القسم بلفظ الجلالة

حلف سبحانه تبارك و تعالى بلفظ الجلالة مرّتين ضمن آيتين من سورة النحل، وهو أعظم قسم ورد في القرآن الكريم.

 

قال سبحانه:

أ: ﴿وَيَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمُونَ نَصيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّعَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون﴾.(1)

ب: ﴿تَاللّهِ لَقَدْأَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعْمالُهُمْ فَهُوَ وَليُّهُمُ الْيَومَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ﴾.(2)

 

تفسير الآية الاَُولى

دلّت الآية الاَُولى على جهل المشركين، حيث كانوا يجعلون نصيباً مما رزقوا للاَصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم، وقال سبحانه: ﴿وَيَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمونَ نَصيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لتسئلنَّ عَمّا كُنْتُمْ تفتَرون﴾.

 

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الاَنعام، وقال: ﴿وَجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَما كانَ للّهِ فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون﴾.(3)

 

فالكفار لاَجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة -أعني: الاَصنام والاَوثان- بتخصيص شيء مما رزقوا لها، مع أنّه سبحانه هو الاَولى بالتقرّب لا غير، لاَنّه مبدأ الفيض و ما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله، فكيف يتقربون إليه؟!

 

والعجب أنّهم يجعلون نصيباً للّه ونصيباً لشركائه، فما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه، وقد حكاه سبحانه في سورة الاَنعام، وقال: ﴿وَجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَما كانَ للّه فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون﴾.(4)

 

وحاصل الآية: أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظاً للّه وحظاً للاَوثان، وقد أسماها سبحانه ﴿شركائهم﴾، لاَنّهم جعلوا الاَوثان شركاءهم، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.

 

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى ﴿فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَما كانَ للّه فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِم﴾ وجوهاً:(5)

أوّلها: انّهم كانوا يزرعون للّه زرعاً وللاَصنام زرعاً، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه للّه ولم يزك الزرع الذي زرعوه للاَصنام جعلوا بعضه للاَصنام وصرفوه إليها، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والاَصنام أحوج؛ وإن زكا الزرع الذي جعلوه للاَصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه شيئاً للّه، وقالوا: هو غني؛ وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه للّه وبعضه للاَصنام فما كان للّه أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم، وهذا هو المرويّ عن الزجاج وغيره.

ثانيها: انّه كان إذا اختلط ما جُعل للاَصنام بما جُعل للّه تعالى ردّوه، وإذا اختلط ما جعل للّه بما جُعل للاَصنام تركوه، وقالوا:اللّه أغنى، وإذا تخرق الماء من الذي للّه في الذي للاَصنام لم يسدُّوه، وإذا تخرق من الذي للاَصنام في الذي للّه سدّوه، وقالوا: اللّه أغنى. عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن أئمتنا "عليهم السلام".

وثالثها: انّه كان إذا هلك ما جعل للاَصنام بدَّلوه مما جعل للّه، وإذا هلك ما جعل للّه لم يبدّلوه مما جعل للاَصنام. عن الحسن والسدي.(6)

وفي الحقيقة انّهذا النوع من العمل، أي توزيع القربان بين اللّه والآلهة، كان تزييناً من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الاَصنام حيث زينوا لهم هذا العمل وغيره من الاَعمال القبيحة، قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُركاوَُهم لِيُرْدُوهُمْ (أي ليهلكوهم بالاِغواء)وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ﴾.(7)

 

تفسير الآية الثانية

يقول سبحانه: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيّنَ لَهُمُ الشَّيطان أَعمالَهُمْ﴾ فهوَلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرسل وقد زيّن الشيطان أعمالهم ﴿فهو وليّهم اليوم﴾ أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل فالولي واحد وإن كان المتولى عليه مختلفاً، وبالتالي انّ الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه ﴿ ولهم عذاب أليم﴾.

إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين، فلنذكر المقسم به، وجواب القسم، وما هي الصلة بينهما.

 

المقسم به

المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي 980 مرة.

وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله، إله، فحذفت همزته وأدخل عليه الاَلف واللام فخص بالباري تعالى، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادتِهِ هَلْتَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾.(8)

ثمّإنّ "إله" إما من أله يأله فهو الاِله بمعنى المعبود، أو من أله -بالكسر- أي تحير، لتحير العقول في كنهه.

أقول: سيوافيك بأنّالاِله ليس بمعنى المعبود، وأنّمن فسره به فقد فسره بلازم المعنى، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر، وقد كان مستعملاً دائراً على الاَلسن قبل نزول القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي، يقول سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه﴾.(9) فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والاَرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.

 

وممّا يدل على كونه علماً انّه يوصف بالاَسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الاَسماء من دون عكس، فيقال اللّه الرحمن الرحيم، أو يقال علم اللّه ورزق اللّه، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها، ولا يوَخذ منه ما يوصف به شيء منها، وهذا يدل على أنّه علم وليس بوصف، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود المستجمعة لجميع صفات الكمال، ولهذا اللفظ في جميع الاَلسنة معادل كلفظة "خدا" في لغة الفرس و"حراً" في لغة الافرنج و "تاري" في لغة الترك.(10)

 

جواب القسم

أمّا جواب القسم في الآية الاَُولى، فهو عبارة عن قوله: ﴿لتسئلن عمّا كنتم تفترون﴾.

كما أنّجوابه في الآية الثانية، هو قوله: ﴿لَقَدْأرْسلنا إِلى أُمم من قَبْلك﴾.

 

فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين:

أ: انّهم مسوَولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.

ب: انّه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلاً، لكن الشيطان حال بينهم و بين أُممهم، وتشهد على ذلك سيرة عاد و ثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.

 

ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه؟

هذا هو المهم في أقسام القرآن، وقد أُهمل في كثير من التفاسير، ويمكن أن يقال:

أمّا الآية الاَُولى، فالقسم بلفظ الجلالة لاَجل أنّ المشركين كانوا يجعلون للّه نصيباً مما زرعوا من الحرث والاَنعام، وكانوا يقولون: هذا للّه، فناسب أن يقسم به لاَجل أنّه افتراء عظيم.

 

وأمّا الآية الثانية، فلاَنّه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان، كما قال: ﴿فهو وليّهم اليوم﴾ وبما انّ الولاية للّه سبحانه كما قال تعالى: ﴿هنالِكَ الولايةُ للّهِ الحق﴾(11) يس ناسب الحلف باللّه الذي هو الوليّ دونَ الشيطان، كما عليه المشركون.

 

1- النحل:56.

2- النحل:63.

3- الاَنعام:136.

4- الاَنعام:136.

5- لاحظ مجمع البيان: 2|370.

6- مجمع البيان: 2|370.

7- الاَنعام:137.

8- مريم:65.

9- الزخرف:87.

10- انظر الميزان: 1|18.

11- الكهف: 44.