النسخ اصطلاحا

وحين نلاحظ كلمة النسخ في اطلاقات علماء القرآن والمفسرين نجد الكلمة قد مرت بمراحل متعددة من التطور حتى انتهى الامر بها الى خصوص الفكرة التي عرضناها سابقًا.

 

وهذه المراحل تبدأ منذ العصور الاولى لهذا العلم حيث كان يطلق بعض الصحابة كلمة النسخ على مجرد مخالفة آية لاخرى في الظهور اللفظي حتى لو كانت هذه المخالفة على نحو العموم والخصوص من وجه أو المطلق أو كانت احدى الآيتين مطلقة والاخرى مقيدة.

 

وهذه السعة في الاطلاق قد تكون نتيجة للتوسع في فهم أصل الفكرة كما يمكن أن تكون نتيجة فهم ساذج لبعض الآيات القرآنية. ومن هنا وقع الاختلاف بين علماء القرآن في تعيين الآيات المنسوخة والآيات الناسخة فنجد بعضهم يتوسع في تعدادها وبعضهم الآخر يقتصر على كمية محدودة منها.

 

ولكن بعد مضي مدة من الزمن على الدراسات القرآنية نرى بعض العلماء يحاول أن يميز بين النسخ وبين التقييد والتخصيص والبيان ويقصر النسخ على الفكرة التي عرضناها سابقًا. وقيل ان أول محاولة في ذلك كانت من قبل الشافعي.

 

وقد ذكر الاصوليون للنسخ تعاريف كثيرة أصبحت بعد ذلك مجالاً واسعًا للمناقشة والنقد. ولكننا نقتصر هنا على ما ذكره السيد الخوئي من تعريف للنسخ لانه يفي بالمقصود.

 

النسخ (رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه سواء أكان ذلك الامر المرتفع من الاحكام التكليفية - كالوجوب والحرمة - أم من الاحكام الوضعية كالصحة والبطلان. وسواء أكان من المناصب الالهية أم من غيرها من الامور التي ترجع الى اللّه تعالى بما انه شارع).

 

ويلاحظ في هذا التعريف، ان الرفع في النسخ انما يكون لامر ثابت في أصل الشريعة. ولذا فلا يكون شاملاً لمثل ارتفاع الحكم الشرعي الذي يكون بسبب انعدام موضوعه كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان او ارتفاع ملكية شخص لماله بسبب موته فان هذا النوع من ارتفاع الحكم لا يسمى نسخًا. ولا نجد من يخالف في امكانه ووقوعه. وقد اوضح السيد الخوئي لنا الفرق بين الارتفاع الذي يكون نسخًا والارتفاع الذي لا يكون من النسخ في شيء وذلك بالبيان التالي.

 

ان الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له مرحلتان من الثبوت: -

 

الاولى - ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء والحكم في هذه المرحلة يكون مشرعًا على نحو القضية الحقيقية حيث لا يفرق في صدقها وثبوتها وجود الموضوع في الخارج وعدم وجوده. وانما يكون قوام ثبوت الحكم فيها بفرض وجود الموضوع.

 

فاذا قال الشارع: شرب الخمر حرام (مثلاً) فليس معناه ان هنا خمرًا في الخارج وان هذا الخمر محكوم بحرمة شربه. وانما معناه ان الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فشربه محكوم بالحرمة في الشريعة سواء كان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة من ثبوته لا يكون الا بالنسخ.

 

الثانية - ثبوت الحكم في الخارج بأن يعود فعليًا بسبب فعلية موضوعه وتحققه خارجًا. كما اذا تحقق وجود الخمر خارجًا في مثالنا السابق. فان الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل خارجًا. وهذه الحرمة تكون مرتهنة في وجودها بوجود الموضوع خارجًا وتستمر باستمراره فاذا انعدم الموضوع أو ارتفع كما اذا انقلب الخمر خلاً مثلاً. فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي كانت ثابتة للخمر حال خمريته وتحل محلها الحلية للخل.

 

وهذا الارتفاع للحكم ليس من النسخ في شيء وليس لاحد شك في جوازه ولا في وقوعه.

 

المصدر:

كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم