بدء نبوة النبي ادريس عليه السلام

عن ابراهيم بن ابي البلاد عن ابيه عن الامام الباقر عليه السلام ـ والحديث طويل اختصرناه فيما يلي :

 

انه كان بدء نبوة ادريس عليه السلام انه كان في زمانه ملك جبار ، بينما كان ذات يوم في بعض نزهة ، فمر بارض خضراء نضرة اعجبته فأحب ان يمتلكها ، وكانت الارض لعبد مؤمن فأمر باحضاره وساومه فيها ليشتريها فلم يبعها ولم يرض به.

فرجع الملك الى بلده وهو مغموم متحير في امره ، فاستشار امرأة له كان يستشيرها في اموره المهمة ، فأشارت عليه ، ان يقيم عليه شهودا انه خرج عن دين الملك ، فيقتله ويملك ارضه ففعل ما اشارت اليه وغصب الارض.

فأوحى الله الى ادريس ان يأتي الملك ويقول له عنه :

اما رضيت ان قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت ارضه خالصة لك ، واحوجت عياله من بعده واجعتهم ؟

اما وعزتي لانتقمن له منك في الآجل ، ولاسلبن ملكك في العاجل ، ولاخربن مدينتك ، ولاذلن عزك ، ولاطعمن الكلاب لحم امرأتك ، فقد عزك يا مبتلي حلمي عنك.

فاتاه ادريس برسالة الله وبلغه ذلك في ملأ من اصحابه ، فاخرجه الملك من مجلسه ، ثم ارسل اليه باشارة من امرأته قوما يقتلونه ، فانتبه لذلك بعض اصحاب ادريس واشاروا عليه بالخروج والهجرة.

فخرج النبي ادريس مع اصحابه ، ثم ناجى ربه وشكى اليه ما لقيه من الملك في رسالته اليه ، فأوحى الله اليه بالخروج من القرية ، وانه سينفذ في الملك امره ويصدق فيه قوله.

عندما خرج ادريس من القرية طلب من الله عزوجل وقال :

يا رب ان لي اليك حاجة ، قال الله : سلها تعطها ، قال : اسألك ان لا تمطر الماء على اهل هذه القرية وما حولها حتى اسألك ذلك ، قال الله عزوجل : قد اعطيتك ما سألت ولن امطر السماء عليهم حتى تسألني.

فاخبر ادريس بذلك اصحابه من المؤمنين وامرهم بالخروج منها فخرجوا وتفرقوا في البلاد وكانوا عشرين رجلا.

وشاع خبر ادريس في القرى بما سأل الله ، وخرج هو متنحيا الى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه ويصوم النهار ، وكان يأتيه ملك بفطوره عند كل مساء.

وانفذ الله في الملك وامراته ومدينته ما اوحاه الى ادريس ، وقتله واخرب مدينته ، واطعم الكلاب لحم امرأته غضبا للمؤمن ـ الذي قتله وغصب ارضه ـ ، وبعد ذلك ظهر في المدينة جبار آخر عاص.

امسكت السماء عنهم امطارها عشرين سنة حتى جهدوا واشتدت حالهم ، فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض ان الذي لقوه من الجهد والمشقة والجوع انما هو من دعاء ادريس عليهم ان لا يمطر علينا السماء حتى يساله هو ، وقد خفى علينا ادريس ولا نعلم بموضعه واين هو.

وقالوا : الله ارحم بنا منه ، فاجمع امرهم على ان يتوبوا الى الله ويدعوه ويفزعوا اليه ويساله ان يمطر السماء عليهم فهو ارحم بهم منه ، فاجتمعوا على الدعاء والتضرع.

بعد ان رأى الله تعالى توبتهم وندمهم وبكائهم ، اوحى الى ادريس ان القوم عجوا الي بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع ، وقد رحمتهم وما يمنعني من امطارهم الا مناضرتك فيما سالتني ان لا امطر السماء عليهم حتى تسألني فأسألني حتى اغيثهم ، قال ادريس : اللهم اني لا اسألك.

فأوحى الله الى المَلِك الذي كان يأتيه بالطعام ان يمسك عنه ، فامسك عنه ثلاثة ايام حتى بلغ به الجوع.

فنادى : اللهم حبست عني رزقي من قبل ان تقبض روحي ، فأوحى الله اليه : يا ادريس جزعت ان حبست عنك طعامك ثلاثة ايام ، ولم تجزع من جوع اهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ، ثم سألتك ان تسألني ان امطر عليهم فبخلت ولم تسأل ، فادبتك بالجوع ، فاهبط من موضعك واطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه الى حيلتك.

فهبط ادريس الى قرية هناك ونظر الى بيت يصعد منه دخان ـ وكان جائعا لم يأكل منذ ثلاث ايام ـ فهجم عليهم واذا عجوز كبيرة ترفق فرصتين لها على مقلاة فسالها ان تطعمه فقد بلع به جهد الجوع.

فقالت : يا عبد الله ما تركت لنا دعوة ادريس فضلا نطعمه احدا ـ وحلفت انها لا تملك غيره شيئا ـ فاطلب المعاش من غير اهل هذه القرية.

فقال لها : اطعميني ما امسك به روحي وتقوم به رجلي حتى اطلب.

فقالت : انهما قرصتان واحدة لي والاخرى لابني ، فان طعمتك قوتي مت ، وان طعمتك قوت ابني مات ، وليس ههنا فضل.

قال : ان ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فاطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة ، فرضيت وفعلت.

فلما رأى ابنها ادريس وهو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات.

قالت امه : يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته.

فقال : لا تجزعي انا احييه لك الساعة باذن الله ، واخذ بعضد الصبي وقال : ايتها الروح الخارجة من بدنه بأمر الله ارجعي الى بدنه باذن الله وانا ادريس النبي ، فرجعت روح الغلام اليه.

فلما سمعت ام الصبي كلام ادريس وقوله : انا ادريس ونظرت الى ابنها حيا ، قالت : اشهد انك ادريس النبي ، وخرجت تنادي باعلى صوتها في القرية :

ابشروا بالفرج فقد دخل ادريس في قريتكم ، فمضى ادريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الاول ، وقد تبدلت تلا من تراب ، فاجتمع اليه اناس من اهل قريته واسترحموه وسألوه ان يدعوا لهم فيمطروا.

قال : لا ، حتى يأتي جباركم هذا وجميع اهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك.

فبلغ ذلك الملك الجبار ، فبعث الى ادريس اربعين رجلا وامرهم ان يأتوا به اليه ، فلما جاءوه وكلفوه الذهاب معهم اليه ، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم.

ثم ارسل خمسمائة رجل ، فلما اتوه كلفوه الذهاب واسترحموه فاراهم مصارع اصحابهم وقال : ما انا بذاهب اليه ولا سائل حتى يأتيني هو وجميع اهل القرية مشاة حفاة ويسألوني الدعاء للمطر.

فانطلقوا الى ملكهم الجبار واخبروه بما قال لهم النبي ادريس وسألوه ان يمضي اليه وجميع اهل القرية مشاة حفاة ويسألوه ان يسأل الله ان تمطر السماء ، فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين ، وسألوه ان يسأل الله ان تمطر السماء عليهم ، فعند ذلك دعا ادريس ان تمطر السماء عليهم ، فاظلتهم سحابة من السماء وارعدت وابرقت وهطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا انه الغرق ، فما رجعوا الى منازلهم حتى سقيت جميع اراضيهم من الماء. (1)

لقد كان غرض النبي ادريس عليه السلام في عدم الدعاء الى الله لانزال المطر ، واصراره في طلب القوم ان يأتوه متذلليين ، من اجل تنبيههم وزجرهم عن الطغيان والفساد ، ولئلا يخالفوا ربهم بعد ذلك ، ويكون ذلك ايضا تنبيها للملك الجبار واتباعه ورجوعهم الى الله مسلمين ، ولو كان يدعو لهم قبل ان يؤمنوا بالله ويتضرعوا لكانوا على ضلالهم وطغيانهم ويجبرون الناس على الضلال ايضا.

وكان تصرفه عليه السلام فيه حكمة وموعظة لقومه وللاقوام التي تجيء من بعدهم والى يومنا هذا.

 

________________________________________

1 ـ كمال الدين : ج 1 ص 127.