التحدّي في شموله

وهذا التحدّي في عمومه يشمل كلّ الأُمم وكلّ أدوار التأريخ، سواء العرب وغيرهم، وسواء من كان في عهد الرسالة أم في عهود متأخرة حتى الأبد. اللفظ عامّ والخطاب شامل(1) ولأنّ التحدّي لم يكن في تعبيره اللفظي فقط ليخصّ لغة العرب، وإنما هو بمجموعته من كيفيّة الأداء والبيان والمحتوى جميعاً. كما أنّه لم يخصّ جانب فصاحته فحسب، ليكون مقصورًا على العهد الأوّل، حيث العرب في ازدهار الفصاحة والأدب. على أنّ الفصاحة والبلاغة لم تختصّ بلغة دون أُخرى ولا بأُمّة دون غيرها.

 

لكن هناك من حاول اختصار التحدّي بالعهد الأوّل وإن كان الإعجاز باقيًا مع الخلود زعمًا بأنّ عجز ذلك الدور يكفي دليلاً على كونه معجزًا أبدًا.هكذا زعمت الكاتبة بنت الشاطي، قال: مناط التحدي هو عجز بلغاء العرب في عصر المبعث، وأمّا حجة إعجازه فلا تخصّ عصرًا دون عصر وتعمّ العرب والعجم، وكان عجز البلغاء من العصر الأوّل وهم أصل الفصاحة بهانًا فاصلاً في القضية التحدّي... (2).

 

قلت: ولعلّها في ذهابها هذا المذهب، خشيت أن لوقلنا بأنّ التحدّي قائم ولايزال، أن سوف ينبري نائرة الكفر والإحاد، ممّن لا يقبلّ عددهم في الناطقين بالضاد، فياتي بحديث مثله، وبذلك ينقص أكبر دعامة من دعائم الإسلام!

 

لكنّها فلتطمئن أنّ هذا لن يكون، لأنّ القرآن وُضع على أُسلوب لايدانيه كلام بشر البتة، ولن يتمكن أحد أن يجاريه لا تعبيرًا وأداءً ولاسبكًا واسلوبًا، مادام الإعجاز قائما بمجموعة اللفظ والمعنى، رفعة وشموخ في المحتوى، وجمال وبهاء في اللفظ والتعبير، فأيّ متكلّم أو ناطق يمكنه الإتيان بهكذا مطالب رفيعة، لم تسبق لها سابقة في البشرية وفي هكذا قالب جميل! اللهمّ إلاّ أن يفضح نفسه. وفي التأريخ عِبَرٌ تؤثر عن أُناس حاولوا معارضة القرآن، لكنّهم أتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة، بادٍ عواره، باقٍ عاره وشناره، فمن حدّثته نفسه أن يعيد هذه التجربة، فلينظر في تلك العبر، ومن لم يستحِ فليصنع ماشاء.وتلك شهادات من أهل صناعة الأدب، اعترفوا- عبر العصور-بأنّ القرآن فذّ في اُسلوبه لا يمكن لأحد من الناس أن يقاربه فضلاً عن أن يماثله.

 

قال الدكتور عبدالله دراز: من كانت عنده شبهة، زاعمًا أنّ في الناس من يقدر على الإتيان بمثله، فليرجع إلى أباء عصره، وليسأهم: هل يقدر أحد منهم على أن يأتي بمثله؟ فإن قالوا: نعم، لشواء لقلنا مثل مثل هذا، فليقل لهم: هاتوا برهانكم. وإن قالوا: لا طاقة لنابه. فليقل لهم: أيّ شيء أكبر شهادة على الإعجاز من الشهادة على العجز. ثم ليرجع إلى التأريخ فليسأله ما بال القرون الأُلى؟ ينبئك التأريخ أنّ أحداً لم يرفع رأسه أمام القرآن الكريم، وأنّ بضعة النفر الذين انغضّوا رؤسهم إليه، باؤوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان.

 

المصدر:

كتاب علوم القرآن، لسماحة العلامة الشهيد السيد محمد باقر الحكيم

 

1- وبتعبير اصطلاحي اُصولي: أنّ هذا الخطاب يضمّ الى جانب عمومه الأفرادي إطلاقًا احواليًا وإطلاقًا زمانيًا معًا، إذن فللخطاب شمول من النواحي الثلاث: الأفراد الموجودين والأقلام الذين يأتون من بعد وايّاً كانت حالتهم وعلى أيّ صفةٍ كانوا..

2- الإعجاز البياني: ص65 -68 .