التمثيل السابع والأربعون – سورة الزخرف

﴿وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ * وَقالُوا ءالِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون * إنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إسْرائِيلَ * وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم﴾.(1)

 

 تفسير الآيات:

"الصدّ": بمعنى الانصراف عن الشيء، قال سبحانه: ﴿يصدّون عنك صدوداً﴾، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.

 

"تمترُنَّ" :من المرية وهي التردد بالأمر.

 

ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قرأ: ﴿إنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُون * لَوْ كانَ هوَُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ * لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ﴾.(2)

 

امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً، فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : "هو لكم و لآلهتكم ولجميع الأمم".

 

فقال: خصمتك و ربّ الكعبة، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً، وعلى أُمّه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هوَلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا.(3)

 

وإلى فرحهم وضجّتهم، يشير سبحانه بقوله: ﴿إذا قومك منه يصدّون﴾ حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي، قال سبحانه: ﴿ولمّا ضرب ابن مريم مثلاً﴾ أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ﴿إذا قومك منه يصدون﴾ أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول الله بجدلهم، حيث قالوا في مقام المجادلة: ﴿وقالوا ءآلهتنا خير أم هو﴾ يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.

 

وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً و مثلاً لآلهتهم، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الإجمال، ويجيب على استدلال ابن الزبعرى.

 

أوّلاً: انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق، وذلك لأنّ طبعهم على اللجاج والعناد، يقول سبحانه: ﴿ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون﴾.

 

وثانياً: انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة، وهذا هو المراد من قوله: ﴿ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون﴾.

 

ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه و انّه كان آية من آيات الله سبحانه، وقال: ﴿إنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلاً لِبَني إسرائيل﴾، أي آية من آيات الله لبني إسرائيل، فولادته كانت معجزة، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياؤه الموتى معجزة ثالثة، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.

 

ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس، يقول: ﴿وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَة في الأرض يخلفُون﴾ أي يطيعون الله ويعبدونه، فليس الإصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة الله ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لأمره.

 

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.

 

إلى هنا تم تفسير الآية، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لأن يكون مثلاً إنّما هو قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلاً﴾ وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى، وأمّا قوله: ﴿وَجَعَلناه مثلاً لبنى إسرائيل﴾ فالمثل فيه بمعنى الآية.

 

إيقاظ:

ربما عُدّت الآية التالية من الأمثال القرآنية: ﴿وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ وَآمنُوا بِما نُزّلَ على مُحمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئاتِهِمْ وَأصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾(4) والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.

 

تفسير الآيات:

"بال" البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال:ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به، قال: ﴿كفّر عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَأصْلَحَ بالهُم﴾، وقال: ﴿فَما بال القُرون الأولى﴾ أي حالهم وخبرهم، و يعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان، فيقال خطر كذا ببالي.(5)

 

إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش و مشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال: ﴿انّ الّذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ الله﴾ أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الإسلام، فهوَلاء أضلّ أعمالهم، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً. فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الإبل في يوم بدر و قبله.

 

فيقابلهم المؤمنون كما قال: ﴿وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَآمنوا بِما نزّل على محمّد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ﴾.

 

فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات، لكنّه سبحانه من جهة أُخرى جعل صالح أعمال المؤمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.

 

فشتّان ما بين كافر وصادّ عن سبيل الله ، يحبط عمله.

 

ومؤمن بالله و بما نزّل على محمد، يكفّر سيئاته بصالح أعماله.

 

ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والموَمن، كما علم نتائج أعمالهما.

 

ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم، وأمّا المؤمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم، وقال: ﴿ذلك بأنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ﴾.

 

وفي ختام الآية الثانية، قال: ﴿كذلِكَ يضرب الله للنّاس أمثالهم﴾ أي كذلك يبين حال المؤمن والكافر و نتائج أعمالهما و عاقبتهما.

 

وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل، بل بمعنى الوصف، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والمؤمن و عاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه وتنزيل، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة، فالآية الا َُولى تشير إلى الكافر و نتيجة عمله، والآية الثانية تشير إلى المؤمن و مصير عمله ، والآية الثالثة تذكر علة الحكم، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والمؤمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.

 

 

1-الزخرف:57ـ 61.

2-الأنبياء:98ـ 100.

3-الكشاف:3|100.لاحظ سيرة ابن هشام:1|385، وقد ذكرت القصة بتفصيل.

4- محمد:2 ـ 3.

5- مفردات الراغب: 67 مادة بال.

 

تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني