتان نزلتا بشأن سبيعة الأسلميّة عام السّت من الهجرة، كانت قد أتت النبيّ (صلى الله عليه وآله) مسلمة مهاجرة، تاركة زوجها الكافر، فجاء في طلبها، فاستعصمت بالنبيّ (صلى الله عليه وآله). وصادف مجيؤه صلح الحديبيّة، كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) عاهد قريشًا أن يردّ عليهم كلّ من يأتيه من مكة، فأخذ الزوج في محاجة النبيّ (صلى الله عليه وآله) قائلاً: اردد عليّ امرأتي على ما شرطت لنا وهذه طينة الكتاب لم تجف، فتحرّج النبيّ (صلى الله عليه وآله) في أمرها، فنزلت الآيتان.

 

وبعد هاتين الآيتين آيات نزلت بشأن مبايعة النساء عام الفتح وهي سنة التسع من الهجرة!

 

وأمّا الآية الأخيرة من السورة فإنّها ترتبط مع آيات الصدر تمامًا. ومن ثم قالوا: إنّ دراسة هذه السورة تعطينا خروجًا على النظم الطبيعي للآيات، من غير ما سبب معروف(10).

 

 * ومن ذلك أيضًا مانجده في سورة البقرة فيما يخصّ آيات الإمتاع والاعتداد، كان التشريع الأوّل في المرأة المتوفى عنها زوجها أن تعتدّ حولا كاملا ولا تخرج من بيت زوجها وكان ميراثها هو الإنفاق عليها ذلك الحول فقط، والآية التي نزلت بهذا الشأن هي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ (11). ثم نسخ هذا التشريع بآية الاعتداد: أربعة أشهر وعشرا من نفس السورة(12). وبآية المواريث(13)

 

قال الإمام الصادق (عليه السلام): نسختها - أي آية الامتناع - آية ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ نسختها آية المواريث(14) هذا وطبيعة النسخ تستدعي تأخّر الناسخ عن المنسوخ، في حين تقدّمه عليه بستّ آيات!

 

* وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ... ﴾. قيل: إنّها آخر آية نزلت على رسول (صلى الله عليه وآله) ولم يعش بعدها سوى بضعة أيام أو بضعة أسابيع. والآية مثبتة في سورة البقرة في حين أنّها أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، ونزلت بعدها نيف وعشرون سورة، وروي أنّ جبرئيل (عليه السلام) هو الذي أشار على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يضعها موضعها من البقرة. وقد تقدّم ذلك.

 

* وآية الإكمال: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(15). قال ابن عباس: لم ينزل بعدها فريضة. وكذا قال السدّي والجبائي والبلخي(16) وروي عن الإمامين الصادقين (عليهما السلام) أيضًا(17).

قال ابن عساكر والخطيب: إنّها نزلت في غدير خم عند منصرفه (صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع بعدما نصب عليًا (عليه السلام) بالولاية. فنزل بها جبرئيل (عليه السلام). وفي عبارة السدّي لم ينزل بعدها حلال ولا حرام.

 

وهذا وهي مثبتة في سورة المائدة برقم 3. وآيات الأحكام بعدها كثيرة: كآية تحليل الطيّبات والصيد برقم 4. وآية طعام أهل الكتاب برقم5. وآية الوضوء برقم 6. وآية السارق برقم 38. وآية الإيمان برقم 89. وآية الخمر برقم 90. وآية تحريم الصيد برقم 95. وآية تحريم ما حللّه المشركون برقم 103. وآية الإشهاد على الوصيّة برقم 107. كلّ ذلك أحكام تشريعيّة سجلت بعد آية الإكمال في حين أنّها نزلت قبلها قطعًا. فلابدّ هناك من مناسبة لإقحام مثل هذه الآية بين آيات تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وإن كنّا نجهلها في ظاهر الأمر.

 

وينبغي أن لا نتغافل جانب (أصالة السياق) في الآيات فإنّها محفوظة حسب طبيعتها الأوّلية، بمعنى أنّ أصل الأوليّ هو البناء على أنّ الترتيب القائم هو ترتيب النزول، إلاّ إذا ثبت خلافه بدليل، ولم يثبت إلاّ نادرًا...

 

ولأنّ ما ثبت قليلاً خلاف موضعه الأصلي، فإنما كان بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبإرشاده الخاصّ، فلابدّ من مناسبة ملحوظة في ذلك، وكفى بذلك في حكمة السياق..

 

وسنتعرّض لهذا الجانب بتفصيل عند الكلام عن سياق الآيات في فصل (الإعجاز البياني) إن شاء الله تعالى.

 

المصدر:

كتاب التمهيد في علوم القرآن، سماحة الشيخ محمد هادي معرفة.

 

 

1- تفسير العياشي: ج1 /ص19/ح5.

2- مستدرك الحاكم: ج1 ص231. وتاريخ اليعقوبي: ج2/ص27.

3- بحار الأنوار: ج52/ص339/ح85 عن ارشاد المفيد: ص 365.

4- الاتقان: ج1/ص62.

5- مجمع البيان: ج2/ص 394.

6- أخرجه الترمذي بطريق حسن، والحاكم بطريق صحيح- راجع البرهان: ج1/ص241 وراجع تاريخ اليعقوبي: ج2/ص36.

7- الإتقان: ج1/ص60.

8- البقرة/158.

9- روي ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) راجع تفسير العيّاشي: ج1/ص70/ح133، وراجع أيضًا تفسير الطبري: ج2/ص123.

10- بحار الأنوار: ج92/ص67.

11- البقرة/240.

12- البقرة/234.

13- النساء/12.

14- تفسير البرهان: ج1/ص232/ح1. ومستدرك الوسائل: ج3/ص20.

15- المائدة/3.

16- الدر المنثور: ج2/ص257 - ص259. ومجمع البيان: ج3/ص159.

17- مجمع البيان: ج3/ص159.