باب 22- الاحتجاج على المخالفين بإيراد الأخبار من كتبهم الأوّل

 ما ذكره أصحابنا رضوان اللّه عليهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يولّ أبا بكر شيئا من الأعمال مع أنّه كان يولّيها غيره، و لمّا أنفذه لأداء سورة براءة إلى أهل مكة عزله و بعث عليّا عليه السلام ليأخذها منه و يقرأها على الناس، و لمّا رجع أبو بكر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال له لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي.

فمن لم يصلح لأداء سورة واحدة إلى أهل بلدة كيف يصلح للرئاسة العامّة المتضمّنة لأداء جميع الأحكام إلى عموم الرعايا في سائر البلاد و سيأتي الروايات الواردة في ذلك مع الكلام فيها على وجه يناسب الكتاب في المجلد التاسع في باب مفرد. و ما أجابوا به من أنّه صلّى اللّه عليه و آله ولّاه الصلاة بالناس، فقد تقدّم القول فيه مفصّلا. و ما ذكره قاضي القضاة في المغني من أنّه لو سلّم أنّه لم يولّه لما دلّ ذلك على نقص و لا على أنّه لا يصلح للإمارة و الإمامة، بل لو قيل إنّه لم يولّه لحاجته إليه بحضرته و إنّ ذلك رفعة له لكان أقرب، سيّما و قد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله ما يدلّ على أنّهما وزيراه، فكان عليه السلام محتاجا إليهما و إلى رأيهما. و أجاب السيّد رضي اللّه عنه في الشافي بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن يستشير أحدا لحاجة منه إلى رأيه و فقر إلى تعليمه و توقيفه، لأنّه عليه و آله السلام، الكامل الراجح المعصوم المؤيّد بالملائكة، و إنّما كانت مشاورته أصحابه ليعلّمهم كيف يعملون في أمورهم، و قد قيل يستخرج بذلك دخائلهم و ضمائرهم. و بعد، فكيف استمرّت هذه الحاجة و اتّصلت منه إليهما حتّى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيولّيهما و هل هذا إلّا قدح في رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نسبة له إلى أنّه كان ممّن يحتاج إلى أن يلقّن و يوقف على كلّ شي‏ء، و قد نزّهه اللّه تعالى عن ذلك. فأمّا ادّعاؤه أنّ الرواية وردت بأنّهما وزيراه، فقد كان يجب أن يصحّح ذلك قبل أن يعتمده و يحتجّ به، فإذا ندفعه عنه أشدّ دفع. انتهى كلامه قدّس سرّه. و أقول الرواية التي أشار إليها القاضي هي

 ما رواها في المشكاة، عن الترمذي، عن أبي سعيد الخدري أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم قال ما من نبيّ إلّا و له وزيران من أهل السماء، و وزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل و ميكائيل، و أمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر و عمر.

و لا يخفى أنّه خبر واحد من طريق الخصم لا حجّة فيه، و وضع الحديث عادة قديمة، و قد قدّمنا الأخبار في ذلك. و حكى في جامع الأصول أنّ بعض أهل الضلال كان يقول بعد ما رجع عن ضلالته انظروا إلى هذه الأحاديث عمّن تأخذونها، فإنّا كنّا إذ رأينا رأيا وضعنا له حديثا. و قد صنّف جماعة من العلماء كتبا في الأحاديث الموضوعة.

 و حكي عن الصغاني من علماء المخالفين أنّه قال في كتاب الدّر الملتقط و من الموضوعات ما زعموا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم قال إنّ اللّه يتجلّى للخلائق يوم القيامة عامّة، و يتجلّى لك يا أبا بكر خاصّة، و أنّه قال حدّثني جبرئيل أنّ اللّه تعالى لمّا خلق الأرواح اختار روح أبي بكر من الأرواح.

ثم قال الصنعاني و أنا أنتسب إلى عمر بن الخطاب و أقول فيه الحقّ

 لقول النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم قولوا الحقّ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ.

فمن الموضوعات ما روي أنّ أوّل من يعطى كتابه بيمينه عمر بن الخطاب، و له شعاع كشعاع الشمس. قيل فأين أبو بكر. قال سرقته الملائكة. و منها من سبّ أبا بكر و عمر قتل، و من سبّ عثمان و عليّا جلد الحدّ.. إلى غير ذلك من الأخبار المختلفة. و من الموضوعات زر غبّا تزدد حبّا. النظر إلى الخضرة تزيد في البصر. من قاد أعمى أربعين خطوة غفر اللّه له. العلم علمان علم الأديان، و علم الأبدان. انتهى. و عدّ من الأحاديث الموضوعة الجنّة دار الأسخياء. طاعة النساء ندامة. دفن البنات من المكرمات. أطلب الخير عند حسان الوجوه. لا همّ إلّا همّ الدين و لا وجع إلّا وجع العين. الموت كفّارة لكلّ مسلم. إنّ التجّار هم الفجّار.. إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره. و بالجملة، قد عرفت مرارا أنّ الاحتجاج في مثل هذا إنّما يكون بالأخبار المتواترة أو المتّفق عليه بين الفريقين لا ما ذكره آحاد أحد الجانبين. ثم إنّ صاحب المغني ادّعى أنّ ولاية أبي بكر على الموسم و الحجّ قد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار، و لم يصحّ أنّه عزله، و لا يدلّ رجوع أبي بكر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مستفهما عن القصّة على العزل، ثم جعل إنكار من أنكر حجّ أبي بكر بالناس في هذه السنة كإنكار عبّاد بن سليمان و طبقته و أخذ أمير المؤمنين عليه السلام سورة براءة من أبي بكر. أقول

 روى ابن الأثير في جامع الأصول بإسناده عن أنس، قال بعث النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ ببراءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال لا ينبغي أن يبلغ عنّي إلّا رجل من أهل بيتي. و زاد رزين ثم اتّفقا فانطلقا.

و هذا يشعر بأنّه لم يثبت عنده مسير أبي بكر إلى مكة.

 و روى الطبرسي رحمه اللّه في مجمع البيان، عن عروة بن الزبير و أبي سعيد الخدري و أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذها من أبي بكر قبل الخروج و دفعها إلى عليّ عليه السلام، و قال لا يبلغ عنّي إلّا أنا أو رجل منّي.

 و قال و روى أصحابنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ولّاه أيضا الموسم، و أنّه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر.

و ستعرف أنّ أكثر أخبارهم خالية عن ذكر حجّ أبي بكر و عوده إلى الموسم، و كذا الأخبار الواردة من طرق أهل البيت عليهم السلام، فاستعظامه ذلك ممّا لا وجه له، بخلاف قول عبّاد بن سليمان لظهور شناعته. و قال السيّد رضي اللّه عنه لو سلّمنا أنّ ولاية الموسم لم تنسخ لكان الكلام باقيا، لأنّه إذا كان ما ولي مع تطاول الأزمان إلّا هذه الولاية ثم سلب شطرها و الأفخم الأعظم منها فليس ذلك إلّا تنبيها على ما ذكرنا. ثم إنّ إمامهم الرازي ترقّى في التعصّب في هذه الباب حتّى قال قيل قرّر أبا بكر على الموسم و بعث عليّا عليه السلام خليفة لتبليغ هذه الرسالة حتّى يصلّي خلف أبي بكر و يكون ذلك جاريا مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر، و اللّه أعلم. قال و قرّر الجاحظ هذا المعنى، فقال إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم بعث أبا بكر أميرا على الحاجّ و ولّاه الموسم، و بعث عليّا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة، فكان أبو بكر الإمام و عليّ المؤتمّ، و كان أبو بكر الخطيب و عليّ المستمع، و كان أبو بكر الرافع بالموسم و السائق لهم، و الآمر لهم و لم يكن ذلك لعليّ عليه السلام. انتهى. و أقول الطعن في هذا الكلام من وجوه الأوّل إنّ بقاء أبي بكر على إمارة الموسم ممنوع، كما مرّ و سيأتي. الثاني إنّ الإمارة على من جعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله من أهل الموسم بنفسها لا يقتضي صلاتهم خلف الأمير، فضلا عن اقتضائه فيمن لم يكن من أهل الموسم و بعثه الرسول صلّى اللّه عليه و آله أخيرا لتبليغ الآيات من اللّه سبحانه و من رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و خلوّ الأخبار من الصلاة ممّا لا سترة فيه. الثالث إنّ تقرير أبي بكر على الموسم لو دلّ على الأمر بالصلاة خلفه لم يثبت له فضيلة على ما زعموه من جواز الصلاة خلف كلّ برّ و فاجر. الرابع إنّ تفصيل إمارة الحاجّ على قراءة الآيات على الناس كما يشعر به كلام بعضهم باطل، إذ قراءة الآيات على الناس من المناصب الخاصّة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله أو من كان منه، كما يدلّ عليه لفظ أخبار المخالف و المؤالف، حيث قال صلّى اللّه عليه و آله لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي. و أمّا إمارة الحاجّ فيتولّاها كلّ برّ و فاجر، و ليس من شروطها إلّا نوع من الاطّلاع على ما هو الأصلح في سوق الإبل و البهائم و معرفة المياه و التجنّب عن مواضع اللصوص.. و نحو ذلك، و الفرق بين الأمرين غير خفيّ على عاقل لم يذهب التعصّب به مذاهب التعسّف. الخامس إنّ قوله فكان أبو بكر الإمام و عليّ المؤتمّ.. إن أراد به إمامة الصلاة فقد عرفت ما فيه، و إن أراد الإمامة في الحجّ، فالحجّ بنفسه ممّا لا يجري فيه الإمامة، و إن أراد كونه إماما من حيث إمارته على الموسم فلا نسلّم أنّ عليّا عليه السلام كان من المؤتمّين به، و مجرّد الرفاقة لا إمامة فيها، مع أنّ عود أبي بكر إلى الحجّ بعد رجوعه في محلّ المنع، و بقاؤه على الإمارة بعد تسليمه كذلك، كما

 عرفت. السادس إنّ إمارة الحاجّ لا تستلزم خطابة حتّى يلزم استماع المأمورين فضلا عن استماع من بعث لقراءة الآيات على مشركي مكة. السابع لو كان غرض الرسول صلّى اللّه عليه و آله بيان فضل أبي بكر و علوّ درجته حيث جعله سائقا لأهل الموسم و رافعا لهم لكان الأنسب أن يجعل عليّا عليه السلام من المأمورين بأمره أوّلا، أو يبعثه أخيرا و يأمره بإطاعة أمره و الانقياد له، لا أن يقول له خذ البراءة منه حتّى يفزع الأمير و يرجع إليه صلّى اللّه عليه و آله خائفا ذعرا من أن يكون نزل فيه ما يكون سببا لفضيحته و...، كما يدلّ عليه قوله أنزل فيّ شي‏ء و جوابه صلّى اللّه عليه و آله، كما لا يخفى على المتأمّل. الثامن إنّ ذلك لو كان منبّها على إمامة أبي بكر دالّا على فضله لقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع جزعا فزعا يا لكع أما علمت أنّي ما أردت بذلك إلّا تنويها بذكرك و تفضيلا لك على عليّ عليه السلام و تنبيها على إمامتك و كيف خفي ذلك على أبي بكر مع حضوره الواقعة و اطّلاعه على القرائن الحاليّة و المقاليّة، و كذا على أتباعه و القائلين بإمامته، و لم يفهمه أحد سوى الرازي و أشباهه. و أمّا ما تشبّث به المخالفون في مقام الدفع و المنع فمنها إنكار عزل أبي بكر عن أداء الآيات كما فعل عبّاد بن سليمان و الشارح الجديد للتجريد.. و أضرابهما. و أيّده بعضهم بأنّه لو عزل أبا بكر عن التأدية قبل الوصول إلى موضعها لزم فسخ الفعل قبل وقته و هو غير جائز. و أنت بعد الاطّلاع على ما سيأتي من أخبار الجانبين في ذلك لا ترتاب في أنّ ذلك الإنكار ليس إلّا للجهل الكامل بالآثار، و للتعصّب المفرط المنبئ عن خلع الغدار، و قد اعترف قاضي القضاة ببطلان ذلك الإنكار لإقرار الثقات من علمائهم بعزله و شهادة الأخبار به. و قال ابن أبي الحديد روى طائفة عظيمة من المحدّثين أنّه لم يدفعها إلى أبي بكر، لكن الأظهر الأكثر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعليّ عليه السلام فانتزعها منه. انتهى. و لم نظفر في شي‏ء من رواياتهم بما يدلّ على ما حكاه، و كان الأنسب أن يصرّح بالكتاب و الراوي حتّى لا يظنّ به التعصّب و الكذب. و أمّا حديث النسخ، فأوّل ما فيه إنّا لا نسلّم عدم جوازه، و قد جوّزه جمهور الأشاعرة و كثير من علماء الأصول، سلّمناه لكن لا نسلّم أمره صلوات اللّه عليه أبا بكر بتبليغ الآيات، و لعلّه أمره بحملها إلى ورود أمر ثان، أو تبليغها لو لم يرد أمر بخلافه، و لم يرد في الروايات أمر صريح منه صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ أبي بكر إيّاها مطلقا، و ورود النهي عن التأدية لا يدلّ على سبق الأمر بها ككثير النواهي، و لئن سلّمنا ذلك لا نسلّم كون الأمر مطلقا و إن لم يذكر الشرط، لجواز كونه منويّا و إن لم تظهر الفائدة. فإن قيل فأيّ فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر و هو لا يريد أن يؤدّيها، ثم ارتجاعها و هلّا دفعها ابتداء إلى عليّ عليه السلام. قلنا الفائدة ظهور فضل أمير المؤمنين عليه السلام و مزيّته، و أنّ الرجل الذي نزعت منه السورة لا يصلح له، و قد وقع التصريح بذلك في بعض الأخبار

 و إن كان يكفينا الاحتمال. و منها ما اعتذر به الجبائي، قال لمّا كانت عادة العرب أنّ سيّدا من سادات قبائلهم إذا عقد عهدا لقوم فإنّ ذلك العقد لا ينحلّ إلّا أن يحلّه هو أو بعض سادات قومه، فعدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين عليه السلام حذرا من أن لا يعتبروا نبذ العهد من أبي بكر لبعده في النسب. و تشبّث به جلّ من تأخّر عنه، كالفخر الرازي، و الزمخشري و البيضاوي و شارح التجريد.. و غيرهم. و ردّ عليهم أصحابنا بأنّ ذلك كذب صريح و افتراء على أصحاب الجاهليّة و العرب، و لم يعرف في زمان من الأزمنة أن يكون الرسول سيّما لنبذ العهد من سادات القوم و أقارب العاقد، و إنّما المعتبر فيه أن يكون موثوقا به، مقبول القول و لو بانضمام قرائن الأحوال، و لم ينقل هذه العادة من العرب أحد من أرباب السير و رواة الأخبار، و لو كانت موجودة في رواية أو كتاب لعيّنوا موضعها، كما هو الشأن في مقام الاحتجاج. و قد اعترف ابن أبي الحديد بأنّ ذلك غير معروف عن عادة العرب، و إنّما هو تأويل تأوّل به متعصّبو أبي بكر لانتزاع البراءة منه، و ليس بشي‏ء. انتهى. و ممّا يدلّ على بطلانه، أنّه لو كان ذلك معروفا من عادة العرب لما خفي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى بعث أبا بكر، و لا على أبي بكر و عمر العارفين بسنن الجاهليّة الذين يعتقد المخالفون أنّهما كانا وزيري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه كان لا يصدر عن شي‏ء و لا يقدم على أمر إلّا بعد مشاورتهما و استعلام رأيهما، و لو كان بعث أمير المؤمنين عليه السلام استدراكا لما صدر عنه على الجهل بالعادة المعروفة أو الغفلة عنها، لقال اللّه له اعتذر إلى أبي بكر، و ذكّره عادة الجاهليّة حتى لا يرجع خائفا يترقّب نزول شي‏ء فيه، أو كان يعتذر إليه بنفسه صلّى اللّه عليه و آله بعد رجوعه، بل لو كان كذلك فما غفل عنها الحاضرون من المسلمين حين بعثه و المطّلعون عليه، و لا احتاج صلّى اللّه عليه و آله إلى الاعتذار بنزول جبرئيل لذلك من عند اللّه تعالى. و قال ابن أبي الحديد في مقام الاعتذار، بعد ردّ اعتذار القوم بما عرفت لعلّ السبب في ذلك أنّ عليّا عليه السلام من بني عبد مناف، و هم جمرة قريش بمكّة، و عليّ أيضا شجاع لا يقام له، و قد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة و المخافة العظيمة، فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل و حوله من بني عمّه من هم أهل العزّ و القوّة و الحميّة، كان أدعى إلى نجاته من قريش و سلامة نفسه، و بلوغ الغرض من نبذ العهد على يده. و لا يخفى عليك أنّه تعليل عليل، إذ لو كان بعث أمير المؤمنين عليه السلام باجتهاد منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان الغرض سلامة من أرسل لتبليغ

 الآيات و نجاته كان الأحرى أن يبعث عمّه العباس أو عقيلا أو جعفرا أو غيرهم من بني هاشم ممّن لم يلتهب في صدور المشركين نائرة حقده لقتل آبائهم و أقاربهم، لا من كانوا ينتهزون الفرصة لقتله و الانتقام منه بأيّ وجه كان، و حديث الشجاعة لا ينفع في هذا المقام، إذ كانت آحاد قريش تجترئ عليه صلوات اللّه عليه في المعارك و الحروب، فكيف إذا دخل وحده بين جمّ غفير من المشركين. و أمّا من جعله من الدافعين الذابّين عنه عليه السلام من أهل مكّة فهم كانوا أعاظم أعاديه و أكابر معانديه، و أيضا لو كان الغرض ذلك لكان الأنسب أن يجعله أميرا على الحاجّ كما ذهب إليه قوم من أصحابنا، لا كما زعموه من أنّه لم يعزل أبا بكر عن الإمارة بل جعله مأمورا بأمره، كما مرّ. بل نقول الأليق بهذا الغرض بعث رجل حقير النفس خامل الذكر في الشجاعة من غير الأقارب حتّى لا يهمّوا بقتله، و لا يعدّوا الظفر عليه انتقاما و ثأرا لدماء من قتل الرسول صلّى اللّه عليه و آله من عشيرتهم و ذوي قراباتهم، مع أنّه لم تجر العادة بقتل من بعث إلى قوم لأداء رسالة، لا سيّما إذا كان ميّتا في الأحياء، غير معروف إلّا بالجبن و الهرب، و كيف لم يستشعر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك الذي ذكره حتّى أرسل أبا بكر ثم عزله و كيف اجترأ أبو بكر حتّى عرّض نفسه للهلكة مع شدّة جبنه و كيف غفل عنه عمر بن الخطاب الوزير بزعمهم المشير في عظائم الأمور و دقائقها مع شدّة حبّه لأبي بكر و لو كان الباعث ذلك لأفصح عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو غيره بعد رجوع أبي بكر أو قبله كما سبق التنبيه على مثله، هذا مع كون تلك التعليلات مخالفة لما صرّح به الصادقون، الذين هم أعرف بمراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله من ابن أبي الحديد و الجبائي و من اقتفى أثرهما. و قد حكى في كتاب الصراط المستقيم، عن كتاب المفاضح أنّ جماعة قالوا لأبي بكر أنت المعزول و المنسوخ من اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله عن أمانة واحدة، و عن راية خيبر، و عن جيش العاديات، و عن سكنى المسجد، و عن الصلاة، و لم ينقل أنّه أجاب و علّل بمثل هذه التعليلات. و العجب من هؤلاء المتعصّبين الذين يدفعون منقصة عن مثل أبي بكر بإثبات جهل أو غفلة عن عادة معروفة أو مصلحة من المصالح التي لا يغفل عنها آحاد الناس للرسول المختار الذي لا ينطق عن الهوى، و ليس كلامه إلّا وحيا يوحى، أو لا يجوز عليه السهو و النسيان، بل يثبتون ذلك له و لجميع أصحابه، نعوذ باللّه من التورّط في ظلم الضلالة و الانهماك في لجج الجهالة. و أعجب من ذلك أنّهم يجعلون تقديم أبي بكر للصلاة نصّا صريحا لخلافته مع ما قد عرفت ممّا فيه من وجوه السخافة و يتوقّفون في أن يكون مثل هذا التخصيص و التنصيص و الكرامة موجبا لفضيلة له عليه السلام، مع أنّهم رووا أنّ جبرئيل عليه السلام قال لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك. فإمّا أن يراد به الاختصاص التامّ الذي كان بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و بين أمير المؤمنين عليه السلام كما يدلّ عليه ما سيأتي و مضى من الروايات الواردة في أنّهما كانا من نور واحد،

 و ما اتّفقت عليه الخاصّة و العامّة من أنّه لمّا وقع منه عليه السلام ما وقع يوم أحد، قال جبرئيل يا محمّد إنّ هذه لهي المواساة. فقال صلّى اللّه عليه و آله إنّه منّي و أنا منه. فقال جبرئيل و أنا منكما

و لم يقل و إنّكما منّي.. رعاية للأدب و تنبيها على شرف منزلتهما، و قوله تعالى وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ في آية المباهلة

، و قوله صلّى اللّه عليه و آله لبني وليعة لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي..

و غير ذلك ممّا سيأتي. و إمّا أن يراد به الاختصاص الذي نشأ من كونه عليه السلام من أهل بيت الرسالة، و يناسبه ما ورد في بعض الروايات لا ينبغي أن يبلّغ عنّي إلّا رجل من أهل بيتي، أو ما نشأ من كثرة المتابعة و إطاعة الأوامر كما فهمه بعض الأصحاب و أيّده بقوله تعالى فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي و على أيّ التقادير يدلّ على أنّ من لم يتّصف بهذه الصفة لا يصلح للأداء عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كلّما كان هذا الاختصاص أبلغ في الشرف كان أكمل في إثبات الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام، و كلّما ضايق الخصم في كماله كان أتمّ في إثبات الرذيلة لأبي بكر، فلا نترّبص في ذلك إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، كما ذكره بعض الأفاضل. ثم إنّ المفعول المحذوف في هذا الكلام، إمّا أن يكون أمرا عامّا كما يناسب حذفه خرج ما خرج منه بالدليل فبقي حجّة في الباقي، أو يكون أمرا خاصّا هو تبليغ الأوامر المهمّة، أو يخصّ بتبليغ تلك الآيات، كما أدّعى بعض العامّة، و على التقادير الثلاثة يدلّ على عدم استعداد أبي بكر لأداء الأوامر عامّة عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أمّا على الأول فظاهر، و كذا على الثاني، لاشتمال الخلافة على تبليغ الأوامر المهمّة، و أمّا على الثالث فلأنّ من لم يصلح لأداء آيات خاصّة و عزل عنه بالنصّ الإلهي كيف يصلح لنيابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله في تبليغ الأحكام عامّة، و دعوة الخلائق كافّة. و لنكتف بذلك حذرا من الإطناب، و سيأتي تمام الكلام في ذلك في أبواب فضائله عليه السلام إن شاء اللّه تعالى.

الثاني التخلّف عن جيش أسامة.

قال أصحابنا رضوان اللّه عليهم كان أبو بكر و عمر و عثمان من جيش أسامة، و قد كرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا اشتدّ مرضه الأمر بتجهيز جيش أسامة و لعن المتخلّف عنه، فتأخّروا عنه و اشتغلوا بعقد البيعة في سقيفة بني ساعدة، و خالفوا أمره، و شملهم اللعن، و ظهر أنّهم لا يصلحون للخلافة. قالوا و لو تنزّلنا عن هذا المقام و قلنا بما ادّعاه بعضهم من عدم كون أبي بكر من الجيش. نقول لا خلاف في أنّ عمر منهم، و قد منعه أبو بكر من النفوذ معهم، و هذا كالأوّل في كونه معصية و مخالفة للرسول صلّى اللّه عليه و آله. أمّا أنّهم كانوا من جيش أسامة، فلما ذكره السيّد الأجلّ رضي اللّه عنه في الشافي من أنّ كون أبي بكر في جيش أسامة، قد ذكره أصحاب السير و التواريخ قال روى البلاذري في تاريخه و هو معروف ثقة كثير الضبط و بري‏ء من ممالأة الشيعة أنّ أبا بكر و عمر كانا معا في جيش أسامة.

 و روى سعيد بن محمد بن مسعود الكازراني من متعصّبي الجمهور في تاريخه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة، فلمّا كان من الغد دعا أسامة بن زيد، فقال له سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم مدّ الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فلمّا كان يوم الأربعاء بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحمّ و صدع، فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، ثم قال أغز بسم اللّه في سبيل اللّه، فقاتل من كفر باللّه. فخرج و عسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلّا انتدب في تلك الغزاة، فيهم أبو بكر و عمر و سعد بن أبي وقّاص و سعيد بن زيد و أبو عبيدة و قتادة بن النعمان، فتكلّم قوم و قالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غضبا شديدا، فخرج و قد عصّب على رأسه عصابة و عليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال أمّا بعد، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، و لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، و ايم اللّه إنّه كان للإمارة لخليقا، و إنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، و إن كان لمن أحبّ الناس إليّ فاستوصوا به خيرا فإنّه من خياركم. ثم نزل فدخل بيته، و ذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، و جاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يمضون إلى العسكر بالجرف، و ثقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجعه، فدخل أسامة من معسكره و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مغمى عليه، و في رواية قد أصمت و هو لا يتكلّم فطأطأ رأسه فقبّله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة. قال فعرفت أنّه يدعو لي، و رجع أسامة إلى معسكره، فأمر الناس بالرحيل، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمّه أمّ أيمن قد جاءه يقول إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يموت.. إلى آخر القصّة.

 و ذكر ابن الأثير في الكامل أنّ في المحرم من سنة إحدى عشرة ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعثا إلى الشام و أميرهم أسامة بن زيد.. و ذكر بعض ما مرّ، و صرّح بأنّه كان منهم أبو بكر و عمر، قال و هما ثبّتا الناس على الرضا بإمارة أسامة.

 و روى ابن أبي الحديد في شرح النهج، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن أحمد بن سيّار، عن سعيد بن كثير، عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عبد الرحمن، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرض موته أمّر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلّة المهاجرين و الأنصار، منهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجرّاح و عبد الرحمن بن عوف و طلحة و الزبير، و أمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد، و أن يغزوا وادي فلسطين، فتثاقل أسامة و تثاقل الجيش بتثاقله، و جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يثقل و يخف و يؤكّد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتّى قال له أسامة بأبي أنت و أمّي أ تأذن لي أن أمكث أيّاما حتّى يشفيك اللّه تعالى. فقال اخرج و سر على بركة اللّه تعالى. فقال يا رسول اللّه )ص( إنّي إن خرجت و أنت على هذه الحال خرجت و في قلبي قرحة منك. فقال سر على النصر و العافية. فقال يا رسول اللّه )ص( إنّي أكره أن أسأل عنك الركبان. فقال أنفذ لما أمرتك به.. ثم أغمي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قام أسامة فجهّز للخروج، فلمّا أفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل عن أسامة و البعث، فأخبر أنّهم يتجهّزون، فجعل يقول أنفذوا جيش أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه.. و يكرّر ذلك، فخرج أسامة و اللواء على رأسه و الصحابة بين يديه، حتّى إذا كان بالجرف نزل و معه أبو بكر و عمر و أكثر المهاجرين، و من الأنصار أسيد بن حضير و بشر بن سعد.. و غيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أمّ أيمن يقول له ادخل فإنّ رسول اللّه )ص( يموت، فقام من فوره فدخل المدينة و اللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات في تلك الساعة، قال فما كان أبو بكر و عمر يخاطبان أسامة إلى أن مات إلّا ب الأمير.

 و روى الطبري في المسترشد على ما حكاه في الصراط المستقيم أنّ جماعة من الصحابة كرهوا إمارة أسامة فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك فخطب و أوصى ثم دخل بيته، و جاء المسلمون يودّعونه فيلحقون بأسامة، و فيهم أبو بكر و عمر، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول أنفذوا جيش أسامة، فلمّا بلغ الجرف بعثت أمّ أسامة و هي أمّ أيمن أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يموت، فاضطرب القوم و امتنعوا عليه و لم ينفّذوا لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم بايعوا لأبي بكر قبل دفنه. و قال في الصراط المستقيم أيضا أسند الجوهري في كتاب السقيفة أنّ أبا بكر و عمر كانا فيه.

 و قال حدّث الواقدي، عن ابن أبي الزياد، عن هشام بن عروة أنّ أباه قال كان فيهم أبو بكر. قال و حدّث أيضا مثله، عن محمد بن عبد اللّه بن عمر. و ذكره البلاذري في تاريخه، و الزهري، و هلال بن عامر، و محمد بن إسحاق، و جابر، عن الباقر عليه السلام. و محمد بن أسامة، عن أميّة. و نقلت الرواة أنّهما كانا في حال خلافتهما يسلّمان على أسامة بالإمرة.

 و في كتاب العقد اختصم أسامة و ابن عثمان في حائط، فافتخر ابن عثمان، فقال أسامة أنا أمير على أبيك و صاحبيه، أ فإيّاي تفاخر، و لما بعث أبو بكر إلى أسامه يخبره بخلافته، قال أنا و من معي ما وليناك أمرنا، و لم يعزلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنكما، و أنت و صاحبك بغير إذني رجعتما، و ما خفي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله موضع، و قد ولّاني عليكما و لم يولّكما، فهمّ الأول أن يخلع نفسه فنهاه الثاني، فرجع أسامة و وقف بباب المسجد و صاح يا معاشر المسلمين عجبا لرجل استعملني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعزلني و تأمّر عليّ، انتهى كلامه.

 و قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل و النحل عند ذكر الاختلافات الواقعة في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخلاف الثاني أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال جهّزوا جيش أسامة، لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة. فقال قوم يجب علينا امتثال أمره، و أسامة قد برز من المدينة. و قال قوم قد اشتدّ مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلا تسع قلوبنا لمفارقته و الحال هذه، فنصبر حتّى نبصر أيّ شي‏ء يكون من أمره، انتهى.

و صرّح صاحب روضة الأحباب، بأنّ أبا بكر و عمر و عثمان كانوا من جيش أسامة.

 و قال الشيخ المفيد قدّس اللّه روحه في كتاب الإرشاد لمّا تحقّق لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دنوّ أجله ما كان قدم الذكر به لأمّته، فجعل صلّى اللّه عليه و آله يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذّرهم الفتنة بعده و الخلاف عليه، و يؤكّد وصاءتهم بالتمسّك بسنّته و الإجماع عليها و الوفاق، و يحثّهم على الاقتداء بعترته و الطاعة لهم و النصرة و الحراسة و الاعتصام بهم في الدين، و يزجرهم عن الاختلاف و الارتداد.. و ساق الكلام إلى قوله ثم إنّه عقد لأسامة بن زيد الإمرة، و أمره و ندبه أن يخرج بجمهور الأمّة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم، و اجتمع رأيه صلّى اللّه عليه و آله على إخراج جماعة من مقدّمي المهاجرين و الأنصار في معسكره حتّى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة، و يطمع في التقدّم على الناس بالإمارة ليستتبّ الأمر بعده لمن استخلفه من بعده، و لا ينازعه في حقّه منازع، فعقد له الإمرة على ما ذكرناه، و جدّ صلّى اللّه عليه و آله في إخراجهم، و أمر أسامة بالبروز عن المدينة بعسكره إلى الجرف، و حثّ الناس على الخروج إليه، و المسير معه و حذوهم من التلوّم و الإبطاء عنه، فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها.. و ساق الحديث إلى قوله و استمرّ المرض به أيّاما و ثقل، فجاء بلال عند صلاة الصبح و رسول اللّه مغمور بالمرض، فنادى الصلاة يرحمكم اللّه، فأوذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بندائه، فقال يصلّي بالناس بعضهم فإنّي مشغول بنفسي، فقالت عائشة مروا أبا بكر، و قالت حفصة مروا عمر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين سمع كلامهما، و رأى حرص كلّ واحدة منهما على التنويه بأبيها، و افتتانهما بذلك، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيّ اكففن فإنّكنّ كصويحبات يوسف، ثم قام صلّى اللّه عليه و آله مبادرا خوفا من تقدّم أحد الرجلين، و قد كان أمرهما بالخروج مع أسامة و لم يك عنده أنّهما قد تخلّفا، فلمّا سمع من عائشة و حفصة ما سمع علم أنّهما متأخّران عن أمره، فبدر الكفّ الفتنة و إزالة الشبهة، فقام صلّى اللّه عليه و آله و أنّه لا يستقلّ على الأرض من الضعف فأخذ بيده عليّ بن أبي طالب عليه السلام و الفضل بن عباس، فاعتمد عليهما و رجلاه يخطّان الأرض من الضعف، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر و قد سبق إلى المحراب، فأومأ إليه بيده أن تأخّر عنه، فتأخّر أبو بكر و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقامه، فقام و كبّر و ابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر، و لم يبن على ما مضى من فعاله، فلمّا سلّم انصرف إلى منزله، و استدعى أبا بكر و عمر و جماعة ممّن حضر المسجد من المسلمين، ثم قال أ لم آمر أن تنفذوا جيش أسامة. فقالوا بلى يا رسول اللّه )ص(. قال فلم تأخّرتم عن أمري. قال أبو بكر إنّي خرجت ثم رجعت لأجدّد بك عهدا. و قال عمر يا رسول اللّه )ص( إنّي لم أخرج، لأنّني لم أحبّ أن أسأل عنك الركب. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نفّذوا جيش أسامة.. يكرّرها ثلاثا.. إلى آخر ما مرّ في أبواب وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله

مع أخبار أخر أوردناها هناك، و قد تقدّم في هذا المجلد خبر الصحيفة المشتمل على تلك القصّة مفصّلا. هذا ما يتعلّق بكونهم في جيش أسامة و أمره )ص( بالخروج و لعنه المتخلّف. و أمّا عدم خروجهم و تخلّفهم فلا ينازع أحد فيه. و أمّا أنّ في ذلك قادح في خلافتهم، فلأنّهم كانوا مأمورين لأسامة ما دام لم يتمّ غرض الرسول صلّى اللّه عليه و آله في إنفاذ الجيش، فلم يكن لأبي بكر الحكم على أسامة، و الخلافة رئاسة عامّة تتضمّن الحكم على الأمّة كافة بالاتّفاق، فبطل خلافة أبي بكر، و إذا بطل خلافته ثبت بطلان خلافة عمر لكونها بنصّ أبي بكر، و خلافة عثمان لابتنائها على الشورى بأمر عمر. و أيضا لو لم تبطل خلافة الأخيرين لزم خرق الإجماع المركّب، و لأنّ ردّ كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله في وجهه كما سبق من أبي بكر و عمر و عدم الانقياد لأمره بعد تكريره الأمر إيذاء له صلّى اللّه عليه و آله، و قد قال اللّه عزّ و جلّ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ، و قال وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، و ذلك مع قطع النظر عن اللعن الصريح في ذلك الأمر كما اعترف به الشهرستاني و المستحقّ للّعن من اللّه و من رسوله لا يصلح للإمامة، و لو جوّزوا لعن خلفائهم صالحناهم على ذلك و اتّسع الأمر علينا. و أجاب قاضي القضاة في المغني بأنّا لا نسلّم أنّ أبا بكر كان في جيش أسامة، و لم يسند منعه إلى رواية و خبر، و ذكر له بعض المتعصّبين خبرا ضعيفا يدلّ بزعمه على أنّه لم يكن فيه. و قال ابن أبي الحديد كثير من المحدّثين يقولون كان أبو بكر من الجيش، و الأمر عندي في هذا الموضع مشتبه، و التواريخ مختلفة. و الجواب أنّ وروده في رواياتهم سيّما إذا كان جلّهم قائلين به مع اتّفاق رواياتنا عليه يكفينا في الاحتجاج و لا يضرّنا خلاف بعضهم. و أمّا استناد صاحب المغني في عدم كونه من الجيش بما حكاه عن أبي علي من أنّه لو كان أبو بكر من الجيش لما ولّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر الصلاة في مرضه مع تكريره أمر الجيش بالخروج و النفوذ، فقد عرفت ما في حكاية الصلاة من وجوه الفساد، مع أنّه لم يظهر من رواياتهم ترتيب بين الأمر بالتجهيز و الأمر بالصلاة، فلعلّ الأمر بالصلاة كان قبل الأمر بالخروج، أو كان في أثناء تلك الحال، فلم يدلّ على عدم كون أبي بكر من الجيش. و يؤيّده ما رواه ابن أبي الحديد من أنّه لم يجاوز آخر القوم الخندق حتّى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و لو بني الكلام على ما رويناه، فبعد تسليم الدلالة على التأخّر ينهدم به بنيان ما أسّسه، إذ يظهر منها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع صوت أبي بكر، و علم أنّه تأخّر عن أمره و لم يخرج، خرج متحاملا و أخّره عن المحراب و ابتدأ بالصلاة.

 ثم أجاب صاحب المغني بعد تسليم أنّه كان من الجيش بأنّ الأمر لا يقتضي الفور، فلا يلزم من تأخّره أن يكون عاصيا. و ردّ عليه السيّد رضي اللّه عنه في الشافي بأنّ المقصود بهذا الأمر الفور دون التراخي، أمّا من حيث مقتضى الأمر على مذهب من يرى ذلك لغة، و أمّا شرعا، من حيث وجدنا جميع الأمّة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أوامره صلّى اللّه عليه و آله على الفور، و يطلبون في تراخيها الأدلّة. قال على أنّ في قول أسامة لم أكن لأسأل عنك الركب.. أوضح دليل على أنّه عقل من الأمر الفور، لأنّ سؤال الركب بعد الوفاة لا معنى له. و أمّا قول صاحب الكتاب أنّه لم ينكر على أسامة تأخّره فليس بشي‏ء، و أيّ إنكار أبلغ من تكراره الأمر، و يزداده القول في حال يشغل عن المهمّ و يقطع عن الفكر إلّا فيها، و قد ينكر الآمر على المأمور تارة بتكرّر الأمر، و أخرى بغيره. و أيّده بما حكاه صاحب المغني عن أبي علي من الاستدلال على عدم كون أبي بكر من الجيش بأمر الصلاة و ابتناؤه على كون الأمر للفور واضح. و قد ارتضى صاحب المغني استدلاله. فهذا المنع مناقض له. أقول و من القرائن الواضحة على أنّهم فهموا من هذا الأمر الفور خروجهم عن المدينة مع شدّة مرضه صلّى اللّه عليه و آله إذ العادة قاضية بأنّه لو كان لهم سبيل إلى تأخير الخروج حتّى يستعلموا مصير الأمر في مرضه صلّى اللّه عليه و آله لتوسّلوا إليه بوسعهم، لاشتغال قلوبهم و حرصهم على العلم ببرئه، و استعلام حال الخلافة، و لخوفهم من وقوع الفتن في المدينة، و فيكون ما استخلفوه من الأموال و الأولاد معرضا للهلكة و الضياع، و قد كانوا وتروا العرب و أورثوهم الضغائن، و لعمري إنّهم ما خرجوا إلّا و قد ضاق الخناق عليهم، و بلغ أمره و حثّه صلّى اللّه عليه و آله لهم كلّ مبلغ، و نال التقريع و التوبيخ منهم كلّ منال، و ما سبق من رواية الجوهري واضح الدلالة على أنّ المراد هو الفور و التعجيل، و قد اعترف ابن أبي الحديد بأنّ الظاهر في هذا الموضع صحّة ما ذكره السيّد، لأنّ قرائن الأحوال عند من يقرأ السّير و التواريخ يدلّ على أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله كان يحثّهم على الخروج و المسير، انتهى. على أنّ التراخي إنّما ينفع له إذا كان أبو بكر قد خرج في الجيش و لو بعد حين، و لم يقل أحد بخروجه مطلقا. ثم أجاب صاحب المغني بعد تسليمه كون أبي بكر من الجيش بأنّ خطابه )ص( بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجّها إلى القائم بالأمر بعده، لأنّه من خطاب الأئمّة، و هذا يقتضي أن لا يكون المخاطب بالتنفيذ في الجملة. ثم قال و هذا يدلّ على أنّه لم يكن هناك إمام منصوص عليه، لأنّه لو كان لأقبل بالخطاب عليه، و خصّه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع. و يرد عليه أنّ المخاطب في هذا المقام إمّا الخليفة المنصوص عليه أو من يختاره الأمّة، و إمّا الجيش المأمور بالخروج، و إمّا جميع الحاضرين الجيش و غيرهم، و إمّا الجماعة الخارجة من الجيش بأمره صلّى اللّه عليه و آله، و على أيّ حال فالمأمور به إمّا إنفاذ الجيش حال حياته صلّى اللّه عليه و آله أو بعد وفاته، أو مطلقا. أمّا كون المخاطب الخليفة بقسميه مع كون المأمور به تنفيذ الجيش حال الحياة فباطل، لورود الخطاب بلفظ الجمع، و لأنّه لا حكم للخليفة في حياته صلّى اللّه عليه و آله من حيث الخلافة، و لأنّه لو كان المخاطب هو بعينه لأنكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله تأخّر القوم عن الخروج عليه لا على القوم، و المرويّ خلافه. و يخصّ القسم الثاني بأنّه لا معنى لخطاب من يختاره الأمّة بعد الوفاة بالأمر بتنفيذ الجيش حال الحياة، و هو واضح، و كذا على الإطلاق، و لو خوطب بالتنفيذ بعد الوفاة فبأمر من خرج الأصحاب حال حياته صلّى اللّه عليه و آله و لما ذا ينكر صلّى اللّه عليه و آله تخلّف من تخلّف و يحثّهم على الخروج و كذا لو كان المخاطب

 الإمام المنصوص. و لو كان المخاطب هو الجيش المأمور بالخروج فعلى الأقسام الثلاثة يكون الداخل فيهم عاصيا بالتخلّف حال الحياة أو بعدها أو مطلقا، و قد ثبت باعتراف الثقات عندهم دخول أبي بكر في الجيش، فثبت عصيانه بالتخلّف على أحد الوجوه، على أنّ هذا الكلام من صاحب المغني بعد تسليم كون أبي بكر من الجيش و لعلّه رجع عن ذلك التسليم معتمدا على دليله هذا، و هو كما ترى، و حينئذ يكون المراد بالتنفيذ في كلامه صلّى اللّه عليه و آله أو التجهيز على اختلاف الروايات إتمام أمر الجيش في بلوغه إلى حيث أمر به، فكلّ واحد منهم مكلّف بالخروج الذي هو شرط لتحقّق المأمور به و حصول الامتثال، و باجتماعهم في ذلك يحصل الغرض. و لا يذهب عليك أنّ القسم الثاني من هذه الثلاثة و إن كان مثبتا للمطلوب إلّا أنّه باطل، إذ لو كان المأمور به خروجهم بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله لما تركوه في شدّة المرض مع تعلّق القلوب باستعلام العاقبة في أمره صلّى اللّه عليه و آله و أمر الخلافة و ما خلّفوه كما سبق، و لما أنكر صلّى اللّه عليه و آله خروج من تخلّف منهم. و لو كان المخاطب جميع من حضر فمعنى التنفيذ و التجهيز أن يبذل كلّ منهم جهده في حصول المأمور به، فالمطلوب من الجيش الخروج، و من غيرهم تهيئة أسبابهم و حثّهم عليه، و فعل كلّ ما هو شرط فيه ممّا يدخل تحت طاقته و يعصي كلّ بترك ما أمر به، فمن كان داخلا في الجيش كالثلاثة بالتخلّف و من خرج بترك ما سبق. و لو كان المخاطب الجماعة التي لم تؤمر بالخروج فيهم، كما هو الأظهر من لفظ التنفيذ مع صيغة الجمع، فمع جريان بعض المفاسد السابقة فيه و بطلانه بأقسامه لا يغني صاحب المغني، إذ هو مخالف لما تعرّض لإثباته من كون الخطاب متوجّها إلى الأئمّة، و لا يلزم منه خروج أبي بكر عن المأمورين أيضا، و هو ممّا لم يقل به أحد. و لو سلّمنا توجّه هذا الخطاب إلى غير الجيش إما كان أو غيره، نقول لا ريب في أنّه متضمّن لأمر الجيش بالخروج، فعصيان من تخلّف من الداخلين فيه لازم على هذا الوجه، فعلى أيّ تقدير ثبت عصيان أبي بكر و اندفع كلام المجيب. و قوله لأنّه من خطاب الأئمّة.. إن أراد به أنّ الأمر بالتنفيذ لا يصلح لغير الأئمّة فقد عرفت ضعفه، و إن أراد أنّ الخطاب بصيغة الجمع لا يتوجّه إلى غيرهم، فالظاهر أنّ الأمر بالعكس، على أنّا لو ساعدناه على ذلك نقول إذا ثبت كون من تزعمه إماما من الجيش فبعد توجّه الخطاب إليه كان مأمورا بالخروج، عاصيا بتركه، و يكون معنى التنفيذ و التجهيز ما تقدّم، فإذا قلت بأنّ الخطاب على هذا الوجه لا يتوجّه إلّا إلى الأئمّة و يستدعي بخروج من توجّه إليه الخطاب، فبعد ثبوت أنّ أبا بكر كان من الجيش أو تسليمه كان ذلك دليلا على أنّه لا يصلح لأن يختاره الأمّة للإمامة، و أمّا توصّله بذلك إلى عدم النصّ فيتوجّه عليه أنّ كون الخطاب بصيغة الجمع محمولا على ظاهره مع توجّهه إلى الإمام يستلزم كون الإمام جماعة، و لم يقلّ به أحد، و لو فتحت به باب التأويل و أوّلته إلى من يصير خليفة باختياركم أوّلناه إلى من جعلته خليفة نبيّكم، مع أنّ توجّه الخطاب إلى الخليفة قد عرفت بطلانه بأقسامه. أقول قد تكلّم السيّد رحمه اللّه في الشافي و غيره من الأفاضل في هذا الطعن سؤالا و جوابا و نقضا و إبراما بما لا مزيد عليه، و اكتفينا بما أوردنا لئلّا نخرج عن الغرض المقصود من الكتاب، و كفى ما ذكرنا لأولي الألباب.

 الثالث ما جرى منه في أمر فدك،

و قد تقدّم القول فيه مفصّلا فلا نعيده.

الرابع

 أنّه قال عمر بن الخطاب مع كونه وليّا و ناصرا لأبي بكر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه

و لا يتصوّر في التخطئة و الذمّ أوكد من ذلك. و أجاب عنه قاضي القضاة في المغني لا يجوز لقول محتمل ترك ما علم ضرورة، و معلوم من حال عمر إعظام أبي بكر و القول بإمامته و الرضا ببيعته، و ذلك يمنع ممّا ذكروه، لأنّ المصوّب للشي‏ء لا يجوز أن يكون مخطّئا له. قال و قال أبو علي إنّ الفلتة ليست هي الزلّة و الخطيئة، بل هي البغتة و ما وقع فجأة من غير رويّة و لا مشاورة، و استشهد بقول الشاعر

من يأمن الحدثان مثل ضبيرة القرشيّ ماتاسبقت منيّته المشيب و كان ميتته افتلاتا

يعني بغتة من غير مقدّمة، و حكى عن الرياضي إنّ العرب تسمّي آخر يوم من شوال فلتة، من حيث إنّ كلّ من لم يدرك ثاره و طلبته فيه فاته لأنّهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثار، و ذو القعدة من الأشهر الحرم، فسمّوا ذلك اليوم فلتة، لأنّهم إذا أدركوا فيه ثارهم فقد أدركوا ما كاد يفوتهم، فأراد عمر على هذا أنّ بيعة أبي بكر تداركها بعد ما كادت تفوت. و قوله وقى اللّه شرّها.. دليل على تصويب البيعة، لأنّ المراد بذلك أنّ اللّه تعالى دفع شرّ الاختلاف فيها. قال فأمّا قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة و لا عدد يثبت صحّة البيعة به و لا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين ليدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه، و إذا احتمل ذلك وجب حمله على المعنى الذي ذكرنا و لم نتكلّف ذلك، لأنّ قول عمر يطعن في بيعة أبي ذلك، لأن قول عمر يطعن في بيعة أبي بكر و لا أن قوله حجّة عند المخالف، و لكن تعلّقوا به ليوهموا أنّ بيعته غير متّفق عليه، و أنّ أوّل من ذمّها من عقدها. انتهى ما ذكره أبو علي. و بمثل هذا الجواب أجاب الفخر الرازي في نهاية العقول،، و شارح المقاصد، و شارح المواقف و من يحذو حذوهم. و أورد السيّد الأجلّ رضي اللّه عنه على صاحب المغني بأنّ ما تعلّقت به من العلم الضروري برضا عمر ببيعة أبي بكر و إمامته.. فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنّه كان راضيا بإمامته، و ليس كلّ من رضي شيئا كان متديّنا به معتقدا لصوابه، فإنّ كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضرّ منها و إن كانوا لا يرونها صوابا، و لو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها، و قد علمنا أنّ معاوية كان راضيا ببيعة يزيد لعنه اللّه و ولايته العهد من بعده، و لم يكن متديّنا بذلك و معتقدا صحّته، و إنّما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، و لو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه آثر في نفسه و أقرّ لعينه. فإن ادّعى أنّ المعلوم ضرورة تديّن عمر ببيعة أبي بكر و أنّه أولى بالإمامة منه فهو مدفوع عن ذلك أشدّ دفع، مع أنّه قد كان يندر منه أعني عمر في وقت بعد آخر ما يدلّ على ما ذكرناه.

 و قد روى الهيثم بن عدي، عن عبد اللّه بن عباس الهمداني، عن سعيد ابن جبير، قال ذكر أبو بكر و عمر عند عبد اللّه بن عمر، فقال رجل كانا و اللّه شمسي هذه الأمّة و نوريها. فقال له ابن عمر و ما يدريك. فقال له الرجل أ و ليس قد ائتلفا. فقال ابن عمر بل اختلفا لو كنتم تعلمون، و أشهد أنّي كنت عند أبي يوما و قد أمرني أن أحبس الناس عنه، فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال عمر دويبة سوء و لهو خير من أبيه، فأوجسني ذلك، فقلت يا أبة عبد الرحمن خير من أبيه. فقال و من ليس خيرا من أبيه لا أمّ لك، ائذن لعبد الرحمن، فدخل عليه فكلّمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه و كان عمر قد حبسه في شعر قاله، فقال عمر إنّ الحطيئة لبذيّ فدعني أقوّمه بطول الحبس، فألحّ عليه عبد الرحمن و أبى عمر، و خرج عبد الرحمن فأقبل عليّ أبي، فقال أ في غفلة أنت إلى يومك هذا عمّا كان من تقدّم أحيمق بني تيم عليّ و ظلمه لي. فقلت يا أبة لا علم لي بما كان من ذلك. فقال يا بني و ما عسيت أن تعلم. فقلت و اللّه لهو أحبّ إلى الناس من ضياء أبصارهم. قال إنّ ذلك لكذلك على زعم أبيك و سخطه. فقلت يا أبة أ فلا تحكي عن فعله بموقف في الناس تبيّن ذلك لهم. قال و كيف لي بذلك مع ما ذكرت أنّه أحبّ إلى الناس من ضياء أبصارهم إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل. قال ابن عمر ثم تجاسر و اللّه فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس، فقال يا أيّها الناس إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللّه شرّها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه.

و روى الهيثم بن عدي أيضا، عن مجالد بن سعيد، قال غدوت يوما إلى الشعبي و إنّما أريد أن أسأله عن شي‏ء بلغني عن ابن مسعود أنّه كان يقول، فأتيته في مسجد حيّة و في المسجد قوم ينتظرونه فخرج، فتقرّبت إليه، و قلت أصلحك اللّه كان ابن مسعود يقول ما كنت محدّثا قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة. قال نعم، قد كان ابن مسعود يقول ذلك. و كان ابن عباس يقوله أيضا، و كان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها، و يصرفها عن غيرهم فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر و عمر، فضحك الشعبي و قال لقد كان في صدر عمر ضبّ على أبي بكر. فقال الأزدي و اللّه ما رأينا و لا سمعنا برجل قطّ كان أسلس قيادا لرجل و لا أقول بالجميل فيه من عمر في أبي بكر، فأقبل عليّ الشعبي فقال هذا ممّا سألت عنه، ثم أقبل على الرجل فقال يا أخا الأزد كيف تصنع بالفلتة التي وقى اللّه شرّها أ ترى عدوّا يقول في عدوّ يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر. فقال الرجل سبحان اللّه يا أبا عمرو و أنت تقول ذلك. فقال الشعبي أنا أقوله، قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد، فلمه أو دع فنهض الرجل مغضبا و هو يهمهم بشي‏ء لم أفهمه، فقال مجالد فقلت للشعبي ما أحسب هذا الرجل إلّا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس و يبثّه فيهم.. قال إذا و اللّه لا أحفل به، و شي‏ء لم يحفل به عمر بن الخطاب حين قام على رءوس المهاجرين و الأنصار أحفل به أنا و أنتم أيضا فأذيعوه عنّي ما بدا لكم.

 و روى شريك بن عبد اللّه النخعي، عن محمد بن عمرو بن مرّة، عن أبيه، عن عبد اللّه بن سلمة، عن أبي موسى الأشعري، قال حججت مع عمر بن الخطاب، فلمّا نزلنا و عظم الناس، خرجت من رحلي أريد عمر فلقيني مغيرة ابن شعبة فرافقني، ثم قال أين تريد. فقلت أمير المؤمنين عمر، فهل لك. قال نعم، قال فانطلقنا نريد رحل عمر، فإنّا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولي عمر، و قيامه بما هو فيه، و حياطته على الإسلام، و نهوضه بما قبله من ذلك، ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر، فقلت للمغيرة، يا لك الخير لقد كان أبو بكر مسدّدا في عمر كأنّه ينظر إلى قيامه من بعده و جدّه و اجتهاده و عنائه في الإسلام. فقال المغيرة لقد كان ذلك، و إن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه، و ما كان لهم في ذلك من حظّ. فقلت له لا أبا لك و من القوم الذين كرهوا ذلك من عمر. فقال لي المغيرة للّه أنت كأنّك في غفلة لا تعرف هذا الحيّ من قريش، و ما قد خصّوا به من الحسد. فو اللّه لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشار الحسد و للناس كلّهم عشر. فقلت مه يا مغيرة فإنّ قريشا بانت بفضلها على الناس.. و لم نزل في مثل ذلك حتّى انتهينا إلى رحل عمر بن الخطاب فلم نجده، فسألنا عنه، فقيل خرج آنفا، فمضينا نقفوا أثره حتّى دخلنا المسجد، فإذا عمر يطوف بالبيت، فطفنا معه، فلمّا فرغ دخل بيني و بين المغيرة فتوكّأ على المغيرة، و قال من أين جئتما. فقلنا يا أمير المؤمنين خرجنا نريدك فأتينا رحلك فقيل لنا خرج يريد المسجد فاتّبعناك. قال تبعكما الخير، ثم إنّ المغيرة نظر إليّ و تبسّم، فنظر إليه عمر فقال ممّ تبسّمت أيّها العبد. فقال من حديث كنت أنا و أبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك. فقال و ما ذاك الحديث.. فقصصنا عليه الخبر حتّى بلغنا ذكر حسد قريش و ذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلافه، فتنفّس الصّعداء، ثم قال ثكلتك أمّك يا مغيرة، و ما تسعة أعشار الحسد إنّ فيها لتسعة أعشار الحسد كما ذكرت و تسعة أعشار العشر، و في الناس عشر العشر، و قريش شركاؤهم في عشر العشر أيضا، ثم سكت مليّا و هو يتهادى بيننا، ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلّها. قلنا بلى يا أمير المؤمنين. قال أ و عليكما ثيابكما. قلنا نعم. قال و كيف بذلك و أنتما ملبسان ثيابكما. قلنا له يا أمير المؤمنين و ما بال الثياب. قال خوف الإذاعة من الثياب. فقلت له أ تخاف الإذاعة من الثياب، فأنت و اللّه من ملبسي الثياب أخوف، و ما الثياب أردت. قال هو ذلك، فانطلق و انطلقنا معه حتّى انتهينا إلى رحله فخلّى أيدينا من يده، ثم قال لا تريما.. ثم دخل، فقلت للمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه و ما كنّا فيه و ما رآه حبسنا إلّا ليذاكرنا إيّاها. قال فإنّا لكذلك إذ خرج إلينا آذنه، فقال ادخلا، فدخلنا، فإذا عمر مستلق على برذعة الرحل، فلمّا دخلنا أنشأ يتمثّل ببيت كعب ابن زهير

لا تفش سرّك إلّا عند ذي ثقة أولى و أفضل ما استودعت أسراراصدرا رحيبا و قلبا واسعا ضمنا لا تخش منه إذا أودعت إظهارا

فعلمنا أنّه يريد أن نضمن له كتمان حديثه، فقلت أنا له يا أمير المؤمنين أكرمنا و خصّنا وصلنا. فقال بما ذا يا أخا الأشعريّين. قلت بإفشاء سرّك إلينا و إشراكنا في همّك، فنعم المستسرّان نحن لك. فقال إنّكما لكذلك، فاسألا عمّا بدا لكما ثم قال فقام إلى الباب ليغلقه، فإذا آذنه الذي أذن لنا عليه في الحجرة، فقال امض عنّا لا أمّ لك، فخرج و أغلق الباب خلفه ثم جلس و أقبل علينا، و قال سلا تخبرا. قلنا نريد أن تخبرنا يا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي لم تأمن ثيابنا على ذكره لنا. فقال سألتما عن معضلة و سأخبركما، فليكن عندكما في ذمّة منيعة و حرز ما بقيت، فإذا متّ فشأنكما و ما أحببتما من إظهار أو كتمان. قلنا فإنّ لك عندنا ذلك. قال أبو موسى و أنا أقول في نفسي ما أظنّه يريد إلّا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة و غيره، فإنّهم قالوا لا يستخلف علينا فظّا غليظا، و إذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي. فعاد إلى التنفّس، فقال من تريانه. قلنا و اللّه ما ندري إلّا ظنّا. قال و من تظنّان. قلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الأمر عنك. قال كلّا و اللّه، بل كان أبو بكر أعقّ و أظلم، هو الذي سألتما عنه، كان و اللّه أحسد قريش كلّها، ثم أطرق طويلا فنظر إليّ المغيرة و نظرت إليه، و أطرقنا مليّا لإطراقه، و طال السكوت منّا و منه حتّى ظننّا أنّه قد ندم على ما بدا منه، ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تميم بن مرّة، لقد تقدّمني ظالما و خرج إليّ منها آثما. فقال له المغيرة أمّا تقدّمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه، فكيف خرج إليك منها آثما. قال ذلك لأنّه لم يخرج إليّ منها إلّا بعد يأس منها، أما و اللّه لو كنت أطعت زيد بن الخطاب و أصحابه لم يتلمّظ من حلاوتها بشي‏ء أبدا، و لكنّي قدّمت و أخّرت، و صعدت و صوّبت، و نقضت و أبرمت، فلم أجد إلّا الإغضاء على ما نشب به منها و التلهّف على نفسي، و أملت إنابته و رجوعه، فو اللّه ما فعل حتّى فرغ منها بشيما. قال المغيرة فما منعك منها يا أمير المؤمنين و قد عرضها عليك يوم السقيفة بدعائك إليها. ثم أنت الآن تنقم و تتأسّف. فقال ثكلتك أمّك يا مغيرة إنّي كنت لأعدّك من دهاة العرب، كأنّك كنت غائبا عمّا هناك، إنّ الرجل كادني فكدته، و ماكرني فماكرته، و ألفاني أحذر من قطاة، أنّه لمّا رأى شغف الناس به و إقبالهم بوجوههم عليه، أيقن أنّهم لا يريدون به بدلا، فأحبّ لمّا رأى من حرص الناس عليه و شغفهم به أن يعلم ما عندي، و هل تنازعني نفسي إليها، و أحبّ أن يبلوني بإطماعي فيها و التعريض لي بها، و قد علم و علمت لو قبلت ما عرضه عليّ لم يجب الناس إلى ذلك، فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا و لو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلى ذلك، و اختباها ضغنا عليّ في قلبه، و لم آمن غائلته و لو بعد حين، مع ما بدا لي من كراهة الناس لي، أ ما سمعت نداءهم من كلّ ناحية عند عرضها عليّ لا نريد سواك يا أبا بكر، أنت لها، فرددتها إليه فعند ذلك رأيته و قد التمع وجهه لذلك سرورا، و لقد عاتبني

 مرّة على كلام بلغه عنّي، و ذلك لمّا قدم عليه بالأشعث أسيرا فمنّ عليه و أطلقه و زوّجه أخته أمّ فروة بنت أبي قحافة، فقلت للأشعث و هو قاعد بين يديه يا عدوّ اللّه أكفرت بعد إسلامك، و ارتددت ناكصا على عقبيك، فنظر إليّ الأشعث نظرا شزرا علمت أنّه يريد أن يكلّمني بكلام في نفسي، ثم لقيني بعد ذلك في بعض سكك المدينة فرافقني، ثم قال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب. فقلت نعم يا عدوّ اللّه، و لك عندي شرّ من ذلك. فقال بئس الجزاء هذا لي منك. فقلت على م تريد منّي حسن الجزاء. قال لأنفتي لك من اتّباع هذا الرجل يريد أبا بكر، و اللّه ما جرأني على الخلاف عليه إلّا تقدّمه عليك، و لو كنت صاحبها لما رأيت منّي خلافا عليك. قلت و لقد كان ذلك فما تأمر الآن. قال إنّه ليس بوقت أمر، بل وقت صبر، و مضى و مضيت، و لقي الأشعث الزبرقان بن بدر السعدي فذكر له ما جرى بيني و بينه، فنقل الزبرقان ذلك إلى أبي بكر، فأرسل إليّ فأتيته، فذكر ذلك لي، ثم قال إنّك لتشوق إليها يا ابن الخطاب. فقلت و ما يمنعني الشوق إلى ما كنت أحقّ به ممّن غلبني عليه أما و اللّه لتكفّنّ أو لأكلّمنّ كلمة بالغة بي و بك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا، و إن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا. فقال بل تستديمه و إنّها لصائرة إليك بعد أيّام، فما ظننت أنّه يأتي عليه جمعة حتّى يردها عليّ، فتغافل و اللّه، فما ذكرني بعد ذلك المجلس حرفا حتى هلك، و لقد مدّ في أمدها عاضّا على نواجذه حتّى حضره الموت، فأيس منها فكان منه ما رأيتما، فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافّة و عن بني هاشم خاصّة، و ليكن منكما بحيث أمرتكما إذا شئتما على بركة اللّه، فمضينا و نحن نعجب من قوله، فو اللّه ما أفشينا سرّه حتّى هلك.

ثم قال السيّد رضي اللّه عنه فكأنّي بهم عند سماع هذه الروايات يستغرقون ضحكا تعجّبا و استبعادا و إنكارا و يقولون كيف يصغى إلى هذه الأخبار، و معلوم ضرورة تعظيم عمر لأبي بكر و وفاقه له و تصويبه لإمامته و كيف يطعن عمر في إمامة أبي بكر و هي أصل لإمامته و قاعدة لولايته و ليس هذا بمنكر ممّن طمست العصبية على قلبه و عينيه، فهو لا يرى و لا يسمع إلّا ما يوافق اعتقادات مبتدأة قد اعتقدها، و مذاهب فاسدة قد انتحلها، فما بال هذه الضرورة تخصّهم و لا تعمّ من خالفهم، و نحن نقسم باللّه على أنّا لا نعلم ما يدعونه، و نزيد على ذلك بأنّا نعتقد أنّ الأمر بخلافه، و ليس في طعن عمر على بيعة أبي بكر ما يؤدّي إلى فساد إمامته، لأنّه يمكن أن يكون ذهب إلى أنّ إمامته نفسه لم تثبت بالنصّ عليه، و إنّما تثبت بالإجماع من الأمّة و الرضا، فقد ذهب إلى ذلك جماعة من الناس، و يرى أنّ إمامته أولى من حيث لم تقع بغتة و لا فجأة، و لا اختلف الناس في أصلها، و امتنع كثير منهم من الدخول فيها حتّى أكرهوا و تهدّدوا و خوّفوا. و أمّا الفلتة، و إن كانت محتملة للبغتة على ما حكاه صاحب الكتاب و الزلّة، و الخطيئة، فالذي يخصّصها بالمعنى الذي ذكرناه قوله وقى اللّه شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، و هذا الكلام لا يليق بالمدح و هو بالذمّ أشبه، فيجب أن يكون محمولا على معناه. و قوله إنّ المراد بقوله وقى اللّه شرّها.. إنّه دفع شرّ الاختلاف فيها عدول عن الظاهر، لأنّ الشرّ في ظاهر الكلام مضاف إليها دون غيرها. و أبعد من هذا التأويل قوله إنّ المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة و أكره المسلمين عليها فاقتلوه، لأنّ ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم، لأنّ كلّ ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم، و قد كان يجب على هذا أن يقول من عاد إلى خلافها فاقتلوه، و ليس له أن يقول إنّما أراد بالتمثيل وجها واحدا، و هو وقوعها من غير مشاورة لأنّ ذلك إنّما تمّ في أبي بكر خاصّة، لظهور أمره و اشتهار فضله، و لأنّهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة، و ذلك لأنّه غير منكر أن يتّفق من ظهور فضل غير أبي بكر و اشتهار أمره، و خوف الفتنة ما اتّفق

 لأبي بكر، فلا يستحقّ قتلا و لا ذمّا، على أنّ قوله مثلها.. يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه، و كيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية و أسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة، و من غير ضرورة و لا أسباب. و الذي رواه عن أهل اللغة من أنّ آخر يوم من شوّال يسمّى فلتة، من حيث إنّ كلّ من لم يدرك فيه ثاره فقد فاته.. فإنّا لا نعرفه، و الذي نعرفه أنّهم يسمّون الليلة التي ينقضي بها أحد الشهور الحرم و يتمّ فلتة، و هي آخر ليلة من ليالي الشهر، لأنّه ربّما رأى قوم الهلال لتسع و عشرين و لم يبصره الباقون فيغيّر هؤلاء على أولئك و هم غارّون، فلهذا سمّيت هذه الليلة فلتة، على أنّا قد بيّنا أنّ مجموع الكلام يقتضي ما ذكرنا من المعنى، و لو سلّم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة. و قوله في أول الكلام ليست الفلتة الزلّة و الخطيئة.. إن أراد أنّها لا تختصّ بذلك فصحيح، و إن أراد أنّها لا تحتمله فهو ظاهر الخطإ، لأنّ صاحب العين قد ذكر في كتابه أنّ الفلتة من الأمر الذي يقع على غير إحكام. و بعد، فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنّه المخالفون، لكان ذلك عائدا عليه بالنقص، لأنّه وضع كلامه في غير موضعه، و أراد شيئا فعبّر عن خلافه، فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلّا بأن يكون طعنا على عمر. انتهى. و لنوضح بعض ما تقدّم في كلام السيّد، و ما أورده من الروايات قوله قد كان يندر من عمر.. أي يسقط و يقع. قال في النهاية في حديث عمر »إنّ رجلا ندر في مجلسه فأمر القوم كلّهم بالتّطهير لئلّا يخجل الرّجل«. قال معناه أنّه ضرط كأنّها ندرت منه من غير اختيار. و دويبة سوء بفتح السين بالإضافة، و فيه دلالة على غباوة عبد الرحمن للتصغير و على حمقه لكون اللفظة تصغير الدابة، و على خبث طينته للإضافة إلى السوء. و الوجس كالوعد الفزع، و أوجسني.. أي أفزعني. و البذاء بالمدّ الفحش و الكلام القبيح، و يقال فلان بذيّ كغنيّ و بذيّ اللّسان. و يرضح رأس أبيك.. أي يكسر و يدقّ، من الرضح بالراء و الضاد المعجمة و الحاء المهملة أو بالخاء المعجمة. و الجندل كجعفر الحجارة. و تجاسر فجسر.. أي اجترأ فأقدم على إظهار ما كان في ضميره. و الضّبّ بالفتح الحقد و الغيظ، و لا أحفل به.. أي لا أبالي. و بالك الخير بالباء.. أي قلبك و شأنك، و يحتمل الياء، حرف النداء بحذف المنادى أي يا هذا لك الخير أو يا من لك الخير، و في بعض النسخ ما لك الخير. و الصّعداء بضمّ الصاد و فتح العين و المدّ تنفّس ممدود. و سكت مليّا.. أي طائفة من الزّمان. و يتهادى بيننا.. أي يمشي بيننا معتمدا علينا. و الإذاعة الإفشاء. و لا تريما.. أي لا تبرحا، يقال رام يريم إذا برح و زال عن مكانه. و العثرة الزّلّة، و عثرنا بكلامنا.. أي أخطأنا في حكاية كلامنا. و برذعة الرّحل الكساء الذي يلقى تحت الرّحل على رحل البعير. و وا لهفاه كلمة يتحسّر بها.

 و الضّئيل الحقير السّخيف. و خرج إليّ منها.. أي تركها لي و سلّمها إليّ. و التّلمّظ تتّبع بقيّة الطّعام في الفم باللّسان، و المعنى لم يذق من حلاوتها أبدا. و التّصوّب النّزول، و المراد قلبت هذا الأمر ظهرا لبطن، و تفكّرت في جميع شقوقه. و الإغضاء في الأصل إدناء الجفون. و نشب.. أي علق، و المعنى لم أجد بدّا من الصبر على الشدّة كما يصبر الإنسان على قذى في عينه أو شجا في حلقه. قوله حتى فرغ منها.. في بعض النسخ فغربها.. أي فتح فاه. و البشم بالباء الموحّدة و الشين المعجمة التّخمة. و السّئام.. أي لم يسلّمها إليّ إلّا بعد استيفاء الحظّ و السأم منها. و نقم.. أي كره كراهة بالغة حدّ السخط. و الدّهاء النّكر وجودة الرّأي. و الشغف بالغين المعجمة و المهملة شدّة الحبّ. و يبلوني.. أي يمتحنني و يختبرني. و الأخمص ما لم يصب الأرض من القدم. و الوفز العجلة، و المستوفز الّذي يقعد قعودا منتصبا غير مطمئنّ.. أي أوجدني متهيّئا للإقدام و النهوض منتظرا للفرصة غير غافل. و اختباها.. أي ادّخرها. و الغائلة الدّاهية. و النّظر الشّزر النّظر بمؤخّر العين. و الأنفة الاستنكاف و كراهة الشّي‏ء للحمية و لغيره. و أمد الشّي‏ء غايته. و النّواجذ أقاصي الأسنان، و العضّ عليها كناية عن شدّة التّعلّق و التّمسّك بالشّي‏ء. ثم اعلم أنّ ابن أبي الحديد بعد ما ذكر كلام السيّد رضي اللّه عنه قال ما حاصله إنّه لا يبعد أن يقال إنّ الرضا و السخط و الحبّ و البغض و ما شاكل ذلك من الأخلاق النفسانيّة و إن كانت أمورا باطنة فإنّها قد تعلم و تضطرّ الحاضرون إلى حضولها بقرائن أحوال يفيدهم العلم الضروريّ، كما يعلم خوف الخائف و سرور المبتهج... فغير منكر أن يقول قاضي القضاة إنّ المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر و رضاه بخلافته و تديّنه بذلك، فالذي اعترضه السيّد به غير وارد عليه، و أمّا الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة ما رأيناها في الكتب المدوّنة إلّا في كتاب المرتضى و كتاب المستبشر لمحمد بن جرير الطبري الذي هو من رجال الشيعة.. و أنت تعلم حال الأخبار الغريبة التي لا توجد في الكتب المدوّنة، كيف هي. و أورد عليه أنّ الأمور الباطنة و الصفات النفسانيّة لا ريب في أنّها قد تظهر أحيانا بظهور آثارها و شهادة القرائن عليها، لكن الاطّلاع عليها سيّما على وجه العلم بها و الجزم بحصولها أمر متعسّر، سيّما إذا قامت الدواعي إلى إخفائها و تعلّق الغرض بسترها، و أكثر ما يظنّ به العلم في هذا الباب فهو من قبيل الظن، بل من قبيل الوهم، و جميعها و إن اشتركت في تعسّر العلم بها إلّا أنّه في بعضها سيّما في بعض الأشخاص، و في بعض الأحوال أشدّ و كثيرا ما يظنّ المخالطون لرجل و خواصّه و بطانته في دهر طويل أنّه يتديّن بدين أو يحبّ أحدا أو يبغضه ثم يظهر خلافه، و الدواعي إلى إخفاء عمر بغضّ أبي بكر أو عدم التديّن بخلافته أمر واضح لا سترة به، فإنّه كان أساسا لخلافته واصلا لإمارته، و مع ذلك كانت

 خلافة أبي بكر وسيلة إلى ما هو مقصدهم الأقصى، و قرّة عيونهم من دفع أهل البيت عليهم السلام عن هذا المقام، فكان قدح عمر في أبي بكر تخريبا لهذا الأساس و مناقضا لذلك الغرض، و لم يكن كارها لخلافة أبي بكر إلّا لأنّه كانت خلافة نفسه أحبّ إليه و أقرّ لعينه كما يظهر من كلام السيّد رضي اللّه عنه و من رواياته. و من نظر بعين الإنصاف علم أنّ تعظيم عمر لأبي بكر و إظهاره الرضا بإمارته مع كونها وسيلة لانتقال الأمر إليه و صرفه عن أهل البيت لا دلالة فيه بوجه من الوجوه على تديّنه بإمامة أبي بكر، و كونها أحبّ إليه من خلافة نفسه، و إنّ ما ادّعوا من العلم الضروري في ذلك ليس إلّا عتوّا في التعصّب و علوّا في التعسّف. لا يقال إذا كانت خلافة أبي بكر أساسا لخلافة عمر و سببا لدفع عليّ عليه السلام عنها فكيف كان عمر مع شدّة حيلته و دهائه يقول على رءوس الأشهاد كانت بيعة أبي بكر فلتة بالمعنى الذي زعمتموه و كيف يظهر مكنون ضميره لأبي موسى و المغيرة و غيرهما كما يدلّ عليه الروايات المذكورة. لأنّا نقول أمّا إفشاؤه ما أسرّ في نفسه إلى أبي موسى و المغيرة و ابن عمر فلم يكن مظنّة للخوف على ذهاب الخلافة، إذ كان يعرفهم بحبّهم له و ثيق بأنّهم لا يظهرون ذلك إلّا لأهله، و لو أظهروه لأنكر عليهم عامّة الناس، فلم يبال بإفشائه إليهم. و أمّا حكاية الفلتة، فكانت بعد استقرار خلافته و تمكّن رعبه و هيبته في قلوب الناس، و قد دعاه إليها أنّه سمع أنّ عمّار بن ياسر كان يقول لو قد مات عمر لبايعت عليّا عليه السلام كما اعترف به الجاحظ، و حكاه عنه ابن أبي الحديد قال و قال غيره.. إنّ المعزوم على بيعته لو مات عمر كان طلحة ابن عبيد اللّه، و يدلّ على أنّ قصّة الفلتة كانت لمثل ذلك ما في رواية طويلة رواها البخاري و غيره من قول عمر في خطبته أنّه بلغني أنّ قائلا منكم يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا، فلا يغرّنّ امرأ أن يقول إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة و تمّت، فلقد كان كذلك، و لكن وقى اللّه شرّها. فخاف من بطلان ما مهّدوه و عقدوا عليه العهود و المواثيق من بذل الجهد و استفراغ الوسع في صرف الأمر عن أمير المؤمنين عليه السلام و منعه عنه، و مع ذلك هاج الضغن الكامن في صدره فلم يقدر على إخفائه و الصبر عليه، فظهر منه مثل هذا الكلام. و أمّا ما ذكره من أنّ الأخبار التي رواها السيّد رضي اللّه عنه غير موجودة في الكتب، فليس غرضه من إيرادها إلّا نوع تأييد لما ذكره من أنّ ادّعاءهم العلم الضروريّ من قبيل المجازفة، و من راعى جانب الإنصاف و جانب الاعتساف علم أنّ الأمر كما ذكره. ثم قال ابن أبي الحديد اعلم أنّ هذه اللفظة و أمثالها كان عمر يقولها بمقتضى ما جبله اللّه تعالى عليه من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة، و لا حيلة له فيها، لأنّه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها. و لا ريب عندنا أنّه كان يتعاطى أن

 يتكلّف و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع الجاسي و الغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات، و لا يقصد بها سوءا و لا يريد بها تخطئة و لا ذمّا، كما قدّمناه في اللفظة التي قالها في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كاللفظات التي قالها عام الحديبيّة.. و غير ذلك، و اللّه تعالى لا يجازي المكلّف إلّا بما نواه، و لقد كانت نيّته من أظهر النيّات و أخلصها للّه سبحانه و المسلمين، و من أنصف علم أنّ هذا الكلام حقّ. و يرد عليه أنّ اقتضاء الطبيعة و استدعاء الغريزة الّتي جعله معذّرة له إن أراد أنّه بلغ إلى حيث لم يبق لعمر معه قدرة على إمساك لسانه عن التكلّم بخلاف ما في ضميره، بل كان يصدر عنه الذّم في مقام يريد المدح، و الشتم في موضع يريد الإكرام، و يخرج بذلك عن حدّ التكليف، فلا مناقشة في ذلك، لكن مثل هذا الرجل يعدّه العقلاء في زمرة المجانين، و لا خلاف في أنّ العقل من شروط الإمامة. و إن أراد أنّه يبقى مع ذلك ما هو مناط التكليف فذلك ممّا لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فإنّ إبليس استكبر على آدم بمقتضى الجبلّة الناريّة و مع ذلك استحقّ النار و شملته اللعنة إلى يوم الدين، و الزاني إنّما يزني بمقتضى الشهوة التي جبله اللّه عليها و لا حيلة له فيها، و مع ذلك يرجم و لا يرحم. و نعم ما تمسّك به في إصلاح هذه الكلمة من قول عمر في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ الرجل ليهذو، أو إنّ الرجل ليهجر، و ردّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسبنا كتاب اللّه، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى. و هذا في الحقيقة تسليم لما ذكره السيّد رضي اللّه عنه من أنّه لا يخرج هذا الكلام من أن يكون طعنا على أبي بكر إلّا بأن يكون طعنا على عمر. ثم قال ابن أبي الحديد و قول المرتضى قد يتّفق من ظهور فضل غير أبي بكر، و خوف الفتنة ما اتّفق لأبي بكر فلا يستحقّ القتل، فإنّ لقائل أن يقول إنّ عمر لم يخاطب بهذا إلّا أهل عصره، و كان يذهب إلى أنّه ليس فيهم كأبي بكر، و لا من يحتمل له أن يبايع فلتة كما احتمل ذلك لأبي بكر، فإن اتّفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله، و يكون في زمانه كأبي بكر في زمانه فهو غير داخل في نهي عمر و تحريمه. و يرد عليه ظاهر مثل هذا الخطاب عمومه لما بعد عصر الخطاب، و لذلك لم يخصّص أحد ما ورد في الأخبار من الأوامر و النواهي بزمان دون آخر. و لو فرضنا اختصاص الحكم بأهل ذلك العصر نقول من أين كان يعلم عمر أنّ مدّة خلافته و العياذ باللّه لا يمتدّ حينا من الدهر يظهر للناس من فضل رجل من أهل ذلك العصر مثل ما ظهر لأبي بكر حتّى لا يستحقّ من دعا إلى بيعته القتل، فإنّ ظهور الفضل الذي زعمه لأبي بكر لم يكن ثابتا له في جميع عمره، بل إنّما توهّمه فيه من توهّم بعد حين و زمان، و لم يكن عمر خطب بهذه الخطبة عند علمه بموته حتّى يعلم أنّه ليس في أهل العصر من تمدّ إليه الأعناق مثل أبي بكر فإنّه خطب بها أوّل جمعة دخل المدينة بعد انصرافه من الحجّ، و لم يكن طعنه أبو لؤلؤة حتّى يعلم أنّه سيموت و لا يبقى زمانا يمكن فيه ظهور فضل رجل من أهل العصر فكان اللائق أن يقيّد كلامه ببعض القيود و لا يهمل ذكر الشروط.

 و لا يخفى أنّ ما جعله ابن أبي الحديد عذرا لعمر من أنّه ليس فيهم كأبي بكر باطل على مذهبه، فإنّه يرى أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من أبي بكر، على أنّ اشتراط بلوغ الفضل إلى ما بلغه أبو بكر لو سلّم له فضل باطل من أصله، إذ لا يشترط في الإمام على رأي من شرط أفضليّة الإمام إلّا كونه أفضل أهل زمانه لا كونه مثل من كان إماما في زمان من الأزمان، و بطلان القول بأنّه لم يكن في جملة المخاطبين حينئذ و إن فرض تخصيص الخطاب بأهل ذلك العصر من سبق غيره إلى الخيرات، أظهر من أن يخفى على أحد. و قال في جامع الأصول في تفسير الفلتة الفجأة، و ذلك أنّهم لم ينتظروا ببيعة أبي بكر عامّة الصحابة، و إنّما ابتدرها عمر و من تابعه. قال و قيل الفلتة آخر ليلة من الأشهر الحرم فيختلفون فيها أمن الحلّ هي أم من الحرام فيسارع الموتور إلى درك الثار فيكثر الفساد و يسفك الدماء، فشبّه أيّام رسول اللّه )ص( بالأشهر الحرم، و يوم موته بالفلتة في وقوع الشرّ من ارتداد العرب، و تخلّف الأنصار عن الطاعة، و منع من منع الزكاة، و الجري على عادة العرب في أن لا يسود القبيلة إلّا رجل منها. و يجوز أن يريد بالفلتة الخلسة، يعني أنّ الإمامة يوم السقيفة مالت إلى تولّيها الأنفس و لذلك كثر فيها التشاجر، فما قلّدها أبو بكر إلّا انتزاعا من الأيدي و اختلاسا، و مثل هذه البيعة جديرة أن تكون مهيّجة للفتن، فعصم اللّه من ذلك و وقى شرّها، و ذكر مثل ذلك في النهاية. و أقول إن سلّمنا أنّ لفظة الفلتة لا تدلّ على الذمّ، و أنّه إنّما أراد بها محض حقيقتها في اللغة، و هو الأمر الّذي يعمل فجأة من غير تردّد و لا تدبّر و كان مظنّة للشرّ و الفساد، ففي قوله وقى اللّه شرّها، و أمره بقتل من دعا إلى مثلها، دلالة على أنّه زلّة قبيحة و خطيئة فاحشة، فالمستفاد من اللفظة بمجرّدها و إن كان أعمّ من الزلّة و الخطيئة إلّا أنّه حمل عليها، بل على أخصّ منها، لما هو في قوّة المخصّصة له، فليس كلّ زلة و خطيئة يستحقّ فاعلها القتل، و من له أدنى معرفة بأساليب الكلام يعلم أنّهم يكتفون في حمل اللفظ على أحد المعاني في صورة الاشتراك بأقلّ ممّا في هذا الكلام، و قول عمر من دعاكم إلى مثلها فاقتلوه.. و من عاد إلى مثلها فاقتلوه.... و إن لم يكن موجودا فيما حكاه في جامع الأصول عن البخاري إلّا أنّ كونه من تتمّة كلامه من المسلّمات عند الفريقين، و اعترف به ابن أبي الحديد، و لا يريب عاقل في أنّه لو وجد المتعصّبون منهم كقاضي القضاة و الفخر الرازي و صاحب المواقف و شارحه و صاحب المقاصد و شارحه و غيرهم سبيلا إلى إنكاره لما فاتهم ذلك، و لا احتاجوا إلى التأويلات الركيكة

 الباردة. و من تتبّع كتاب البخاري علم أنّ عادته في الروايات المشتملة على ما ينافي آراءهم الفاسدة إسقاطه من الرواية أو التعبير بلفظ الكناية تلبيسا على الجاهلين، بل يترك الروايات المنافية لعقائدهم رأسا، و قد قال ابن خلكان في ترجمة البخاري أنّه قال صنّفت كتابي الصحيح من ستمائة ألف حديث، و نحوه قال في جامع الأصول، و روى عن مسلم أنّه أخرج صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، و عن أبي داود أنّه انتخب ما أورده في كتابه من خمسمائة ألف حديث. و من سنّة القوم تسمية ما يخالف عقائدهم بغير الصحيح، و لمّا كان اهتمام البخاري في هذا المعنى أكثر من سائر من زعموا أنّ أخبارهم من صحاح الأخبار، فلذلك رفض المخالفون أكثر كتبهم في الأخبار، و عظّموا كتاب البخاري مع رداءته في ترتيب الأبواب و ركاكته في عنوانها غاية التعظيم، و قدّموه على باقي الكتب، و مع ذلك بحمد اللّه لا يشتبه على من أمعن النظر فيه و في غيره من كتبهم أنّها مملوّة من الفضائح، و مشحونة بالاعتراف بالقبائح. و أمّا ما ذكره في تفسير الفلتة بآخر الأشهر الحرم و توجيهه في ذلك، فقد عرفت ما فيه، و ما ذكره من تفسيره بالخلسة فهو تفسير صحيح، إلّا أنّ الحقّ أنّها خلسة و سرقة عن ذي الحق لا عن النفوس التي مالت إلى تولّي الإمامة، فإنّهم كانوا أيضا من السارقين، و الأخذ من السارق لا يسمّى اختلاسا، و هو واضح.

 الخامس

 أنّه ترك إقامة الحدّ و القود في خالد بن الوليد و قد قتل مالك بن نويرة و ضاجع امرأته من ليلته، و أشار إليه عمر بقتله و عزله، فقال إنّه سيف من سيوف اللّه سلّه اللّه على أعدائه. و قال عمر مخاطبا لخالد لئن وليت الأمر لأقيدنّك له.

و قال القاضي في المغني ناقلا عن أبي عليّ أنّ الردّة قد ظهرت من مالك، لأنّ في الأخبار أنّه ردّ صدقات قومه عليهم لمّا بلغه موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ كما فعله سائر أهل الردّة، فاستحقّ القتل. قال أبو علي و إنّما قتله لأنّه ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال صاحبك، و أوهم بذلك أنّه ليس بصاحب له، و كان عنده أنّ ذلك ردّة، و علم عند المشاهدة المقصد و هو أمير القوم فجاز أن يقتله، و إن كان الأولى أن لا يستعجل و أن يكشف الأمر في ردّته حتّى يتّضح، فلهذا لم يقتله. و بهذين الوجهين أجاب الفخر الرازي في نهاية العقول و شارح المواقف و شارح المقاصد. ثم قال قاضي القضاة فإن قال قائل فقد كان مالك يصلّي قيل له و كذلك سائر أهل الردّة، و إنّما كفروا بالامتناع من الزكاة و اعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره. فإن قيل فلم أنكر عمر. قيل كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر، و قد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر. فإن قيل فما معنى ما روي عن أبي بكر من أنّ خالدا تأوّل فأخطأ. قيل أراد تأوّل في عجلته عليه بالقتل، فكان الواجب عنده على خالد أن يتوقّف للشبهة. و استدلّ أبو علي على ردّة مالك بأنّ أخاه متمّم بن نويرة لمّا أنشد عمر مرثية أخيه قال له عمر وددت أنّي أقول الشعر فأرثي زيدا كما رثيت أخاك. فقال له متمّم لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته. فقال له عمر ما عزّاني أحد كتعزيتك، فدلّ هذا على أنّه لم يقتل على الإسلام. ثم أجاب عن تزويجه بامرأته بأنّه إذا قتل على الردّة في دار الكفر جاز ذلك عند كثير من أهل العلم و إن كان لا يجوز أن يطأها إلّا بعد الاستبراء، فأمّا وطئه لامرأته فلم يثبت عنده، و لا يجوز أن يجعل طعنا في هذا الباب. و اعترض عليه السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في الشافي بقول أمّا صنيع خالد في قتل مالك بن نويرة و استباحة ماله و زوجته لنسبته إلى الردّة التي لم تظهر، بل كان الظاهر خلافها من الإسلام فعظيم، و يجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره و لم يقم فيه حكم اللّه تعالى و أقرّه على الخطإ الذي شهد هو به على نفسه، و يجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها و لم يتصفّح ما

 روي من الأخبار في هذا الباب، و تعصّب لأسلافه و مذهبه، و كيف يجوز عند خصومنا على مالك و أصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة، و هما جميعا في قرن لأنّ العلم الضروري بأنّهما من دينه صلّى اللّه عليه و آله و شريعته على حدّ واحد، و هل نسبة مالك إلى الردّة بعد ما ذكرناه إلّا قدح في الأصول و نقض لما تضمّنته من أنّ الزكاة معلومة ضرورة من دينه صلّى اللّه عليه و آله. و أعجب من كلّ عجيب قوله و كذلك سائر أهل الرّدة يعني أنّهم كانوا يصلّون و يجحدون الزكاة لأنّا قد بيّنا أنّ ذلك مستحيل غير ممكن، و كيف يصحّ ذلك و قد روى جميع أهل النقل أنّ أبا بكر وصّى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذّنوا و يقيموا، فإن أذّن القوم بأذانهم و أقاموا كفّوا عنهم، و إن لم يفعلوا أغاروا عليهم فجعل إمارة الإسلام و البراءة من الردّة الأذان و الإقامة، و كيف يطلق في سائر أهل الردّة ما يطلقه من أنّهم كانوا يصلّون و قد علمنا أنّ أصحاب مسيلمة و طليحة و غيرهما ممّن ادّعى النبوّة و خلع الشريعة ما كانوا يصلّون و لا شيئا ممّا جاءت به شريعتنا، و قصّة مالك معروفة عند من تأمّلها من كتب النقل و السيرة، و أنّه قد كان على صدقات قومه بني يربوع واليا من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا بلغته وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمسك عن أخذ الصدقة من قومه، و قال لهم تربّصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ننظر ما يكون من أمره، و قد صرّح بذلك في شعره حيث يقول

و قالت رجال سدّد اليوم مالك و قال رجال، مالك لم يسدّدفقلت دعوني لا أبا لأبيكم فلم أخط و أيا في المقال و لا اليد.و قلت خذوا أموالكم غير خائف و لا ناظر فيما يجي‏ء به غدي‏فدونكموها إنّما هي مالك مصرّرة أخلافها لم تجدّدسأجعل نفسي دون ما تحذرونه و أرهنكم يوما بما قلته يدي‏فإن قام بالأمر المجدّد قائم أطعنا و قلنا الدين دين محمّد

فصرّح كما ترى أنّه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم و تقرّبا إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه.

 و قد روى جماعة من أهل السير و ذكره الطبري في تاريخه أنّ مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات و فرّقهم، و قال يا بني يربوع إن كنّا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين، و بطّأنا الناس عليه فلم نفلح و لم ننجح، و إنّي قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة، و إذ الأمر لا يسوسه الناس فإيّاكم و معاداة قوم يصنع لهم، فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم، و رجع مالك إلى منزله، فلمّا قدم خالد البطاح بثّ السرايا و أمرهم بداعية الإسلام، و أن يأتوه بكلّ من لم يجب، و أمرهم إن امتنع أن يقاتلوه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع، و اختلفت السريّة في أمرهم، و في السريّة أبو قتادة الحرث بن ربعي، فكان ممّن شهد أنّهم قد أذّنوا و أقاموا و صلّوا، فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا، و كانت ليلة باردة لا يقوم لها شي‏ء، فأمر خالد مناديا ينادي أدفئوا أسراءكم، فظنّوا أنّه أمرهم بقتلهم، لأنّ هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل، فقتل ضرار بن الأزود مالكا، و تزوّج خالد زوجته أمّ تميم بنت المنهال.

 و في خبر آخر أنّ السريّة التي بعث بها خالد لمّا غشيت القوم تحت الليل راعوهم فأخذ القوم السلاح، قال فقلنا إنّا لمسلمون. فقالوا و نحن المسلمون. قلنا فما بال السلاح. قالوا لنا فما بال السلاح معكم. قلنا فضعوا السلاح. فلمّا وضعوا ربطوا أسارى، فأتوا بهم خالدا، فحدّث أبو قتادة خالد بن الوليد بأنّ القوم نادوا بالإسلام و أنّ لهم أمانا، فلم يلتفت خالد إلى قوله و أمر بقتلهم و قسّم سبيهم، فحلف أبو قتادة أن لا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا، و ركب فرسه شادّا إلى أبي بكر و أخبره بالقصّة، و قال له إنّي نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي، و أخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم، و أنّ عمر لمّا سمع ذلك تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر، و قال إنّ القصاص قد وجب عليه، فلمّا أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد و عليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما، فلمّا دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطّمها، ثم قال يا عديّ نفسه أ عدوت على امرئ مسلم فقتلته ثم نزوت على امرأته، و اللّه لنرجمنّك بأحجارك.. و خالد لا يكلّمه و لا يظنّ إلّا أن رأى أبي بكر مثل ما رأى عمر فيه، حتّى دخل إلى أبي بكر و اعتذر إليه فعذره و تجاوز عنه، فخرج خالد و عمر جالس في المسجد فقال هلمّ إليّ يا ابن أمّ شملة، فعرف عمر أنّ أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلّمه و دخل بيته.

 و قد روى أيضا أنّ عمر لمّا ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجده منهم و استرجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم و نسائهم و أولادهم فردّ ذلك جميعا عليهم مع نصيبه كان فيهم. و قيل إنّه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق و بعضهنّ حوامل فردّهنّ على أزواجهنّ.

فالأمر ظاهر في خطإ خالد و خطإ من تجاوز عنه، و قول صاحب المغني إنّه يجوز أن يخفى على عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشي‏ء، لأنّ الأمر في قصّة خالد لم يكن مشتبها، بل كان مشاهدا معلوما لكلّ من حضر، و ما تأوّل به في القتل لا يعذر لأجله، و ما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأوّل و لا غيره، و لا تلافى خطأه و زلله، و كونه سيفا من سيوف اللّه على ما ادّعاه لا يسقط عنه الأحكام، و لا يبرّئه من الآثام. فأمّا قول متمّم لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته.. فإنّه لا يدلّ على أنّه كان مرتدّا، و كيف يظنّ عاقل أنّ متمّما يعترف بردّة أخيه و هو يطالب أبا بكر بدمه و الاقتصاص من قاتله و ردّ سبيه، فإنّما أراد في الجملة التقرّب إلى عمر بتقريظ أخيه. ثم لو كان ظاهر القول كباطنه لكان إنّما يفيد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك، و الحال في ذلك أظهر، لأنّ زيدا قتل في بعث المسلمين ذابّا عن وجوههم، و مالك قتل على شبهة، و بين الأمرين فرق. فأمّا قوله في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صاحبك.. فقد قال أهل العلم إنّه أراد القرشية، لأنّ خالدا قرشيّ، و بعد فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه، و لو كان علم من مقصده الاستخفاف و الإهانة على ما ادّعاه صاحب المغني لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبي بكر و عمر، و يعتذر به أبو بكر لمّا طالبه عمر بقتله، فإنّ عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إن كان الأمر على ذلك فأيّ معنى لقول أبي بكر تأوّل فأخطأ، و إنّما تأوّل فأصاب، إن كان الأمر على ما ذكر. و أورد عليه ابن أبي الحديد بأنّه لا ملازمة بين القول بوجوب الصلاة و بين القول بوجوب الزكاة، لأنّه لا تلازم بين العبادتين في الوجود، و كونهما متشاركين في العلم بهما من الدين ضرورة لا يقتضي امتناع سقوط أحدهما بشبهة، فإنّهم قالوا إنّ اللّه تعالى قال لرسوله صلّى اللّه عليه و آله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ... الآية. قالوا فوصف اللّه الصدقة بأنّها من شأنها أن يطهّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس و يزكّيهم بأخذها منهم، ثم عقّب ذلك بأنّ فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلّي عليهم صلاة تكون سكنا لهم. قالوا و هذه صفات لا تتحقّق في غيره، لأنّ غيره لا يطهّر الناس و لا يزكّيهم بأخذ الصدقة، و لا إذا صلّى على النّاس كان صلاته سكنا لهم، فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره. و الجواب إنّ كلام قاضي القضاة صريح في أنّ مالكا و أصحابه كفروا بالامتناع من الزكاة، و اعتقادهم إسقاط وجوبها، و لو كان الحال كما ذكره من أنّهم اعتقدوا سقوطها لشبهة و لم ينكروا وجوبها مطلقا لم يلزم كفرهم لإنكار أمر معلوم من الدين ضرورة، و في كلام ابن أبي الحديد اعتراف بذلك، حيث قال إنّهم ما جحدوا وجوبها، و لكنّهم قالوا إنّه وجوب مشروط، و ليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة، و إنّما يعلم ذلك بنظر و تأويل. فبطل جواب القاضي و يتوجّه إيراد السيد عليه. و قد صرّح غير ابن أبي الحديد من أهل الخلاف بأنّ مالكا و أصحابه لم يكفروا بمنعهم الزكاة، حكى شارح صحيح مسلم في المنهاج في كتاب الإيمان

 كلاما استحسنه عن الخطّابي، و هذا لفظه، قال بعد تقسيم أهل الرّدة إلى ثلاثة أقسام فأمّا مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنّهم أهل بغي، و لم يسمّوا على الانفراد منهم كفّارا و إن كانت الردّة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدّين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، و ذلك أنّ اسم الردّة اسم لغويّ، و كلّ من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتدّ عنه، و قد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة و منع الحقّ و انقطع عنهم اسم الثناء و المدح بالدين، و علّق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقّا. ثم قال بعد كلام في تقسيم خطاب اللّه فإن قيل كيف تأوّلت أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه و جعلتهم أهل بغي و هل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الصلاة و الزكاة و امتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي. قلنا لا، فإنّ من أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان كان كافرا بإجماع المسلمين، و الفرق بين هؤلاء و أولئك أنّهم إنّما عذروا لأسباب و أمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، و منها إنّ القوم كانوا جهّالا بأمور الدين و كان عهدهم بالإسلام قريبا فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأمّا اليوم و قد شاع دين الإسلام و استفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتّى عرفها الخاصّ و العامّ و اشترك فيهم العالم و الجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوّله في إنكارها، و كذلك الأمر في كلّ من أنكر شيئا ممّا أجمعت الأمّة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشرا كالصلوات الخمس و صوم شهر رمضان و الاغتسال من الجنابة و تحريم الزنا و الخمر و نكاح ذوات المحارم و نحوها من الأحكام، إلّا أن يكون رجلا حديث عهد بالإسلام و لا يعرف حدوده، فإنّه إذا أنكر شيئا منها جهلا به لم يكفر و كان سبيله سبيل أولئك القوم في صدق اسم الدين عليه، فأمّا ما كان الإجماع فيه معلوما من طريق علم الخاصّة كتحريم نكاح المرأة على عمّتها و خالتها، و إنّ القاتل عمدا لا يرث، و إنّ للجدّة السدس.. و ما أشبه ذلك من الأحكام، فإنّ من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامّة و نحوه. قال في شرح الوجيز في أوّل كتاب الجنايات و أمّا التلازم بين العبادتين في الوجود فأمر لم يدّعه السيد و لا حاجة له إلى ادّعائها، و إنّما ادّعى الملازمة بين اعتقاد وجوب الصلاة و بين التصديق بوجوب الزكاة على الوجه الذي علم من الدين ضرورة، و خرج منكره عن الإسلام. و الظاهر إنّ غرضه أنّ منكر الضروري إنّما يحكم بكفره لكون إنكاره ذلك كاشفا عن تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و إنكار نبوّته، لا أنّ ذلك الإنكار في نفسه علّة للحكم بالكفر، و لذلك لا يحكم بكفر من ادّعى شبهة محتملة، و لو دلّ دليل على كفر من أنكر ضروريا من الدين مخصوصا مطلقا لم يحكم

 بكفره، لكون ذلك الإنكار من أفراد هذا الأمر الكلّي، بل لقيام ذلك الدليل بخصوصه، و الظاهر أنّ من أنكر ضروريّا من الدين لا لشبهة قادته إلى الإنكار لم ينفكّ إنكاره ذلك عن إنكار سائر الضروريات، و تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و ما يشاهد في بعض الناس من نفي بعض الضروريات كحدوث العالم و المعاد الجسماني و نحو ذلك مع الإقرار في الظاهر بنبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و اعترافهم بسائر الضروريات و ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذلك لأحد الأمرين إمّا لكونهم ضالّين لشبهة اعترتهم فيما زعموه كتوهّمهم كون أباطيل بعض الفلاسفة و سائر الزنادقة برهانا يوجب تأويل الأدلّة السمعية و نحو ذلك، أو لكونهم منكرين للنبوّة في الباطن و لكن لخوف القتل و المضارّ الدنيويّة لا يتجرّءون على إنكار غير ما كشفوا عن إنكاره من الضروريات، و أمّا إظهارهم إنكار ذلك البعض فلارتفاع الخوف في إظهاره لاختلاط عقائد الفلاسفة و غيرهم بعقائد المسلمين بحيث لا تتميّز إحداهما عن الأخرى إلّا عند من عصمه اللّه سبحانه، فمن دخل منهم تحت القسم الأول يشكل الحكم بخروجهم عن الإسلام، لكون ما أنكروه غير ضروريّ في حقّهم و إن صدق عليه عنوان الضرورة بالنسبة إلى غيرهم، و لا ينافي ذلك أن يكونوا من أهل الضلال معاقبين على إنكارهم لاستناده إلى تقصير منهم في طلب الحقّ. و أمّا القسم الثاني فخروجهم عن الإسلام لإنكار النبوّة، فظهر أنّ إنكار أمر ضروريّ على وجه يوجب الكفر لا ينفكّ عن إنكار النبوّة المستلزم لإنكار سائر الضروريات. فإن قيل من أين يعلم أنّ مالكا و أصحابه لم يكونوا من القسم الثاني، فلعلّهم لم ينكروا الصلاة في الظاهر لأمر دنيوي. قلنا أوّلا هذا خلاف ما اعترف به ابن أبي الحديد و قاضي القضاة و الخطابي.. و غيرهم. و ثانيا إنّ مالكا و أصحابه لو كانوا مشفقين من أهل الإسلام أو بقي لهم مطمع فيهم لما أعلنوا بالعداوة، و لم يريدوا قتال المسلمين كما زعمه الجمهور، على أنّه لا نزاع في إسلامهم قبل ذلك الامتناع، فقد كان عاملا من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على صدقات قومه كما رواه أرباب السير منهم، و إذا ثبت إسلامهم و أقرّوا في الظاهر بسائر الضروريات لم يحكم بكفرهم بمجرّد ذلك الامتناع المحتمل للأمرين، بل لأمر ثالث و هو أن يكون منعهم مستندا إلى الشحّ و البخل، فلم يلزم كفرهم كما ادّعاه قاضي القضاة و غيرهم، و لم يجز سبي ذراريهم و نسائهم و أخذ أموالهم كما فعلوا و إن جاز قتالهم لأخذ الزكاة لو أصرّوا على منعها على الوجه الأخير، بعد أن يكون المتصدّي للأخذ مستحقّا له. و أمّا إذا استند المنع إلى الشبهة فكان الواجب على من تصدّى للأخذ و أراد القتال أن يبدأ بإزالة شبهتهم، كما صرّح به فقهاؤهم في جمهور أهل البغي. قال في شرح الوجيز في بحث البغاة من كتاب الجنايات لا يبدءون بالقتال حتّى يبدءوا و ليبعث الإمام أمينا ناصحا يسألهم ما ينقمون، فإن علّلوا امتناعهم بمظلمة أزالها، و إن ذكروا شبهة كشفها لهم، و إن لم يذكروا شيئا نصحهم و وعظهم و أمرهم بالعود إلى الطاعة، فإن أصرّوا آذنهم بالقتال.. إلى آخر ما قال. فكان على خالد أن يسألهم أولا عن شبهتهم و يبيّن لهم بطلانها، ثم إن أصرّوا على الامتناع و الخروج عن الطاعة قاتلهم، و لم ينقل أحد أنّ خالدا و أصحابه أزاح لهم علّة أو أبطل لهم شبهة، و لا أنّهم أصرّوا على العصيان، بل قد سبق في القصّة التي رواها السيّد و صدّقه ابن أبي الحديد أنّهم قالوا نحن مسلمون، فأمرهم أصحاب خالد بوضع السلاح، و لمّا وضعوا أسلحتهم ربطوهم أسارى، و كان على أبي بكر أن ينكر على خالد و يوضّح سوء صنيعه للناس، لا أن يلقاه بوجه يخرج من عنده و يستهزئ بعمر و يقول له هلمّ إليّ يا ابن أمّ شملة. و قد روى كثير من مؤرّخيهم منهم صاحب روضة الأحباب أنّه قبض على قائمة سيفه و قال لعمر ذلك. و لا يذهب على من له نصيب من الفهم أنّه لو شمّ من أبي بكر رائحة من الكراهة أو التهديد لما اجترأ على عمر بالسخرية و الاستهزاء، و الأمر في ذلك أوضح من أن يحتاج إلى الكشف و الإفصاح، هذا مع أنّه قد اعترف أبو بكر بخطإ خالد كما

 رواه ابن أبي الحديد حيث قال لمّا قتل خالد مالك بن نويرة و نكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاريّ، فركب فرسه و التحق بأبي بكر، و حلف أن لا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا، فقصّ على أبي بكر القصّة، فقال أبو بكر لقد فتنت الغنائم العرب، و ترك خالد ما أمرته. فقال عمر إنّ عليك أن تقيده بمالك، فسكت أبو بكر، و قدم خالد فدخل المسجد و عليه ثياب قد صدئت من الحديد، و في عمامته ثلاثة أسهم، فلمّا رآه عمر قال أ رياء يا عدوّ اللّه، عدوت على رجل من المسلمين فقتلته و نكحت امرأته، أما و اللّه إن أمكنني اللّه لأرجمنّك، ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها، و خالد ساكت لا يردّ عليه ظنّا أنّ ذلك عن أمر أبي بكر و رأيه، فلمّا دخل على أبي بكر و حدّثه صدّقه فيما حكاه و قبل عذره، فكان عمر يحرّص أبا بكر على خالد و يشير عليه أن يقتصّ منه بدم مالك، فقال أبو بكر أيها يا عمر ما هو بأوّل من أخطأ فارفع لسانك عنه ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين، انتهى.

فقوله ما هو بأوّل من أخطأ.. صريح في أنّه كان مخطئا في زعمه أيضا، و أمّا تصديقه و قبول عذره فكان للأغراض الدنيويّة، و إلّا فالتنافي بينه و بين قوله ما هو بأوّل من أخطأ، و أداء دية مالك من بيت المال واضح. و بالجملة، لم ينقل أحد من أرباب السير أنّ أبا بكر أنكر خطأ خالد، و إنّما ذكروا أنّه قال لا أغمد سيفا سلّه اللّه على الكفّار، قيل و ذلك على تقدير صحّته ليس إلّا تمسّكا بخبر موضوع رووه مرسلا عن أبي هريرة الكذّاب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال نعم عبد اللّه، خالد سيف من سيوف اللّه. و روى ذلك في خبر طويل يلوح من صدره إلى عجزه آثار الوضع، و الأظهر أنّه ليس غرضه التمسّك بالخبر، بل إنّما جعله سيفا سلّه اللّه على الكفّار لمعاونته له على التسلّط على الأخيار. و قد ذكر ابن الأثير في الكامل تبرّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من صنيع خالد، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله وبّخه لكلامه لعبد الرحمن بن عوف، و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسل أمير المؤمنين عليه السلام لإصلاح ما أفسده كما مرّ و سيأتي في أبواب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام. و قد اعترف ابن أبي الحديد بأنّ خالدا كان جبّارا فاتكا لا يراقب الدّين فيما يحمله عليه غضبه و هوى نفسه.

 و قال ابن عبد البرّ في الإستيعاب في ترجمة مالك بن نويرة قال الطبري بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مالك بن نويرة على صدقة بني يربوع و كان قد أسلم هو و أخوه متمّم الشاعر فقتل خالد مالكا بظنّ أنّه ارتدّ حين وجّهه أبو بكر لقتال أهل الردّة، و قد اختلف فيه هل قتله مسلما أو مرتدّا و اللّه أعلم قتله خطأ، و أمّا متمّم فلا شكّ في إسلامه، انتهى.

و ممّا يدلّ على سوء صنيع خالد أنّ عمر لمّا نزع الأسهم من رأسه و قال ما قال، لم يردّ عليه و لم ينكره، و ظاهر للمصنف أنّه لو كان له عذر، و لم يكن خائفا لخيانته لأبدى عذره، و لما صبر على المذلّة.

 و قد روى أصحابنا أنّ مالكا إنّما منع أبا بكر الزكاة لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له لمّا سأل أن يعلّمه الإيمان هذا وصيّي من بعدي و أشار إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فلمّا توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجع في بني تميم إلى المدينة فرأى أبا بكر على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتقدّم إليه، و قال من أرقاك هذا المنبر و قد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السلام وصيّه، و أمرني بموالاته. فأمر أبو بكر بإخراجه من المسجد، فأخرجه قنفذ بن عمير و خالد بن الوليد، ثم وجّه أبو بكر خالدا و قال له لقد علمت ما قال، و لست آمن أن يفتق علينا فتقا لا يلتئم فاقتله، فقتله خالد و تزوّج بامرأته في ليلته.

و لو تنزّلنا عن ذلك و فرضنا أنّ مالكا و أصحابه كفروا بمنع الزكاة، فلا ريب في إسلام النساء و الذراري، و ليس ارتداد الرجال بمنعهم الزكاة موجبا لكفر النساء و الذراري وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، فما العذر في سبي خالد و إغماض أبي بكر عن غصب الفروج و الزنا حتى ردّ عمر بن الخطاب الأموال و النساء الحوامل إلى أزواجهنّ.

 و سيأتي في باب أحوال أولاد أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لمّا سبيت الحنفيّة فيمن سبي و نظرت إلى جمع الناس، عدلت إلى تربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرنّت رنّة، و زفرت زفرة و أعلنت بالبكاء و النحيب، ثم نادت السلام عليك يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك و على أهل بيتك من بعدك، هؤلاء أمّتك سبونا سبي النوب و الديلم، و اللّه ما كان لنا إليهم من ذنب إلّا الميل إلى أهل بيتك، فجعلت الحسنة سيّئة و السيّئة حسنة، فسبينا، ثم انعطفت إلى الناس و قالت لم سبيتمونا و قد أقررنا بشهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه )ص(. قالوا أمنعتمونا الزكاة. قالت هؤلاء الرجال منعوكم، فما بال النساء. فسكت المتكلّم كأنّما ألقم حجرا.

 و قد روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا أخذها بعثها إلى أسماء بنت عميس حتّى جاء أخوها فتزوّجها،

و يظهر بذلك بطلان ما تمسّك به بعضهم من أنّه لو كان السبي ظلما لما أخذ أمير المؤمنين عليه السلام من سبيهم، و لو كان أمير المؤمنين عليه السلام تزوّجها لكونها من السبي لردّها عمر فيمن ردّ. و من نظر في القصّة حقّ النظر علم أنّ ما صنعه خالد لم يكن إلّا لأخذ الغنيمة و الطمع في النساء و الذراري و أحقاد الجاهليّة. و قد روى مؤلّف روضة الأحباب أنّه لمّا أحضر مالك للقتل جاءت زوجته أمّ تميم بنت المنهال و كانت من أجمل نساء زمانها فألقت نفسها عليه، فقال لها اعزبي عنّي، فما قتلني غيرك. و قال الزمخشري في أساس البلاغة أقتله و عرضه للقتل كما قال مالك بن نويرة لامرأته حين رآه خالد بن الوليد أقتلتني بامرأة يعني سيقتلني خالد بن الوليد من أجلك. و قال ابن الأثير في النهاية في حديث خالد إنّ مالك بن نويرة قال لامرأته يوم قتله خالد أقتلتني.. أي عرّضتني للقتل بوجوب الدّفع عنك و المحاماة عليك و كانت جميلة تزوّجها خالد بعد قتله. ثم إنّ ابن أبي الحديد روى عن الطبري عذرا لخالد، و ساق الرواية إلى قوله فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا و كانت ليلة باردة لا يقوم لها شي‏ء فأمر خالد مناديا ينادي ادفئوا أسراءكم.. فظنّوا أنّه أمر بقتلهم، لأنّ هذه اللّفظة تستعمل في لغة كنانة في القتل، فقتل ضرار بن الأزور مالكا.. و أنّ خالد لمّا سمع الواعية، خرج و قد فرغوا منهم، فقال إذا أراد اللّه أمرا أصابه..، و تزوّج خالد زوجته، و إنّ أبا قتادة فارقه و قال هذا عملك، فغضب عليه أبو بكر و لم يرض إلّا أن يرجع إلى خالد. و يتوجّه عليه أنّه يدلّ على بطلانه ما رواه الطبري و ابن الأثير و غيرهما من أرباب السير أنّ خالدا كان يعتذر عن قتل مالك بأنّه كان يقول و هو يراجع الكلام ما أخال صاحبكم إلّا قال.. كذا. و قد حكى قاضي القضاة عن أبي علي أنّه قتل خالد مالكا لأنّه أوهم بقوله ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليس صاحبا له، فلو كان قتله ضرار عن غير أمر خالد فأيّ حاجة له إلى هذا الاعتذار، فالتعارض بين الاعتذارين واضح، فتساقطا. و يدلّ على بطلانهما أنّ عمر لمّا عاتبه و كسر أسهمه لم يعتذر بأنّي لم أقتل مالكا بل قتله ضرار عن غير أمري، أو بأنّه ارتدّ عن الدين لقوله صاحبك.. فلا موضع لإبداء العذر أليق من ذلك، و هل يجوّز عاقل أن يكون لخالد عذر يرى نفسه به بريئا من الإثم و الخيانة، ثم يصبر مع جرأته و تهتّكه على ما أصابه عن عمر من الإهانة و الأذى. و يدلّ على أنّ القتل كان بأمر خالد، أو كان هو القاتل، قول أبي بكر تأوّل فأخطأ.

 قال ابن الأثير في الكامل، قال عمر لأبي بكر إنّ سيف خالد فيه رهق و أكثر عليه في ذلك. فقال يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد، فإنّي لا أشيم سيفا سلّه اللّه على الكافرين، و ودى مالكا و كتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل، و دخل المسجد و عليه قباء و قد غرز في عمامته أسهما، فقام إليه عمر فانتزعها فحطّمها، و قال له قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته، و اللّه لأرجمنّك بأحجارك.. و خالد لا يكلّمه يظنّ أنّ رأي أبي بكر مثله، و دخل على أبي بكر فأخبره الخبر و اعتذر إليه فعذره و تجاوز عنه، و عنّفه في التزويج للذي كانت عليه العرب من كراهة أيّام الحرب، فخرج خالد و عمر جالس. فقال هلمّ إليّ يا ابن أمّ شملة، فعرف عمر أنّ أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلّمه، انتهى.

فلو كان القاتل ضرارا لم يكن خالد متأوّلا و لا مخطئا، بل كان ضرارا هو المتأوّل المخطئ في فهم النداء الذي أمر به خالد من قوله ادفئوا أسراءكم، و لا يخفى أنّ هذا الاعتذار لو كان صحيحا لصار الأمر في تزويج زوجة مالك أفحش، إذ لو كان حبسه لاختلاف الجيش في أنّه و قوم يصلّون أم لا، و لم يثبت كفره، و قد كان إسلامه سابقا مستصحبا إلى أن يتحقّق ما يزيله و لو كان قتله لخطإ ضرار في فهم نداء خالد فزوجته في حكم زوجات سائر المسلمين المتوفى عنهنّ أزواجهنّ، و لا يجوز تزوّجها إلّا بعد انقضاء عدّتها، فظهر شناعة الجواب الذي حكاه قاضي القضاة عن أبي علي أو أجاب به من عند نفسه، و هو أنّه إذا قتل الرجل على الردّة في دار الكفر جاز التزويج بامرأته عند كثير من أهل العلم و إن كان لا يجوز وطؤها إلّا بعد الاستبراء. على أنّ التزوّج بامرأته فجور على أيّ حال، لكون المرأة مسلمة و ارتداد الزوج لا يصير سببا لحلّ التزوّج بامرأته، و لا لكون الدار دار الكفر، سيّما إذا كان ارتداده لما اعتذروا به من قوله صاحبك.. فإنّ ذلك ارتداد لا يسري إلى غيره من زوجته و أصحابه. و من الغرائب أنّ الشارح الجديد للتجريد ادّعى أنّ امرأة مالك كانت مطلّقة منه و قد انقضت عدّتها. و لا عجب ممّن غلب عليه الشقاء، و سلب اللّه منه الحياء أن يعتمد في رفع هذا الطعن الفاحش عن إمامه الغويّ و عن خالد الشقيّ بإبداء هذا الاحتمال الذي لم يذكره أحد ممّن تقدّمه، و لم يذكر في خبر و رواية، و لم يعتذر به خالد في جواب تشنيع عمر و طعنه عليه بأنّه نزا على زوجة خالد و تهديده بالرجم للزنا. ثم أعلن أنّ معاتبة عمر و غيظه على خالد في قتل مالك لم يكن مراقبة للدين و رعاية لشريعة سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما تألّم من قتله لأنّه كان حليفا له في الجاهليّة، و قد عفا عن خالد لمّا علم أنّه هو قاتل سعد بن عبادة.

 روي عن بعض أصحابنا، عن أهل البيت عليهم السلام أنّ عمر استقبل في خلافته خالد بن الوليد يوما في بعض حيطان المدينة، فقال له يا خالد أنت الذي قتل مالكا. فقال يا أمير المؤمنين إن كنت قتلت مالك بن نويرة لهنات كانت بيني و بينه فقد قتلت لكم سعد بن عبادة لهنات كانت بينكم و بينه، فأعجب عمر قوله و ضمّه إلى صدره، و قال له أنت سيف اللّه و سيف رسوله )ص(.

 و جملة القصّة، أنّ سعد بن عبادة لمّا امتنع من بيعة أبي بكر يوم السقيفة و أراد المبايعون لأبي بكر أن يطالبوه بالبيعة، قال لهم قيس بن سعد إنّي ناصح لكم فاقبلوا منّي. قالوا و ما ذاك. قال إنّ سعدا قد حلف أن لا يبايعكم، و هو إذا حلف فعل، و لن يبايعكم حتّى يقتل، و لن يقتل حتّى يقتل معه ولده و أهل بيته، و لن يقتلوا حتّى يقتل الأوس كلّها، و لن يقتلوا حتّى يقتل الخزرج، و لن يقتل الأوس و الخزرج حتّى يقتل اليمن، فلا تفسدوا عليكم أمرا قد كمل و استتمّ لكم، فقبلوا منه و لم يتعرّضوا لسعد. ثم إنّ سعدا خرج من المدينة إلى الشام، فنزل في قرى غسان من بلاد دمشق و كان غسان من عشيرته، و كان خالد يومئذ بالشام، و كان ممّن يعرف بجودة الرمي، و كان معه رجل من قريش موصوف بجودة الرمي فاتّفقا على قتل سعد بن عبادة لامتناعه من البيعة لقريش، فاستترا ليلة بين شجر و كرم، فلمّا مرّ بهما في مسيره رمياه بسهمين، و أنشدا بيتين من الشعر و نسباهما إلى الجنّ 

نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادةو رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده

 فظنّت العامّة أنّ الجنّ قتلوه، فكان قول خالد لعمر كشفا لما استتر على الناس في تلك الواقعة، و مثل هذه الرواية إن لم تنهض بانفرادها حجّة على المخالفين لكونها من روايات أصحابنا إلّا أنّ سكوت عمر عن خالد أيّام خلافته و ترك الاقتصاص منه مع قوله في خلافة أبي بكر لئن وليت الأمر لأقيدنّك به، قرينة واضحة على صحّتها، و مع قطع النظر عن تلك الرواية فلا ريب في المناقضة بين هذا السكوت و ذلك القول، فظهر أنّ له أيضا من قداح هذا القدح سهم، و من نصال هذا الطعن نصيب.

السادس

إنّ أبا بكر قال مخبرا عن نفسه إنّ لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني و إن زغت فقوّموني... و لا يصلح للإرشاد من يطلب الرشاد. و قال أقيلوني فلست بخيركم.. و لا يحلّ للإمام الاستقالة من البيعة. و أجاب قاضي القضاة في المغني ناقلا عن شيخه أبي علي أنّ إخباره عن نفسه بما أخبر لو كان نقصا فيه لكان قوله تعالى في آدم و حوّاء فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ، و قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ، و قوله تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى... الآية، يوجب النقص في الأنبياء عليهم السلام، و إذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه، و إنّما أراد أنّ عند الغضب يشفق من المعصية و يحذر منها، و يخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه، و ذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي.

 و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية، و كان يولّي ذلك عقيلا، فلمّا أسنّ عقيل كان يولّيها عبد اللّه ابن جعفر رحمه اللّه.

قال فأمّا ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف، و إن صحّ فالمراد به التنبيه على أنّه لا يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة، و إنّما يضرّون بذلك أنفسهم، فكأنّه نبّه بذلك على أنّه غير مكره لهم، و أنّه قد خلّاهم و ما يريدون إلّا أن يعرض ما يوجب خلافه

، و قد روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أقال عبد اللّه بن عمر البيعة حين استقاله

و المراد بذلك على أنّه تركه و ما يختاره و لم يكرهه.

 و أورد عليه السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في الشافي بأنّ قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم، فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، فإنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم و لا أبشاركم..

يدلّ على أنّه لا يصلح للإمامة من وجهين أحدهما أنّ هذه صفة من ليس بمعصوم و لا يأمن الغلط على نفسه، و من يحتاج إلى تقويم رعيّته له إذا واقع المعصية، و قد بيّنا أنّ الإمام لا بدّ أن يكون معصوما مسدّدا موفّقا. و الوجه الآخر أنّ هذه صفة من لا يملك نفسه، و لا يضبط غضبه، و من هو في نهاية الطيش و الحدّة، و الخرق و العجلة، و لا خلاف في أنّ الإمام يجب أن يكون منزّها عن هذه الأوصاف غير حاصل عليها، و ليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلّها، لأنّ أبا بكر خبّر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب، و أنّ عادته بذلك جارية، و ليس هذا بمنزلة من يوسوس له الشيطان و لا يطيعه، و يزيّن له القبيح فلا يأتيه، و ليس وسوسة الشيطان قبحا بعيب على الموسوس له إذا لم يستزلّه ذلك عن الصواب، بل هو زيادة في التكليف و وجه يتضاعف معه الثواب. و قوله تعالى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قيل معناه في تلاوته، و قيل في فكرته على سبيل الخاطر، و أيّ الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا نقص، و إنّما العار و النقص على من يطيع الشيطان و يتّبع ما يدعو إليه، و ليس لأحد أن يقول هذا إن سلّم لكم في جميع الآيات لم يسلّم لكم في قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ لأنّه قد خبّر عن تأثير غوايته و وسوسته بما كان منهما من الفعل، و ذلك لأنّ المعنى الصحيح في هذه الآية أنّ آدم و حوّاء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة و ترك التناول منها، و لم يكن ذلك عليهما واجبا لازما، لأنّ الأنبياء عليهم السلام لا يخلّون بالواجب، فوسوس لهما الشيطان حتّى تناولا من الشجرة فتركا مندوبا إليه، و حرّما بذلك أنفسهما الثواب و سمّاه إزلالا، لأنّه حطّ لهما عن درجة الثواب، و فعل الأفضل. و قوله تعالى في موضع آخر وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لا ينافي هذا المعنى، لأنّ المعصية قد يسمّى بها من أخلّ بالواجب و الندب، و قوله فَغَوى.. أي خاب من حيث لم يستحقّ الثواب على ما ندب إليه، على أنّ صاحب المغني يقول إنّ هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحقّ بها عقابا و لا ذمّا، فعلى مذهبه أيضا يكون المفارقة بينه و بين أبي بكر ظاهرة، لأنّ أبا بكر خبّر عن نفسه أنّ الشيطان يعتريه حتّى يؤثر في الأشعار و الأبشار، و يأتي ما يستحقّ به التقويم، فأين هذا من ذنب صغير لا ذمّ و لا عقاب عليه و هو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح، لأنّه لا يؤثّر في أحوال فاعله و حطّ رتبته، و ليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية و الإشفاق على ما ظنّ، لأنّ مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك، أ لا ترى أنّه قال إنّ لي شيطانا يعتريني، و هذا قول من قد عرف عادته، و لو كان على سبيل الإشفاق و الخوف لخرّج غير هذا المخرج، و لكان يقول

 فإنّي لا آمن من كذا.. و إنّي لمشفق منه. فأمّا ترك أمير المؤمنين عليه السلام مخاصمة الناس، فإنّما كان تنزّها و تكرّما، و أيّ شبه بين ذلك و بين من صرّح و شهد على نفسه بما لا يليق بالأئمّة. و أمّا خبر استقالة البيعة و تضعيف صاحب المغني له فهو أبدا يضعّف ما لا يوافقه من غير حجّة يعتمدها في تضعيفه. و قوله إنّه ما استقالها على التحقيق و إنّما نبّه على أنّه لا يبالي بخروج الأمر عنه، و إنّه غير مكره لهم عليه.. فبعيد عن الصواب، لأنّ ظاهر قوله أقيلوني.. أمر بالإقالة، و أقلّ أحواله أن يكون عرضا لها أو بذلا، و كلا الأمرين قبيح. و لو أراد ما ظنّه لكان له في غير هذا القول مندوحة، و لكان يقول إنّي ما أكرهتكم و لا حمّلتكم على مبايعتي، و ما كنت أبالي أن لا يكون هذا الأمر فيّ، و لا إليّ، و إنّ مفارقته لتسرّني لو لا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسّك به، و متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جرّ ذلك علينا ما لا قبل لنا به. فأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فإنّه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخوله فيها، و إنّما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه، علما بأنّ إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها، فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدّمت و استقرّت، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه. و أورد عليه ابن أبي الحديد.. بأنّ أبا بكر كان حديدا و لكن لا يخلّ ذلك بالإمامة، لأنّ المخلّ بالإمامة من ذلك ما يخرج به الإنسان عن العقل، فأمّا ما دون ذلك فلا، و قوله فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم و أبشاركم.. محمول على البلاغة في وصف القوّة الغضبيّة لا على ظاهره، لأنّه لم ينقل أنّه قام إلى رجل فضربه بيده و مزّق شعره... و أمّا قول شيخنا أبي عليّ إنّ كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق و الحذر.. فجيّد. و اعتراض المرتضى غير لازم، لأنّ في هذه عادة العرب يعبّرون عن الأمر بما هو منه بسبيل، كقولهم لا تدن من الأسد فيأكلك، ليس أنّهم قطعوا على الأكل عند الدنوّ. فأمّا الكلام في قوله أقيلوني.. فلو صحّ الخبر لم يكن فيه مطعن عليه، لأنّه إنّما أراد في اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة التي وقعت في اليوم الأوّل ليعلم وليّه من عدوّه منهم.. على أنّا لو سلّمنا أنّه استقالهم البيعة حقيقة، فلم قال المرتضى إنّ ذلك لا يجوز. أ ليس يجوز للقاضي أن يستقيل من القضاء بعد تولّيه إيّاه و دخوله فيه فكذلك يجوز للإمام أن يستقيل من الإمامة إذا آنس من نفسه ضعفا عنها، أو آنس من رعيّته نبوة عنه أو أحسّ بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس، و من يذهب إلى أنّ الإمامة تكون بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الإمام و طلبه إلى الأمّة أن يختاروا غيره لعذر يعلمه من حال نفسه و إنّما يمتنع من ذلك المرتضى و أصحابه القائلون بأنّ الإمامة بالنصّ..، على أنّه إذا جاز عندهم ترك الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن عليه السلام، و الأئمّة بعد الحسين عليهم السلام جاز للإمام على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهرا و باطنا لعذر يعلمه. و الجواب، أنّ الكلّ اتّفقوا على اشتراط العدالة في الإمام، و لا ريب في أنّه يكون من الحدّة و الطيش ما لا يضبط الإنسان نفسه عند هيجانه فيقدم على المعصية، و لا يدخل بذلك عرفا في زمرة المجانين، و لا يخرج عن حدّ التكليف، و قوله فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم و أبشاركم.. اعتراف باتّصافه بفرد بالغ من هذا النوع، و لا خلاف في كونه قادحا في الإمامة، و ادّعاؤه أنّه لم ينقل أنّه فعل ذلك برجل، فقد روى نفسه ما يكذّبه، حيث

 روى عن محمد بن جرير الطبري أنّ الأنصار بعثوا عمر إلى أبي بكر يسأله أن يولّي أمرهم رجلا أقدم سنّا من أسامة، فوثب أبو بكر و كان جالسا فأخذ بلحية عمر، و قال ثكلتك أمّك يا ابن الخطاب استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تأمرني أن أنزعه. فخرج عمر إلى الناس، فقالوا ما صنعت. قال امضوا ثكلتكم أمّهاتكم، ما لقيت في سببكم اليوم من خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.. إلى آخر ما رواه.

و وثوبه على عمر بن الخطاب و أخذه بلحيته و شتمه مع كونه معظّما مبجّلا عنده في أوّل خلافته، و المقام لم يكن مقام الخفّة و الطيش يدلّ على أنّ ذلك الصنيع لم يخرج منه مخرج الندرة و الافتلات، بل كان ذلك من الفعل المعتاد، و مع الإغماض عنه نقول إنّ ذلك الشهادة من قبيل الرجم بالغيب، و من الذي أحصى أفعال أبي بكر حتّى علم أنّه لم يفعل ذلك بأحد من معاشريه و خواصّه و أهل بيته و بعد تسليم أنّه لم يقدم قطّ على جرح الأبشار و نتف الأشعار، نقول إذا بلغ الطيش و الحدّة في الشدّة إلى حدّ يخاف صاحبه على نفسه الوثوب على الناس فلا يشكّ في أنّه يصدر عنه عند الغضب من الشتم و البذاء و أصناف الأذى قولا و فعلا ما يخرجه عن حدّ العدالة المشترطة في الإمامة، و لو قصر الغضب عن القيام بما يخل بالعدالة و لو بالإصرار على ما كان من هذا النوع من قبيل الصغائر لم يعبّر عنه بهذا النوع من الكلام. و بالجملة، حمل كلام أبي بكر على المبالغة لا ينفعهم و لا يضرّنا، و كذا التمسّك بقولهم لا تدن من الأسد.. لا ينفعهم، إذ لا يقال ذلك إلّا إذا جرت عادته بأكل من دنى منه، فكذلك لا موقع لكلام أبي بكر ما لم تجر عادته بأن يؤثر غضبه في أشعار الناس و أبشارهم، أو يؤذيهم بالشتم و البذاء.. و نحو ذلك ممّا كنّى عنه بقوله لا أوثر في أشعاركم و أبشاركم، و مثل هذا الطيش و الحدّة لا ريب في كونه مخرجا عن العدالة، قادحا في صلوح صاحبه للإمامة، فخروج الكلام مخرج الإشفاق و الحذر على هذا الوجه لا ينفع في دفع الطعن. و أمّا ما أشار إليه تبعا للقاضي من منع صحّة الخبر في استقالة أبي بكر فممّا لا وقع له، لاستفاضة الخبر و اشتهاره في كلّ عصر و زمان، و كونه مسلّما عند كثير من أهل الخلاف، و لذا لمن يمنع الرازي في نهاية العقول صحّته مع ما علم من حاله من كثرة التشكيك و الاهتمام بإيراد الأجوبة العديدة، و إن كانت سخيفة ضعيفة. و قد رواه أبو عبيد القاسم بن سلام على ما حكاه بعض الثقات من الأصحاب.

 و قال مؤلّف كتاب الصراط المستقيم ذكره الطبري في تاريخه، و البلاذري في أنساب الأشراف، و السمعاني في الفضائل، و أبو عبيدة قول أبي بكر على المنبر بعد ما بويع أقيلوني فلست بخيركم و عليّ فيكم. و قد أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقيّة بقوله فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته..

و صحّة الخطبة مسلّمة عند ابن أبي الحديد و قاضي القضاة و غيرهما كما عرفت. و أمّا عدم رواية أصحاب أصولهم قصّة الاستقالة فلا حجّة فيه، لأنّهم لا يروون ما لا تتعلّق أغراضهم بروايته، بل تعلّق غرضهم بانمحاء ذكره. و يدلّ على بطلان ما زعمه من أنّ أبا بكر أراد اختبار حال الناس في اليوم الثاني من بيعته ليعلم وليّه من عدوّه، قول أمير المؤمنين عليه السلام بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته.. إذ لو كان المراد ما توهّمه لم يكن عقده لآخر بعد الوفاة مع الاستقالة في الحياة موضعا للعجب، و إنّما التعجّب من صرفها عن أمير المؤمنين عليه السلام عند الوفاة و عقدها لغيره مع الاستقالة منها في الحياة، لعلمه بأنّه كان حقّا لأمير المؤمنين عليه السلام و هو واضح، و لعلّهم لا ينكرون أنّ فهم أمير المؤمنين عليه السلام مقدّم على فهمهم. و قد ظهر ممّا ذكرناه ضعف ما أجاب به الفخر الرازي في نهاية العقول من أنّه ذكر ذلك على سبيل التواضع و هضم النفس، كما

 قال عليه السلام لا تفضّلوني على يونس بن متّى..

و الفرق بين استقالة أبي بكر و الخبر الذي رواه على تقدير صحّته واضح، و لو أراد مجرّد الاستشهاد على ورود الكلام للتواضع و هضم النفس و هو أمر لا ينازع فيه لكن لا يلزم منه صحّة حمل كلّ كلام عليه. و أمّا ما ذكره من جواز الاستقالة تشبيها بالقضاء، فيرد عليه، أنّه إذا جازت الاستقالة من الإمام و لم يتعيّن عليه القيام بالأمر فلم لم يرض عثمان بالخلع مع أنّ القوم حصروه و تواعدوه بالقتل، فقال لا أخلع قميصا قمّصنيه اللّه عزّ و جلّ، و أصرّ على ذلك حتّى قتل، و قد جاز بلا خلاف إظهار كلمة الشرك و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير عند الخوف على النفس، فدلّ ذلك الإصرار منه على أنّ الخلع أعظم من إظهار كلمة الكفر و غيره من الكبائر، و أنّ ما أتى به أبو بكر كان أعظم ممّا ذكر على مذهب عثمان، فما دفع به الطعن عن أبي بكر يوجب قدحا شنيعا في عثمان، فإنّ تعريض النفس للقتل لأمر مباح لم يقل بجوازه أحد. و قد أشار إلى ذلك الشيخ المفيد قدّس اللّه روحه، حيث قال على أنّ الاختيار إن كان للأمّة و كان إليها الخلع و العزل لم يكن لدعائها عثمان إلى أن يخلع نفسه معنى يعقل، لأنّه كان لها أن تخلعه و إن لم يجبها إلى ذلك، و إن كان الخلع إلى الإمام فلا معنى لقول أبي بكر أقيلوني.. و قد كان يجب لمّا كره الأمر أن يخلع هو نفسه... و هذا أيضا تناقض آخر يبيّن عن بطلان الاختيار و تخليط القوم. و أنت أرشدك اللّه إذا تأمّلت قول أمير المؤمنين عليه السلام فيا عجبا بينا هو يستقيلها.. إلى آخره، وجدته عجبا، و عرفت من المغزى كان من الرجل في القوم و بان خلاف الباطن منه، و تيقّنت الحيلة التي أوقعها و التلبيس، و عثرت به على الضلال و قلّة الدين، و اللّه نسأل التوفيق، انتهى. و أمّا ما ذكره من قياس خلع الخليفة نفسه اختيارا بما صدر عن أئمّتنا عليهم السلام تقيّة و اضطرارا فهو أظهر فسادا من أن يفتقر إلى البيان، مع أنّه يظهر ممّا مرّ جوابه و سيأتي بعض القول في ذلك، وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ.

السابع

أنّه كان جاهلا بكثير من أحكام الدين،

 فقد قال في الكلالة أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن اللّه و إن يكن خطأ فمنّي

، و لم يعرف ميراث الجدّة، فقال لجدّة سألته عن إرثها لا أجد لك شيئا في كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فأخبره المغيرة و محمد بن مسلمة أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله أعطاها السدس، و قال أطعموا الجدّات السدس

و قطع يسار السارق، و أحرق فجاءة بالنار، و لم يعرف ميراث العمّة و الخالة.. إلى غير ذلك.

 و قصّة فجاءة على ما ذكره ابن الأثير في الكامل هي أنّه جاء فجاءة السلمي و اسمه أياس بن عبد اللّه ياليل إلى أبي بكر، فقال له أعنّي بسلاح أقاتل أهل الردّة، فأعطاه سلاحا و أمره أمره فخالف إلى المسلمين، و خرج حتّى نزل بالجواء، و بعث نجية و أمره بالمسلمين، فشنّ الغارة على كلّ مسلم في سليم و عامر و هوازن، فبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاشي فأمره أن يجمع له و يسير إليه، و بعث إليه عبد اللّه بن قيس الحاشي عونا، فنهض إليه و طلباه، فلاذ منهما، ثم لقياه على الجواء فاقتتلوا فقتل نجية و هرب الفجاءة، فلحقه طريقة فأسره، ثم بعث به إلى أبي بكر، فلمّا قدم أمر أبو بكر أن يوقد له نار في مصلّى المدينة، ثم رمى به فيها مقموطا أي مشدود اليدين و الرجلين.

و قد روى القصّة كثير من أرباب السير. و أجاب صاحب المواقف و شارحه بأنّ الأصل و هو كون الإمام عالما بجميع الأحكام ممنوع، و إنّما الواجب الاجتهاد، و لا يقتضي كون جميع الأحكام حاضرة عنده بحيث لا يحتاج المجتهد فيها إلى نظر و تأمّل، و أبو بكر مجتهد، إذ ما من مسألة في الغالب إلّا و له فيه قول مشهور عند أهل العلم، و إحراق فجاءة إنّما كان لاجتهاده و عدم قبول توبته لأنّه زنديق، و لا تقبل توبة الزنديق في الأصح. و أمّا قطع يسار السارق، فلعلّه من غلط الجلّاد، أو رآه في المرّة الثالثة من السرقة، و هو رأي الأكثر من العلماء. و وقوفه في مسألة الجدّة و رجوعه إلى الصحابة في ذلك لأنّه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام، انتهى. و أجيب بأنّه قد ثبت أنّ من شرائط الإمامة العلم بجميع الأحكام، و قد ظهر من أبي بكر الاعتراف على نفسه بأنّه لم يعرف الحكم فيها، و عدم تعرّض من تصدّى للجواب لمنع صحّة ما ذكر اعتراف بصحّته. ثم إنّ الكلالة على ما رواه الأصحاب عن أئمّتنا عليهم السلام أولاد الأب و الأم، و هم الإخوة من الطرفين أو من أحدهما، و قد دلّت آية الميراث في أوّل سورة النساء على حكم من كان من قبل الأمّ منهم، و في آخر السورة على حكم من كان من قبل الأب و الأم أو من قبل الأب، سمّيت كلالة لإحاطتها بالرجل كالإكليل بالرأس و هو ما يزيّن بالجوهر شبه العصابة، أو لأنّها مأخوذة من الكلّ لكونها ثقلا على الرجل، و الذي رواه قوم من المفسّرين عن أبي بكر و عمر و ابن عباس في أحد الروايتين عنه أنّها من عدا الوالد و الولد. و في الرواية الأخرى عن ابن عباس أنّها من عدا الولد. أقول يرد هنا آخر على أبي بكر، بل على صاحبه، و هو أنّهما فسّرا القرآن برأيهم كما صرّح به أبو بكر و رووا في صحاحهم المنع من ذلك، و من فسّر القرآن برأيه فقد كفر،

 و روى في المشكاة و المصابيح، عن الترمذي، عن ابن عباس، قال من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار.

 و في رواية من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.

 و عن الترمذي و أبي داود، عن جندب، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.

 و عن أحمد و ابن ماجة بإسنادهما عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال سمع النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ قوما يتدارءون في القرآن، فقال إنّما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض، و إنّما نزل كتاب اللّه يصدّق بعضه بعضا، فلا تكذّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه.

و الأخبار في ذلك كثيرة. و قال الفخر الرازي اختار أبو بكر أنّ الكلالة عبارة عن سوى الوالدين و الولد، و هذا هو المختار، و أمّا عمر فإنّه كان يقول الكلالة ما سوى الولد،

 و روي أنّه لما طعن قال كنت أرى الكلالة من لا ولد له و أنا أستحيي أن أخالف أبا بكر.

 و عن عمر فيه رواية أخرى و هو التوقّف، و كان يقول ثلاثة لأن يكون بيّنها الرسول )ص( لنا أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها، الكلالة، و الخلافة، و الربا. انتهى.

و لا يشتبه على الفطن الناظر في مثل هذه الروايات أنّ آراءهم لم يتفرّع عن أصل و ليست إلّا اتّباعا للأهواء و قولا في أحكام اللّه بغير علم و لا هدى من اللّه، و لو كان ما رآه عمر في الكلالة اجتهادا منه كما زعموا لما جاز له الحكم بخلافه استحياء من خلاف أبي بكر، و اللّه و رسوله أحقّ بأن يستحي منهما، و من لا يستحي من أن يقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ الرجل ليهجر، فاللائق بحاله أن لا يستحي من أحد، و تمنّيه أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله بيّن لهم الخلافة دليل واضح على شكّه في خلافة أبي بكر و في خلافته، كما سبق ما يدلّ على الشكّ عن أبي بكر، و ما جعله دليلا على اجتهاد أبي بكر من أنّ له في المسائل أقوالا مشهورة عند أهل العلم فأوّل ما فيه أنّه افتراء على أبي بكر، و أين هذه الأقوال المشهورة التي لم يسمعها أحد و من لم يرو عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مدة البعثة، و قد كان بزعمهم الفاسد أوّل الناس إسلاما، و كان من بطانته و صاحبا له في الغار غير مفارق عنه في الأسفار إلّا مائة و اثنين و أربعين حديثا، مع ما وضعه في ميراث الأنبياء لحرمان أهل البيت عليهم السلام و دفنهم حيث يموتون لأن يدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بيت عائشة و يسهّل ما أوصى به من دفنه مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و غير ذلك لأغراض أخر، فمبلغ علمه و كثرة أقواله ظاهر لأولي الألباب. ثم لو سلّمت كثرة أقواله فليس مجرّد القول دليلا على الاجتهاد و القوّة في العلم، و من تتبّع آثارهم و أخبارهم علم أنّه ليس فيها ما يدلّ على دقّة النظر وجودة الاستنباط، بل فيها ما يستدلّ به على دناءة الفطرة و ركاكة الفهم، كما لا يخفى على المتتبّع. و أمّا قطع يسار السارق في المرّة الأولى فهو خلاف الإجماع، و قد اعترف به الفخر الرازي في تفسير آية السرقة، و لو كان من غلط الجلّاد لأنكره عليه أبو بكر و بحث عن الحال، هل كان عن تعمّد من الجلّاد فيقاصّه بفعله أو على السهو و الخطإ فيعمل بمقتضاه و كون القطع في المرّة الثالثة خلاف المنقول، و لم يبد هذا الاحتمال أحد غير الفخر الرازي و تبعه المتأخّرون عنه. و أمّا الاجتهاد في إحراق فجاءة السلمي فهو من قبيل الاجتهاد في مقابلة النصّ، و قد قامت الأدلّة على بطلانه، و ما ذكره من عدم قبول توبته لأنّه زنديق فاسد، إذ لم ينقل أحد عن فجاءة إلّا الإغارة على قوم من المسلمين، و مجرّد ذلك ليس زندقة حتّى لا تقبل توبته، و قد ذكر في المواقف في الطعن أنّه كان يقول أنا مسلم.. و لم يمنعه في مقام الجواب. و اعلم أنّ الرواية الدالّة على عدم التعذيب بالنار من الروايات الصحيحة عند العامّة، و رواه البخاري في باب لا يعذّب بعذاب اللّه من كتاب الجهاد عن أبي هريرة و عن ابن عباس. و رواه ابن أبي الحديد أيضا.

 و الذي رواه أصحابنا ما روي في الفقيه و غيره، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه نهى أن يحرق شي‏ء من الحيوان بالنار

لكن في بعض أخبارنا ما ينافي هذا العموم، و سيأتي الكلام فيه في كتاب المناهي إن شاء اللّه تعالى، و لا يضرّ ذلك في الطعن، لأنّ بناءه على الإلزام لاعتراف العامّة بصحّتها. و ما روي من فعل أمير المؤمنين عليه السلام فهو عندنا استناد إلى نصّ خاصّ ورثه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عند العامّة استناد إلى الاجتهاد، فلا مطعن فيه بالاتّفاق.

 خاتمة في ذكر ولادة أبي بكر و وفاته و بعض أحواله

قال المخالفون كان مولده بمكة بعد الفيل بسنتين و أربعة أشهر إلّا أيّاما، و اسمه عبد اللّه بن عثمان بن أبي قحافة بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب، و قيل اسمه عتيق، و قيل كان اسمه عبد ربّ الكعبة، فسمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه، و أمّه أمّ الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب. غصب الخلافة ثاني يوم مات فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مات بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بين المغرب و العشاء و له ثلاث و ستون سنة، و قيل خمس و ستون، و الأول أشهر. و كانت مدّة خلافته المغصوبة سنتين و أربعة أشهر. و قال في الاختصاص مات و هو ابن ثلاث و ستين سنة، و ولي الأمر سنتين و ستة أشهر. ثم اعلم أنّه لم يكن له نسب شريف و لا حسب منيف، و كان في الإسلام خيّاطا، و في الجاهليّة معلّم الصبيان، و نعم ما قيل

كفى للمرء نقصا أن يقال بأنّه معلّم أطفال و إن كان فاضلا

و كان أبوه سيّئ الحال ضعيفا، و كان كسبه أكثر عمره من صيد القماري و الدباسي لا يقدر على غيره، فلمّا عمي و عجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد اللّه ابن جدعان من رؤساء مكة فنصبه ينادي على مائدته كلّ يوم لإحضار الأضياف، و جعل له على ذلك ما يعونه من الطعام، ذكر ذلك جماعة منهم الكلبي في كتاب المثالب على ما أورده في الصراط المستقيم و لذا قال أبو سفيان لعليّ عليه السلام بعد ما غصب الخلافة أ رضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيميّ رذل، و قال أبو قحافة ما رواه ابن حجر في صواعقه حيث قال و أخرج الحاكم أنّ أبا قحافة لمّا سمع بولاية ابنه قال هل رضي بذلك بنو عبد مناف و بنو المغيرة. قالوا نعم. قال اللّهمّ لا واضع لما رفعت و لا رافع لما وضعت.

 و قالت فاطمة عليها السلام في بعض كلماتها إنّه من أعجاز قريش و أذنابها

و قال بعض الظرفاء بل من ذوي أذنابها. و قال صاحب إلزام النواصب أجمع النسّابون أنّ أبا قحافة كان حبرا لليهود يعلّم أولادهم. و العجب أنّهم مع ذلك يدّعون أنّ اللّه تعالى أغنى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمال أبي بكر. و عقد الخلافة عند موته لعمر، فحمل أثقاله مع أثقاله، و أضاف وباله إلى وباله.

 و قال ابن أبي الحديد في كيفيّة ذلك أنّه أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه فأمر أن يكتب عهدا، و قال اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هذا ما عهد به عبد اللّه بن عثمان إلى المسلمين أمّا بعد،.. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان قد استخلفت عليكم ابن الخطاب، و أفاق أبو بكر، فقال اقرأ فقرأه، فكبّر أبو بكر، و قال أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال نعم. قال جزاك اللّه خيرا عن الإسلام و أهله، ثم أتمّ العهد و أمره أن يقرأ على الناس فقرأ، ثم أوصى إلى عمر بوصايا.

 قال و روى كثير من الناس أنّ أبا بكر لمّا نزل به الموت دعا عبد الرحمن ابن عوف، فقال أخبرني عن عمر، فقال إنّه أفضل من رأيته إلّا أنّ فيه غلظة. فقال ذاك لأنّه يراني رفيقا و لو قد أفضي الأمر إليه لترك كثيرا ممّا هو عليه، و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرّضا عنه، و إذا لنت أراني الشدّة عليه، ثم دعا عثمان، فقال أخبرني عن عمر. فقال سريرته خير من علانيته، و ليس فينا مثله. فقال لهما لا تذكرا ممّا قلت لكما شيئا، و لو تركت عمر ما عدوتك يا عثمان، و الخيرة لك أن لا تلي من أمورهم شيئا، و لوددت أنّي كنت من أموركم خلوا، و كنت فيمن مضى من سلفكم. و دخل طلحة على أبي بكر، فقال إنّه بلغني أنّك يا خليفة رسول اللّه )ص( استخلفت على الناس عمر، و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه، فكيف إذا خلا بهم و أنت غدا لاق ربّك فسائلك عن رعيّتك. فقال أبو بكر أجلسوني.. أجلسوني، ثم قال أ باللّه تخوّفني، إذا لقيت ربّي فساءلني، قلت استخلفت عليهم خير أهلك. فقال طلحة أ عمر خير الناس يا خليفة رسول اللّه. فاشتدّ غضبه و قال إي و اللّه، هو خيرهم و أنت شرّهم، أما و اللّه لو ولّيتك لجعلت أنفك في قفاك، و لرفعت نفسك فوق قدرها حتّى يكون اللّه هو الذي يضعها، أتيتني و قد دلكت عينيك تريد أن تفتنني عن ديني، و تزيلني عن رأيي، قم لا أقام اللّه رجليك، أما و اللّه لئن عشت فواق ناقة و بلغني أنّك غمضته فيها أو ذكرته بسوء لألحقنّك بخمصات قنّة حيث كنتم تسقون و لا تروون، و ترعون و لا تشبعون، و أنتم بذلك مبتهجون راضون. فقام طلحة فخرج.

قال و توفّي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة. انتهى. و قال في الإستيعاب قول الأكثر أنّه توفّي عشيّة يوم الثلاثاء المذكور. و قيل ليلته. و قيل عشيّة يوم الإثنين. قال و مكث في خلافته سنتين و ثلاثة أشهر إلّا خمس ليال. و قيل سنتين و ثلاثة أشهر و سبع ليال. و قال ابن إسحاق توفّي على رأس اثنتين و ثلاثة أشهر و اثني عشر يوما من متوفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و قيل و عشرة أيّام. و قيل و عشرين يوما. قال و اختلف في السبب الذي مات منه، فذكر الواقدي أنّه اغتسل في يوم بارد فحمّ و مرض خمسة عشر يوما، و قال الزبير بن بكّار كان به طرف من السل، و روي عن سلام بن أبي مطيع إنّه سمّ. قال و أوصى بغسله أسماء بنت أبي عميس زوجته فغسّلته، و صلّى عليه عمر بن الخطاب و نزل في قبره عمر و عثمان و طلحة و عبد اللّه بن أبي بكر، و دفن ليلا في بيت عائشة. أقول انظروا بعين الإنصاف إلى الخلافة الكبرى و رئاسة الدين و الدنيا كيف صارت لعبة للجهّال و خلسة لأهل الغيّ و الضلال، بحيث يلهم بها الفاسق الفاجر اللئيم عثمان و يكتبها برأيه بدون مصلحة الخليفة الخوّان، ثم يمدحه هذا الشقيّ و يشكره و يجزيه خيرا عن الإسلام و أهله، و لا يقول له لم اجترأت على هذا الأمر الكبير و الخطب الخطير الذي يترتّب عليه عظائم الأمور بمحض رأيك و هواك، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا يجترئ أن يخبر بأدنى حكم بدون الوحي الإلهي. و يلزم على زعمهم أن يكون أبو بكر و عثمان أشفق على أهل الإسلام و الإيمان من الرسول الذي أرسله الرحمن لهداية الإنس و الجان، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله بزعمهم أهمل أمر الأمّة و لم يوص لهم بشي‏ء، و هما أشفقا على الأمّة حذرا من ضلالتهم فعيّنا لهم جاهلا شقيّا فظّا غليظا ليدعو الناس إلى نصبهم و غباوتهم، و يصرفهم عن أهل بيت نبيّهم صلوات اللّه عليه ]كذا[. و العجب من عمر كيف لم يقل لأبي بكر في تلك الحالة التي يغمى عليه فيها ساعة و يفيق أخرى إنّه ليهجر، و يمنعه من الوصيّة كما منع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و نسبه إلى الهجر. و كيف اجترأ أبو بكر على ربّه في تلك الحالة التي كان يفارق الدنيا و يرد على ربّه تعالى فحكم بكون عمر أفضل الصحابة مع كون أمير المؤمنين عليه السلام بينهم، و قال فيه نبيّهم اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك.. و سائر ما رووه في صحاحهم فيه عليه السلام، و أنزله اللّه فيه صلوات اللّه عليه. و هل يريب لبيب في أنّ تلك الأمور المتناقضة، و الحيل الفاضحة الواضحة لم تكن إلّا لتتميم ما أسّسوه في الصحيفة الملعونة من منع أهل البيت عليهم السلام عن الخلافة و الإمامة، و حطّهم عن رتبة الرئاسة و الزعامة، جزاهم اللّه عن الإسلام و أهله شرّ الجزاء، و تواتر عليهم لعن ملائكة الأرض و السماء. أقول و قد مرّ في باب ما أظهر من الندامة عند الوفاة ما يناسب هذه الخاتمة. و أمّا افتخارهم بدفنه في جوار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسيأتي فيه.

 و روى في الصراط المستقيم بإسناده عن عاصم بن حميد، عن صفوان، عن الصادق عليه السلام أنّهما لم يبيتا معه إلّا ليلة ثم نقلا إلى واد يقال لها واد الدود.