سورة آل عمران الآية 41-60

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً: علامة أعلم بها أنّ ذلك الصّوت من اللّه، ويكون عبادة يتدارك بها ما دخله من تلك الهبة. وذلك لأنّه إذا جعل له آية وأوحى إليه، الآية من اللّه [عبادة وشكرا للموهبة،]  يعلم أنّ صوت الملائكة بأمر اللّه ووحيه، ويخضع للّه تعالى شكرا لنعمه.

في تفسير العيّاشيّ : عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ذكرا ، فنادته الملائكة بما نادته [به،]  أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصّوت من اللّه، فأوحى  إليه: أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام، قال: فلمّا أمسك لسانه ولم يتكلّم، علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا اللّه، وذلك قول اللّه:

رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [إِلَّا رَمْزاً.

و عن حمّاد ، عمّن حدّثه، عن أحدهما- عليهما السّلام- قال: لمّا سأل [زكريّا]  ربّه أن يهب له ذكرا، فوهب له يحيى، فدخله من ذلك، فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً. فكان يؤمئ برأسه، وهو الرّمز.قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أي: اللّه أوحى إليه: أنّ آيتك وعبادتك ألّا تكلّم النّاس في ثلاثة أيّام.]  وتخلص المّدة لذكر اللّه وشكره، قضاء لحقّ النّعمة.

إِلَّا رَمْزاً: إشارة برأسك. وأصله التحريك ومنه الرّاموز للبحر. والاستثناء منقطع.

و قيل : متصل والمراد بالكلام ما دلّ على الضمير.

هذا إذا قرئ يمسك في الخبر الأوّل على البناء للفاعل، وإرجاع ضميره إلى زكريّا. وأمّا إذا قرئ على البناء للمفعول، أو يجعل فاعل الإمساك هو اللّه سبحانه، فالحلّ ما نقله البيضاويّ -، من أنّ المعنى: اجعل لي آية علامة أعرف بها الحبل، ولأستقبله  بالبشاشة والشّكر، وتزيح مشقّة الانتظار. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أي:

لا تقدر على تكليم  النّاس ثلاثا.

و قرئ: رمز، كخدم، جمع رامز. ورمز، كرسل، جمع رموز، على أنّه حال منه.

و من النّاس، بمعنى: مترامزين. كقوله:

         متى تلقني فردين تزحف             زوانف  أليتيك وتستطار .

 

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً: أي، في أيّام الإمساك عن الكلام مع النّاس. وهو مؤكّد لما قبله، مبيّن للغرض منه.

قال البيضاويّ : وتقييد الأمر بالكثير ، يدلّ على أنّه ليس للتّكرار . وفيه أنّه لعلّ التّقييد لتأكيد ما يفيده الأمر، فلا يدلّ على المدّعي.

وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ: من الزّوال إلى الغروب.

و قيل : من العصر، أو الغروب إلى ذهاب صدر اللّيل.وَ الْإِبْكارِ : من طلوع الفجر إلى الضّحى.

و قرئ بفتح الهمزة، جمع بكر، كسحر وأسحار .

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ  قال البيضاويّ : كلّموها شفاها كرامة لها، ومن أنكر الكرامة زعم أنّ ذلك كان  معجزة لزكريّا، أو إرهاصا لنبّوة عيسى- عليه السّلام- فإنّ الإجماع على أنّه تعالى لم يستنبئ امرأة، لقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ  قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا. وقيل: ألهموها. (انتهى) ويمكن أن يقال من قبل منكر الكرامة: لا تكون الكرامة لمن لم يكن فيه نصّ بالكرامة، وأمّا من حصل له التّخصيص بالتّنصيص كمريم وفاطمة صلوات اللّه عليهما، فهو بمنزلة الاستثناء.

و المقصود أنّه لا تجوز الكرامة لمن سواه، كوقوع المعجزة للأنبياء والأئمّة، فإنّهم يتخصّصون بها، ولا يلزم من وقوع شي‏ء لأحد جواز وقوعه لكلّ أحد شرعا، وإن لم يمتنع عليه عقلا، والمجوّز وقوعه لكلّ أحد بوقوعه لبعض التبس عليه معنى الجواز، فتبصّر.

قيل : الاصطفاء الأوّل تقبّلها من أمّها، ولم تقبل قبلها أنثى، وتفريغها للعبادة، وإغناؤها برزق الجنّة عن الكسب [، وتطهيرها عمّا يستقذر من النّساء] . والثّانية هدايتها، وإرسال الملائكة إليها، وتخصيصها بالكرامات السّنيّة، كالولد من غير أب، وتبرئتها ممّا  قذفته اليهود بإنطاق الطّفل، وجعلها وابنها آية للعالمين.

و الأظهر أنّ الاصطفاء الأوّل، اصطفاؤها من ذرّيّة الأنبياء والثّاني، اصطفاؤها لولادة عيسى، من غير فحل، وتطهيرها، طهّرها من أن يكون في آبائها وأمّهاتها وفي نفسها سفاح.

و قيل : وتطهيرها ممّا  يستقذر من النّساء.و ينافيه ظاهر ما سبق في الخبر من قوله: فلمّا بلغت ما يبلغ النّساء من الطّمث.

و أمّا ما رواه العيّاشي  في تفسيره، عن الحكم بن عتيبة ، قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه في الكتاب، إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. اصطفاها مرّتين، والاصطفاء إنّما هو مرّة واحدة؟

قال: فقال [لي:]  يا حكم إنّ لهذا تأويلا وتفسيرا.

فقلت له: ففسّره لنا أبقاك اللّه.

فقال: يعني اصطفاءها  إيّاها أوّلا من ذرّيّة الأنبياء المصطفين المرسلين، وطهّرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمّهاتها سفاح ، واصطفاءها بهذا في القرآن، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [مَعَ الرَّاكِعِينَ‏]  شكرا للّه.

فالظّاهر أنّ السّائل قد خفي عليه الاصطفاء الأوّل، وانحصر الاصطفاء عنده في الثّاني، وسأل فبيّنه- عليه السّلام- له، وسكت عن الثّاني لظهوره عنده.

و في مجمع البيان

: وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، أي: عالمي  زمانك، لأنّ فاطمة بنت رسول اللّه- صلّى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها- سيّدة نساء العالمين.

و هو قول أبي جعفر- عليه السّلام-.

و قد  روي عن النّبيّ،- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: فضلّت خديجة على نساء أمّتي كما فضلّت مريم على نساء العالمين.

و قال أبو جعفر- عليه السّلام-: معنى الآية: واصطفاك من ذرّيّة الأنبياء، وطهّرك من السّفاح، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل وزوج.

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قيل : أمرت بالصّلاة في الجماعة بذكر أركانها، مبالغة في المحافظة عليها. وقدّم السّجود على الرّكوع، إمّا لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتّنبيه على أنّ الواو لا توجب التّرتيب، أو ليقترن اركعي بالرّاكعين للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلّين.

و قيل : يحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الرّاكعين، ولا تكون مع من لا يركع.

و قيل : المراد بالقنوت أداء الطّاعة، كقوله : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً. وبالسّجود، الصّلاة، كقوله : وَأَدْبارَ السُّجُودِ. وبالرّكوع، الخشوع والإخبات.

و في كتاب علل الشرائع ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: إنّما سمّيت فاطمة- عليها السّلام- محدّثة، لأنّ الملائكة كانت تهبط من السّماء، فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إنّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الرّاكعين، فتحدّثهم ويحدّثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أ ليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها، وإنّ اللّه- عزّ وجلّ- جعلك سيّدة نساء عالمك وعالمها، وسيّدة نساء الأوّلين والآخرين.

 [و في أصول الكافي ، بإسناده إلى عليّ بن محمّد الهرمزاني ، عن أبي عبد اللّه الحسين بن عليّ- عليه السّلام-، قال: لمّا قبضت فاطمة- عليها السّلام- دفنها أمير المؤمنين- عليه السّلام- سرّا، وعفا على موضع قبرها. ثمّ قام  فحوّل وجهه إلى قبررسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: السّلام عليك يا رسول اللّه عنّي، والسّلام عليك عن ابنتك، وزائرتك، والبائتة في الثّرى ببقعتك، والمختار اللّه لها سرعة اللّحاق بك. قلّ يا رسول اللّه عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.]

و في نهج البلاغة ، من كتاب له- عليه السّلام- إلى معاوية جوابا: ومنّا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب.

و في من لا يحضره الفقيه ، روى المعلّى بن محمّد البصريّ، عن جعفر بن سليمان، عن عبد اللّه بن الحكم ، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ عليّا وصييّ، وخليفتي، وزوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين ابنتي.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

و في أمالي الصّدوق- رحمه اللّه - بإسناده إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: أيّما امرأة صلّت في اليوم واللّيلة خمس صلوات، وصامت شهر رمضان، وحجّت بيت اللّه الحرام، وزكّت مالها، وأطاعت زوجها، ووالت عليّا [بعدي‏]  دخلت الجنّة بشفاعة ابنتي فاطمة. فانّها  لسيّدة نساء العالمين.

فقيل له : يا رسول اللّه أ هي سيّدة نساء  عالمها؟

فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: ذاك مريم ابنة عمران. وأما  ابنتي فاطمة فهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين. وإنّها لتقوم في محرابها فيسلّم عليها سبعون الف ملك‏من الملائكة المقرّبين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم، فيقولون: يا فاطمة إنّ اللّه اصطفاك، وطهّرك، واصطفاك على نساء العالمين.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

و بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة ، قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- في بعض خطبه: أيّها النّاس اسمعوا قولي واعقلوه  عنّي، فإنّ الفراق قريب. أنا إمام البريّة، ووصيّ خير الخليفة، وزوج سيّدة نساء هذه الأمّة.

ذلِكَ، أي: ما ذكرنا من قصص زكريّا ويحيى ومريم، مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ: من الغيوب الّتي لم تعرفها إلّا بالوحي.

وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ:

قيل : أقداحهم للاقتراع في نهر الأردنّ .

و قيل : أقلامهم الّتي كانوا يكتبون [بها]  التّوراة تبرّكا.

و المراد تقرير كونه وحيا على سبيل التّهكّم بمنكريه. فإنّ طريق معرفة الوقائع المشاهدة أو السّماع. وعدم السّماع معلوم لا شبهة فيه عندهم. فبقي أن يكون الاهتمام  باحتمال العيان، ولا يظنّ به عاقل، ليعلموا:

أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ: معمول لما دلّ عليه يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ.

و في كتاب الخصال ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول اللّه تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، والسّهام ستّة.

و في من لا يحضره الفقيه ، مثله.

 وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ : تنافسا في كفالتها.

في تفسير عليّ بن إبراهيم ، قال: لمّا ولدت اختصم  آل عمران فيها، فكلّهم  قالوا: نحن نكفّلها، فخرجوا وضربوا  بالسّهام بينهم، فخرج  سهم زكريّا، فتكفّلها  زكريّا.

و في تفسير العيّاشيّ ، عن الحكم بن عتيبة ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام-: قال لنبيّه محمد- صلّى اللّه عليه وآله- يخبره بما غاب عنه من خبر مريم وعيسى: يا محمّد ذلك من أنباء الغيب، نوحيه إليك في مريم وابنها، وبما خصّهما اللّه به  وفضّلهما وكرّمهما ، حيث قال: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يا محمّد يعني بذلك ربّ  الملائكة، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ حين أيتمت من أبيها.

و في رواية اخرى ، عن ابن أبي خوار  أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ حين أيتمت من أبيها  وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يا محمّد إِذْ يَخْتَصِمُونَ في مريم [عند ولادتها بعيسى‏]  [بن مريم‏]  أيّهم يكفلها ويكفل ولدها.

قال: [فقلت‏]  له: أبقاك اللّه فمن كفلها؟

فقال: أما تسمع لقوله الآية

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: بدل من «إذ قالت» الأولى أو من «إذ يختصمون» بناء على أنّ الاختصام والبشارة في زمان متّسع، كقولك: لقيته سنة كذا. يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ:

المسيح لقبه، وهو من الألقاب المادحة، وأصله مشيحا بالعبرانيّة، ومعناه:

المبارك، كقوله : وجعلني مباركا.

و عيسى معرّب أيشوع، واشتقاقهما  من المسح، لأنّه مسح بالبركة، أو بما طهّره من الذّنوب، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو مسحه جبرئيل. ومن العيس وهو بياض يعلوه حمرة، كالرّاقم على الماء.

فإن قلت: لم قيل: اسمه المسيح عيسى بن مريم، وهذه ثلاثة أشياء، الاسم منها عيسى، واما المسيح والابن فلقب وصفة؟

قلت الاسم للمسمّى علامة يعرف بها ويتمّيز بها عن غيره، فكأنّه قيل: الّذي يعرف به، ويتميّز ممّن سواه، مجموع هذه الثّلاثة. ويحتمل أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف، وابن مريم صفته. وأن يكون كلّ من الثّلاثة اسما، بمعنى: أنّ كلّا منها يميّز تمييز الأسماء. ولا ينافي تعدّد الخبر افراد المبتدأ، فإنّه اسم جنس مضاف، وإنّما قيل: ابن مريم والخطاب لها تنبيها على أنّه يولد من غير أب، إذ الأولاد تنسب إلى الآباء، ولا تنسب إلى الأمّ، إلّا إذا فقد الأب.

وَجِيهاً فِي الدُّنْيا: حال مقدّرة من «كلمة» الموصوفة بقوله: «منه». والتّذكير للمعنى، ووجاهته في الدّنيا بالنّبوّة.

وَ الْآخِرَةِ: بالشّفاعة.

وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ : من اللّه.

و قيل : إشارة إلى علو درجته في الجنّة.

و قيل : إلى رفعه إلى السّماء، وصحبته الملائكة.

وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، أي: حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياءمن غير تفاوت.

و في أصول الكافي ، عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن يزيد الكناسيّ قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- أ كان عيسى بن مريم حين تكلّم في المهد حجّة اللّه على أهل زمانه؟

فقال: كان يومئذ نبيّا حجّة اللّه غير مرسل، أما تسمع لقوله حين قال : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا

 

. والحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

و «المهد» مصدر، سمّي به ما يمهّد للصّبيّ من مضجعه.

و «الكهل» من خطّه الشّيب ورأيت له بجالة. ولذا قيل : والمراد وكهلا بعد نزوله.

 [لأنّه رفع شابّا]  وذكر أحواله المختلفة المتنافية إشارة  إلى أنّه ممكن ليس بإله .

وَ مِنَ الصَّالِحِينَ : قال ثالث من «كلمة» أو ضميرها الّذي في «يكلّم».

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ: تعجّب.

و قيل : استبعاد عاديّ، أو استفهام عن أنّه يكون بتزوّج أو غيره.

قالَ: جبرئيل، أو اللّه وجبرئيل حكى بها قوله تعالى: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، أي: كما أنّه يقدر أن يخلق الأشياء بأسباب وموادّ متدرّجا، يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.

وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ :

إمّا كلام مبتدأ ذكر تطييبا لقلبها، وإزاحة لما همّها من خوف اللّوم على أنّها تلد من غير زوج. أو عطف على «يبشّرك» أو «وجيها».و الكتاب الكتبة، أو جنس الكتب المنزلة. وتخصيص الكتابين لفضلهما.

و قرأ عاصم ونافع، بالياء .

وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: منصوب بمقدّر، على إرادة القول. والتّقدير «و يقول: أرسلت رسولا» أو بالعطف، على الأحوال المتقدّمة. وتخصيص بني إسرائيل لخصوص من بعثته، أو للرّدّ على من زعم أنّه مبعوث إلى غيره.

في كتاب كمال الدّين  وتمام النّعمة، بإسناده إلى محمّد بن الفضل ، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليهم السّلام- في حديث طويل، يقول فيه: ثمّ انّ اللّه- عزّ وجلّ- أرسل عيسى- عليه السّلام- إلى بني إسرائيل خاصّة، وكانت نبوّته ببيت المقدس.

أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: متعلّق «برسولا» على تضمين معنى النّطق، أي: ناطقا بأنّي الخ.

و الآية ما يذكر بعده وهو:

أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: نصب  بدل من «أنيّ»، أو جرّ بدل من «آية»، أو رفع على هي أنّي، والمعنى: أقدر وأصوّر لكم مثل صورة الطّير.

فَأَنْفُخُ فِيهِ:

الضّمير للكاف، أي: في ذلك المثل.

فَيَكُونُ طَيْراً: فيصير طيّارا.

بِإِذْنِ اللَّهِ: بأمره. ونبّه به على أنّ إحياءه من اللّه لا منه.

و قرأ نافع هنا وفي المائدة طائرا، بألف وهمزة .

و في كتاب الخصال ، عن الحسين بن عليّ- عليهما السّلام- قال: كان عليّ ابن أبي طالب- عليه السّلام- بالكوفة في الجامع، إذ قام إليه رجل من أهل الشّام فسأله عن مسائل، فكان فيما سأله [أن قال له‏] : أخبرني عن ستّة لم يركضوا في رحم؟فقال: آدم وحوّاء وكبش إبراهيم  وعصا موسى وناقة صالح والخفّاش الّذي عمله عيسى بن مريم، فطار بإذن اللّه تعالى.

وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ: الّذي ولد أعمى، والممسوح العين.

وَ الْأَبْرَصَ: الّذي به البرص، نقل : أنّه ربّما يجتمع عليه ألوف من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى. وما يداوي إلّا بالدّعاء.

وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ:

كرّره لدفع توهّم الألوهيّة  فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشريّة.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى أبي يعقوب البغداديّ قال: قال ابن السّكيت لأبي الحسن الرّضا- عليه السّلام-: لما ذا بعث اللّه موسى بن عمران بيده البيضاء [و العصا]  وآلة السّحر، وبعث عيسى بالطّبّ، وبعث محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- بالكلام والخطب؟

فقال له أبو الحسن- عليه السّلام-: إنّ اللّه تعالى لمّا بعث موسى- إلى أن قال-: وإن اللّه تعالى بعث عيسى- عليه السّلام- في وقت ظهرت فيه الزّمانات واحتاج النّاس إلى الطّب، فأتاهم من عند اللّه تعالى بما لم يكن عندهم مثله، وإنّما أحيا لهم الموتى وأبرأ الأكمه  والأبرص بإذن اللّه تعالى وأثبت به الحجّة عليهم.

و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن ابن محبوب، عن أبي جميلة، عن أبان بن تغلب وغيره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه سئل: هل كان عيسى بن مريم أحيا أحدا بعد موته حتّى كان له أكل ورزق ومدّة وولد؟

فقال: نعم، إنّه كان له صديق مؤاخ له في اللّه تعالى وكان عيسى‏- عليه السّلام- يمرّ به وينزل عليه، وأنّ عيسى- عليه السّلام- غاب عنه حينا ثمّ مرّ به ليسلّم عليه، فخرجت إليه أمّه فسألها عنه، فقالت: مات يا رسول اللّه. قال: أ فتحبّين أن تريه ؟ قالت: نعم. فقال لها: فإذا كان غدا فآتيك حتّى أحييه لك بإذن اللّه- تبارك وتعالى- فلمّا كان من الغد أتاها، فقال لها: انطلقي معي إلى قبره. فانطلقا حتّى أتيا قبره فوقف [عليه‏]  عيسى- صلّى اللّه عليه-. ثمّ دعا اللّه- عزّ وجلّ- فانفرج القبر وخرج ابنها حيّا. فلمّا رأته أمّه ورآها بكيا. فرحمهما عيسى- عليه السّلام- فقال [له.]

 

عيسى: أ تحبّ أن تبقى مع أمّك في الدّنيا؟ فقال: يا نبي اللّه بأكل ورزق ومدّة أم بغير أكل ورزق ومدّة ؟ فقال له عيسى- عليه السّلام-: بأكل ورزق ومدّة [و]  تعمّر عشرين سنة وتزوّج ويولد لك، قال: نعم إذا.

قال: فدفعه عيسى إلى أمّه فعاش عشرين سنه [تزوّج‏]  وولد له.

و في الكافي : عليّ بن محمّد، عن بعض أصحابنا، عن عليّ بن الحكم، عن ربيع بن محمّد، عن عبد اللّه بن سليم العامريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريّا- عليهما السّلام- وكان سأل ربّه أن يحييه له، فدعاه فأجابه وخرج إليه من القبر، فقال له: ما تريد منّي؟ فقال له: أريد أن تؤنسني كما كنت في الدّنيا، فقال له: يا عيسى ما سكنت عنّي حرارة الموت وأنت تريد أن تعيدني إلى الدّنيا وتعود عليّ حرارة الموت، فتركه فعاد إلى قبره.

وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ: بالمغيبات من أحوالكم الّتي لا تشكّون فيها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، حدّثنا أحمد بن محمّد الهمدانيّ قال: حدّثني جعفر بن عبد اللّه قال: حدّثنا كثير بن عيّاش، عن زياد بن المنذر [عن‏]  أبي الجارود، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ- عليهما السّلام- في قوله: [وَ]  أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ [فِي بُيُوتِكُمْ‏]  فإنّ عيسى- عليه السّلام- كان يقول لبني إسرائيل:إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، والأكمه هو الأعمى. قالوا: ما نرى الّذي تصنع إلّا سحرا. فأرنا آية نعلم أنّك صادق. قال: أ رأيتم  إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ، يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادّخرتم باللّيل  تعلمون أنّي صادق. قالوا: نعم. فكان يقول للرّجل : أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا. فمنهم من يقبل منه فيؤمن. ومنهم من ينكر فيكفر . وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : موفّقين للإيمان، فإنّ غيرهم لا ينتفع بالمعجزات. أو مصدّقين بالحقّ غير معاندين.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه-: روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي- عليهم السّلام- أنّه قال: إنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لعلّي- عليه السّلام- في أثناء كلام طويل-: فإنّ هذا عيسى بن مريم تزعمون  أنّه تكلّم في المهد صبيّا؟

قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك. ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- سقط من بطن أمّه واضعا يده اليسرى على الأرض ورافعا يده اليمنى  إلى السّماء، يحرّك شفتيه بالتّوحيد، وبدا من فيه نور رأى أهل مكّة [منه‏]  قصور بصرى من الشام وما يليها والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها والقصور البيض من إصطخر  وما يليها، ولقد أضاءت الدّنيا ليلة ولد النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى فزعت الجنّ والإنس والشّياطين، وقالوا: حدث في الأرض حدث.

قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى يزعمون أنّه خلق من الطّين كهيئة الطّير فينفخ  فيه فكان طيرا بإذن اللّه- عزّ وجلّ-.فقال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- قد فعل ما هو شبيه لهذا، إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا. ثمّ قال للحجر: انفلق، فانفلق ثلاث فلق يسمع لكلّ فلقة منها تسبيح لا يسمع للأخرى.

و لقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ولكلّ غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس. ثمّ قال لها: انشقّي، فانشقّت نصفين. ثمّ قال لها: التزقي، فالتزقت. ثمّ قال لها:

اشهدي لي  بالنّبوّة، فشهدت.

ثمّ قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى تزعمون  أنّه قد أبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه- عزّ وجلّ-.

فقال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أعطي ما هو أفضل [من ذلك‏]  أبرأ ذا العاهة من عاهته، فبينما  هو جالس إذ سأل عن  رجل من أصحابه، فقالوا : يا رسول اللّه إنّه قد صار في  البلاء كهيئة الفرخ [الّذي‏]  لا ريش عليه. فأتاه- عليه السّلام- فإذا هو كهيئة الفرخ من شدّة البلاء. فقال له:

قد كنت تدعو في صحّتك دعاء. قال: نعم. كنت أقول: يا ربّ أيّما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فعجّلها  لي في الدّنيا. فقال له النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-:

ألا قلت: اللّهمّ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. فقالها [الرّجل‏]  فكأنّما نشط من عقال وقام صحيحا وخرج معنا.

و لقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطّع من الجذام. فشكا إليه- صلّى اللّه عليه وآله-. فأخذ قدحا من ماء فتفل فيه. ثمّ قال: امسح به  جسدك. ففعل، فبرئ حتّى لم يوجد فيه  شي‏ء.

و لقد أتي النبيّ بأعرابيّ  أبرص. فتفل [من‏]  فيه [عليه‏]  فما قام من عنده إلّا

صحيحا.

و لئن زعمت أنّ عيسى- عليه السّلام- أبرأ ذوي العاهات  من عاهاتهم، فإنّ محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- بينما هو في بعض  أصحابه إذا  هو بامرأة فقالت: يا رسول اللّه إنّ ابني قد أشرف على حياض الموت كلّما أتيته بطعام وقع عليه التّثاؤب. فقام النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وقمنا معه. فلمّا أتيناه قال له، جانب يا عدوّ اللّه وليّ اللّه (فأنا)  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فجانبه الشّيطان، فقام صحيحا وهو معنا في عسكرنا.

و لئن زعمت أنّ عيسى بن مريم أبرأ العميان ، فإنّ محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- قد فعل ما هو أكثر من ذلك، إنّ قتادة بن ربعي كان رجلا صحيحا، فلمّا كان يوم أحد أصابته طعنة في عينه، فبدرت حدقته فأخذها بيده، ثمّ أتى بها النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: يا رسول اللّه إنّ امرأتي الآن تبغضني، فأخذها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من يده، ثمّ وضعها مكانها، فلم تكن تعرف إلّا بفضل حسنها وفضل ضوئها على العين الأخرى.

و لقد خرج عبد اللّه بن عتيك  وبانت يده يوم حنين، فجاء إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ليلا، فمسح عليه يده، فلم تكن تعرف من اليد الأخرى.

و لقد أصاب محمّد بن مسلمة يوم كعب بن الأشرف  مثل ذلك في عينه ويده، فمسحه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فلم يستبينا.

و لقد أصاب عبد اللّه بن أنيس مثل ذلك في عينه ، فمسحها فما عرفت من الأخرى، فهذه كلّها دلالة لنبوّته- صلّى اللّه عليه وآله-.

قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى يزعمون أنّه أحيا الموتى بإذن اللّه.قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان ذلك، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- سبّحت في يده تسع حصيات فسمع نغماتها في جمودها ولا روح فيها لتمام حجّة نبوّته، ولقد كلمه الموتى  من بعد موتهم واستغاثوه ممّا خافوا تبعته. ولقد صلّى بأصحابه ذات يوم فقال: ما ها هنا من بني النّجّار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنّة. بثلاثة دراهم لفلان اليهوديّ، وكان شهيدا.

و لئن زعمت  أنّ عيسى كلّم الموتى، فلقد كان لمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- ما هو أعجب من هذا، إنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا نزل بالطّائف وحاصر أهلها بعثوا إليه بشاة  مسلوخة مطليّة بسمّ، فنطق الذّراع منها فقالت: يا رسول اللّه لا تأكلني فإنّي مسمومة، فلو كلّمت البهيمة وهي حيّة لكانت من أعظم حجج اللّه عزّ ذكره على المنكرين لنبوّته، فكيف وقد كلّمته من بعد ذبح وسلخ وشوي .

و لقد كان- صلّى اللّه عليه وآله- يدعو بالشّجرة فتجيبه، وتكلّمه البهيمة، وتكلّمه السّباع، وتشهد له بالنّبوّة وتحذّرهم عصيانه، فهذا أكثر ممّا أعطي عيسى.

قال له اليهوديّ: إن عيسى تزعمون  أنّه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم.

قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فعل ما هو أكبر  من هذا إنّ عيسى أنبأ قومه بما كان  من وراء الحائط، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أنبأ قومه  [عن موتة]  وهو عنها غائب، ووصف حربهم ومن استشهد  منهم، وبينه وبينهم مسيرة شهور، وكان يأتيه الرّجل يريد أن يسأله عن شي‏ء فيقول- صلّى اللّه عليه وآله-: تقول أو أقول، فيقول: بل قل يا رسول اللّه، فيقول: جئتني في كذا وكذا، حتى يفرغ  من حاجته. ولقد كان يخبر أهل مكّة بأسرارهم بمكّة حتّى‏لا يترك من أسرارهم شيئا، منها ما كان بين صفوان بن أميّة وبين عمير بن وهب  [إذ أتاه عمير]  فقال: جئت في فكاك ابني، فقال له: كذبت بل قلت لصفوان [بن أميّة]  وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم: واللّه للموت  أهون علينا  من البقاء مع ما صنع محمّد بنا. وهل حياة بعد أهل القليب؟! فقلت أنت: لولا عيالي ودين عليّ لأرحتك من محمّد، فقال صفوان: عليّ أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنّ ما يصيبهنّ  من خير أو شرّ، فقلت أنت: فاكتمها عليّ وجهّزني حتّى أذهب فأقتله، فجئت لقتلي، فقال : صدقت يا رسول اللّه فأنا أشهد أن لا اله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه.

و أشباه هذا ممّا لا يحصى.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن مثنّى الحنّاط، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي جعفر- عليه السّلام-. فقلت له:

أنتم ورثة  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

قال: نعم.

قلت: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وارث الأنبياء علّم كما  علّموا؟

قال [لي‏] : نعم.

قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرأوا الأكمه والأبرص؟

قال لي : نعم بإذن اللّه. ثمّ قال [لي‏] : ادن منّي يا أبا محمّد، فدنوت منه، فمسح على وجهي وعلى عيني، فأبصرت الشّمس والسّماء والأرض والبيوت وكلّ شي‏ء في البلد، ثمّ قال لي: أ تحبّ أن تكون هكذا ولك ما للنّاس وعليك ما عليهم يوم القيامة أو تعود كماكنت ولك الجنّة خالصا؟

قلت: أعود كما كنت. فمسح على عيني، فعدت كما كنت. [قال:]  فحدّثت ابن أبي عمير بهذا، فقال: أشهد أنّ هذا حقّ كما أنّ النّهار حقّ.

و في كتاب التّوحيد ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع أصحاب الأديان والمقالات، قال الرّضا- عليه السّلام-: لقد اجتمعت قريش إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فسألوه أن يحيي لهم موتاهم. فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-. فقال [له‏] : اذهب إلى الجبّانة  فناد بأسماء هؤلاء الرّهط الّذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان ويا فلان ويا فلان، يقول لكم محمّد [رسول اللّه‏] : قوموا بإذن اللّه- عزّ وجلّ-، فقاموا ينفضون التّراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ثمّ أخبروهم أنّ محمّدا قد بعث نبيّا، وقالوا: وددنا أنّا  أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين، وكلّمه البهائم والطّير والجنّ والشّياطين، ولم نتّخذه ربّا من دون اللّه- عزّ وجلّ-.

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ: عطف على «رسولا» على الوجهين. أو منصوب بإضمار فعل، دلّ عليه «قد جئتكم»، أي: وجئتكم مصدّقا.

وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ: مقدّر بإضمار فعل، دلّ عليه «قد جئتكم»، أي: وجئتكم لأحلّ. أو مردود على قوله: «قد جئتكم» بآية، أي: جئتكم لأظهر آية ولأحلّ. أو على معنى «مصدّقا»: أي: جئتكم لأصدّق ولأحلّ، كقولهم: جئتك معتذرا ولأطيّب قلبك.

بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، أي: في شريعة موسى- عليه السّلام- كالشّحوم والثّروب  والسّمك ولحوم الإبل والعمل في السّبت. وفي الآية دلالة، على أنّ شرعه كان ناسخا لشرع موسى- عليه السّلام-.

و في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:كان بين داود وعيسى بن مريم- عليهما السّلام- أربعمائة سنة، وكان شريعة عيسى أنّه بعث بالتّوحيد والإخلاص، وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى، وأنزل عليه الإنجيل، وأخذ عليه الميثاق الّذي أخذ على النّبيّين، وشرّع له في الكتاب إقام الصّلاة مع الّدين، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث، وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى في التّوراة، وهو قول اللّه في الّذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم. وأمر عيسى من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين، أن يؤمنوا بشريعة  التّوراة والإنجيل.

وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ  إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ :

الظّاهر أنّ قوله: قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، تكرير لما قبله، أي: جئتكم بآية بعد أخرى ممّا ذكرت لكم. والأوّل، لتمهيد الحّجة. والثّاني، لتقريبها إلى الحكم. ولذلك رتّب عليه «بالفاء».

قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ، أي: أنّي جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، فاتّقوا اللّه في المخالفة، وأطيعوا لي فيما أدعوكم إليه، ثمّ شرع في الدّعوة، وأشار إليها بالقول المجمل، فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، إشارة الى استكمال القوّة النّظريّة بالاعتقاد الحقّ، الّذي غايته التّوحيد.

و قال: فَاعْبُدُوهُ، إشارة إلى استكمال القوّة العمليّة، فإنّه بملازمة الطّاعة، الّتي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي. ثمّ قرّر ذلك، بأن بيّن أنّ الجمع بين الأمرين، هو الطّريق المشهود عليه بالاستقامة.

و قيل : معناه وجئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربّكم، وهو قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فإنّه دعوة الحقّ المجمع عليه فيما بين الرّسل، الفارقة بين النّبيّ والسّاحر.

أو جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، على أن الله ربي وربكم. وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، اعتراض.فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ:

قيل : تحقّق كفرهم عنده، تحقّق ما يدرك بالحواسّ.

 [و في تفسير العيّاشيّ: ]»

 وروى  ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه تعالى : فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ، أي، لمّا سمع ورأى أنّهم يكفرون،

فعلى هذه الرواية، كان الإحساس مستعملا في معناه الحقيقيّ، ولا يكون استعارة تبعيّة، كما في الأوّل.

قالَ مَنْ أَنْصارِي: جمع، ناصر. وحمله على «من» لإرادة المتعدّد منه، أو للمبالغة في كونه ناصرا إلى اللّه ملتجئا إلى اللّه أو ذاهبا أو ضامّا إليه. ويحتمل تعلّقه «بأنصاري» على تضمين الإضافة، أي: من الّذين يضيفون أنفسهم.

إِلَى اللَّهِ: في نصري.

و قيل  «إلى» هاهنا بمعنى: «مع» أو «في» أو «اللّام».

قالَ الْحَوارِيُّونَ حواريّو الرّجل، صفوته وخالصته. من الحور، وهو البياض الخالص. ومنه:

الحواريّات للحضريّات، لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ قال:

         فقل للحواريّات يبكين غيرنا             ولا تبكنا إلّا الكلاب النّوائح‏

 وفي وزنه، الحوالي، وهو الكثير الحيلة.

سمّي به أصحاب عيسى- عليه السّلام- قيل : لخلوص نيّتهم، ونقاء سريرتهم.

و قيل: كانوا ملوكا يلبسون البيض، استنصر بهم عيسى على  اليهود. وقيل: قصّارون‏يحورون الثّياب: أي:  يبيّضونها نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ: في دينه.

آمَنَّا بِاللَّهِ: الّذي دعوت إليه.

وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ : لتشهد يوم القيامة، حين يشهد الرّسل لقومهم وعليهم.

رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ: في كتبك.

وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ: أي: عيسى- عليه السّلام- فيما دعى إليه.

فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ : بوحدانيّتك، أو مع الأنبياء الشّاهدين.

و قيل: أو مع أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فإنّهم شهداء على النّاس.

وَ مَكَرُوا، أي: الّذين أحسّ منهم الكفر من اليهود، بأن وكّلوا عليه من يقتله غيلة.

وَ مَكَرَ اللَّهُ: بأن رفع عيسى، وألقى شبهه على غيره، حتّى قتل.

و المكر، حيلة يجلب بها الغير إلى المضرّة، وإسناده إلى اللّه على سبيل الازدواج.

و في عيون الأخبار ، عن الرّضا- عليه السّلام- في حديث طويل. وفيه قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ -: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وقوله: اللَّهُ  يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وقوله- تعالى-: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وعن قوله- عزّ وجلّ -: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ‏

.

فقال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكّنه- عزّ وجلّ- يجازيهم جزاء السّخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى اللّه عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ : أقدرهم على إيصال الضّرّ إلى الغير.

إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف لمكر الله. وقيل: أو لخير الماكرين. أو لمضمر مثل ووقع ذلك.يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ: أي: مستوفي أجلك عاصما إيّاك من قتلهم، أو قابضك من الأرض. من توفّيت ما لي.

و قيل : أو متوفّيك نائما.

و قيل : أماته اللّه سبع ساعات ثمّ رفعه. وقيل: أو مميتك عن الشّهوات. العائقة عن العروج.

وَ رافِعُكَ إِلَيَّ: إلى محلّ كرامتي ومقرّ ملائكتي، وذلك في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان.

في كتاب الخصال ، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:

 

- في حديث طويل يذكر فيه الأغسال في شهر رمضان-: وليلة إحدى وعشرين، وهي اللّيلة الّتي مات فيها أوصياء الأنبياء ، وفيها رفع عيسى [بن مريم‏] - عليه السّلام-.

وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أي: من سوء جوارهم، أو قصدهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ عيسى- عليه السّلام- وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه. فاجتمعوا إليه عند المساء، وهم اثنا عشر رجلا. فأدخلهم بيتا.

ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت، وهو ينفض رأسه من الماء. فقال: إنّ اللّه أوحى إليّ: أنّه رافعي إليه السّاعة، ومطهّري من اليهود، فأيّكم يلقى عليه  شبحي، فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟

فقال شابّ منهم: أنا يا روح اللّه؟

فقال: فأنت هوذا. فقال لهم عيسى: أما إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح، أثنتي عشرة كفرة.

فقال له رجل منهم: أنا هو يا نبيّ اللّه.

فقال عيسى: إن تحسّ  بذلك في نفسك فلتكن هو، ثمّ قال لهم عيسى: أماإنّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين  على اللّه في النّار، وفرقة تتبّع شمعون صادقة على اللّه في الجنّة. ثمّ رفع اللّه عيسى إليه من زاوية البيت، وهم ينظرون إليه.

ثمّ قال [أبو جعفر- عليه السّلام-:]  إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم، فأخذوا الرّجل الّذي قال له عيسى: إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح، اثنتي عشرة كفرة. وأخذوا الشّابّ الّذي ألقي عليه شبح عيسى- عليه السّلام- فقتل وصلب، وكفر الّذي قال له عيسى: تكفر قبل أن تصبح، اثنتي عشرة كفرة.

و في كتاب كمال الّدين وتمام النّعمة  بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل القرشيّ، عمّن حدّثه، عن إسماعيل بن أبي رافع، عن أبيه [أبي رافع‏]  قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ جبرئيل- عليه السّلام- نزل عليّ بكتاب، فيه خبر الملوك ملوك الأرض [قبلي،]  وخبر من بعث قبلي من الأنبياء والرّسل. وهو حديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

قال: لمّا ملك أشجّ بن أشجان، وكان يسمّى الكيس، وكان قد ملك مأتين وستّا وستّين سنة، ففي سنة إحدى وخمسين من ملكه، بعث اللّه- عزّ وجلّ- عيسى بن مريم- عليه السّلام- واستودعه النّور والعلم والحكمة وجميع علوم الأنبياء قبله، وزاده الإنجيل، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل، يدعوهم إلى كتابه وحكمته وإلى الإيمان باللّه وبرسوله ، فأبى أكثرهم إلّا طغيانا وكفرا، فلمّا لم يؤمنوا [به‏]  دعا ربّه وعزم عليه، فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا، فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا وكفرا، فأتى بيت المقدس، فمكث يدعوهم ويرغّبهم [فيما عند اللّه‏]  ثلاثا وثلاثين سنة، حتّى طلبته اليهود، وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّا، وادّعى بعضهم أنّهم  قتلوه وصلبوه، وما كان اللّه ليجعل لهم سلطان عليه، وإنّما شبّه لهم، وما قدروا على عذابه ودفنه، ولا على قتله وصلبه [لقوله- عزّ وجلّ-: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فلم‏يقدروا على قتله وصلبه،]  لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله، ولكن رَفَعَهُ اللَّهُ [إِلَيْهِ‏]   بعد أن توفّاه، فلمّا أراد اللّه أن يرفعه، أوحى إليه أن يستودع  نور اللّه وحكمته وعلم كتابه شمعون بن حمّون الصّفا، خليفته  على المؤمنين، ففعل ذلك.

قوله- عليه السّلام-: «بعد أن توفّاه» يحتمل أن يكون معناه، بعد أن قبضه من الأرض، أو بعد أن أماته عن الشّهوات العائقة، أو أماته موتا حقيقيّا- كما ذهب إليه البعض- أو بعد أن قرّر في علمه أن يستوفي أجله، وهذا أبعد.

وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ: يعلونهم بالحّجة، أو السّيف. ومتّبعوه، من آمن بنبوّته من المسلمين والنّصارى. وإلى الآن لم تسمع غلبة اليهود عليهم، ولا يتّفق لهم ملك ولا دولة.

ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ:

فيه تغليب للمخاطبين على غيرهم.

فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ : من أمر الدّين.

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا: من اليهود، وغيرهم.

فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا: بضرب الجزية، والهوان.

 «و»: في الْآخِرَةِ: بالنّار.

وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ : يسعون في استخلاصهم.

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، أي: في الدّنيا والآخرة.

و قرأ حفص، بالياء .

وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ : ويحبّ المؤمنين.

ذلِكَ، أي: نبأ عيسى وغيره ممّا تقدّم. مبتدأ، خبره نَتْلُوهُ عَلَيْكَ: وقوله:

مِنَ الْآياتِ: حال من الهاء. ويحتمل أن يكون هو الخبر و«نتلوه» حالا،

و العامل فيه معنى الإشارة، وأن يكونا خبرين. ويحتمل أن يكون «ذلك» منصوبا، بما يفسّره «نتلوه».

وَ الذِّكْرِ، أي: القرآن. وقيل : اللّوح.

الْحَكِيمِ : المشتمل على الحكم. أو المحكم، عن تطرّق الخلل إليه.

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ: أي: شأنه الغريب كشأن آدم.

خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ: جملة مفسّرة لوجه الشّبه، وهو أنّه خلق بلا أب كما خلق آدم بلا أب، بل وبلا أمّ أيضا، شبّه حاله بما هو أغرب، إفحاما للخصم بطريق المبالغة.

ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ، [أي: انشأ بشرا. والمراد بالخلق، خلق القالب. أو المراد قدر تكوينه ثمّ كوّنه.

و يحتمل أن يكون «ثم» لتراخي الخبر]»

 فَيَكُونُ : حكاية حال ماضية.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: أنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وكان سيّدهم الأهتم  والعاقب والسّيّد، وحضرت صلاتهم ، فأقبلوا يضربون بالنّاقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: يا رسول اللّه ، هذا في مسجدك! فقال: دعوهم. فلمّا فرغوا دنوا من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقالوا: إلى ما تدعونا ؟

فقال: إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّي رسول اللّه، وأنّ عيسى عبد مخلوق، يأكل ويشرب ويحدث.

قالوا: فمن أبوه؟

فنزل الوحي على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فقال: قل لهم: ما تقولون‏في آدم، أ كان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث  وينكح؟ فسألهم النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقالوا: نعم فقال: فمن أبوه؟

فبهتوا [، فبقوا ساكتين،]  فأنزل اللّه- تبارك وتعالى-: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ [كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏]  (الآية)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ «الحق» مبتدأ، و«من ربّك» خبره، أي: الحقّ المذكور من اللّه. أو خبر مبتدأ محذوف، و«من ربّك» صفته، أو حال منه. ويحتمل تعلّقه به.

فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ :

الخطاب إن كان للنّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فلزيادة التّهييج على الثّبات، أو للتّعريض. وإن كان لكلّ سامع، فعلى أصله.