(استثناءات من سور (مكيّة) (3

14- سورة الأنبياء: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾(1) ولم يذكروا سند الاستثناء.

لكن السياق مكيّ بلا كلام. وجاءت نظيرتها في سورة الرعد: 41 أيضاً، ولهجتها (مكيّة)، لولا اتفاق روايات الترتيب على مدنيّتها على ما سبق.

 

15- سورة المؤمنون: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم - إلى قوله – مُبْلِسُونَ﴾ ثلاث عشرة آية(2).

ولا شاهد لهذا الاستثناء بتاتا. ولعلّ المستثني نظر إلى روايات فسرت العذاب بما أُصيب المشروكون يوم بدر أو يوم الفتح. لكنه غفل عن أنّها تفسير لوعد سابق، لا حكاية عن أمر كان. راجع أبا جعفر الطبري وغيره(3).

 

16- سورة الفرقان: (مكيّة)

استثني منها ثلاث آيات: 68 و 69 و 70.

لكن الآيات منسجمة مع قريناتها سبقاً ولحوقاً تمام الانسجام، بما يستحيل استثناؤها لوحدها. وفي تفسير الطبري وغيره ما يؤكد نزولها بمكة فراجع(4).

 

17- سورة الشعراء: (مكيّة)

استثني منها خمس آيات:

 

1- قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(5).

 

حكى ابن غرس: أنّها مدنيّة(6) ولعلّه لما ورد في تفسيرها من أنّ المراد من علماء بني إسرائيل -هنا- هم: أسد وأُسيد وابن يامين وثعلبة وعبدالله بن سلام(7).

 

لكن وجة الآية بلا شكّ مع مشركي قريش، وتوبيخ لاذع بهم. أمّا التفسير الوارد فلا يعني نزول الآية بعد إيمان هؤلاء اليهود، وإنّما هو بيان مصداق من مصاديق الآية تحقّقت فيما بعد.

 

وقد تقدّم(8). مراجعة المشركين إلى اليهود فيما يخصّ معرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكانوا يعرّفونهم خصائص وسمات كانت موجودة فيه (صلى الله عليه وآله) والآية إنّما تعني ذلك، وإنّ هذا شيئ كان يعرفه أهل الكتاب. كما اعترفوا هم قبل هجرته (صلى الله عليه وآله) وإنّما نكروه بعد ذلك طمعاً في حطام الدنيا ولم تعن الآية إيمانهم وإنما عنت معرفتهم. وبذلك لا يصلح التفسير الوارد لتعيين نزول الآية بالمدينة.

 

2- قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾(9) إلى آخر السورة أربع آيات.

 

حكي استثناء ذلك عن ابن عباس(10) وسند الاستثناء ما روي أنّها نزلت في رجلين تهاجيا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين(11).

 

لكنه معارض بما هو أقوى سنداً وأكثر عدداً: أنّها نزلت في مشركي قريش، كان شعراؤهم يهجون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقرأها سفلتهم على ملأ من الناس امتهانا بموقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزلت الآية تقريعاً بشأنهم وتنديداً بسلوكهم الشنيئ وقد جاء الطبرسي باسماء هؤلاء المشركين في تفصيل عريض(12). وهكذا رجّحه أبوجعفر الطبري(13).

 

18- سورة القصص: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ - إلى قوله-: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(14). أربع آيات.

 

قيل: نزلت في جماعة من أهل الكتاب كانوا قد أسلموا، منهم: عبدالله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي(15).

 

وقيل: نزلت في أصحاب النجاشي قدموا المدينة وشهدوا وقعة أُحد(16).

 

لكن لو صحّ تفسير الآية بالمذكورين فإنّما عنت الأخبار عمّا سيكون لا عمّا كان! فضلا عن معارضة هذا التفسير بتفسيرها بجماعة من أهل الكتاب كانوا مسلمين بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مبعثه، وهم أربعون رجلاً على ما جاء في تفسير الطبرسي وتفسير الطبري وغيرهما فراجع(17).

 

ويؤكد ما ذكرنا قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ...﴾(18).

هذه الآية (مكيّة) وردت بشأن مجادلة أهل الكتاب.

 

وقوله تعالى - أيضاً-: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ...﴾(19). وهي (مكيّة) أيضاً بالاتفاق.

 

وهذه نظيرة الآية المبحوث عنها تماماً، إخبار عمّا سيكون.

 

واستثنى منها - أيضاً- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ...﴾(20).

 

قيل: نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مهاجر إلى المدينة، عند وصوله إلى الجحفة(21) فاآية على الاصطلاح الثاني(22) لا (مكيّة) ولا مدنيّة.

 

لكن الاختيار المشهور هو المصطلح الأوّل. وعليه فالآية (مكيّة). وقد سبق ذلك.

 

19- سورة العنكبوت: (مكيّة)

استثني من أوّلها إلى الآية الحادية عشرة، قالوا: نزلن بالمدينة(23) قالوا: نزلت الآيات في أُناس من المسلمين تخلّفوا عن الهجرة، ثم كتب إليهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، فعمدوا إلى المهاجرة فردتهم قريش ووقع بينهم قتال وعنف(24).

 

لكن الآية عامّة، نزلت في مؤمني مكة وقعوا تحت شدّة، وكانت ابتلاء لهم ليعلم الصادق من الكاذب. وهكذا فسّرها أبو جعفر الطبري(25). وجاءت به الرواية عن الإمام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)(26).

 

هذا فضلا عن أنّ مفتتح السورة لوصحّ نزولها بالمدينة لأصبحت السورة مدنيّة، وفق المصطلح المتقدّم(27) هذا ولم يخالف أحد في مكيّتها.

 

واستثني منها - أيضاً- قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(28).

 

استثناها جلال الدين، لما رواه ابن أبي حاتم - بسند ضعيف- عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، ثم قال (صلى الله عليه وآله) هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده... قال ابن عمر: فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ...﴾(29).

 

والرواية مطعون في سندها، فضلا عن اضطراب متنها وعدم معقوليّة فحواها!

هذا... وقد روي عن مقاتل والكلبي: أنّها نزلت في جماعة من المؤمنين المستضعفين، ضاق بهم المقام بمكة قبل هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) ووقعوا في عسر وشدّة، فأُمروا بالهجرة إلى المدينة، قالوا: كيف نخرج إلى بلد ليس لنا به دار ولا عقار ولا معيشة! فنزلت الآية: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ - إلى قوله -: وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ...﴾الخ(30).

 

والرواية الثانية أوفق بنصّ بعض الكتاب وأولى بالاعتبار، ومن ثمّ فهي الصحيحة المقبولة!

 

20- سورة الروم: (مكيّة)

جاء في المصحف الأميري وتاريخ القرآن لأبي عبدالله الزنجاني والمجمع: استثناء قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾(31).

 

ولا سند لهذا الاستثناء، فضلا عن ارتباطها الوثيق مع آيات سبقتها وآيات لحقتها!

 

21- سورة لقمان: (مكيّة)

روي عن ابن عباس: استثناء قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ- إلى قوله -: بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(32) ثلاث آيات.

 

وذلك لأنه (رضي الله عنه) روى في سبب نزولها: أنّ أحبار يهود قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة: إنّا قد أُوتينا التوراة وفيها علم كثير، فقال (صلى الله عليه وآله): إنّها في جنب علم الله قليل، فنزلت الآيات(33).

 

ولكن التعليل إن كان يتناسب مع الآية رقم: 27 فرضاً، فإنّه لا يتناسب مع الآيتين بعدها، ولا يصلح داعية لنزولهما البتة.

 

والصحيح أنّ الآيات الثلاث، هي كسوابقها ولواحقها منسجمة بعضها مع بعض وهي جميعاً عرض لعظمة ربّ العالمين، لايدانيه أحد، ولا يماثله شيئ!.... فلا سبب يفصلها عن قريناتها، ومن ثم لا وجه لاستثنائها أصلا.

 

ولو صحّت الرواية المذكورة عن ابن عباس، فلابدّ أنّه (صلى الله عليه وآله) قرأها عليهم حينما عرضوا عليه ذلك التحدّي الغريب! لا أنّها نزلت حينذاك.

 

22- سورة السجدة: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(34).

 

قال جلال الدين: لما أخرجه البزّار وابن مردويه عن بلال، قال: كنّا جلوساً وناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت(35).

 

قلت: الآية عامّة. وانسجامها مع قريناتها من آيات بادية الوضوح. فضلا عن عدم التئامها مع فحوى الروياة في شيئ.

وفي المصحف الأميري وتاريخ الزنجاني: استثناء قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾(36).

 

ولعل ذلك نظراً لأنّها تتميم للآية السابقة. والأصحّ أنّها كسابقتها عامّة.

 

وروي عن ابن عباس: استثناء قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً - إلى قوله- نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(37).

 

وذلك لما روي بطرق وأسانيد كثيرة ومعتبرة: أنّها نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) والوليد بن عقبة بن أبي معيط، في مشاجرة جرت بينهما يوم بدر، قال له الوليد: اسكت فإنّك صبيّ وأنا أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأردّ منك للكتيبة! فقال له علي (عليه السلام) على رسلك فإنّك فاسق، وليس كما تقول.

 

أخرجها أبو الفرج الإصبهاني في كتاب الأغاني، والواحدي في أسباب النزول وابن مردويه. والخطيب البغدادي. وابن عساكر من طرق عن ابن عباس. وأخرجها ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار. وأخرجها ابن أبي حاتم عن السدّي وعبد الرحمان بن أبي ليلى. فالمؤمن الذي عنته الآية الكريمة هو علي بن أبي طالب والفاسق هو الوليد(38).

 

وأخرجها الحافظ الحسكاني باثنى عشر طريقاً، ربّما بلغت بذلك حدّ التواتر(39).

 

قلت: سياق الآية عام، وهي مرتبطة مع بقيّة الآيات، سابقة ولاحقة. يبدو ذلك لأدنى مراجعة إلى السورة.

 

نعم يجوز نزول آية مرّة ثانية لمناسبة تستدعي ذلك، الأمر الذي حدث في كثير من آيات سوف ننبذه عليها. ويحتمل أنّ المحاورة المذكورة بلغت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقرأ الآية الكريمة، تطبيقاً مع المورد، فقد فسق الوليد هذا في آيات أُخرى، ونزلت: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾(40) بشأنه الخاصّ، أخرجه جلال الدين بأسانيد رجالها ثقات(41).

 

23- سورة سبأ: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾(42).

 

هذه الآية إشارة إلى أن أهل العلم الواقعيين يؤمنون بهذا الكتاب إيمانا صادقا عن علم ويقين، ولاشكّ أنّ الأمر كذلك، فالنابهون العقلاء وأرباب الفضيلة والكمال، لا يتردّدون في الإيمان بهذا الكتاب العزيز الذي لا ريب فيه، فور معرفتهم به. وهذا شأن كلّ حقّ صريح. وهكذا رجّح هذا المعنى العلاّمة الطبرسي، قال: وهذا أولى، لعمومه... ثم قال: لأّنهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه، فيعلمون بالنظر والاستدلال أنّه ليس من قبل البشر(43).

 

لكن أبا جعفر الطبري فسّر الآية - ابتداء- بمسلمي أهل الكتاب كعبدالله ابن سلام ونظرائه(44). ومن ثم زعم بعضهم أنذ الآية مدنية نزلت بعد إسلام هؤلاء(45).

 

هذا... وأبو جعفر لم يستند في تفسيره ذلك إلى نقل مأثور(46) وإنما نقل عن قتادة: أنهم أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) السابقين الأوّلين ممّن وجدوا الإسلام حقيقة ناصعة فاحتضنوها عن معرفة ويقين. فنقله يختلف عن رأيه هو!

 

واستثني منها - أيضاً- قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ - إلى قوله-:وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾(47) سبع آيات.

 

يروى عن فروة بن مسيك: أنّه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو سمع رجلا يسأله (صلى الله عليه وآله) عن سبأ: جبل أم أرض، رجل أم امرأة؟ فنزلت الآيات، وكان هذا السؤال بعد مرجعه من غزو قبائل سبأ، أرجعه رسول

 

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه لم يؤمر بذلك(48).

 

قال ابن الحصار: وهذا يدلّ على أنّ نزول الآيات كان بالمدينة، لأنّ مهاجرة فروة كانت بعد إسلام ثقيف سنة تسع من الهجرة(49).

 

لكنه قال بعد ذلك: ويحتمل أن يكون قوله: (اُنزل في سبأ ما أُنزل) حكاية عمّا تقدّم نزوله قبل الهجرة بمكة، لا نزوله حينذاك.

 

قلت: لو صدقت القصة لابدّ من حمل قوله في ذلك على الحكاية، اذ يبعد جداً نزول آية أو آيات لمجرد سؤال رجل كان جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) كافياً لارضاء حسّ استطلاعه - كما جاء في الرواية- ولم يستدع تفصيلا تعرّضت له الآيات.

 

على أنّ ملاحظة عبرى بشأن قصة سبأ كما وردت في القرآن تكفي للدلالة على أنّ الهدف منها عامّ كسائر القصص الواردة في القرآن تروم توجيه البشريّة إلى معالم السير الصحيح، تنبيها لها على مواضع الخطأ في حياتها الغابرة لتأخذ منها درساً تسير عليه في حياتها الحاضرة.

 

والصحيح في قصة فروة بن مسيك: أنّه سأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن قصة سبأ بعد أن قرأها في القرآن، فسأله (صلى الله عليه وآله) عن سبا أرجل هو أم امرأة، أم هو اسم ارض أم جبل؟ فشرح له النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه رجل من العرب كان له من الأولاد كذا وكذا(50). وهذا يدلّ على تأخر السؤال عن نزول الآيات.

 

وأخيراً فإنّ الرواية بهذا الشأن عن فروة مضطرية وتناقضة بعضها مع بعض، بما يجعل الاستناد إليها في الحكم بنزول الآيات بشأنها مستحيلا.

 

فقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح قال: حدّثني فلان-؟- أنّ فروة بن مسيك الغطفاني-؟- قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا نبيّ الله إنّ سبأ قوم كان لهم في الجاهلية غزو. وإنّي أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام-؟- أفاُقاتلهم؟ فقال: ما أُمرت فيهم بشيئ بعد، فأُنزلت هذه الآية: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ...﴾(51).

 

انظر إلى هذه الرواية المتفكّكة سنداً وتناً وأًُسلوباً، وعدم أيّ مناسبة بين مضمونها ونزول هكذا آيات!! الأمر الذي يجعلنا نطمئن بأنّها لم تكن من حياكة إنسان نابه يلتفت إلى ما يقوله من كلام!

 

وهكذا سائر الروايات الواردة بهذا الشأن، فراجع(52).

 

فان كانت هكذا مناسبات تستدعي نزول قرآن، فأجدر بنا أن نقول: إنّه كان ينزل بلا مناسبه!!

 

24- سورة فاطر (الملائكة): (مكيّة)

قال الحسن: إلاّ آيتين:

 

الأُولى: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ...﴾(53).

 

الثانية قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...﴾(54).

 

ولعلّ الأُولى لذكر الصلاة فيها...

 

والثانية من أجل تعقيبها بقوله:﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾. فقد روى عكرمة عن ابن عباس: أنّ الظالم هو المنافق...(55).

 

غير أنّ الصلاة فرضت بمكّة... وكان تطبيق الظالم على المنافق لا يستدعي نزول الآية بالمدينة حيث وفور المنافقين، لأنّه تطبيق وبيان مصداق من ابن عباس، إن صحّ الحديث. واللّفظ عامّ لا يتقيّد بموارد تطبيقه.

 

25- سورة يس: (مكيّة)

استثنيت منها آيتان:

 

الأُولى: قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾(56).

 

أخرج الحاكم والترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: كانت بنوسلمة في ناحية من المدينة، فشكوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه، فنزلت الآية، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ آثاركم تكتب، فلم ينتقلوا(57).

 

لكن القصّة لا تصلح سبباً لنزول جميع فقرات الآية، لعدم المناسبة! ولعلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) استشهد بفقرة منها بعدما شكوا إليه بعد منازلهم، حيث أفضل الأعمال أحمزها.

 

الثانية: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(58). قال ابن عباس: نزلت بالمدينة بشأن المنافقين(59).

لكنّها صريحة في خطابها مع الذين كفروا، وقد نصّ أبوجعفر نزولها بشأن المشركين(60) وهكذا يشهد بذلك سياق الآية ذاتها.

 

وفي المصحف الأميري وتاريخ الزنجاني: استثناء الآية رقم: 45.

 

ولعلّه سهو جاء في اشتباه الرقم. وعلى الفرض فسياقها نفس سياق الآية رقم: 47 والكلام فيها هو الكلام في تلك.

 

26- سورة الزمر: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾61).

 

نقل السخاوي في (جمال القراء) عن بعضهم: أنّها نزلت بالمدينة(62).

 

لكن الآية بنفسها تشي بأنّها (مكيّة)، نزلت تحرّض المؤمنين المستضعفين على المهاجرة. وهكذا روي عن ابن عباس(63).

 

واستثني - أيضاً- قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ...﴾(64).

 

حكى ابن الجرزي عن بعضهم – أيضاً- أنّها نزلت بالمدينة(65).

 

لكن لهجة الآية الرنّانة الأخّاذة بمجامع القلوب، بذاتها شاهدة على أنّها (مكيّة)، كما أنّ السياق أيضاَ يشهد بذلك، ولا وجه لهذا الاستثناء بتاتاً.

 

وهكذا استثني منها قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ- إلى قوله -:وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(66) ثلاث آيات.

 

قيل: نزلن في وحشي قاتل حمزة! روي ذلك عن ابن عباس بسند ضعيف(67).

 

نعم أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس، قال: أُنزلت هذه الآية في مشركي أهل مكة(68) وهكذا فسّرها أبو جعفر بعدّة طريق(69).

 

قلت: لا يستحق وحشي - وهو وحش في صورة إنس- أن تنزل عليه بالخصوص آية هي ذات صدى عاطفي رقيق، وذات إشارات خفيّة لا يلسمها إلاّ ذووا أفهام ناضجة وقرائح متوقّدة!

 

قال العلاّمة الطبرسي: ولا يصحّ نزولها بشأن (وحشي) لأنّ الآية نزلت بمكة، ووحشي أسلم بعدها بسنين كثيرة، ولكن يحتمل أن يكون قرئت عليه الآية فكانت سبب إسلامه(70).

 

 

 

المصدر:

كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة

 

 

 

 

 

1- الأنبياء: 44. الإتقان: ج1 ص16.

2- المؤمنون: 64 – 77. الإتقان: ج1 ص16.

3- تفسير الطبري: ج18 ص28.

4- تفسير الطبري: ج19 ص26.

5- الشعراء: 197.

6- الإتقان: ج1 ص16.

7- تفسير الطبري: ج19 ص69. والدر المنثور: ج5 ص95.

8- تقدم ذلك في الصفحة: 195.

9- الشعراء: 224.

10- الإتقان: ج1 ص9 و16.

11- الدر المنثور: ج5 ص99. وتفسير الطبري: ج19 ص78.

12- مجمع البيان: ج7 ص208.

13- جامع البيان: ج19 ص78.

14- القصص: 52 - 55.

15- مجمع البيان: ج7 ص258.

16- الإتقان: ج1 ص16.

17- مجمع البيان: ج7 ص358. وجامع البيان: ج20 ص57. والدر المنثور: ج5 ص133.

18- العنكبوت: 46.

19- العنكبوت: 47.

20- القصص: 85.

21- مجمع البيان: ج7 ص268.

22- تقدم ذلك في الصفحة: 129.

23- الإتقان: ج1 ص16.

24- أسباب النزول بهامش الجلالين: ج2 ص32.

25- جامع البيان: ج20 ص83.

26- مجمع البيان: ج7 ص272.

27- تقدم ذلك في الصفحة: 133.

28- العنكبوت: 60.

29- الإتقان: ج1 ص16. والدر المنثور: ج5 ص149.

30- العنكبوت: 56-60. مجمع البيان: ج8 ص290.

31- الروم: 17. تاريخ القرآن لأبي عبدالله الزنجاني: ص30. ومجمع البيان: ج8 ص293.

32- لقمان: 27 – 29.

33- الدر المنثور: ج5 ص167. والإتقان: ج1 ص16.

34- السجدة: 16.

35- الإتقان: ج1 ص16. والدر المنثور: ج5 ص175.

36- السجدة: 17.

37- السجدة: 19-18.

38- راجع الدر المنثور: ج5 ص178. وتفسير الطبري: ج21 ص68. وتفسير النيسابوري بهامش الطبري: ج21 ص72. ومجمع البيان: ج8 ص332.

39-

40- شواهد التنزيل: ج1 ص445-453.

41- الحجرات: 6.

42- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص80-82. واخرجه أيضاً أصحاب مجاميع معتبرة فراجع.

43- سبأ:6.

44- مجمع البيان: ج8 ص378 – 379.

45- جامع البيان: ج22 ص44.

46- الإتقان: ج1 ص16.

47- وفي مجمع البيان: ج8 ص378: أنّه قول الضحّاك.

48- سبأ: 15-21.

49- مجمع البيان: ج8 ص386. وجامع البيان: ج22 ص53. والدر المنثور: ج5 ص231.

50- الاتقان: ج1 ص16.

51- مجمع البيان: ج8 ص386.

52- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص55.

53- تفسير الطبري. والدر المنثور، وغيرهما.

54- فاطر: 29.

55- فاطر: 32.

56- مجمع البيان: ج8 ص399 و409.

57- يس: 12.

58- مجمع البيان: ج8 ص418. والإتقان: ج1 ص16. وتفسير الطبري: ج22 ص100.

59- يس: 47.

60- الإتقان: ج1 ص16. ومجمع البيان: ج8 ص413.

61- جامع البيان: ج23 ص9.

62- الزمر: 10.

63- الإتقان: ج1 ص16.

64- مجمع البيان: ج8 ص492.

65- الزمر: 23.

66- الإتقان: ج1 ص16.

67- الزمر: 53-55.

68- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص63.

69- نفس المصدر.

70- جامع البيان: ج24 ص10.