القسم في سورة الصافات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الاَربع التالية:

1. الصافات، 2. الذاريات، 3. المرسلات، 4. النازعات.

وليس المقسم به هو لفظ الملك أو الملائكة، وإنّما هو الصفات البارزة للملائكة وأفعالها، وإليك الآيات:

1. ﴿وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد﴾.(1)

2. ﴿والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع﴾. (2)

3. ﴿وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع﴾. (3)

4. ﴿وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرجُف الراجِفَة * تَتْبَعُها الرّادِفَة﴾. (4)

 

وهانحن نبحث عن أقسام سورة الصافات والذاريات في فصلين متتالين ونحيل بحث أقسام سورة المرسلات والنازعات إلى محلها حسب ترتيب السور.

 

وقبل الخوض في تفسير الآيات نقدم شيئاً من التوحيد في التدبير:

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبية والتدبير، بمعنى أنّه ليس للعالم مدبّر سواه، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَق السَّمواتِ وَالاََرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى عَلى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّمِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرون﴾. (5)

 

فصدر الآية يركّز على حصر الخالق في اللّه، كما يركز على أنّه هو المدبّر، وانّه لو كان هناك سبب في العالم "شفيع" فإنّما هو يوَثر بإذنه سبحانه، فاللّه هو الخالق وهو المدبّر، قال سبحانه: ﴿اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لاََجَلٍ مُسمّى يُدبِّرُ الاََمْرَ يُفصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون﴾. (6)

 

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقية ولكن مشركين في الربوبية والتدبير، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة، ولذلك قرر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد، وانّه خالق، وانّه مدبر، غير أنّمعنى التدبير في التوحيد ليس عزل العلل والاَسباب المادية والمجردة في تحقّق العالم وتدبيره، بل المراد انّ للكون مدبراً قائماً بالذات متصرفاًكذلك لا يشاركه في التدبير شيء، ولو كان هناك مدبر وحافظ فإنّما هو يدبر بأمره وإذنه، فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه يريد التدبير على وجه الاستقلال، أي من يدبّر بنفسه غير معتمد على شيء، وأمّا المثبت لتدبير غيره، فالمراد منه أنّه يدبّر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعي، فكلّ مدبِّر في الكون فهو مَظْهر أمره ومُنفِّذ إرادته، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الاَوّل من مفاهيم القرآن.

 

ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ الملائكة من جنوده سبحانه وانّها وسائط بين الخالق والعالم، وانّهم يقومون ببعض الاَعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه، وستتضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية.

 

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه و بين الاَشياء، حيث يقول: الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الاَشياء بدءاً وعوداً، على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى انّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.

 

أمّا في العود، أعني: حال ظهور آيات الموت، وقبض الروح، وإجراء السوَال، وثواب القبر وعذابه، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك، والحشر وإعطاء الكتاب، ووضع الموازين، والحساب، والسوق إلى الجنةوالنار، فوساطتهم فيها غني عن البيان، والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والاَخبار المأثورة فيها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حد الاِحصاء.

 

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد الموَمنين وتطهيرهم بالاستغفار.

 

وأمّا وساطتهم في تدبير الاَُمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: ﴿والنازِعاتِ غَرقاً * وَالناشِطاتِ نَشطاً * وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً﴾. (7)

 

الصافات والقسم بالملائكة

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة، وقال:

أ: ﴿وَالصّافاتِ صَفّاً﴾.

ب:﴿فَالزّاجِراتِ زَجْراً﴾.

ج: ﴿فالتّاليات ذِكراً * إِنَّ إلهَكُم لواحِد﴾. (8)

وكل هذه الثلاثة مقسم به، والمقسم عليه هو قوله: ﴿إِنَّ إلهكم لواحد﴾ وإليك تفسير المقسم به فيها.

فالصافات: جمع صافّة: وهي من الصف بمعنى جعل الشيء على خط مستو، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّالَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّا﴾ (9) والزاجرات من الزجر، بمعنى الصرف عن الشيء بالتخفيف والنهي، والتاليات من التلاوة، وهي جمع تال أو تالية، غير أنّ المهم بيان ما هو المقصود من هذه العناوين، ولعل الرجوع إلى القرآن الكريم يزيح الغموض عن كثير منها.

 

يقول سبحانه: حاكياًعن الملائكة: ﴿وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون * وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون﴾ (10) فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ينتظرون الاَمر والنهي من قبل اللّه تعالى.

نعم وصف سبحانه الطير بالصافات، وقال: ﴿وَالطَّيرَ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ﴾. (11)

 

وقال: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ صافّاتٍ وَيَقْبضْنَ﴾ (12) كما أمر سبحانه على أن ينحر البدن وهي صواف، قال سبحانه: ﴿وَالبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيرٌ فاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ﴾. (13)

والمعنى: ان تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث فتنحر كذلك فيسوي بين أظلفتها لئلاّ يتقدم بعضها على بعض.

 

وعلى كلّ تقدير فمن المحتمل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافات، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم، وإن كان الوجه الاَوّل هو الاَقرب.

 

وأمّا الثانية: أي الزاجرات: فليس في القرآن ما يدل على المقصود به، فلا محيص من القول بأنّ المراد الجماعة الذين يزجرون عن معاصي اللّه، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالاِلهام إلى قلوب الناس، قال سبحانه: ﴿وَما أُ نْزِلَ عَلى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ (14)كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم بالدعوة إلى المعاصي، قال سبحانه: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَياطِينَ الاِِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بعضٍ زُخْرُفَ الْقَولِ غُرُوراً﴾. (15)

والتاليات: هن اللواتي يتلون الوحي على النبي الموحى إليه.

 

فالمراد من الجميع الملائكة، وثمة احتمال آخر وهو انّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء، فانّهم هم الجماعة الصافة أقدامها بالتهجد وسائر الصلوات، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارسة شرائعه.

 

كما أنّ ثمة احتمالاً ثالثاً وهو: انّالمراد هم الغزاة في سبيل اللّه الذين يصفّون أقدامهم، ويزجرون الخيل إلى الجهاد، ويتلون الذكر، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد.

وأمّا المقسم عليه: فهو قوله سبحانه: ﴿إِنَّ إِلهكم لَواحد﴾.

 

والصلة بين المقسم به والمقسم عليه: هو أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الذين وصفوا بصفات ثلاث هم دعاة التوحيد وروّاده وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الاِطلاق وفي العبادة خاصة.

 

1- الصافات:1ـ4

2- الذاريات:1ـ6.

3- المرسلات:1ـ7.

4- النازعات:1ـ7.

5- يونس:3.

6- الرعد:2.

7- الميزان:20|182ـ 183.

8- الصافات:1ـ4.

9- الصف:4.

10- الصافات:164ـ 166.

11- النور:41.

12- الملك:19.

13- الحج:36.

14- البقرة:102.

15- الاَنعام:112.

 

تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني