الاحتجاج على المنافقين في طريق تبوك

ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وآله من الاحتجاج على المنافقين في طريق تبوك وغير ذلك من كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله على العقبة بالليل.


قال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله صلى الله عليه وآله على العقبة (1)، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب عليه السلام فما قدروا على مغالبة ربهم، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام لما فخم من أمره وعظم من شأنه: من ذلك أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وآله من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له: إن جبرئيل أتاني وقال لي: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو تقيم أنت ويخرج علي لا بد من ذلك، فإن عليا قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري، فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا: مله وسئمه وكره صحبته، فتبعه علي عليه السلام حتى لحقه وقد وجد غما شديدا عما قالوا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أشخصك يا علي عن مركزك؟ فقال:

بلغني عن الناس كذا وكذا. فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فانصرف علي إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ثم غطوها بخص رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص، وكان

ذلك على طريق علي الذي لا بد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.

فلما بلغ علي عليه السلام قرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته (1) أذنيه وقال: يا أمير المؤمنين قد حفر لك هيهنا ودبر عليك الحتف وأنت أعلم لا تمر فيه. فقال له علي عليه السلام: جزاك الله من ناصح خيرا كما تدبر تدبيري وإن الله عز وجل لا يخليك من صنعه الجميل، وسار حتى شارف المكان فوقف الفرس خوفا من المرور على المكان، فقال علي عليه السلام: سر بإذن الله سالما سويا عجيبا شأنك بديعا أمرك، فتبادرت الدابة فإن الله عز وجل قد متن الأرض (2) وصلبها [ ولام (3) حفرها ] كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض، فلما جاوزها علي عليه السلام لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال: ما أكرمك على رب العالمين أجازك على هذا المكان الخاوي (4). فقال أمير المؤمنين عليه السلام: جازاك الله بهذه السلامة عن نصيحتك التي نصحتني بها.

ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها والقوم معه بعضهم أمامه وبعضهم خلفه وقال، اكشفوا عن هذا المكان فكشفوا فإذا هو خاو لا يسير عليه أحد إلا وقع في الحفرة، فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا منه، فقال علي عليه السلام للقوم: أتدرون من عمل هذا؟ قالوا: لا ندري. قال عليه السلام: لكن فرسي هذا يدري، يا أيها الفرس كيف هذا ومن دبر هذا؟ فقال الفرس: يا أمير المؤمنين عليه السلام إذا كان الله عز وجل يبرم ما يروم جهال القوم نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه فالله

هو الغالب والخلق هم المغلوبون، فعل هذا يا أمير المؤمنين فلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطأة من أربعة وعشرين هم مع رسول الله صلى الله عليه وآله في طريقه ثم دبروا رأيهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله على العقبة والله عز وجل من وراء حياطة رسول الله وولي الله لا يغلبه الكافرون.

فأشار بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام بأن يكاتب رسول الله بذلك ويبعث رسولا مسرعا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن رسول الله إلى محمد رسوله أسرع وكتابه إليه أسبق، فلا يهمنكم هذا إليه، فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وآله من العقبة التي بأزائها فضائح المنافقين والكافرين نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم: هذا جبرئيل الروح الأيمن يخبرني أن عليا دبر عليه كذا وكذا، فدفع الله عز وجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا، ثم إنه صلب الأرض تحت حافر دابته وأرجل أصحابه، ثم انقلب على ذلك الموضع علي وكشف عنه فرأيت الحفيرة، ثم إن الله عز وجل لامها كما كانت لكرامته عليه، وأنه قيل له كاتب بهذا وارسل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: رسول الله إلى رسول الله أسرع وكتابه إليه أسبق.

ثم لم يخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بما قال علي عليه السلام على باب المدينة " إن مع رسول الله منافقين سيكيدونه ويدفع الله عنه "، فلما سمع الأربعة والعشرون أصحاب العقبة ما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله في أمر علي عليه السلام قال بعضهم لبعض: ما أمهر محمدا بالمخرقة (1) وإن فيجا (2) مسرعا أتاه أو طيرا من المدينة من بعض أهله وقع عليه أن عليا قتل بحيلة كذا وكذا وهو الذي واطأنا عليه أصحابنا، فهو الآن لما بلغه كتم الخبر وقلبه إلى ضده يريد أن يسكن من معه لئلا يمدوا أيديهم عليه، وهيهات والله ما لبث عليا بالمدينة إلا حينه ولا خرج محمدا إلى هيهنا إلا حينه، وقد هلك علي وهو هيهنا هالك لا محالة، ولكن تعالوا حتى نذهب إليه ونظهر له السرور بأمر علي ليكون أسكن لقلبه إلينا إلى أن نمضي فيه تدبيرنا، فحضروه وهنوه على سلامة علي من الورطة التي رامها أعداؤه.

ثم قالوا له: يا رسول الله أخبرنا عن علي عليه السلام أهو أفضل أم ملائكة الله المقربون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: وهل شرفت الملائكة إلا بحبها لمحمد وعلي وقبولها لولايتهما، وأنه لا أحد من محبي علي قد نظف قلبه من قذر الغش والدغل ونجاسات الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم أنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلا - وهم يعنون أنفسهم - أفضل منه في الدين فضلا وأعلم بالله وبدينه علما، فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطأوا في ظنونهم واعتقاداتهم، فخلق آدم وعلمه الأسماء كلها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم عليه السلام أن ينبأهم بها وعرفهم فضله في العلم عليهم، ثم أخرج من صلب آدم ذريته منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد الله أفضلهم محمد ثم آل محمد والخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار أمة محمد وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا ما حملوه من الأثقال وقاسوا ماهم فيه بعرض يعرض من أعوان الشياطين ومجاهدة النفوس واحتمال أذى ثقل العيال والاجتهاد في طلب الحلال ومعاناة مخاطرة الخوف من الأعداء من لصوص مخوفين ومن سلاطين جورة قاهرين وصعوبة في المسالك في المضائق والمخاوف والأجراع (1) والجبال والتلاع (2) لتحصيل أقوات الأنفس والعيال من الطيب الحلال، فعرفهم الله عز وجل أن خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا ويتخلصون منها ويحاربون الشياطين ويهزمونهم ويجاهدون أنفسهم بدفها عن شهواتها ويغلبونها مع ما ركب فيهم من شهوات الفحولة وحب اللباس والطعام والعز والرئاسة والفخر والخيلاء ومقاساة العناء والبلاء من إبليس وعفاريته وخواطرهم وإغوائهم واستهوائهم ودفع ما يكابدونه من أليم الصبر على سماعهم الطعن من أعداء الله وسماع الملاهي

والشتم لأولياء الله، ومع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم والهرب من أعداء دينهم، أو الطلب لمن يأملون معاملته من مخالفيهم في دينهم.

قال الله عز وجل: يا ملائكتي وأنتم من جميع ذلك بمعزل لا شهوات الفحولة تزعجكم ولا شهوة الطعام تحفزكم (2) ولا خوف من أعداء دينكم ودنياكم تنحب (2) في قلوبكم ولا لإبليس في ملكوت سماواتي وأرضي شغل على إغواء ملائكتي الذين قد عصمتهم منهم، يا ملائكتي فمن أطاعني منهم وسلم دينه من هذه الآفات والنكبات فقد احتمل في جنب محبتي ما لم تحتملوا واكتسب من القربات إلى ما لم تكتسبوا.

فلما عرف الله ملائكته فضل خيار أمة محمد وشيعة علي وخلفائه عليهم السلام واحتمالهم في جنب محبة ربهم ما لا تحتمله الملائكة أبان بني آدم الخيار المتقين بالفضل عليهم، ثم قال: فلذلك فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه الخلائق الأفضلين، ولم يكن سجودهم لآدم إنما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عز وجل، وكان بذلك معظما له مبجلا، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ويخضع له خضوعه لله ويعظم بالسجود له كتعظيمه لله، ولو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من شيعتنا أن يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصي رسول الله ومحض وداد خير خلق الله علي بعد محمد رسول الله واحتمل المكاره والبلايا في التصريح بإظهار حقوق الله ولم ينكر على حقا أرقبه عليه (3) قد كان جهله أو غفله.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله عصى الله إبليس فهلك لما كان معصيته بالكبر على آدم، وعصى آدم الله بأكل الشجرة فسلم ولم يهلك لما لم يقارن بمعصيته التكبر

 

على محمد وآله الطيبين، وذلك إن الله تعالى قال له: يا آدم عصاني فيك إبليس وتكبر عليك فهلك ولو تواضع لك بأمري وعظم عز جلالي لأفلح كل الفلاح كما أفلحت، وأنت عصيتني بأكل الشجرة وعظمتني بالتواضع لمحمد وآل محمد فتفلح كل الفلاح وتزول عنك وصمة الزلة فادعني بمحمد وآله الطيبين لذلك، فدعا بهم فأفلح كل الفلاح لما تمسك بعروتنا أهل البيت.

ثم إن رسول صلى الله عليه وآله أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير، وأمر مناديه فنادى: ألا لا يسبقن رسول الله صلى الله عليه وآله أحد إلى العقبة ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر بها ويخبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر، فقال حذيفة يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ويكشف عني فيعرفني ويعرف موضعي من نصيحتك فيتهمني ويخافني فيقتلني.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها: إن رسول الله يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل جوفك ثم يأمرك أن تثقبي فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل علي منها الروح لئلا أكون من الهالكين، فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين.

فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم لبعض: من رأيتموه هنا كائنا من كان فاقتلوه لأن لا يخبروا محمدا أنهم قد رأونا هيهنا فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهارا فيبطل تدبيرنا عليه، وسمعها حذيفة واستقصوا فلم يجدوا أحدا، وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم، فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال وهم يقولون الآن ترون حين محمد كيف أغراه بأن يمنع الناس عن صعود العقبة حتى يقطعها هو لنخلوا به هيهنا فنمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل، وكل ذلك يوصله الله تعالى

من قريب أو بعيد إلى أذن حذيفة ويعيه حذيفة، فلما تمكن القوم على الجبل حيث أرادوا كلمت الصخرة حذيفة وقالت له: انطلق الآن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بما رأيت وبما سمعت. قال حذيفة: كيف أخرج عنك وإن رآني القوم قتلوني مخافة على أنفسهم من نميمتي عليهم؟ قالت الصخرة: إن الذي مكنك من جوفي وأوصل إليك الروح من الثقبة التي أحدثها في هو الذي يوصلك إلى نبي الله وينقذك من أعداء الله.

فنهض حذيفة ليخرج فانفرجت الصخرة بقدرة الله تعالى، فحوله الله طائرا فطار في الهواء محلقا حتى انقض بين يدي رسول الله، ثم أعيد على صورته فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بما رأى وسمع، فقال رسول الله: أو عرفتهم بوجوههم؟ فقال:

يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم، فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحدا أحدروا اللثام فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا حذيفة إذا كان الله يثبت محمدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون.

ثم قال: يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله، فإذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها، وعمار إلى جانبها، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله صلى الله عليه وآله ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده، فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله أذن الله لها فارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم سقطت في جانب المهوى ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك وناقة رسول الله كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات التي كانت للدباب.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمار: اصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه 

رواحلهم فارم بها، ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر عضده ومنهم من انكسرت رجله ومنهم من انكسر جنبه واشتدت لذلك أوجاعهم، فلما انجبرت واندملت بقيت عليهم آثار الكسر إلى أن ماتوا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حذيفة وأمير المؤمنين عليه السلام: " إنهما أعلم الناس بالمنافقين " لقعوده في أصل الجبل ومشاهدته من مر سابقا لرسول الله صلى الله عليه وآله.

وكفى الله رسوله أمر من قصد له، وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة سالما فكسى الله الذل والعار من كان قعد عنه، وألبس الخزي من كان دبر عليه وعلى علي ما دفع الله عنه عليه السلام.