آراء وتأويلات في نزول القرآن

وأمّا تأويل نزول القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان، مع العلم أنّ القرآن نزل منجّماً طول عشرين أو ثلاث وعشرين عاماً، في فترات ومناسبات خاصّة، تدعى بأسباب النزول، فلعلماء في ذلك آراء وتأويلات:

 

1- إنَّ بدء نزوله كان في ليلة القدر من شهر رمضان.

 

وهذا اختيار محمد بن إسحاق والشعبي. قال الإمام الرازي: وذلك لأنّ مبادئ الملل والدول هي التي تؤرّخ بها. لكونها أشرف الأوقات. ولأنّها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة.  وهكذا فسّر الزمخشري الآية بذلك، قال (ابتدئ فيه إنزاله). 

 

وهو الذي نرتأيه، نظراً لأنّ كلّ حادث خطير، إذا كانت له مدّة وامتداد زمنيّ، فإنّ بدء شروعه هو الذي يسجّل تاريخيّاً كما إذا سُئل عن تاريخ دولة أو مؤسّسة أو تشكيل حزبيّ، أو إذا سئل عن تاريخ دراسة طالب علم أو تلُبّسه الخاص وأمثال ذلك، فإنّ الجواب هو تعيين مبدأ الشروع أو التأسيس لا غير.

 

وأيضاً: فإنّ قوله تعالى: ﴿أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ والآيات الأُخر، حكاية عن أمر سابق لا يشمل نفس هذا الكلام الحاكي وإلاّ لكان اللفظ بصيغة المضارع أو الوصف. فنفس هذا الكلام دليل على أنّ من القرآن ما نزل متأخراً عن ليلة القدر، اللهمّ إلاّ بضرب من التأويل غير المستند، على ما سيأتي.

 

كما أنّ اختلاف مناسبات الآيات، حسب الظروف والدواعي، أكبر دليل على اختلاف مواقع نزولها، إذ يربط ذلك كلّ آية بحادثة في قيد وقتها، وهذا في كلّ آية نزلت بشأن حدث أو واقعة وقعت في وقتها الخاصّ، وجاءت آية تعالجها في نفس الوقت، كلّ ذلك دليل على أنّ القرآن لم ينزل جملة واحدة. وإلا لما كان موقع لقولة المشركين: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾.

 

أي كان نزول القرآن تباعاً وفي فترات مناسبة أدعم لاطمئنان قلبك، حيث الشعور بعناية الله المتواصلة في كلّ آونة ومناسبة. 

 

وذهب إلى هذا الرأي - أيضاً- ابن شهر آشوب في المناقب، قال: شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن أي ابتدأ نزوله. وقال في متشابهات القرآن: والصحيح أنّ (القرآن) في هذا الموضع لا يفيد العموم، وإنّما يفيد الجنس، فأيّ شيئ، نزل فيه فقد طابق الظاهر. 

 

ويبدو من الشيخ المفيد - قدّس سرّه- من آخر كلامه ردّاً على أبي جعفر الصدوق - عليه الرحمة- فيما يأتي: اختيار هذا القول أيضاً، قال: وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر، أنّه نزلت جملة منه ليلة القدر، ثم تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي (صلى الله عليه وآله). فأمّا أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر، فهو بعيد عمّا يقتضيه ظاهر القرآن، والمتواتر من الأخبار، وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء. 

 

كان ينزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في كلّ ليلة قدر من كلّ عام، ما كان يحتاج إليه الناس في تلك السنة من القرآن، ثم ينزله جبرائيل حسب مواقع الحاجة شيئاً فشيئاً بما يأمره الله تعالى. فيكون المقصود من شهر رمضان: هو النوع. لا رمضان خاصّ- وهو احتمال الإمام الرازي أيضاً. 

 

وهذا اختيار ابن جريح والسدّي، وأسنده الأخير إلى ابن عباس أيضاً.  ونقله القرطبي عن مقاتل بن حيّان. ووافقه الحليمي والماوردي وغيرهما. 

 

غير أنّ هذا الاختيار، يخالفه ظاهر قوله تعالى: ﴿أُنزِلَ فِيهِ﴾ أو ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ حكاية عن حدث سابق، فلو صحّ هذا القول لكان المناسب أن يقول: ننزله، صفة للحال!

 

وأيضاً يردّه ما استبعدناه على الأي الخامس الآتي: ما هي الفائدة المتوخّاة من نزول قرآن قبل الحاجة إليه، ولا سيّما في صيغة جملة الماضي أو الحال، المستدعية كونها نزلت لمناسبة وقتيّة، لا موقع لنزولها قبل ذلك، حسب التعبير اللفظي!

 

3- شهر رمضان الذي نزل في شأنه القرآن، أي في فرض صيامه، كما يقال: نزل في فلان، أو في مناسبة كذا قرآن. والمراد من القرآن آية أو آيات منه. 

 

قال الضحّاك: شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن، أي الذي أُنزل صومه في القرآن.  وقال سفيان بن عيينة: معناه: انزل في فضله القرآن. واختاره الحسين ابن الفضل وابن الأنباري. 

 

لكن هذا الوجه يخصّ آية البقرة، ولا يجري في آيتي الدخان والقدر، كما لا يخفى. فضلا عن أّنه تأويل في اللفظ لا مبرّر له ولا مستند.

 

إنّ معظمه نزل في أشهر رمضان، ومن ثم صحّ نسبة الجميع إليه.

 

وهذا احتمال ثان احتملهما سيّد قطب، قال: الشهر الذي أُنزل فيه القرآن إمّا بمعني أنّ بدء نزوله كان في رمضان، أو أنّ معظمه نزل في أشهر رمضان.  لكن لا دليل على أنّ معظم آيات القرآن نزلت في أشهر رمضان وفي ليلة القدر بالخصوص. ولعلّ الواقعية تأبى هذا الاحتمال رأساً.

 

5- القرآن نزل جملة واحدة في ليلة واحدة، هي ليلة القدر، إلى بيت العزّة أو البيت المعمور، ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فترات ومناسبات، طول عشرين أو ثلاثة وعشرين عاماً.

 

ذهب إلى هذا القول جماعة من أرباب الحديث، نظراً لظاهر أحاديث رويت في ذلك.

 

قال الشيخ الصدوق عليه الرحمة: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر، جملة واحدة إلى البيت المعمور، في السماء الرابعة، ثم نزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة. وأنّ الله أعطى نبيّه العلم جملة واحدة، ثم قال له: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾. 

 

قال العلاَّمة المجلسي تعقيباً على هذا الكلام: قد دلّت الآيات على نزول القرآن في ليلة القدر. والظاهر نزوله جميعاً فيها. ودلّت الآثار والأخبار على نزول القرآن في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة.  وورد في بعض الروايات: أنّ القرآن نزل في أوّل ليلة من شهر رمضان.  ودلّ بعضها على أنّ ابتداء نزوله في المبعث.  فيجمع بينها بأنّ في ليلة القدر نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الرابعة (البيت المعمور) لينزل من السماء الرابعة إلى الأرض تدريجياً.

 

ونزل في أوّل ليلة من شهر رمضان جملة القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليعلمه هو، ولا يتلوه على الناس، ثم ابتدأ نزوله آية آية وسور سورة في المبعث أو غيره ليتلوه على الناس.... 

 

وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس: قال: انزل القرآن ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ووضع في بيت العزّة، ثم انزل نجوماً على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في عشرين سنة.

 

قال جلال الدين: وهذا هو أصحّ الأقوال وأشهرها. وروى في ذلك روايات كثيرة، حكم على أكثرها بالصحّة، رواها عن الحاكم والطبراني والبيهقي والنسائي وغيرهم. 

 

وروى الطبري بسنده عن واثلة بن الأسقع عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): قال: (أُنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من شهر رمضان. وأُنزلت التوراة لست مضين من رمضان. وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت. وأُنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان). 

 

وفيه عن السدّي عن ابن عباس، قال: شهر رمضان، والليلة المباركة ليلة القدر، فإنّ ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في رمضان، نزل القرآن جملة واحدة من الزبر إلى البيت المعمور، وهي مواقع النجوم في السماء الدنيا، حيث وقع القرآن، ثم نزل على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاً. 

 

وكان عطيّة بن الأسود قد وقع في نفسه الشكّ من هذه الآية، وقد نزل القرآن في جميع شهور السنة، فسأل ابن عباس عن ذلك، فأجابه بما تقدم. 

 

وهكذا روى جلال الدين بسنده إلى جابر بن عبدالله الأنصاري رضوان الله عليه قال: أنزل الله صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزل التوراة على موسى لست خلون من رمضان، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة خلت من رمضان، وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمد (صلى الله عليه وآله) لأربع وعشرين خلت من رمضان. 

 

ومن طرقنا روى العياشي عن إبراهيم، أنّه سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ كيف أُنزل فيه القرآن، وإنّما أُنزل القرآن في طول عشرين سنة، من أوّله إلى آخره؟ فقال الإمام (عليه السلام): ( نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم اُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة. ثم قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): نزلت صحف إِبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، وأُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان. وأُنزلت الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وأُنزل الزبور لثماني عشرة من رمضان. وأُنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان). 

 

وجاء في الحديث في الكافي، إلاّ أنّ في آخره: (وأُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان) والرواية هي عن الحفص بن غياث. 

 

وفي التهذيب جاء قسم من الحديث برواية أبي بصير، وفي آخره: (وأُنزل الفرقان في ليلة القدر). 

 

هذه جملة من الرويات مأثورة، تفسّر نزول القرآن جملة واحدة في ليلة واحدة، إمّا إلى البيت المعمور في السماء الرابعة، كما في روايات الخاصّة. أو إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، كما في بعض روايات العامّة، ثم منها نزلت آياته مفرّقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب الظروف والمناسبات رسلاً رسلاً...

 

وقد أخذ الظاهريّون من أصحاب الحديث بظاهر هذه الروايات، مستريحين بأنفسهم إلى مدلولها الظاهري تعبّداً محضاً.

 

أمّا المحقّقون من العلماء فلم يرقهم الأخذ بما لا يمكن تعقّله، ولا مقتضى للتعبّد بما لا يرجع إلى أصول العباديات، ومن ثم أخذوا ينقدون هذه الأحاديث نقداً علميّاً. متسائلين: ما هي الفائدة الملحوظة من وراء نزول القرآن جملة واحدة في إحدى السماوات العلى، ثم ينزل تدريجياً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟!

 

وإجابة على هذا السؤال، قال الفخر الرازي: ويحتمل أن يكون ذلك تسهيلا على جبرئيل أو لمصلحة النبي (صلى الله عليه وآله) في توقّع الوحي من أقرب الجهات. 

 

وهذا الجواب غاية في الوهن والسقوط، مضافاً إلى أنّه تخرّص بالغيب، ونستغرب صدور مثل هذا الكلام الفارغ من مثل هذا الرجل المضطلع بالتحقيق!!

 

وقال المولى الفيض الكاشاني: وكأنّه أريد بذلك: نزول معناه على قلب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ﴾. ثم نزل طول عشرين سنة نجوماً من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه، كلّما أتاه جبرائيل (عليه السلام) بالوحي وقرأه عليه بألفاظه. 

 

فقد أوّل - رحمه الله - البيت المعمور إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وربّما أراد الصدوق (رحمه الله) أيضاً هذا المعنى من قوله: وأعطى نبيّه العلم جملة واحدة.

 

وهكذا وقع اختيار الشيخ أبي عبدالله الزنجاني في تأويل هذه الرواية، قال: ويمكن أن نقول بانّ روح القرآن وهي أغراضه الكليّة التي يرمي إليها، تجلّت لقلبه الشريف في تلك الليلة: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ﴾ ثم ظهرت بلسانه الأظهر مفرقّة في طول سنين ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾. 

 

وقد أخذ العلاّمة الطباطبائي -قدس سره- هذا التأويل وزاد عليه تحقيقاً، قال: إنّ الكتاب ذا حقيقة أُخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي، وهي حقيقة ذات وحدة متماسكة لا تقبل تفصيلا ولا تجزئة، لرجوعها إلى معنى واحد لا أجزاء فيه ولا فصول. وإنّما هذا التفصيل المشاهد في الكتاب طرأ عليه بعد ذلك الأحكام، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾.

 

وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ. لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ وقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾.

 

 إذن فالمراد بإنزال القرآن في ليلة القدر: إنزال حقيقة الكتاب المتوحّدة إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفعة، كما أُنزل القرآن المفصّل في فواصل وظروف، على قلبه (صلى الله عليه وآله) أيضاً تدريجياً في مدّة الدعوة النبويّة.... 

 

أقول: هذ كلام لطيف، لكنه لا يعدو تأويلاً غير مستندٍ إلى دليل، والمسألة قبل كلّ شيئ نقلية وليست بالعقلية النظريّة، ومن ثم نتساءل هؤلاء الأعلام: بم أوّلتم البيت المعمور الذي هو في السماء الرابعة - حسب روايات الخاصّة- أو بيت العزّة- حسب روايات العامة- إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟! ولم هذا التعبير جاء في هذا اللفظ؟! وسوف نناقش السيد العلاّمة في اختيار وجود آخر للقرآن بسيط، وراء هذا الوجود المفصّل، سيأتي الكلام عليه في فصل المتشابهات إن شاء الله. 

 

5- تحقيق مفيد:

قال المحقّق العلاّمة الشيخ أبو عبدالله المفيد: الذي ذهب إليه أبو جعفر - رحمه الله- في هذا الباب، أصله حديث واحد - أي ليس من المتواتر المقطوع به- لا يوجب علماً ولا عملاً. ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالا فحالا يدلّ على خلاف ما تضمّنه هذا الحديث. وذلك أنّ القرآن قد تضمّن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلاّ لوقت حدوثه عند السبب...

مثلاً لقوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ ، نزلت هذه الآية بشأن خولة بنت خويلد جاءت تشتكي زوجها أوس بن الصامت الذي كان قد ظاهرها، وكان ذلك طلاقاً في الجاهلية. 

 

وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً﴾.  وقوله: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. 

 

وكثير في القرآن لفظة (قالوا) و (قال) و (جاؤوا) و (جاء) - بلفظ الماضي- كما أنّ فيه ناسخاً ومنسوخاً... كلّ ذلك لا يتناسب ونزوله جملة واحدة في وقت لم يحدث شيئ من ذلك.

 

قال - رحمه الله-: ولو تتبعنا قصص القرآن، لجاء ممّا ذكرناه كثيراً لا يتّسع به المقال. وما أشبه ما جاء به هذا الحديث بمذهب المشبهة الذين زعموا أنّ الله سبحانه لم يزل متكلّماً بالقرآن - أي القول بقدم القرآن- ومخبراً عمّا سيكون بلفظ كان، وقد ردّ عليهم أهل التوحيد بنحو ما ذكرناه.

 

قال: وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر: أنّه نزلت جملة منه ليلة القدر، ثمّ تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمّا أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر فهو بعيد عمّا يقتضيه ظاهر القرآن، والمتواتر من الأخبار، وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء.... 

 

وقال المرتضى علم الهدى رحمه الله: ( والذي ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه - رحمه الله- من القطع على أنّه أُنزل جملة واحدة..) إن كان معتمداً في ذلك على الأخبار المرويّة التي رواها، فتلك أخبار آحاد لا توجب علماً ولا تقتضي قطعاً. وبإزائها أخبار كثيرة أشهر منها وأكثر، تقتضي أنّه أُنزل متفرقاً، وأنّ بعضه نزل بمكة وبعضه بالمدينة، ولهذا نسسب بعض القرآن إلى أنّه مكيّ وبعضه مدنيّ. وانّه (صلى الله عليه وآله) كان يتوقّف عند حدوث حوادث، كالظهار وغيره، على نزول ما ينزل إليه من القرآن، ويقول (صلى الله عليه وآله): ما أُنزل اليّ في هذا شيئ ولو كان القرآن أُنزل جملة واحدة لما جرى ذلك، ولكان حكم الظهار وغيره ممّا يتوقّف فيه معلوماً له. ومثل هذه الأُمور الظاهرة المنتشرة لا يرجع عنها بأخبار الآحاد خاصة.

 

فأما القرآن نفسه فدالّ على ذك، وهو قوله تعالى، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ ولو كان أُنزل جملة واحدة لقيل في جوابهم قد أُنزل على ما اقترحتم، ولا يكون الجواب: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾. وفسّر المفسّرون كلّهم ذلك بأن قالوا: المعنى إناّ أنزلناه كذلك أي متفّرقاً يتمهّل على إسماعه ويتدرّج إلى تلقيه والترتيل أيضاً إنّما هو ورود الشيئ في أثر الشيئ، وصرْف ذلك إلى العلم به غير صحيح، لأنّ الظاهر خلافه. ولم يقل القوم: لولا علمنا بنزوله جملة واحدة، بل قالوا: لولا أُنزل إليك جملة واحدة. وجوابهم إذا كان أُنزل كذلك أن يقال: قد كان الذي طلبتموه، ولا يحتجّ لإنزاله متفرّقاً بما ورد بنزوله في تمام الآية.

 

فأمّا قوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ فإنّما يدلّ على أنّ جنس القرآن (معظمه أو بدء شروعه) نزل في هذا الشهر، ولا يدلّ على نزول الجميع فيه.

 

فأمّا قوله: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ فلا ندري من أي وجه دلّ على انّهُ أُنزل جملة واحدة. وقد كان أنّه - رحمه الله- يبيّن وجه دلالته على ذلك. وهذه الآية بأن تدلّ على أنّه ما أُنزل جملة واحدة أولى، لأنّه تعالى قال ﴿أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ وهذا يقتضي أن في القرآن منتظراً ما قضى الوحي به وقوع منه.

وقد كنّا سؤلنا إملاء تأويل هذه الآية قديماً، فأملينا فيها مسألة مستوفاةً، وذكرنا عن أهل التفسير فيها وجهين، وضممنا إليهما وجهاً ثالثاً تفردنا به.

 

فأحد الوجهين: إنّه كان (عليه السلام) إذا نزل عليه الملك بشيئ من القرآن قرأه مع الملك المؤدي له إليه قبل ان يستتمّ الأداء. حرصاً منه (عليه السلام) على حفظه وضبطه. فأمر (عليه السلام) بالتثبّت حتى ينتهي غاية الأداء، لتعلّق الكلام بعضه ببعض.

 

والوجه الثاني: إنّه (صلى الله عليه وآله) نهى أن يبلّغ شيئاً من القرآن قبل أن يوحى إليه بمعناه وتأويله وتفسيره.

 

والوجه الثالث - الذي انفردنا به- إنّه (صلى الله عليه وآله) نهى عن أن يستدعي من القرآن ما لم يوح إليه به لأنّ ما فيه مصلحة منه لابد من انزله وإن لم يستدع، لأنّه تعالى لا يدّخر المصالح عنهم. وما لا مصلحة فيه لا يُنزله على كلّ حال، فلا معنى للاستدعاء.

 

فلا تعلق للآية بالموضع الذي وقع فيه... 

 

المصدر:

كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة.