القراءات والأحرف السبعة

قد يتخيل أن الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن هي القراءات السبع، فيتمسك لاثبات كونها من القرآن بالروايات التي دلت على أن القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا بد لنا أن ننبه على هذا الغلط، وان ذلك شئ لم يتوهمه أحد من العلماء المحققين.

 

هذا إذا سلمنا ورود هذه الروايات، ولم نتعرض لها بقليل ولا كثير.

وسيأتي الكلام على هذه الناحية.

والاولى أن نذكر كلام الجزائري في هذا الموضع.

 

قال: " لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها، حتى قام الامام أبو بكر أحمد ابن موسى بن العباس بن مجاهد - وكان على رأس الثلاثمائة ببغداد - فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين والعراقين والشام، وهم: نافع، وعبد الله ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن عامر، وعاصم وحمزة، وعلي (1) الكسائي.

 

وقد توهم بعض الناس أن القراءات السبعة هي الاحرف السبعة، وليس الامر كذلك...

 

وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة، لما فيه من الايهام...

 

قال أحمد ابن عمار المهدوي: لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الامر على العامة بايهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة...".

 

وقال الاستاذ اسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب في الشافي: " التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، لم يكن قرأ بأكثر من السبع، فصنف كتابا، وسماه كتاب السبعة، فانتشر ذلك في العامة...".

 

وقال الامام أبو محمد مكي: " قد ذكر الناس من الائمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة، وأجل قدرا من هؤلاء السبعة...

 

فكيف يجوز أن يظن ظان أن هؤلاء السبعة المتأخرين، قراءة كل واحد منهم أحد الحروف السبعة المنصوص عليها - هذا تخلف عظيم - أكان ذلك بنص من النبي صلى الله عليه واله وسلم أم كيف ذلك ! ! ! وكيف يكون ذلك ؟ والكسائي إنما ألحق بالسبعة بالامس في أيام المأمون وغيره - وكان السابع يعقوب الحضرمي - فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة ونحوها الكسائي موضع يعقوب ".

 

وقال الشرف المرسي: (2) " وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها - الاحرف السبعة - القراءات السبع، وهو جهل قبيح ".

 

وقال القرطبي: " قال كثير من علمائنا كالداودي، وابن أبي سفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع، التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الاحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف.

 

ذكره ابن النحاس وغيره وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الائمة القراء ".

 

وتعرض ابن الجزري لابطال توهم من زعم أن الاحرف السبعة، التي نزل بها القرآن مستمرة إلى اليوم.

 

فقال: " وأنت ترى ما في هذا القول، فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة، والثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الاعصار الاول، قل من كثر، ونزر من بحر، فإن من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين، وذلك أن القراء الذين أخذوا عن أولئك الائمة المتقدمين من السبعة، وغيرهم كانوا أمما لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضا أكثر وهلم جرا.

 

فلما كانت المائة الثالثة، واتسع الخرق وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدى بعض الائمة لضبط ما رواه من القراءات، فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم - فيما أحسب - خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة وتوفي سنة 224 وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية، جمع كتابا في قراءات الخمسة، من كل مصر واحد.

 

وتوفي سنة 258 وكان بعده القاضي اسماعيل بن اسحاق المالكي صاحب قالون، ألف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما، منهم هؤلاء السبعة.

 

توفي سنة 282 وكان بعده الامام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جمع كتابا سماه " الجامع " فيه نيف وعشرون قراءة.

 

توفي سنة 310 وكان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، جمع كتابا في القراءات، وأدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة.

 

وتوفي سنة 324، وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وروى فيه عن هذا الداجوني، وعن ابن جرير أيضا.

 

وتوفي سنة 324 ".

ثم ذكر ابن الجزري جماعة ممن كتب في القراءة.

 

فقال: " وإنما أطلنا هذا الفصل، لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءاتص 163:الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، أو أن الاحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه واله وسلم هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في " الشاطبية والتيسير "، وأنها هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه واله وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف، حتى أن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ، وكثير منهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذا، وربما كان كثير مما لم يكن في " الشاطبية والتيسير "، وعن غير هؤلاء السبعة أصح من كثير مما فيهما، وإنما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا " أنزل القرآن على سبعة أحرف " وسمعوا قراءات السبعة فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها، ولذلك كره كثير من الائمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطأوه في ذلك، وقالوا: ألا اقتصر على دون هذا العدد أو زاده، أو بين مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة.

 

ثم نقل ابن الجزري - بعد ذلك - عن ابن عمار المهدوي، وأبي محمد مكي ما تقدم نقله عنهما آنفا ". (3)

 

قال أبو شامة: " ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل ".

 

وبهذا الاستعراض قد استبان للقارئ، وظهر له ظهورا تاما أن القراءات ليست متواترة عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم - ولا عن القراء أنفسهم، من غير فرق بين السبع وغيرها، ولو سلمنا تواترها عن القراء فهي ليست متواترة عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم - قطعا.

 

فالقراءات إما أن تكون منقولة بالآحاد، وإما أن تكون اجتهادات من القراء أنفسهم، فلا بد لنامن البحث في موردين:

 

1- حجية القراءات:

ذهب جماعة إلى حجية هذه القراءات، فجوزوا أن يستدل بها على الحكم الشرعي، كما استدل على حرمة وطئ الحائض بعد نقائها من الحيض وقبل أن تغتسل، بقراءة الكوفيين - غير حفص - قوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " بالتشديد.

 

الجواب: ولكن الحق عدم حجية هذه القراءات، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي.

 

والدليل على ذلك أن كل واحد من هؤلاء القراء يحتمل فيه الغلط والاشتباه، ولم يرد دليل من العقل، ولا من الشرع على وجوب اتباع قارئ منهم بالخصوص، وقد استقل العقل، وحكم الشرع بالمنع عن اتباع غير العلم.

 

وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى. (4) ولعل أحدا يحاول أن يقول: إن القراءات - وإن لم تكن متواترة - إلا أنها منقولة عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم - فتشملها الادلة القطعية التي أثبتت حجية الخبر الواحد، وإذا شملتها هذه الادلة القطعية خرج الاستناد إليها عن العمل بالظن بالورود، أوالحكومة، أو التخصيص.

 

الجواب:

أولا: ان القراءات لم يتضح كونها رواية، لتشملها هذه الادلة، فلعلها اجتهادات من القراء، ويؤيد هذا الاحتمال ما تقدم من تصريح بعض الاعلام بذلك، بل إذا لاحظنا السبب الذي من أجله اختلف القراء في قراءاتهم - وهو خلو المصاحف المرسلة إلى الجهات من النقط والشكل - يقوى هذا الاحتمال جدا.

 

قال ابن أبي هاشم: " إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها.

 

ان الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل.

 

قال: فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة، بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط ... فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الامصار ".

 

وقال الزرقاني: " كان العلماء في الصدر الاول يرون كراهة نقط المصحف وشكله، مبالغة منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفا من أن يؤدي ذلك (5) إلى التغيير فيه...

 

ولكن الزمان تغير - كما علمت - فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب، أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفا من أن يؤدي تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه ".

 

ثانيا: ان رواة كل قراءة من هذه القراءات، لم تثبت وثاقتهم أجمع، فلا تشمل أدلة حجية خبر الثقة روايتهم.

 

ويظهر ذلك مما قدمناه في ترجمة أحوال القراء ورواتهم.

 

ثالثا: إنا لو سلمنا أن القراءات كلها تستند إلى الرواية، وأن جميع رواتها ثقات، إلا أنا نعلم علما إجماليا أن بعض هذه القراءات لم تصدر عن النبي قطعا، ومن الواضح أن مثل هذا العلم يوجب التعارض بين تلك الروايات وتكونص 166:كل واحدة منها مكذبة للاخرى، فتسقط جميعها عن الحجية، فإن تخصيص بعضها بالاعتبار ترجيح بلا مرجح، فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة، وبدونه لا يجوز الاحتجاج على الحكم الشرعي بواحدة من تلك القراءات.

وهذه النتيجة حاصلة أيضا إذا قلنا بتواتر القراءات.

 

فإن تواتر القراءتين المختلفتين عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم - يورث القطع بأن كلا من القراءتين قرآن منزل من الله، فلا يكون بينهما تعارض بحسب السند، بل يكون التعارض بينهما بحسب الدلالة.

 

فإذا علمنا إجمالا أن أحد الظاهرين غير مراد في الواقع فلا بد من القول بتساقطهما، والرجوع إلى الاصل اللفظي أو العملي، لان أدلة الترجيح، أو التخيير تختص بالادلة التي يكون سندها ظنيا، فلا تعم ما يكون صدوره قطعيا.

 

وتفصيل ذلك كله في بحث " التعادل والترجيح " من علم الاصول. (6)

 

2- جواز القراءة بها في الصلاة: ذهب الجمهور من علماء الفريقين إلى جواز القراءة بكل واحدة من القراءات السبع في الصلاة، بل ادعي على ذلك الاجماع في كلمات غير واحد منهم وجوز بعضهم القراءة بكل واحدة من العشر، وقال بعضهم بجواز القراءة بكل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، ولم يحصرها في عدد معين.

 

والحق: ان الذي تقتضيه القاعدة الاولية، هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكل قراءة لم تثبت القراءة بها من النبي الاكرم - صلى الله عليه واله وسلم - أو من أحد أوصيائه المعصومين - عليهم السلام -، لان الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن فلا يكفي قراءة شئ لم يحرز كونه قرآنا، وقد استقل العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة، وعلى ذلك فلا بد من تكرار الصلاة بعد القراءات المختلفة أو تكرار مورد الاختلاف في الصلاة الواحدة، لاحراز الامتثال القطعي، ففي سورة الفاتحة يجب الجمع بين قراءة " مالك "، وقراءة " ملك ".

 

أما السورة التامة التي تجب قراءتها بعد الحمد - بناء على الاظهر - فيجب لها إما اختيار سورة ليس فيها اختلاف في القراءة، وإما التكرار على النحو المتقدم.

 

وأما بالنظر إلى ما ثبت قطعيا من تقرير المعصومين - عليهم السلام - شيعتهم على القراءة، بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم، فلا شك في كفاية كل واحدة منها.

 

فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها، ولو ثبت الردع لوصل الينا بالتواتر، ولا أقل من نقله بالآحاد، بل ورد عنهم - عليهم السلام - إمضاء هذه القراءات بقولهم: " إقرأ كما يقرأ الناس. إقرؤا كما علمتم ".

 

وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص (7) الجواز بالقراءات السبع أو العشر، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة، غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء أهل السنة، ولا موضوعة، أما الشاذة فمثالها قراءة " ملك يوم الدين " بصيغة الماضي ونصب يوم، وأما الموضوعة فمثالها قراءة " إنما يخشى الله من عباده العلماء " برفع كلمة الله ونصب كلمة العلماء على قراءة الخزاعي عن أبي حنيفة.

 

وصفوة القول: أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت عليهم السلام.

 

المصدر:

البيان في تفسير القرآن - لزعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

 

1- التبيان ص 105.   الاتقان النوع 22 - 27 ج 1 ص 138.

2- التبيان ص 82.

3- النشر في القراءات العشر ج 1 ص 33 - 37.

4- الاتقان النوع 22 - 27 ج 1 ص 138.

5- وقد أوضحنا الفرق بين هذه المعاني في مبحث " التعادل والترجيح " في محاضراتنا الاصولية المنتشرة. التبيان ص 86.

6- مناهل العرفان ص 402 الطبعة الثانية.

7- الكافي: باب النوادر كتاب فضل القرآن.