(استثناءات من سور (مكيّة) (4

 27- سورة المؤمن (غافر): (مكيّة)

استثنيت منها ثلاث آيات:

 

الأُولى: قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾(1).

 

قال الحسن: لأنّها تعني بذلك صلاة المغرب وصلاة الفجر، وقد ثبت أنّ فرض الصلاة نزل بالمدينة(2).

 

قلت: وهذا غريب! لأنّ الصلاة أوّل ما فرضت فرضت بمكة، وكان المسلمون يصلّون بها جماعة وفرادى. وتقدّم: أنّ الصلاة هي أوّل شيئ جاء به جبرائيل وعلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوضوء والصلاة في بدء بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

 

وأيضاً فإنّ صدر الآية: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ دليل على مكيتّها، فضلاً عن السياق المتناسب.

 

الثانية والثالثة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ- إلى قوله- وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(4). قال جلال الدين: أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح -!- عن أبي العالية، قال: إنّ اليهود أتوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقالوا: الدجّال منّا يخرج في آخر الزمان... وجعلوا يعظّمون من شأنه، فأنزل الله هاتين الآيتين، وفيهما:﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ﴾(5).

 

قلت: نعوذ بالله من سفاسف الكلام، كيف تنزل آية قرآنية في ردّ مزعومة تافهة تبجج بها يهودي، لتجعل المقايسة بين دَجَل دجّال وخلق السماوات والأرض؟!

 

ولقد أحسن أبو جعفر الطبري(6) فلم يذكر شيئاً من تلكم الأحاديث الفارغة التي ملأ بها جلال الدين السيوطي تفسيره، ونحن ننزّه القرآن الكريم منها بتاتا!

 

ثمّ إنّ الآية قارنت بين خلق السماوات وخلق الناس، وجعلت الأُولى أكبر، وهذا دليل على جحود وقع بشأن خلق الإنسان... الأمر الذي يتنافى مع تلك المزعومة السخيفة...

 

ومن العجيب أنّ مثل الطبرسي(7) انخرط مع أمثال السيوطي في هذا الفراغ التافه!

 

28- سورة الشورى: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً- إلى قوله-:وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾(8) ثلاث آيات.

قيل: نزلن في الأنصار. رواه الطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف(9).

 

وقوله: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ- إلى قوله- خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾(10).

 

قيل: نزلت في أصحاب الصفّة، أخرجه الحاكم وصححه(11).

 

قلت: من المستبعد جداً نزول الآيات الأُولى في الأنصار، إذ كيف يعقل نسبة هذا الكلام إليهم: ﴿افْتَرَى- يعني محمد-عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾؟!

 

أمّا الآية الأخيرة فهي عامّة، ولو صحّت الرواية عن علي (عليه السلام) فإنّما تعني شمولها لهم بعمومها، لا أنّها نزلت بشأنهم الخاص، إذ ذلك - على هذا الفرض- قدح لاذع بأهل الصفّة، وحاشا القرآن أن يجرح من عاطفة جماعة من المؤمنين لمكان فقرهم!!

 

واستثني - أيضاً- قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ- إلى قوله-: فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾(12).

حكى أبو غرس عن بعضهم: أنّهنّ نزلن بالمدينة(13).

 

غير أنّ السياق مكيّ لا غير، وآيات تقدمتها تأخّرتها مرتبطة بها تمام الارتباط، ممّا يجعل التفكيك مستحيلا، وكلّهن نزلن بشأن المؤمنين في مكة أيام كانوا مستضعفين، هذا لا يشكّ فيه من راجع الآيات.

 

29- سورة الزخرف: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾(14).

 

قال مقاتل: نزلت ببيت المقدس ليلة المعراج(15) وقيل: نزلت بالمدينة(16). لكن الآية مرتبطة بقريناتها المكتنفة بها ارتباطاً وثيقا. ونزلت ب(إيّاك أعني واسمعي يا جارة) فهي (مكيّة) بلا شكّ، نزلت بشأن المشركين. أمّا نزولها في السماء(17) أو ببيت المقدس فلا تجعلها مدنيّة، وإنّما هي (مكيّة) باعتبار نزولها قيل الهجرة، وفق الاصطلاح المتقدّم(18).

 

وجاء في المصحف الأميري ومقلدته: استثناء آية رقم:54. ولعلّه اشتباه في الرقم.

 

30- سورة الجاثية: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ﴾(19).

قال قتادة: نزلت بالمدينة(20).

 

والصحيح: أنّها من آيات الصفح التي نزلت بمكة أيام كان المؤمنون مستضعفين، ومن ثم نسخت فيما بعد، عندما قويت شوكة الإسلام بالمدينة(21).

 

31- سورة الأحقاف: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾(22).

 

أخرج الطبراني أنّها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبدالله بن سلام(23).

 

قلت: ما أغرب ولع المفسّرين بكلّ آية جاء فيها إلماح بإيمان أهل الكتاب فسرعان ما أوّلوها بعبدالله بن سلام وأضرابه؟!

 

والصحيح: أنّها تشنيع بقريش تقاعست عن الإيمان بدين جاء على يد رجل منهم وعلى لغتهم، ثم يؤمن به غيرهم من بني إسرائيل وغيرهم. وإنّما خصّ بنو إسرائيل بالذكر - هنا- لمزيد عناية العرب آنذاك بهم وثقتهم بعلمهم وثقافتهم.

هذا... وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: أُنزلت هذه الآية بمكة بشأن المشركين، وهكذا أخرج أبو جعفر الطبري بعدة أسناد(24).

 

واستثني - أيضاً- قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً- إلى قوله-: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾(25) خمس آيات. قيل: نزلت الآيات في أبي بكر حيث برّ بوالديه وفي ابنه عبد الرحمان عندما عقّ والديه، وهما لا يحاولان إسلامه(26).

 

لكن الآيات في كلا الموضعين عامّة، بدليل صيغة الجمع تعقيباً على كلّ من الفقرتين، فالآيات تصوير تفصيلي عن الذي يبرّ بوالديه والذي يعقّهما بصورة عامّة(27).

 

وعلى تقدير نزولها بشأن أبي بكر وابنه عبد الرحمان فلا موجب لعدّها مدنيّة بعد أن كانت تلك القصة بشأنها - على فرض الصحّة- بمكة.

 

وكذلك لأوجه لاستثناء قوله:﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾(28).

 

بعد أن كانت لهجتها (مكيّة)، وسياق لحنها موجّه إلى مشركي قريش، نزلت أيام كان المسلمون على ضعف ومن ثم نسخت بعدئذ بآية القتال.

  

32- سورة ق: (مكيّة)

أخرج الحاكم وغيره: أنّ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾(29) نزلت بالمدينة، ردّاً على مزعومة يهوديّة، قالوا: إنّ الله استراح يوم السبت بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام من يوم الأحد إلى يوم الجمعة(30). وزاد في المجمع عن الحسن إلى قوله ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾(31).

 

قلت: أمّا نزولها ردّاً على تلك المزعومة الباطلة فنعم، وأمّا أنّها نزلت بالمدينة فلا! وذلك لأنّ العرب - كما سبق مراراً- كانوا على اتصال دائم بأهل الكتاب، وربّما كانوا يأخذون منهم تعاليم أو معارف ممّا يخصّ خلق السماوات والأرض، فكانت مشهورة بين العرب المشركين، فهذا الردّ - لو صحّ أنّه ردّ- لا يدلّ على أنّه نزل بالمدينة! فلعلّ الرواية القائلة بأنّها نزلت في اليهود، إنّما تعني ما ذكرنا، أي نزلت في تعاليم كانوا بثّوها بين العرب.

 

والشاهد على أنّ الآية (مكيّة): ما جاء تفريعاً عليها: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ...﴾ التي هي من آيات الصفح المكيّة، والتي نسخت فيما بعد.

 

33- سورة النجم: (مكيّة)

استثني منها قوله: ﴿...هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾(32).

 

أخرج الواحدي عن ثابت بن الحرث الأنصاري، قال: كانت اليهود تقول - إذا هلك لهم صبيّ صغير-: صدّيق. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: كذبوا، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أُمّه إلا انّه شقيذ أو سعيد، فأنزل الله عند ذلك: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ...﴾(33).

 

قلت لو صحّت الرواية فلا دلالة فيها على نزول الآية بالمدينة، فلعلّ قولة اليهود - وهم يبثّون تعاليمهم الفاسدة بين العرب- بلغت الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو بمكة، فنزلت الآية بها!

 

لكن الرواية المذكورة لا مساس لها بفحوى الآية رأساً، لأنّ قوله: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ...﴾ تعليل لقوله: ﴿وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾.

يعني: إنّ هذا الإنسان مفطور على اقتراف مطاليب أرضيّة سافلة وفقاً لفطرته البشريّة المتركذبة من نزعات ورغبات، والله أعلم بذلك، ومن ثم عهد على نفسه الغفران، رحمة بهذا الإنسان ورأفة بموقفه الخاصّ تجاه رغباته ونزغاته.

 

واستثني - أيضاً- قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى...﴾ إلى تمام الآيات التسع(34).

 

قيل: نزلت في رجل أتى النبي (صلى الله عليه وآله) عند خروجه إلى غزاة، يطلب مركباً وسلاحاً فلم يجد، فلي صديقاً له فقال: أعطني شيئاً. فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمّل بذنوبي، فقال: نعم. فنزلت الآيات(35).

 

لكن الآيات لا تنطبق على فحوى القصة في شيئ وإنّما نزلت في صنديد من صناديد قريش في تفصيل ذكره أبو جعفر الطبري، فراجع(36).

 

34- سورة القمر: (مكيّة)

استثني منها ثلاث آيات:

 

الأُولى: قوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾(37) زعموها نزلت يوم بدر(38). والصحيح: أنها وعد بظفر المسلمين فيما يأتي، فتحقّق يوم بدر(39).

 

الثانية والثالثة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾(40).

 

ولم يذكر المستثني سبباً لاستثنائهما! كما لا وجه له بعد ملاحظة وحدة السياق، وذلك الانسجام الوثيق.

 

وجاء في مصحف الأميري: استثناء الآيات رقم: 44 و 45 و46. ولعله اشتباه في الرقم اثبتوه من غير تحقيق.

 

35- سورة الواقعة: (مكيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾(41) ولعلّه لما رواه ابن مسعود من رؤيا رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقصّها على أصحابه ثم قرأ عليهم الآيتين(42) وهذه القصة كانت بالمدينة.

لكن قراءته (صلى الله عليه وآله) لا تدلّ على نزولهما حينذاك.

 

واستثني – أيضاً- قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ . لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ . تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ . وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾(43).

 

لما رواه مسلم والحاكم وغيرهما: أنّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أُصيبوا بجدب أو نفدت مياههم في سفر من الأسفار، أو في غزوة تبوك، فشكوا إليه فقام (صلى الله عليه وآله) وصلّى ركعتين ثم دعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت عليهم، فجعل بعض المنافقين يسرّ إلى بعضهم: إنّما مطرنا بنوء كذا، فنزلت الآيات(44).

 

غير أنّ الآيات تأبى الانطباق على هذه القصة، وأنّها ردّ على ناكري القرآن وحياً من الله العزيز الحميد، ولا مساس لها بقضيّة الأنواء، لا في ظاهر الآيات ولا في فحواها. كما أنّ انسجام الآيات سبقا ولحوقا ذلك الانسجام البديع يجعل من قبول الرواية المذكورة مستحيلا.

 

 

36- سورة الملك: (مكيّة)

روي عن ابن عباس: أُنزلت تبارك الملك في أهل مكة إلاّ ثلاث آيات(45).

 

قلت: ليس معنى هذا الكلام: أنّها نزلت بمكة غير ثلاث آيات نزلن بغيرها! وذلك لأنّه قال: في أهل مكّة، ولم يقل: في مكة أو بمكة!

 

بل المعنى: أنّ هذه السورة نزلت تقريعاً وتشنيعاً بأهل مكة أي المشركين، فكلّ آياتها تهديد وتوعيد بشأنهم، غير ثلاث آيات تخصّ المؤمنين: أُولاها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم...﴾. والثانية قوله:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ...﴾

 

والثالثة قوله: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ...﴾(46).

 

فالصحيح - كما جاء في حديث ابن خديج-: أنّها نزلت جملة واحدة بمكة(47).

 

37- سورة القلم: (مكيّة)

حكى السخاوي في جمال القرّاء: استثناء قوله: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ - إلى قوله-:لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(48).

 

سبعة عشرة آية. وقوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ - إلى قوله-: فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(49) ثلاث آيات. فهذه عشرون آية زعموها نزلت بالمدينة وزاد في المجمع الآية رقم: 51 والآية رقم: 52(50).

 

أخرج ابن أبي حاتم وابن جريح: أنّ أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذاً، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحداً، فنزلت: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ...﴾ الخ(51).

 

ولكن لا مناسبة ظاهرة بين كلام أبي جهل هذا وفحوى الآيات المذكورة، ليكون الداعي لنزولها!

 

والصحيح: أنّها نزلت بشأن المشركين عموماً، انسجاماً مع بقية آيات السورة، وهكذا فسّرها العلاّمة الطبرسي وأبو جعفر الطبري(52).

 

وأمّا قوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ...﴾ الخ فهي من آيات الصفح ال(مكيّة) بلا ريب، وما ندري ما وجه هذا الاستثناء الغريب؟!

 

38- سورة المزّمل: (مكيّة)

استثني منها قوله: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ - إلى قوله-: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾(53).

 

حكاه الاصبهاني(54) لكن الآيتين تصبير للنبيّ (صلى الله عليه وآله) تجاه أذى المشركين، وتوعيد بهم، فهما آيات الصفح الـ(مكيّة)، ولا وجه لعدهما مدنيّتين.

 

وحكى ابن الغرس استثناء قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله-: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(55).

 

قال جلال الدين: ويردّه ما أخرجه الحاكم: أنّه نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، وذلك حين فرض قيام الليل في أوّل الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس(56) وهكذا أخرج عبد بن حميد عن عكرمة، قال: لبث المسلمون بعد نزول: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ...﴾ سنة فشقّ عليهم وتورّمت أقدامهم، حتى نسختها آخر السورة: ﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾(57).

 

قلت تمسّك القائل بمدنيّة الآية بأنّ الصلاة والزكاة لم تفرضا بمكة(58) وهو استدلال غريب، لأنّ الصلاة هي أُولى فريضة فرضت بمكة(59) أمّا الزكاة فليست هي الزكاة المفروضة بحدود وأنصبة مقررة، وإنّما هي مطلق التصدّق وقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾(60). وقوله: ﴿لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾(61).

 

نعم جاءت تفاصيل حدودها وأحكامها بالمدينة، أمّا أصلها فكانت واجبة بمكة بلا شك.

 

وليته تمسّك بقوله: ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والقتال لم يشرّع أصلا إلاّ بالمدينة. لكنّه على تقدير أن يراد بالقتال: هو ما يقع فعليّاً، لا ما سيفرض وسيقع بعد ذلك! والاحتمال الثاني أوجه، نظراً إلى أنّه تعالى - في هذه الآية- يذكر أسباب رفع ذلك التكليف الأوّل الشديد وتبديله إلى تكليف آخر خفيف. ومن تلك الأسباب تشريع القتال بعدئذ، من غير أن يكون هنا دليل صريح على إرادة فعليّته حينذاك.

 

39- سورة المرسلات: (مكيّة)

قالوا باستثناء: قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾(62).

 

قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، فإنّ ذلك سبّة علينا(63) وثقيف أسلمت بالمدينة.

 

لكن وجه الآية وسياقها مع المكذّّبين، وهم مشركو العرب، ولا معنى لأن يكون هذا الموضع من السورة خلواً من هذه الآية إلى أواخر سني الهجرة ثم تكتمل. إذ ذلك يخلّ بفصاحة السورة ويخلخل من نظمها المنسجم.

 

على أنّ الركوع هنا بمعنى: الخضوع لله والانقياد التامّ لأوامره ونواهيه، لا اركوع المصطلع جزء من الصلاة. وهذا هو اختيار أبي جعفر الطبري(64). كما جاء بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(65). راجع تفسير شبر في هذا الموضوع قال: أو أريد به الخضوع والانقياد للحق. وقال - في سورة المرسلات - بصورة جزميّة: وَإذَا قِيل لَهُمْ ارْكَعُوا: سلّموا واخشعوا أو انقادوا(66). إذن فلا مساس للآية بقضيّة إسلام ثقيف، بل هي عامّة حكاية عن صمود المشركين أمام الحقّ الصراح.

 

40- سورة المطفّفين: (مكيّة)

قالوا: نزل صدرها في المدينة أوّل قدوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليها فقد كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله(عزّوجلّ): وَيْلٌ لِِلْمُطفِّفِينً - إلى تمام تمام الست آيات- فأحسنوا لكيل بعد ذلك(67).

 

وقد تقدّم: أَنّه من المستبعد جداً مواجهة الرسول (صلى الله عليه وآله) للأنصار بهكذا آيات ذوات لهجة عنيفة، في أوّل لقياه معهم في دارهم التي آووه إليها، وشمّروا ساق الجدّ لمؤازرته ونصرته، عاهدوه على أنفسهم وأموالهم في

سبيل إعلاء كلمة الإسلام.

 

والصحيح: أنّها بأجمعها (مكيّة)(68).

 

وكانت هناك استثناءات من سور (مكيّة) تركناها خوف الإطالة، ولعدم الاستناد إلى حجّة مقبولة. كالاستثناء من سورتي الليل والماعون ذكرهما السيوطي في الإتقان.

 

الهوامش:

(69) جاءت في المصحف الأميري المطبوع بالقاهرة بإذن مشيخة الأزهر وبإشراف لجنة مراقبة البحوث الإسلاميّة، استثناءات بأرقام كبيرة، لكنّه تقليد محض لا أصل لأكثريّتها الساحقة. وهكذا سجّلها من غير تحقيق الشيخ أبو عبدالله الزنجاني في تاريخ قرآنه.

 

أضف إلى ذلك تناقضات جاءت في هكذا اختيارات تقليديّة:

 

مثلاً: جاء في المصحف الأميري أنّ سورة الم تنزيل - السجدة- نزلت بعد سورة المؤمن، وأنّ سورة حم تنزيل – فصلت- نزلت بعد سورة غافر! في حين أنّ المؤمن وغافر اسمان لسورة واحدة!

 

وأثبت أبو عبدالله في تاريخ قرآنه قائمتين بشأن ترتيب نزول السور فذكر في القائمة الأُولى: أنّ سورة الأنعام نزلت بعد الحجر. وفي الثانية: أنّها نزلت بعد الكهف! كما ذكر في الأُولى أنّ الأعراف نزلت بعد ص وفي الثانية: نزلت بعد الأنفال! وذكر أنّ السور ال(مكيّة): 85. والسور المدنيّة: 28. ولم يلتفت أنّها تنقص مجموع سور القرآن بواحدة! وأظنّه في ذلك قلّد الإمام بدر الدين الزركشي!!

 

كما جاء في مصحف مطبوع في إيران على عهد القاجاريّة قائمتان، الأُولى تسجّل عام نزول كلّ سورة، والثانية تسجّل ترتيب النزول. فجاء في الأُولى: نزلت الصافات في العام الخامس من البعثة، ونزلت الأنعام في العام الثالث عشر. ثم جاء في القائمة الثانية: أنّ الصّافات نزلت بعد الأنعام!! وأمثال هذا التناقض كثير.

 

المصدر:

كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة

 

 

1- مجمع البيان: ج8 ص503.

2- المؤمن: 55.

3- مجمع البيان: ج8 ص512.

4- تقدم ذلك في الصفحة: 125.

5- المؤمن: 56 – 57.

6- الدر المنثور: ج5 ص353. وأسباب النزول بهامش الجلالين: ج2 ص65.

7- جامع البيان: ج24 ص50.

8- مجمع البيان: ج8 ص528.

9- الشورى: 24-26.

10- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص68.

11- الشورى: 28.

12- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص68

13- الشورى: 39 – 41.

14- الإتقان: ج1 ص16. وزاد في مجمع البيان: ج9 ص20 الآية رقم 23 و 38 عن الحسن وقتادة، لكنّه لم يذكر سند الاستثناء، وهما كسائر آيات السورة ذواتا لهجة (مكيّة) والسياق نفس السياق.

15- الزخرف: 45.

16- مجمع البيان: ج9 ص38. والدر المنثور: ج6 ص19.

17- الإتقان: ج1 ص16.

18- تقدم ذلك في الصفحة: 129.

19- الجاثية: 14.

20- مجمع البيان: ج9 ص70. والإتقان: ج1 ص16.

21- راجع تفسير الطبري: ج25 ص87.

22- الاحقاف: 10.

23- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص72. وتفسير الطبري: ج26 ص8. والإتقان: ج1 ص16.

24- جامع البيان: ج26 ص7. والدر المنثور: ج6 ص39.

25- الاحقاف: 15-19.

26- الدر المنثور: ج6 ص41. وتفسير الطبري: ج26 ص13.

27- مجمع البيان: ج9 ص87.

28- الاحقاف: 35. الإتقان: ج1 ص16.

29- ق: 38.

30- الدر المنثور: ج6 ص110. والإتقان: ج1 ص16.

31- ق: 39.

32- النجم: 32.

33- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص89. والدر المنثور: ج6 ص128.

34- النجم: 33- 41.

35- الدر المنثور: ج6 ص128.

36- جامع البيان: ج27 ص41-42.

37- القمر: 45

38- لباب النقول بهامش الجلالين: ج2 ص90.

39- مجمع البيان: ج9 ص194. وراجع الإتقان: ج1 ص17 و 36. وتفسير الطبري: ج27 ص65.

40- القمر: 54- 55.

41- الواقعة: 39 – 40. الإتقان: ج1 ص17.

42- مجمع البيان: ج9 ص 219.

43- الواقعة: 75- 82.

44- أسباب النزول بهامش الجلالين: ج2 ص92 – 93.

45- الدر المنثور: ج6 ص246.

46- الملك: 12 و15 و29.

47- الدر المنثور: ج6 ص246.

48- القلم: 17 – 33.

49- القلم: 48 – 50.

50- الإتقان: ج1 ص17. ومجمع البيان: ج10 ص330.

51- الدر المنثور: ج6 ص253.

52- مجمع البيان: ج10 ص336. وجامع البيان: ج29 ص19.

53- المزمل: 10 -11.

54- الإتقان: ج1 ص17.

55- المزمل: 20.

56- الإتقان: ج1 ص17.

57- الدر المنثور: ج6 ص280.

58- مجمع البيان: ج10 ص 382.

59- راجع سيرة ابن هشام: ج1 ص259.

60- المؤمنون: 4.

61- فصلت: 7.

62- المرسلات: 48.

63- مجمع البيان: ج10 ص419.

64- راجع جامع البيان: ج29 ص150.

65- البقرة: 43.

66- تفسير شبر: ص46 و545.

67- الإتقان: ج1 ص17. والدر المنثور: ج6 ص324. ومجمع البيان: ج10 ص452.

68- راجع الصفحة: 154.

69- راجع الصفحة: 154.