سورة البقرة الآية 1-20

أي، سورة يذكر فيها، قصة البقرة. وانما سميت بها، لغرابة قصتها وامتياز هذه السورة بها، عن سائر السور.

و هي مدنية: بل أول سورة نزلت بالمدينة. الا آية نزلت يوم النحر، بمنى، في حجة الوداع، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ  (الاية).

و آيها، مائتان وسبع وثمانون.

 

بسم اللّه الرحمن الرحيم

في كتاب ثواب الاعمال ، بإسناده الى أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال:

من قرأ سورة البقرة وآل عمران جاء  يوم القيامة، تظلانه على رأسه مثل الغيابتين.

و فيه : عن علي بن الحسين- عليهما السلام- قال: قال رسول اللّه- صلى‏

   اللّه عليه وآله- من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسى القرآن.

و في مجمع البيان : وسئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: أي سور القرآن أفضل؟

قال: البقرة.

قال: أي آية  آي  القرآن  أفضل؟

قال: آية الكرسي.

و في تفسير العياشي : عن سعد الإسكاف، قال: سمعت أبا جعفر- عليه السلام- يقول: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: أعطيت الطوال، مكان التوراة.

و أعطيت الماءين، مكان الإنجيل. وأعطيت المثاني، مكان الزبور. وفضلت بالمفصّل سبع وستين سورة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم : وسائر الألفاظ التي يتهجّى بها، اسماء مسمياته الحروف المبسوطة التي ركبت منها. وقد روعيت في هذه  التسمية، لطيفة، وهي أن المسميات، لما كانت كأساميها، وهي حروف وحدان‏و الأسامي، عدد حروفها مرتق الى الثلاثة، اتجه لهم طريق الى أن يدلوا في التسمية على المسمى، فلم يغفلوها. وجعلوا المسمى، صدر كل اسم كما ترى  الا في «الألف» فإنهم استعاروا الهمزة، مكان مسماها. لأنه لا يكون الا ساكنا. وانما كانت أسماء لدخولها في حد الاسم واعتوار ما يختص به من  التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها.

و به صرح الخليل وأبو علي.

و ما روى ابن مسعود أنه- عليه السلام- قال: من قرأ حرفا من كتاب اللّه، فله حسنة. والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: «الم» حرف. بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف .

فالمراد، فيه من الحرف الكلمة. فيحتمل أنه سبحانه أراد بها، الحروف الملفوظة ، على قصد تعديدها، أو تسمية بعض السور، أو القرآن، أو ذاته سبحانه، بقسم، أو غير قسم. فالنكتة في ذلك التعديد أو التسمية، على هذا الوجه أمران:

الاول: انه لما كانت مسميات هذه الأسماء، بسائط الكلام، التي يتركب منها، افتتحت السور، بطائفة منها، على وجه التعديد أو التسمية بها، تنبيها  لمن تحدى بالقرآن، على أن المتلوّ عليهم، كلام منظوم مما ينظمون منه، كلامهم.

فلو كان من عند غير اللّه، لما عجزوا عن الإتيان بما يدانيه.

و الثاني: أن يكون أول ما يقرع  الأسماع، مستقلا بنوع من الاعجاز.فان النطق بأسماء الحروف، مخصوص بمن خط ودرس. فأما الأمي الذي لم يخالط أهل الكتاب، فمستبعد مستغرب خارق للعادة، كالتلاوة والكتابة. وقد راعى في ذلك، ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، من إيراد نصف أسماء الحروف بحيث ينطوي على انصاف  مسمياتها، تحقيقا وتقريبا، في تسعة وعشرين سورة، على عدد الحروف، مع نكات أخر.

قيل : ويمكن أن يكون تلك الحروف الملفوظة، باعتبار مخارجها، اشارة الى معان دقيقة لطيفة، كما يشيرون «بالألف»، باعتبار مخرجها الذي هو أقصى الحلق، الى مرتبة الغيب، و«بالميم»، باعتبار مخرجها الذي هو الشفة، الى مرتبة الشهادة، وبمخرج «اللام» الواقع بينهما، الى ما يتوسط من المراتب.

فالمشار اليه بقوله  «الم»، مرتبة الغيب والشهادة وما بينهما. وذلك المشار اليه، هو الكتاب الوجودي، الذي لا يخرج منه شي‏ء.

و يمكن حملها على معانيها الحسابية، اشارة الى مدد أقوام وآجال، او غير ذلك، بحساب ذلك ويدل عليه.

  (و روي : انه- عليه السلام- لما أتاه اليهود، تلا عليهم «الم- البقرة».

فحسبوا. وقالوا: كيف ندخل في دين، مدته احدى وسبعون سنة؟

فتبسم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله.

فقالوا: وهل غيره؟

فقال: المص والر والمر.

فقالوا: خلطت علينا. فلا ندري بأيها نأخذ.

فان تلاوته، إياها، بهذا الترتيب. وتقريرهم على استنباطهم، دليل على ذلك.)

و قيل : يمكن حمله على الاشارة بصورها الكتابية الرقمية، الى معان أخر كما يشيرون «بالألف»، الى الوجود النازل من علو غيب الإطلاق، الى مراتب التقييد، من غير انعطاف.

و «باللام» (اليه مع انعطاف من غير أن يتم دائرته «بالميم» الى تمام دائرته، فيعم مراتب الوجود.

و قيل: يمكن أن يجعل تلك الحروف، اشارة الى كلمات، هي منها اقتصر عليها) .

 «فالألف»، آلاء اللّه. «و اللام»، لطفه. «و الميم»، ملكه.

و روي: أن «ألم»، معناه: أنا اللّه أعلم. وأن «الألف» من اللّه. «و اللام» من جبرئيل. والميم من محمد، أي : القرآن منزل من اللّه، على لسان جبرئيل الى محمد- صلى اللّه عليه وآله.

 (عن أبي محمد الحسن العسكري- عليه السلام- قال   قال الصادق- عليه السلام [ثم‏] «الألف» حرف من حروف قولك «اللّه». دل «بالألف»على قولك «اللّه». ودل «باللام» على قولك «الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين». ودل «بالميم» على أنه «المجيد المحمود في كل أفعاله».

 (و في شرح الآيات الباهرة : :

 

روى  علي بن ابراهيم- رحمه اللّه- عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عن المفضل، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السلام- [أنه‏] : «الم» وكل حرف في القرآن، منقطعة من حروف، اسم اللّه الأعظم، الذي يؤلفه الرسول والامام- عليهما السلام- فيدعو [به‏] ، فيجاب.

 (و في كتاب معاني الأخبار : بإسناده الى أحمد بن زياد بن جعفر [الهمداني‏]  عن  علي [بن ابراهيم‏] ، عن أبيه عن يحيى بن [أبي‏]  عمران، عن يونس [ابن عبد الرحمن‏] ، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: «الم»، هو حرف من حروف اسم اللّه الأعظم، المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي (ص) والامام. فإذا دعا به أجيب.

و بإسناده  الى سفيان بن سعيد الثوري، عن الصادق- عليه السلام- حديث‏

 طويل، يقول فيه- عليه السلام-: أما «الم» في أول البقرة، فمعناه: أنا اللّه الملك.

و بإسناده  الى محمد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر- عليه السلام- يقول: ان حييا وأبا ياسر، ابني أخطب، ونفرا من يهود أهل نجران، أتوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أنزل اللّه عليك الم؟

قال: بلى.

قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند اللّه؟

قال: نعم.

قالوا: لقد بعثت  أنبياء قبلك وما نعلم نبيا منهم أخبر ما  مدة ملكه، وما أجل أمته، غيرك.

قال: فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه، فقال لهم: «الالف» واحد.

و «اللام»، ثلاثون. و«الميم»، أربعون. فهذه احدى وسبعون سنة. فعجب أن  يدخل في دين، مدة ملكه وأجل أمته، احدى وسبعون سنة.

قال: ثم أقبل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- فقال له: يا محمد! هل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قال: فهاته ! قال: المص.قال: هذه أثقل وأطول، «الألف»، واحد. «و اللام»، ثلاثون. و«الميم» أربعون. «الصاد»، تسعون. فهذه مائة واحدى وستون سنة.

ثم قال لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله: فهل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قال: هاته! قال: الر.

قال: هذه أثقل وأطول، «الألف» واحد. و«اللام» ثلاثون و«الراء» مائتان.

ثم قال لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله: فهل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قال: هاته! قال: المر.

قال: هذه أثقل وأطول، «الالف» واحد. و«اللام» ثلاثون. و«الميم» أربعون. و«الراء» مائتان.

ثم قال له: فهل  مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قالوا: قد التبس علينا أمرك. فما ندري ما أعطيت.

ثم قاموا عنه.

ثم قال أبو ياسر لحيي ، أخيه: ما يدريك، لعل محمدا قد جمع له هذا كله وأكثر منه.

قال: فذكر أبو جعفر- عليه السلام-: ان هذه الآيات، أنزلت فيهم،مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ . قال: وهي تجري  في وجه آخر على غير تأويل حيي وأبي ياسر وأصحابهما.

و فيه : في حديث طويل، عن أبي محمد العسكري- عليه السلام: وجعل هذا القول، حجة على اليهود. وذلك أن اللّه تعالى، لما بعث موسى بن عمران ثم من بعده من الأنبياء، الى بني إسرائيل، لم يكن فيهم قوم  الا أخذوا عليهم العهود والمواثيق، ليؤمن بمحمد العربي الأمي المبعوث بمكة، الذي يهاجر الى المدينة، يأتي بكتاب، بالحروف  المقطعة، افتتاح بعض سوره. يحفظه أمته، فيقرءونه قياما وقعودا ومشاة وعلى كل الأحوال. يسهل اللّه- عز وجل- حفظه عليهم [و]  يقرنون بمحمد- صلى اللّه عليه وآله- أخاه ووصيه علي بن أبي طالب- عليه السلام- الآخذ عنه علومه، التي علمها. والمتقلد عنه الأمانة التي قلدها  ويذلل  كل من عاند محمدا بسيفه الباتر، ويفحم كل من حاوله  وخاصمه بدليله القاهر . يقاتل عباد اللّه على تنزيل كتاب اللّه، حتى يقودهم الى قبوله طائعين‏و كارهين. ثم إذا صار محمد الى رضوان اللّه- عز وجل- ارتد  كثير ممن كان أعطاه ظاهر الايمان، وحرفوا تأويلاته، وغيروا معانيه، ووضعوها على خلاف وجوهها.

قاتلهم بعد ذلك على تأويله، حتى يكون إبليس الغاوي لهم، هو الخاسئ  الذليل المطرود المغلول.

قال: فلما بعث اللّه محمدا، وأظهره بمكة، ثم سيره منها الى المدينة، وأظهره بها، ثم أنزل عليه  الكتاب، وجعل افتتاح سورته  الكبرى، «بالم»، يعنى:

الم ذلِكَ الْكِتابُ. وهو ذلك الكتاب الذي أخبرت الأنبياء  السالفين، اني سأنزله عليك، يا محمد لا رَيْبَ فِيهِ. فقد ظهر كما أخبرهم به أنبياؤهم، أن محمدا، ينزل عليه كتاب مبارك لا يمحوه الباطل. يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم. ثم اليهود، يحرفونه عن جهته ويتناولونه  على غير وجهه. ويتعاطون التوصل الى علم ما قد طواه اللّه عنهم، من حال آجال هذه الأمة، وكم مدة ملكهم.

فجاء الى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- جماعة منهم . فولى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- عليا- عليه السلام- مخاطبتهم .

فقال قائلهم: ان كان ما يقول محمد حقا، لقد علمناكم قدر ملك أمته، هواحدى  وسبعون سنة، «الألف»، واحد. و«اللام»، ثلاثون. و«الميم»، أربعون.

فقال علي- عليه السلام-: فما تصنعون «بالمص»؟ وقد أنزلت  عليه.

فقالوا : هذه احدى وستون ومائة سنة قال: فما ذا تصنعون «بالر»؟ وقد أنزلت عليه.

فقالوا: هذه اكثر. هذه مائتان واحدى وثلاثون سنة.

فقال علي- عليه السلام-: فما تصنعون بما أنزل عليه «المر»؟

قالوا: هذه مائتان واحدى وسبعون سنة.

فقال علي- عليه السلام-: فواحدة من هذه له أو جميعها له؟

فاختلط كلامهم. فبعضهم قال له واحدة منها. وبعضهم قال بل يجمع له كلها وذلك سبعمائة وأربع [و ثلاثون سنة]  ثم يرجع الملك إلينا، يعني الى اليهود.

فقال علي- عليه السلام-: أ كتاب من كتب اللّه- عز وجل- نطق بهذا؟ أم آراؤكم دلتكم عليه؟

فقال  بعضهم: كتاب اللّه نطق به. وقال آخرون منهم: بل آراؤنا دلت عليه.

فقال علي- عليه السلام-: فأتوا بالكتاب من عند اللّه، ينطق بما تقولون.

فعجزوا عن إيراد ذلك.

و قال  للآخرين: فدلونا على صواب هذا الرأي.فقالوا: صواب رأينا، دليله. ان هذا حساب الجمل.

فقال علي- عليه السلام-: كيف دل على ما تقولون؟ وليس في هذه الحروف الا ما اقترحتم بلا بيان. أ رأيتم ان قيل لكم: ان هذه الحروف ليست دالة على هذه المدة، لملك أمة محمد- صلى اللّه عليه وآله- ولكنها دالة على أن كل واحد منكم، قد لعن بعدد هذا الحساب. أو أن عدد ذلك، لكل واحد منكم ومنا، بعدد هذا الحساب، دراهم  أو دنانير. او أن لعلي [على‏]  كل واحد منكم، دين ، عدد ماله مثل عدد هذا الحساب.

فقالوا: يا أبا الحسن! ليس شي‏ء مما ذكرته، منصوصا عليه في الم والمص والر والمر».

 

فقال علي- عليه السلام-: ولا شي‏ء مما ذكرتموه، منصوصا عليه في الم والمص والر والمر». فان بطل قولنا لما قلنا، بطل قولك لما قلت.

فقال خطيبهم ومنطيقهم: لا تفرح، يا علي! بأن عجزنا عن اقامة حجة [فيما نقول‏] ، على دعوانا. فأي حجة لك في دعواك. الا أن تجعل عجزنا حجتك.

فإذا مالنا حجة فيما نقول ولا لكم حجة فيما تقولون.

قال علي- عليه السلام-: لا سواه ، ان لنا حجة، هي المعجزة الباهرة.

ثم نادى جمال اليهود: يا أيتها  الجمال! اشهدي لمحمد ولوصيه.فتبادرت  الجمال: صدقت صدقت يا وصي محمد. وكذب هؤلاء اليهود.

فقال علي- عليه السلام: هؤلاء جنس من الشهود. يا ثياب اليهود! التي عليهم، اشهدي لمحمد ولوصيه.

فنطقت ثيابهم- كلهم: صدقت، صدقت يا علي. نشهد أن محمدا، رسول اللّه حقا وانك يا علي! وصيه حقا. لم يثبت محمدا قدما في مكرمة، الا وطئت على موضع قدمه، بمثل مكرمته. فأنتما شقيقان، من أشرف  أنوار اللّه. تميزتما  اثنين. وأنتما في الفضائل شريكان. الا أنه لا نبي بعد محمد- صلى اللّه عليه وآله.

فعند ذلك خرست اليهود. وآمن بعض النظارة منهم، برسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- وغلب  الشقاء، على اليهود وسائر النظارة الآخرين. فذلك ما قال اللّه تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ. انه كما قال محمد ووصي محمد، عن قول محمد- صلى اللّه عليه وآله- عن قول رب العالمين.

و في مجمع البيان : اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة  بها السور. فذهب بعضهم الى‏

أنها من المتشابهات التي استأثر اللّه بعلمها. ولا يعلم تأويلها الا هو. وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام.

و روت  العامة عن أمير المؤمنين- عليه السلام- انه قال: لكل كتاب صفوةو صفوة هذا الكتاب، حروف التهجّي.

و روى أبو إسحاق الثعلبي، في تفسيره مسندا  الى علي بن موسى الرضا- عليه السلام- قال: سئل جعفر بن محمد الصادق- عليه السلام- عن قوله «الم» فقال: في «الالف»، ست صفات من صفات اللّه- عز وجل:

الابتداء، فان اللّه- عز وجل- ابتداء  جميع الخلق. و«الألف»، ابتداء الحروف.

و الاستواء، فهو عادل غير جائر. و«الالف» مستو في ذاته.

و الانفراد، فاللّه فرد. و«الالف» فرد.

و اتصال الخلق باللّه. واللّه لا يتصل بالخلق. وكلهم «يحتاجون اليه» .

و اللّه غني عنهم. و«الالف كذلك» ، لا يتصل بالحروف. والحروف متصلة به، وهو منقطع عن  غيره.

و اللّه تعالى بائن بجميع صفاته من خلقه.

و معناه من الألفة. وكان  اللّه عز وجل سبب ألفة الخلق، فكذلك الالف، عليه تألفت الحروف. وهو سبب ألفتها.)

 

و أقول : ويحتمل أن يكون الكل، مع احتمالات أخر، لا ينافي الشرع.ليس هاهنا موضع ذكرها، مرادا . واللّه أعلم بحقيقة الحال.

و هذه الأسماء، معربة. وانما سكنت سكون زيد وعمر وبكر، حيث لا يمسها اعراب، لفقد مقتضية. والدليل على أن سكونها، وقف، أنه يقال: «ص» و«ق» و«ن»، مجموعا، فيها بين الساكنين. وإذا وقف على آخرها، قصرت. لأنها في تلك الحالة، خليقة بالأخف الاوجز، ومدت في حال الاعراب. وهي اما مفردة، كص. أو على زنة مفرد، كحم. فانه كهابيل، أو لا.

الأول: يجوز فيه الاعراب والحكاية.

و الثاني: ليس فيه الا الثاني.

فقوله «الم»، في محل النصب، على حذف حرف القسم، واعمال  فعله.

أو الجر على تقديره. أو الرفع على أنه مبتدأ، ما بعده خبره. أو خبر محذوف المبتدأ.

ذلِكَ: اسم اشارة، مركب من اسم وحرفين. فالاسم «ذا» للمذكر الواحد: أما ذكورة المشار اليه. فلتأثيره في نفس المخاطب. وانتاجه فيها، معرفة الحقّ وصفاته سبحانه.

و أما افراده. فلأن المشار اليه وان كان متعددا في نفسه. لكنه ملحوظ، من حيث أحدية الجمعية، كما تدل عليه الاخبار عنه، «بالكتاب»، المنبئ عن الجمعية أو توصيفه به.

و أحد الحرفين، «اللام». الدال بتوسطه، بين اسم الاشارة والمخاطب،على بعد المسافة بينه وبين المشار اليه. ووجه البعد، عدم إمكان احاطة فهم المخاطب، بما يقصد به.

و الاخر «الكاف». الدال على ذكورة المخاطب وافراده. وأما ذكورة المخاطب فلأن المخاطب، أولا هو النبي- صلى اللّه عليه وآله- بحسب حقيقة مرتبة الأبوة، بالنسبة الى جميع أفراد الآدميين، كما قيل بلسان مرتبته:

         واني وان كنت ابن آدم صورة             فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي‏

 وأما افراده، فلانمحاء كثرته النسبية، في الوحدة الحقيقية.

الْكِتابُ: الكتب، الجمع. يقال: كتبت القربة، أي: جمعته. ومنه الكتيبة للجيش. والكتاب بمعناه. سمي به المفعول، مبالغة.

و قيل: فعال ، بني للمفعول كاللباس. ثم أطلق على الحبارات المنظومة، قبل الكتابة. لأن من شأنها أن تكتب. والحقائق العلمية، ان كانت معتبرة، لا بأحوالها، يسمى حروفا غيبية. ومع أحوالها كلمات غيبية والوجودية، بلا أحوالها حروفا وجودية. ومع أحوالها كلمات وجودية. والدالة على جملة مفيدة، آية. والبعض الجامع، لتلك الجمل، سورة. ومجموع تلك المعقولات والموجودات، «كتابا» و«فرقانا» و«قرآنا»- أيضا- باعتباري التفصيل والجمع.

و في تركيب قوله «الم» مع ما بعده، أوجه: أن جعلت «الم» اسما للسورة، أو للقرآن. أن يكون «الم» مبتدأ، و«ذلك» مبتدأ ثانيا، «و الكتاب»، خبره.

و الجملة، خبر المبتدأ الأول. ومعناه، ان ذلك الكتاب، هو الكتاب الكامل. كان ما عداه من الكتب في مقابلته  ناقص. وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول:

هو الرجل: أي: الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال، من مرضي الخصال.

و أن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الم. ويكون «ذلك»، خبرا ثانيا، أو بدلا على أن «الكتاب» صفة.

و ان يكون  «هذه الم»، جملة، وذلِكَ الْكِتابُ، جملة أخرى.

و ان جعلت «الم»، بمنزلة الصوت، كان «ذلك»، مبتدأ، خبره «الكتاب»، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل.

أو «الكتاب» صفته  وما بعده خبره. أو قدر مبتدأ محذوف، أي: هو، يعني:

المؤلف من هذه الحروف، ذلِكَ الْكِتابُ.

و قرأ عبد اللّه: الم تنزيل الكتاب. وتأليف هذا، ظاهر.

و ليس شي‏ء منها، آية عند غير الكوفيين. وأما عندهم «فالم» في مواقعها.

و المص وكهيعص وطه وطسم ويس وحم، آية. وحم عسق، آيتان. والبواقي ليست بآيات .

قيل: ان المفسرين متفقون على أن «ذلك» في موضع الرفع. فاما أن يكون خبرا عن «الم»، أو عن محذوف. أو مبتدأ وخبره «الم».

و أقول: المبتدأ والخبر، إذا كانا معرفتين، وجب تقديم المبتدأ. فالخبر في هذه الصورة، مع كونه معرفة، كيف يجوز تقديمه؟

لا رَيْبَ فِيهِ: «الريب» في الأصل، مصدر. رابني الشي‏ء، إذا حصل‏فيه الريبة. وهي قلق  النفس واضطرابها .

قال- عليه السلام-: دع ما يريبك، الى ما لا يريبك. فان الشك، ريبة.

و الصدق، طمأنينة .

أي: كون الأمر مشكوكا فيه، مما ينفلق  النفس له. ولا يستقر. وكونه صحيحا صادقا، مما يطمئن له. ويسكن. ومنه «ريبة الزمان»، لما يطلق النفوس، من نوائبه. فالمراد به، الشك. لا معناه المصدري.

و ضمير فيه، راجع الى الحكم السابق ان كان هناك، حكم، أو الى «الكتاب»، أو الى «ذلك».

و انما نفى الريب، مع كثرة المرتابين، لأن الريب، مع وضوح مزيحه ، كلا ريب.

و يحتمل أن يكون المراد، أن القرآن ليس مظنة للريب. بمعنى أن العاقل إذا رجع الى عقله وترك العناد، ظهر حقيته وصدقه عليه، غاية الظهور. ولم يبق مع شك وريب، أصلا.

و أن يكون أن لا رَيْبَ فِيهِ، لِلْمُتَّقِينَ، وهُدىً، حالا عن الضمير المجرور.

و أن يكون الريب المنفي، هو الريب بمعناه المصدري، أي: ليس فيه إيقاع شك، بأن يكون فيه، شي‏ء يوقع في الشك. كالاختلاف المذكور في قوله تعالى :وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.

و أن يكون أنه لا ريب فيه، في الواقع. وان كانوا مظهرين للريب.

كما روي عن أبي محمد العسكري ، أنه قال- عليه السلام-: لا رَيْبَ فِيهِ، لا شك فيه، لظهوره عندهم. كما أخبرهم أنبياؤهم: أن محمدا نزل  عليه كتاب، لا يمحوه الماء. يقرؤه  هو وأمته على سائر أحوالهم.

و لم يقدم الظرف، كما قدم في قوله لا فيها غول. لأنه لم يقصد هنا، انحصار نفي الريب فيه. كما قصد هناك انحصار نفي الغول، في خمور الجنة.

و قرأ أبو الشعشعاء  لا ريب فيه بالرفع. والفرق «الأول ونظيره» ، بينها وبين القراءة المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق. وهذه تجوزه.

و الوقف على فيه، هو المشهور.

و عن نافع وعاصم: انهما وقفا، على لا رَيْبَ. ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا، ليتم الكلام الأول. ونظيره قوله تعالى: قالُوا لا ضَيْرَ ، وقول العرب: «لا بأس». وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز. والتقدير: لا ريب فيه، فيه.

فعلى التقدير الأول، يحتمل أن يكون «فيه»، صفة «للريب»، والخبر، محذوفا، وأن يكون هو الخبر، والمجموع، جملة. وقعت مؤكدة «لذلك الكتاب»،أو خبرا بعد خبر «لذلك»، أو لقوله «الم».

و على التقدير الثاني، يحتمل أيضا تلك الاحتمالات، وأن يكون «فيه» الثاني، خبر «الهدى» مقدما عليه.

 (و في تفسير علي بن ابراهيم : حدثني أبي، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: «الكتاب»، علي- عليه السلام- لا شك فيه) .

هُدىً: هو مصدر، على فعل، كالسرى والبكى. وهو الدلالة الموصلة، الى البغية. بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال اللّه تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى .

و يقال: «مهدي» في موضع المدح، كمهتد. ولأن «اهتدى»، مطاوع «هدى». ويكون  المطاوع، في خلاف معنى أصله. ألا ترى الى قولهم : غمه، فاغتم، وكسره، فانكسر. وأشباه ذلك؟

و هو اما مبتدأ، خبره مقدم عليه، أو محذوف. وعلى التقديرين، فهو على حقيقته ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، أو حال، كما سبق.

اما على المبالغة. كأنه نفس الهدى. أو على حذف المضاف، أي: ذو هداية.

أو على وقوع المصدر. بمعنى اسم الفاعل. (قال أبو جعفر - عليه السلام-: «الكتاب» أمير المؤمنين، لا شك فيه، انه امام هدى) .

لِلْمُتَّقِينَ (3: «المتقي»، اسم فاعل من قولهم «وقاه، يقي». والوقاية:

فرط الصيانة وشدة الاحتراس من المكروه. ومنه فرس واق، إذا كان يقي  حافره أذى  شي‏ء يصيبه.

و هو في عرف الشرع، اسم لمن يقي نفسه عما يضره في الاخرة.

و له ثلاث مراتب:

الاولى- التوقي عن الشرك المفضي الى العذاب المخلد. وعليه قوله تعالى:

وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى .

و الثانية- التجنب، عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم.

و قيل: الصحيح أنها لا يتناولها. لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر.

و الثالثة- أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق. ويتبتل اليه، بكليته. وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ .

قيل: ومن جملة معاني باب الافتعال، الاتخاذ. فمعنى «اتقى» على هذا، اتخذ الوقاية. ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا رَبَّكُمُ  اجعلوا ما ظهر منكم، وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم، وهو ربكم‏وقاية. فان الأمر، ذم وحمد. فكونوا وقايته في الذم. واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين. فان توحيد الأفعال يقتضي اسناد المحامد والمذام، الى اللّه.

فالسالك إذا أسندهما اليه، قبل زكاء  النفس وطهارتها، يقع في الاباحة. وبعد طهارتها يكون مسيئا للأدب، بإسناد القبائح اليه. فعلى هذا المتقون، هم الذين يتخذون ربهم، وقاية لأنفسهم. وينسبون الكمالات الى ربهم، لا الى أنفسهم.

ليكون لهم الخلاص  من ظهور نيّاتهم . ويتخذون أنفسهم وقاية لربهم. وينسبون النقائص الى أنفسهم، لا الى ربهم. ولو كانت في حقيقة التوحيد، منسوبة الى اللّه تعالى. لئلا يسيئون الأدب اليه سبحانه.

و انما قال: «هدى للمتقين»، مع أن المتقين مهتدون، اما بناء على أن المراد بالمتقين، المشارفون على التقوى، أو المقصود زيادة هدايتهم. بأن يراد بالهدى زيادة الهدى الى مطلب آخر، أو التثبّت على ما كان حاصلا لهم.

و يحتمل أن يراد بالمتقي، الموحد- مطلقا.

روى الصدوق في كتاب التوحيد : بإسناده، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في قول اللّه- عز وجل- هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ  قال:

قال اللّه- تبارك وتعالى-: أنا أهل أن اتقى. ولا يشرك بي عبدي  شيئا. وأنا أهل أن لم يشرك بي عبدي شيئا، أن أدخله الجنة.قال صاحب الكشف : الأظهر، أنه لا يحتاج الى أحد التجوّزين، من حمل «الهدى» على الازدياد، «و المتقي» على المشارف. لأنه إذا قيل: السلاح، عصمة للمعتصم أو عصام له. والمال غنى للغني، على معنى سبب غنائه، لم يلزم أن يكونا سببي عصمة وغنى، حادثين غير مساهما، أي: المعتصم والغني فيه، إذ لا دلالة له  على الزمان.

و أجيب، بأن المتبادر الى الفهم، من تعلق الفعل بشي‏ء، هو اتصاف ذلك المتعلق بما عبر عنه عند اعتبار المتعلق ، حتى يقال فيه: شفاء للمريض، ومرض للصحيح. ولو عكس لم يصح الا بتأويل.

و عن أبى محمد العسكري - عليه السلام-: ان معناه بيان وشفاء للمتقين، من شيعة محمد وعلي- عليهما السلام- اتقوا انواع الكفر. فتركوها. واتقوا الذنوب الموبقات. فرفضوها. واتقوا اظهار أسرار اللّه تعالى وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمد- صلوات اللّه عليهم- فكتموها. واتقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقين لها. ففيهم  نشروها.

 (و في شرح الآيات الباهرة :- في الحديث المنقول سابقا- عن أبي جعفر- عليه السلام- قال: قلت: قوله ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.

قال : الكتاب، أمير المؤمنين- عليه السلام- لا شك فيه انه امام «هدى‏للمتقين».

و في كتاب معاني الأخبار : حدثنا محمد بن القسم الاستبرآباد، المعروف بأبي الحسن الجرجاني المفسر- رضي اللّه عنه- قال: حدثني أبو يعقوب يوسف ابن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- صلوات اللّه عليهم أجمعين- أنه قال: كذبت قريش واليهود بالقرآن. وقالوا: سحر مبين [تقوّله‏] .

فقال اللّه: الم ذلك الكتاب.

أي: يا محمد! هذا الكتاب، الذي أنزلته  عليك هو بالحروف المقطعة التي منها الف، لام، ميم، وهي بلغتكم، وحروف هجائكم، فأتوا بمثله ان كنتم صادقين.

و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. ثم بيّن أنهم لا يقدرون عليه بقوله : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. ثم قال اللّه: الم، هو القرآن الذي افتتح «بالم» هو ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرت به موسى، فمن بعده من الأنبياء. فأخبروا بنى إسرائيل أني سأنزله عليك، يا محمد! كتابا عزيزا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، لا ريب فيه لا شك فيه، لظهوره عندهم. كما أخبرهم [به‏] أنبياءهم، أن محمدا ينزل عليه كتاب لا يلحقه  الباطل. يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم. «هدى» بيان من الضلالة «للمتقين» الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم. حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم) .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: يحتمل الرفع والنصب والجر. والظاهر، الجر.

على أنه صفة «للمتقين». كما هو الظاهر. أو بدل. أو عطف بيان.

فأما الرفع، فاما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين يؤمنون. أو مبتدأ، خبره أُولئِكَ عَلى هُدىً.

و أما النصب، فعلى المدح بتقدير أعني. وإذا كان صفة، فهي اما مقيدة ان فسر التقوى، بترك ما لا ينبغي، كما هو المناسب لمعناه اللغوي، وهو الاحتراز.

فحينئذ يراد بالمتقي، من يحترز عن المعاصي، أي: فعل القبائح والمنهيات.

سواء يمتثل الأوامر ويأتي بالحسنات، أم لا. فعلى هذا تكون الصفة، مقيدة مخصصة.

فان قلت: اجتناب المعاصي، كلها، يستلزم الإتيان بالطاعات، لان ترك الطاعة، معصية.

قلت: ان المراد بالمعاصي، كما هو المتبادر، ما يتعلق به صريح النهي وترك المأمور به، منهي عنه- ضمنا. أو أن مبنى هذا الكلام، على أن المعصية، فعل ما نهي عنه، وأن الترك ليس بفعل. وكذا، ان أريد بالتقوى، الأولى، من مراتبها الثلاث. فان المراد بالمتقين- حينئذ- من يجتنبون عن الشرك. فتوصيفهم «بالذين يؤمنون»، لا يكون الا تقييدا وتخصيصا أو كاشفة، ان فسر بما يعم فعل الحسنات‏و ترك السيئات، وحمل الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ- الى آخره- على ما يساويه. والتقوى بهذا المعنى، بعينه هو المرتبة الثانية، من مراتبه. وهو حقيقة معناه، عند الجمهور.

و أما إذا أريد به المرتبة الثالثة، التي لا يتحقق بها الا الخواص. فيمكن أن يكون أيضا صفة  كاشفة، يظهر وجهه للمتأمل الصادق، فيما سيأتي من بعض بطون الاية.

أو مادحة. ذكرت لمجرد المدح والثناء. وتخصيص ما ذكر، إظهارا لفضله على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى. وقد فرق بين المدح صفة والمدح اختصاصا، بأن الوصف في الأول، أصل، والمدح، تبع. وفي الثاني، بالعكس. وبأن المقصود الأصلي من الأول، اظهار كمال الممدوح والاستلذاذ بذكره. ومن الثاني اظهار أن تلك الصفة، أحق باستقلال المدح، من باقي صفاته الكمالية. اما مطلقا، أو بحسب ذلك المقام.

و «الايمان»: أفعال، من الامن. المتعدي الى مفعول واحد.

و الهمزة للتعدية الى مفعولين. تقول: أمنت عمرو أو أمنينه زيدا، أي، جعلني آمنا منه.

 «و قيل: الهمزة للصيرورة. نحو أعشب المكان بمعنى صار ذا عشب. فمعنى أمن، صار ذا أمن.

و قيل: للمطابعة. نحو كبّه فأكبّه  أي، أمنه، فأمن. ثم نقل الى التصديق ووضع له لغة. ثم انك إذا صدقت زيدا، فقد اعترفت بكلامه. فعدى بالباء على تضمين معنى الاعتراف.

و في عرف الشرع، هو التصديق، بما علم بالضرورة، من دين محمد- صلى‏

اللّه عليه وآله- كالتوحيد والنبوة والامامة والبعث والجزاء- كما هو ظاهر.

و قيل: مجموع ثلاثة أمور، اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه- وهذا مذهب المعتزلة والخوارج- فمن أخل بالاعتقاد وحده، فهو منافق. ومن أخل بالإقرار فكافر. ومن أخل بالعمل ففاسق، وفاقا. وكافر عند الخوارج، خارج عن الايمان، غير داخل في الكفر، عند المعتزلة» .

 

و اختلف القائلون، بأن الايمان، هو التصديق وحده في أن مجرد التصديق بالقلب، هل هو كاف في المقصود؟ أو لا بد من انضمام الإقرار للمتمكن  منه؟

و لعل الحق، هو الثاني. لأنه تعالى ذم المعاند، اكثر من ذم الجاهل المقصر وللمانع أن يجعل الذم للإنكار، لا لعدم الإقرار.

و لا بأس علينا أن نذكر معنى «التضمين» هنا. فانه يناسبه.

فنقول: «التضمين» أن يقصد بفعل معناه الحقيقي، ويلاحظ معه، فعل آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شي‏ء من متعلقات الاخر، كقولك: أحمد اليك فلانا.

فإنك لما جعلت فيه، مع الحمد، معنى الإنهاء. ودللت عليه بذكر صلته، أعني:

كلمة «الى». كأنك قلت: أنهى حمده اليك. ثم انهم اختلفوا. فذهب بعضهم الى أن اللفظ، مستعمل في معناه الحقيقي، فقط.

و المعنى الاخر، مراد بلفظ محذوف. يدل عليه، ذكر ما هو من متعلقاته.

فتارة يجعل المذكور- أصلا. والمحذوف، قيدا، على أنه حال. وتارة يعكس.

و ذهب آخرون، الى أن كلا المعنيين، مراد بلفظ واحد، على طريق الكناية إذ يراد بها معناه الأصلي، ليتوسل بفهمه  الى ما هو المقصود الحقيقي. فلا حاجةالى تقدير، الا لتصور المعنى.

و فيه ضعف. لأن المعنى المكنى به في الكناية، قد لا يقصد ثبوته. وفي «التضمين» يجب القصد الى ثبوت كل من المضمن والمضمن فيه. والأظهر أن يقال: اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود، اصالة. لكن قصد بتبعيته  معنى آخر، يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ، ويقدر لفظ آخر.

فلا يكون من باب الكناية. ولا من الإضمار. بل من قبيل الحقيقة التي قصد بمعناها الحقيقي، معنى آخر، يناسبه. ويتبعه في الارادة. فاحفظ هذه المسألة. فإنها مفيدة .

بِالْغَيْبِ: «الغيب»، مصدر غاب غيبا. حمل على الغائب، مبالغة.

أو على حذف مضاف. أو على جعل المصدر، بمعنى اسم الفاعل. واما مخفف فيعل، كهيّن وهين وأمثاله.

و رد ذلك بأن: هذا لا يدعى الا فيما يسمع مثتقلا ، كنظائره. وذلك ليس من هذا القبيل. والمراد به الخفي، الذي لا يكون محسوسا، ولا في قوة المحسوس كالمعلومات ببديهة العقل. وذلك كذاته سبحانه وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأحوال الاخرة، الى غير ذلك من كل ما يجب على العبد أن يؤمن به. وهو غائب عنه. لا يشاهده ولا يعاينه. فالإيمان لا يكون عن المؤمن، الا عن غيب، سواء كان تقليدا أو نظرا أو استدلالا.

قيل : فإذا ارتفع عن درجة الايمان، كان عارفا مشاهدا. ولهذا فرق جبرئيل‏بين درجة الايمان وما فوقه عند سؤاله النبي - صلى اللّه عليه وآله- حيث‏

قال:

يا محمد! أخبرني ما الايمان وما فوقه؟

قال- عليه السلام:- الايمان أن تؤمن باللّه والملائكة والكتب والنبيين وتؤمن بالقدر كله.

ثم قال: يا محمد! أخبرني ما الإحسان؟

قال: أن تعبد اللّه كأنك تراه. فان لم تكن تراه، فانه يراك.

فقوله: «أن تعبد اللّه كأنك تراه»

، أي: تعبده حين تراه، بعين بصيرتك وقوة يقينك، كأنك تراه. فكما أن المبصر بعين البصر، لا يحتاج الى الاستدلال، فكذلك بعين البصيرة وقوة اليقين، لا يحتاج اليه. فهو بالنسبة اليك. بمنزلة المشهود المحسوس.

فدرجة الإحسان، فوق درجة الايمان. وانما سمي ذلك إحسانا، لأنه انعام من اللّه تعالى، وفضل. ليس للعبد فيه تسبب. بخلاف الايمان، فانه مكتسب.

و يمكن أن يراد «بالغيب»، غيب الغيوب، الذي هو ذاته المطلقة وهويته الغيبية السارية، في الكل، علما وعينا.

و الباء على هذه التقادير، للتعدية. متعلقه المضمن للايمان.

و يمكن أن يكون للمصاحبة. متعلقة بمحذوف، يقع حالا.

و «الغيب» بمعناه المصدري، أي: يؤمنون حال كونهم متلبسين بغيبتهم، عن المؤمن به. أو بغيبة المؤمن به، عنهم. أو المعنى، أنهم يؤمنون غائبين عنكم. لا كالمنافقين. الذين إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ .و أن يكون للاستعانة، أي: يؤمنون باستعانة غيوبهم، التي هي نفوسهم الناطقة وأرواحهم المجردة، التي هي غيب وجوداتهم. فان نسبة الحق سبحانه الى العالم، كنسبة النفس الناطقة الى البدن. فبالقياس اليها، يعرفون الحق سبحانه ويؤمنون به وبصفاته الكمالية.

و على هذا، حمل بعضهم‏

قوله- عليه السلام- من عرف نفسه فقد عرف ربه.

 «و قيل: المراد «بالغيب»، القلب، أي : يؤمنون بقلوبهم. لا كمن يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم» .

و مفعول «يؤمنون»، على هذه التقادير، محذوف يعم جميع ما يجب أن يؤمن به.

و يحتمل أن يكون المراد «بالغيب»، قيام القائم- عليه السلام-.

 (و في تفسير علي بن ابراهيم : حدثني أبي، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، قال: يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد.

و في كتاب كمال الدين وتمام النعمة : بإسناده الى عمر بن عبد العزيز، عن غير واحد [من أصحابنا،]  عن داود بن كثير الرقي، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في قول اللّه عز وجل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ».

 

قال: من أقر بقيام القائم- عليه السلام- أنه حق.و بإسناده  الى علي بن أبي حمزة، عن يحيى بن أبي القاسم. قال: سألت الصادق، جعفر بن محمد- عليهما السلام- عن قول اللّه- عز وجل: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ».

 

فقال: «المتقون»، شيعة علي- عليه السلام- و«الغيب» هو الحجة الغائب.

و شاهد ذلك، قول اللّه- عز وجل-: وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ .

فأخبر- عز وجل- أن «الاية»، هي «الغيب». و«الغيب» هو «الحجة» وتصديق ذلك، قول اللّه- عز وجل: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ، آيَةً ، يعنى:

حجة.

و في مجمع البيان : يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، قيل: بما غاب عن العباد، علمه، عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة.

و هذا أولى لعمومه. ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من [زمان‏]  غيبة المهدي [عليه السلام‏]  ووقت خروجه) .

 (و يدل عليه، ما روي  عن داود [بن كثير] الرقي، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في قول اللّه- عز وجل-: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)  الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»

 قال: من أقر بقيام القائم- عليه السلام- أنه حق.

و روى - أيضا-: بإسناده عن يحيى بن أبي القاسم. قال سألت الصادق- عليه السلام- عن قول اللّه- عز وجل- الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.

فقال: المتقون، شيعة علي- عليه السلام- والغيب، هو الحجة الغائب) .

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ:

 «القيام» في الأصل، الانتصاب. واقامة الشي‏ء، جعله منتصبا. فكأنهم يجعلون الصلاة، منتصبة من حضيض ذل العدم أو النقصان، الى ذروة عن الوجود أو الكمال، أي: يحصلونها أو يأتون بها، على ما ينبغي. وأيضا «قيام الشي‏ء»، وجوده. ومنه قولهم: انه قائم بنفسه أو بغيره. وقولهم: القيوم، هو القائم بنفسه، المقيم لغيره. والقوام، لما يقام به الشي‏ء، أي: يحصل.

فعلى هذا، معنى «اقامة الصلاة»، تحصيلها وإيجادها. كما في الوجه الأول، من الاقامة، بمعنى الانتصاب. ويلائم الوجه  الثاني، جعله من اقام العود، إذا قومه، أي: سواه على أن يستعار من تسوية الأجسام، كالعود ونحوه، لتعديل الأركان، نقلا من المحسوس الى المعقول.

و يحتمل أن يجعل من «قامة السوق». إذا نفقت، أي: راجت. وأقامها، أي: جعلها نافقة رائجة . ويقصد بها، الدوام، والمحافظة عليها. لأنها إذا حوفظت عليها، كانت كالشي‏ء النافق. الذي يتوجه اليه الرغبات. وإذا عطلت‏و أضيعت، كانت كالشي‏ء الكاسد. الذي لا يرغب فيه.

و أن يجعل من قولهم: قام بالأمر، أي: تجلد وتشمر له. فإقامة الصلاة، على هذا، جعلها متجلدة متشمرة  لإخراج المصلي، عن عهدة أدائها، أو انقاذها، عن تبعة تركها. ولا يتيسر ذلك الا بتجلد المصلي وتشمره لها. فجعل كناية عنه.

و بالجملة، فالمراد بإقامتها، تحصيلها. الذي هو أداؤها- مطلقا. أو تعديل أركانها الظاهرة، وتقديم حقائقها الباطنة. أو الدوام والمحافظة عليها. أو التجلد والتشمر، لأدائها.

و «الصلاة»، فعلة، من «صلى». كالزكاة، من زكى، كتبت بالواو على لفظ المفخم اسم الفاعل. والتفخيم هنا، امالتها نحو الواو.

و قيل: للدلالة على أنها واوية. والمشهور أنها في اللغة، بمعنى «دعا».

و ورود «الصلاة»، بمعنى «الدعاء»، في كلام العرب، قبل شرعية الصلاة، المشتملة على الأركان المخصوصة. وفي كلام من لا يعرفها، دليل على ذلك. ثم نقلت الى ذات الأركان، لاشتمالها على الدعاء.

أو لأنها دعاء بتمامها، بالألسنة الثلاثة، القول والفعل والحال. ووجه اطلاق المصلي على الداعي، ظاهر.

 «و قيل: انها من «صلى» بمعنى حرك الصلوين» ، أي: طرفي الأليتين.

و ذلك لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة، انما هو تحريك الصلوين، للركوع.

فان القيام، لا يختص بالصلاة. وانما سمي الداعي، مصليا، تشبيها له، في تخضعه بالراكع والساجد واقامة الصلاة، أعم من المفروضات والمسنونات.

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ :

 «الرزق»، في الأصل، الإخراج. لأن التركيب وقلبه، أعني زرق. يدلان‏عليه. وشاع في اللغة، أو لا على إخراج حظ الى آخر، ينتفع به. وهذا يلائم ما يذهب اليه بعضهم. حيث يجعلون الرزق عاما، بحيث يتناول كل غذاء جسماني، كالأطعمة والأشربة وغيرهما، وروحاني كالعلوم والمعارف. ثم شاع- استعمالا وشرعا- على إعطاء الحيوان، ما ينتفع به. ويستعمل بمعنى المرزوق كثيرا.

و المعتزلة، لما استحالوا من اللّه أن يمكّن من الحرام، لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا: الحرام ليس برزق.

و أسند الرزق هنا، الى نفسه إيذانا. بأنهم ينفقون الحلال [المطلق‏]  فان انفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم اللّه، بقوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا  .

 

و الأشعرية جعلوا الاسناد، للتعظيم والتحريص، على الإنفاق. والذم، لتحريم، ما لم يحرم. واختصاص ما رزقناهم بالحلال، للقرينة. وتمسكوا في شمول الرزق له‏

، بقوله- عليه السلام- في حديث عمرو بن قرة: لقد رزقك اللّه طيبا، فاخترت ما حرم اللّه عليك من رزقه، مكان ما أحل اللّه لك من حلاله.

و بأنه لو لم يكن رزقا، لم يكن المغتذي به طول عمره، مرزوقا. وليس كذلك لقوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها . وأنفق الشي‏ء وأنفده اخوان. وكذا كل ما كان فاؤه، نونا وعينه، فاء، يدل على معنى الذهاب والخروج.

و المراد من «انفاق ما رزقهم اللّه»، صرف المال في سبيل الخير، من الفرض والنفل . ومن فسر بالزكاة، ذكر أفضل أنواعه. والأصل فيه أو خصصه‏بها، لاقترانه بما هو شقيقها.

و تقديم المفعول، للاهتمام، أو لتخصيص الإنفاق، ببعض المال الحلال- تأكيدا- لما يقيده  «من» التبعيضية، أو للمحافظة على رؤوس الآي.

 «و ما» المجرورة، موصولة، أو موصوفة. والعائد، محذوف. والتقدير، رزقناهموه، أو رزقناهم إياه. وانما حذف العائد، الذي هو كناية عن الرزق.

لا العائد الى المرزوقين. ليكون الوجود اللفظي، على طبق الوجود العيني، لانطواء الرزق في المرزوق واختفائه فيه.

و يحتمل أن يكون «ما»، مصدرية. ويكون المصدر، بمعنى المفعول. وأن يكون من لابتداء الغاية. لا للتبعيض.

أقول: انما كنى بضمير الجمع، عن نفسه. وهو واحد لا شريك له. لأنه خطاب الملوك. وهو مالك الملوك.

و وجه ذلك عند بعضهم، أن ما يصدر عن اللّه سبحانه، من الأفعال، انما «هو بوساطة»  الأسماء. وللأسماء جهتان: وحدة حقيقية من حيث الذات، وجهة كثرة.

نسبيته  من حيث النسب والاعتبارات. فإذا اقتضى المقام، اعتبار الجهة الاولى أتى بما يدل على الوحدة  (و إذا اقتضى المقام، اعتبار الجهة الثانية أتى بما يدل على الكثرة)  ولما اعتبر هنا، جانب المرزوقين، روعيت الجهة الثانية.

فان لكل مرزوق، استعدادا خاصا، يطلب رزقه من اسم خاص، يناسبه.قيل: ولا يبعد أن يقال: المراد «بالاتفاق»، أنهم يتصدقون للفطر، حين يصومون، ولأداء الزكاة، عند وجود النصاب، وحولان الحول. وينفقون لأداء الحج، للزاد والراحلة، لأنفسهم ولرفقائهم. فيكون قوله تعالى «بالغيب»، اشارة الى أول ركن من أركان الإسلام. وقوله «و يقيمون»، الى ثانيها. وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ، الى الثلاثة الباقية.

و قد  روي  في معنى الاية، ان المتقين، هم الشيعة، الذين يؤمنون بالغيب.

و هو، البعث والنشور وقيام القائم والرجعة. ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، مما علمناهم من القرآن يتلون.

 (و في مجمع البيان : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، روى محمد بن مسلم، عن الصادق- عليه السلام- أن معناه، ومما علمناهم يبثّون) .

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: مرفوع أو منصوب. عطفا على الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. أو مجرور، عطفا عليه، أو على «المتقين».

فعلى الاول، يكون دخوله، تحت «المتقين»، دخول أخصين، تحت أعم.

إذ المراد «بأولئك»، «الذين آمنوا» عن شرك وانكار. وبهؤلاء، مقابلوهم. فيكون الآيتان، تفصيلا للمتقين.

و على الثاني، لا يكون مندرجا تحت «المتقين». والمعنى «هدى للمتقين»، عن الشرك. و«الذين آمنوا» من أهل الملل.

فعلى هذا، يكون المراد بالأولين، المؤمنين عن الشرك وبالأخيرين، المؤمنين‏

من أهل الكتاب. كعبد اللّه بن سلام وأضرابه.

و على التقديرين، يحتمل أن يراد بهم، الأولون بأعيانهم. ووسط العاطف كما وسط في قوله:

         الى الملك القرم وابن الهمام             وليث الكتيبة في المزدحم‏

 وقوله:

         يا كهف  زيابة للحارث             الصالح والغانم  فالايب‏

 والمعنى، أنهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل- جملة- والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الايمان بما لا طريق اليه غير السمع.

و كرر الموصول، تنبيها على تباين السبيلين. أو طائفة منهم. وهم مؤمنوا أهل الكتاب. ذكرهم مخصصين عن الجملة- كذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة، تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم .

و يحتمل أن يكون مع ما عطف عليه، مبتدأ. «و أولئك»، خبره.

و الانزال، تحريك الشي‏ء من العلو الى السفل. فالمراد بالمنزل، ان كان الكلام، الذي هو صفته، فانزاله، تحريكه بالحركة المعنوية الى مظاهره السفلية بعد ظهوره في المظاهر العلوية. فانه يظهر أولا في المظاهر العقلية، ثم النفسية، ثم المثالية ثم الحسية.

 (و ان كان كلامه الذي هو القرآن المنتظم من الحروف والكلمات، وانزاله تحريكه من المعاني العلمية الالهية العقلية النفسية، ثم الى صور الحروف والكلمات‏المثالية، ثم الحسية) .

و على هذا، يكون الانزال مستعملا في معناه المجازي. فيكون من قبيل المجاز في المفرد. ولك أن تجعله من قبيل المجاز في الاسناد، بأن يكون الانزال مستعملا في معناه الحقيقي. ويسند الى القرآن، باعتبار حامله الذي هو جبرئيل- صلوات اللّه عليه- وانما جاء بصيغة الماضي وان كان بعضه مترقبا تغليبا  للموجود، على ما لم يوجد. أو تنزيلا للمنتظر، منزلة الواقع. ونظيره قوله تعالى : إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. فان الجن، لم يسمعوا جميعه. ولم يكن الكتاب، كله حينئذ، منزلا. والمعنى «الذين يؤمنون بالقرآن الذي أنزل اليك بعد ظهورك» بالوجود الجسماني الشهادي. وانما قيدنا بذلك، لأنه بحسب الوجود الروحاني العيني مقدم على الكل.

قال- صلى اللّه عليه وآله- : كنت نبيا، مبعوثا من عند اللّه، في العالم الروحاني الى الأرواح البشريين والملكيين. وآدم بين الماء والطين.

أي، لم يكمل بدنه الجسماني الشهادي بعد، فكيف من دونه من أنبياء أولاده؟

و الايمان به، جملة، فرض عين وتفصيلا، من حيث إنا متعبدون بتفاصيله، فرض، لكن على الكفاية. لأن وجوبه، على كل أحد، يوجب الحرج وفساد المعاش.

وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: مجرور، معطوف على «ما أنزل قبله»، أي:

قبل وجودك الجسماني الشهادي. والمراد به، التوراة والإنجيل وغيرهما.و الايمان به جملة، فرض عين.

و قرأ يزيد بن قطيب، بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك، على لفظ ما سمي فاعله.

أقول: ومن جملة ما أنزل الى النبي والى الأنبياء قبله- عليهم السلام- بل العمدة والأصل، خلافة علي بن أبي طالب- عليه السلام- عنه، بلا وساطة  أحد غيره.

يدل على ذلك‏

ما روي (في التفسير المنسوب الى الحسن العسكري - عليه السلام:) أنه قد حضر رجل عند علي بن الحسين- عليهما السلام- فقال: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل على محمد. وما أنزل [على‏]  من قبل. ويؤمن بالاخرة ويصلي ويزكي. ويصل الرحم. ويعمل الصالحات. لكنه «يقول مع ذلك» :

لا أدري الحق لعلي أو لفلان؟

فقال [له‏]  علي بن الحسين- عليهما السلام-: ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها الا  أنه يقول: لا أدري النبي محمد أو مسيلمة؟ هل ينتفع بشي‏ء من هذه الافعال؟

فقال: لا.فقال : فكذلك  صاحبك هذا. كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب (و بالاخرة؟

أو منتفعا بشي‏ء)  لا يدري  أ محمد النبي أو  مسيلمة [الكذاب‏] ؟ فكذلك كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالاخرة  أو منتفعا بشي‏ء  (من أفعاله)  من لا يدري أعلي المحق أم فلان؟

 (و في شرح الآيات الباهرة ، منقول عن التفسير المذكور قال الامام- عليه السلام: قال الحسن بن علي- عليهما السلام: من دفع فضل أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- فقد كذب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم وبسائر كتب اللّه المنزلة. فانه ما (نزل)  شي‏ء منها، الا وأهم ما فيه بعد الأمر بتوحيد اللّه والإقرار بالنبوة، الاعتراف بولاية علي والطيبين من آله) .

وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ : معطوفة على «يؤمنون»، أي: يوقنون إيقانا.زال معه ما كانوا عليه، من أن الجنة لا يدخلها الا من كان هودا أو نصارى.

و أن النار لم تمسهم الا أياما معدودة.

و اختلافهم في نعيم الجنة، أهو من جنس نعيم الدنيا، أو غيره، وفي دوامه وانقطاعه.

و «الاخر»، اسم فاعل، من آخر بالتخفيف، بمعنى تأخر. الا أنه لم يستعمل.

و الاخرة، تأنيثها. وهي صفة الدار. أو النشأة. بدليل قوله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ  وتنشئ  النشأة الاخرة. وهي صفة غالبة على تلك الدار. أو النشأة، كالدنيا. على هذه حتى قلّما يستعملان  في غيرهما. وقد جرتا مع تلك الغلبة، مجرى الأسماء، بترك موصوفيهما. حتى كأنهما ليستا من قبيل الصفات.

و انما سميت «آخرة»، لتأخرها عن الدنيا. كما سميت «الدنيا» دنيا، لكونها أدنى وأقرب إلينا من الاخرة. أو لكونها أقرب النشآت الى الاخرة. وذلك لأن للنفس الناطقة، حالتين، حالة تعلقها بالبدن. واشتغالها  بتدبيره. والإتيان بواسطته بالأعمال الحسنة والسيئة، وحالة انقطاعها عن البدن، وعدم التمكن من الاشتغال بتدبيره، وترتب الاجزية على أعمالها من اللذات والآلام.

و لا شك أن الانتقال من الحالة الأولى، التي هي الدنيا، الى الثانية، التي هي الاخرة، آني دفعي. لا زماني تدريجي. بخلاف سائر النشآت. فانه يتخلل بينها وبين الاخرة، النشأة الدنيوية.

و عن نافع، أنه خففها بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام.و «الإيقان»، إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه، بالاستدلال. ولذلك لا يوصف به علم الباري تعالى والعلوم الضرورية.

لا يقال: أيقنت أن السماء فوقي.

يقال: يقنت- بالكسر- يقينا. وأيقنت واستيقنت وتيقنت- كله- بمعنى.

و هو في أصل اللغة ينبئ  عن السكون والظهور.

يقال: يقن الماء، إذا سكن. فظهر ما تحته.

و قرئ «يوقنون»، بقلب الواو، همزة، لضم ما قبلها، اجراء لها مجرى المضمونة في وجوه ووقتت  ونظيره:

         لحب الموقدان  الي موسى             وجعدة إذ اضاءهما الوقود

 وفي هذا الكلام، تقديمان، يفيد كل منهما القصر:

أحدهما- تقديم الظرف، أعني «بالاخرة». للقصر عليه. كما في قوله تعالى:

لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ، يعني: انهم يوقنون بحقيقة الاخرة. لا بما هو على خلاف حقيقتها. كما يزعم بعض اليهود.

و ثانيهما- تقديم المسند اليه، أعني «هم». وبناء الفعل عليه، كما في قولك:

أنا سعيت في حاجتك، يعني: أن الإيقان بالاخرة، مقصور عليهم. لا يتجاوزهم الى أهل الكتاب.

و في هذين القصرين، التعريض ببعض أهل الكتاب، وبما هم عليه من أمر الاخرة. (و في شرح الآيات الباهرة : قال الامام أبو محمد العسكري- عليه السلام- ثم وصف هؤلاء الذين يقيمون الصلاة، فقال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، يا محمد! وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، على الأنبياء الماضين، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم وسائر «كتب اللّه»  المنزلة على أنبيائه، بأنها  حق وصدق من عند «رب العالمين العزيز الحكيم» . وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، بالدار الاخرة بعد هذه الدنيا، يوقنون. لا يشكون فيها، أنها الدار التي فيها جزاء الأعمال الصالحة، بأفضل مما عملوا. وعقاب الأعمال السيئة، «بمثل ما كسبوا» ) .

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ: الجملة في محل رفع، ان جعل أحد الموصولين، مفصولا عن «المتقين»، خبر له. وكأنه لما قيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، قيل: ما بالهم خصوا بذلك. فأجيب بقوله: الذين- الخ. والا، فاستئناف، لا محل لها. وكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة، أو جواب سائل قال للموصوفين بهذه الصفات: اختصوا بالهدى.

و يحتمل أن يكون الموصول الأول، موصولا «بالمتقين» والثاني مفصولا عنه . مبتدأ. «و أولئك»، خبره. و«أولئك»، اسم اشارة، يشترك فيه جماعة الذكور والإناث. وهي هنا اشارة الى «المتقين» الموصوفين بتلك الصفات، لاإلى ذواتهم المجردة. لأنه مأخوذ في حد اسم الاشارة، أن يكون المشار اليه، محسوسا، أو في حكم المحسوس. وانما صار المشار اليه، هنا، في حكم المحسوس بإجراء هذه الأوصاف عليه وتميزه بها عما عداه. فيجب أن يكون ملحوظة في الاشارة. فاذن يكون قوله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ كالبناء على المشتق.

ففيه اعلام بأن الأوصاف المذكورة قبل اسم الاشارة، علة لكون المذكورين «على الهدى».

و كلمة «أولئك»، يمد ويقصر، والمد أولى.

و كلمة «على» هذه، استعارة تبعية. وانما كانت استعارة، لأنه شبه تمسك المتقين بالهدى، باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار. فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، كما شبه استعلاء المصلوب، على الجذع، باستقرار المظروف في الظرف، لجامع . فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية، وانما كانت تبعية. لأن الاستعارة في الحرف، يقع أولا في متعلق، معناه كالاستعلاء والظرفية- مثلا- ثم تسرى اليه تبعيته، كما حقق في موضعه. ولك أن تعتبر تشبيه هيئة  منتزعة من «المتقي» و«الهدى». وتمسكه به بالهيئة المنتزعة، من الراكب والمركوب واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية، تركب كل من طرفيها. أو تعتبر تشبيهه بالمركوب، على طريقة الاستعارة، بالكناية. وتجعل كلمة على قرينة لها.

و تنكير «هدى»، للتعظيم، أي: هدى لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره. وكيف يبلغ كنهه  وقد منحوه من عند ربهم. وأوتوه من قبله. أو للنوع.و «من»، للابتداء.

و قيل : انما قال «من ربهم»، لا «من اللّه»، تنبيها على أن لكل أحد، اسما خاصا من أحدية جمع الأسماء، هو ربه. ومنه يصل اليه ما يصل. وليس لأحد، أحدية جمع الأسماء، الا للإنسان الكامل. فان ربه الخاص به، هو الاسم  الجامع. فمعنى قوله «من ربهم»، أن لكل أحد، هدى من ربه الخاص، لا من غيره.

و النكتة في اضافة «الهدى» الى «الكتاب» أولا والى «ربهم»، ثانيا، ان المتقين قبل كشف حجب المظاهر، عن نظر شهودهم، كانوا يشاهدون «الهدى»، عن مظاهر الاسم التي كان «ذلك الكتاب» واحدا منها. فلذلك أضيف اليه «الهدى» أولا. فلما تمكنوا في التقوى وتحققوا بالصفات الجارية عليهم، كشف عنهم، حجب المظاهر وشاهدوا فيها الظاهر. فلهذا أضيف اليه، ثانيا. وهو، أي قوله «من ربهم»، اما في محل الجر، صفة «لهدى». أو النصب على أنه حال من «هدى».

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : عطف على الجملة الأولى.

و أصل «الفلاح»، القطع والشق. ومنه سمي الزارع، فلّاحا. لأنه يشق الأرض. والزراعة: فلاحة. ومنه المثل، الحديد بالحديد يفلح. بل كلما يشاركه في الفاء والعين، يدل على ذلك المعنى، نحو: فلق وفلذ وفلا وفلج (بالجيم).

و «المفلح»، هو الفائز بالمطلوب. كأنه الذي انفتحت له وجوه الفوز والظفر. ولم يستغلق عليه.

و كرر اسم الاشارة، للتنبيه، على أن كل واحد من المسندين، على انفراده، يكفي في اثبات الفضيلة للمسند اليهم. فلا احتياج الى انضمام الاخر، ليعد من الفضائل. بخلاف ما لو اقتصر على واحد منهما، فإنه يمكن أن يتوهم حينئذ،أن الفضيلة في الجمع بينهما، لا في كل واحد.

و «هم»، فصل. وفيه ثلاث فوائد وثلاث مذاهب.

أما الفوائد:

فالأولى منها، الدلالة ابتداء  على أن ما بعده خبر. لا نعت. ولذلك سمي فصلا.

و الثانية، تأكيد الحكم لما فيه من زيادة الربط.

و قيل: تأكيد المحكوم عليه. لأنه راجع اليه. فيكون تكريرا له.

و الثالثة، افادة قصر المسند، على المسند اليه.

فان قلت: ان هذا انما يتم إذا ثبت القصر، في مثل «زيد هو أفضل من عمرو» مما  الخبر فيه نكرة. والا فتعريف الخبر بلام الجنس، يفيد  قصره على المبتدأ.

و ان لم يكن هناك ضمير فصل، مثل زيد الأمير.

قلت: ندعي القصر، في صورة النكرة- أيضا- فان قولك: «زيد هو أفضل من عمرو»، معناه بالفارسية: زيد اوست كه أفضل است از عمرو. فعلى هذا، قد اجتمع في قولك: «زيد هو الأمير»، أمران يدلان على قصر المسند:

أحدهما تأكيد للاخر، تعريف المسند وضمير الفصل .

و نوقش بأن تعريف المبتدأ بلام الجنس، يفيد  قصره على الخبر، دون قصر الخبر عليه. وان كان مع ضمير الفصل. كقولك: الكرم هو التقوى، أي: لا كرم‏

الا التقوى.

و أجيب بأن القول بافادة الفصل، قصر المسند على المسند اليه انما هو على تقدير «أن لا يكون هناك معارض». كتعريف المسند اليه، لافادة قصره، على المسند، في هذه الصورة.

و أما المذاهب:

فأحدها، ان ضمير الفصل، حرف. لا محل له. وفائدته ما مر.

و ثانيها، أنه اسم. لا محل له. وهو سخيف، لأنه ليس له نظير في كلام العرب من اسم لا يكون له محل.

و ثالثها، أنه اسم، مرفوع المحل. فعلى هذا يجوز أن يكون «هم» مبتدأ و«المفلحون»، خبره والجملة خبر «أولئك».

و «اللام» اما للعهد، أي: المتقون، هم الذين بلغك أنهم يفلحون. واشتهروا بذلك. فإنهم حصة معينة من جنس المفلحين- مطلقا. واما للجنس، أي: جنس المفلحين، مقصور على المتقين. لا يتجاوزهم الى غيرهم.

و المبالغة في الثاني، أتم. لأن قصر الجنس، يستلزم قصر الحصة، من غير عكس.

و هاهنا معنى  آخر، أدق والطف. ذكرها الشيخ في دلائل الاعجاز. وهو أن:

تشير باللام الى حقيقة. ثم تصور تلك الحقيقة في الوهم، بصورة تناسب ما يحكم بها عليه. ثم تحكم بالاتحاد بين تلك الحقيقة المصورة بهذه الصورة الوهمية وبين المبتدأ من غير ملاحظة الحصر، من احد الجانبين. وانما اعتبرت الصورة الوهمية المناسبة لأن الحقيقة لو تركت على حالها، لم يكن ادعاء كون المبتدأ، متحدا بها مستحسنا مقبولا. فالمراد «بالمفلحين» على هذا المعنى، جنس المفلحين مصورابصورة وهمية، يلائم المتقين يحكم بالاتحاد بينها وبين المتقين.

لا يقال: على هذا التقدير، لم يتصور هناك حصر أصلا، فكيف يستعمل فيه ضمير الفصل؟

قلنا: يجرد حينئذ لتميز الخبر عن النعت وتأكيد الحكم دون القصر.

فان قلت: قوله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جملتان مصوغتان لمدح المتقين، فلم وقعت إحداهما بطريق القصر والحكم بالاتحاد والأخرى بدونه؟

قلنا: لظهور التلازم بين مسنديهما فقصر أحدهما في قوة قصر الأخرى.

و كذلك الحكم بالاتحاد في أحدهما في قوة الحكم بالاتحاد في الأخرى. وانما اختير ذلك في الجملة الاخيرة، ليقع خاتمة صفاتهم على وجه أبلغ.

و في التفسير المنسوب الى أبي محمد العسكري- صلوات اللّه عليه وعلى آبائه - قال الامام- عليه السلام- ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات الشريفة- فقال: «أولئك»، أهل هذه الصفات، «على هدى»، بيان  وصواب «من ربهم» وعلم بما أمرهم به. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون مما منه يوجلون، الفائزون بما يؤملون.

قال: وجاء رجل الى أمير المؤمنين- عليه السلام- فقال: يا أمير المؤمنين! ان بلالا كان يناظر اليوم، فلانا. فجعل يلحن في كلامه. وفلان يعرب ويضحك من بلال.

فقال أمير المؤمنين- عليه السلام-: يا عبد اللّه! انما يراد اعراب الكلام وتقويمه لتقويم الأعمال وتهذيبها. ما ذا ينفع فلانا اعرابه وتقويمه لكلامه، إذا كانت أفعاله‏ملحونة، أقبح لحن؟ وما يضر بلالا لحنه في كلامه، إذا كانت أفعاله مقومة، أحسن تقويم، مهذبة أحسن تهذيب؟

قال الرجل: يا أمير المؤمنين! وكيف ذلك؟

قال- عليه السلام-: حسب بلال من التقويم لأفعاله والتهذيب لها  أنه لا يرى أحدا نظيرا لمحمد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم- ثم لا يرى أحدا بعد محمد  نظيرا لعلي بن أبي طالب. ويرى أن كل من عاند عليا فقد عاند اللّه ورسوله.

و من أطاعه فقد أطاع اللّه ورسوله. وحسب فلان من الاعوجاج واللحن في أفعاله التي لا ينتفع معها باعرابه لكلامه بالعربية وتقويمه للسانه، أن يقدم الأعجاز على الصدور والأستاه  على الوجوه، وان يفضل الخل في الحلاوة، على العسل، والحنظل في الطيب، والعذوبة على اللبن. يقدم على ولي اللّه، عدو اللّه  الذي لا يناسبه بشي‏ء  من الخصال في  فضله، هل هو الّا كمن قدم مسيلمة على محمد في النبوة في  الفضل ؟ ما هو الا من الذين قال اللّه تعالى قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً .قال بعض الفضلاء: وإذا انتهى الكلام الى هاهنا، فحري بنا أن نشير الى بعض بطون هذه الآيات، فنقول: هذا كلام من باطن الجمع، الى ظاهر الفرق.

يخاطب أكمل صورة، أولا- صلى اللّه عليه وآله وسلم- ومتابعيه، آخرا.

فيقول: الم، أي أقسم بالأول وذي الأمر والخلق أن «ذلك» الموجود المعلوم المشهود أعني العالم، هو «الكتاب» الجامع لحروف وكلمات، مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، للدلالة على أسماء اللّه الحسنى وصفاته العلى.

و لا يزال الكتابة فيه، دائمة أبدا لا ينتهي، لا رَيْبَ فِيهِ. لأن تلك الدلالة، قطعية عقلية او كشفية، لا مجال للريب والشك. فيها «هدى» للمشارفين على الترقي من الحجب المائعة، عن التحقق، بشهود الوحدة والكثرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بغيب الهوية وسريانها- أولا- في الصور العلمية الباطنة، التي هي الأعيان الثابتة.

و لها الأولية. وثانيا في الصور العينية الظاهرة، التي هي الأعيان الخارجية. ولها الآخرية، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وبعد الايمان بها يسلكون طريق الوصول الى شهودها في تلك الصور، بوحدتها. فيقيمون الصلاة التي هي العبادة التامة الجامعة الموصلة الى شهود الجمعية الالهية، بتحريك صلاتهم الروحانية والجسمانية، للسير اليها والفناء فيها. «و مما» أفيض عليهم، بعد الفناء، من أنوار المعرفة وأسرار الوحدة، يفيضون على من سواهم، لجعلهم بالتربية والكمال، مستعدين لفيضانها. و«الذين» يصدقون، لصفاء استعدادهم بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وبما انزل الى الأنبياء والمرسلين من تلك الأنوار والأسرار، حيث يفهمونها بلسان الاشارة عنك، فيرغبون فيها ويسلكون للوصول اليها. «و بالاخرة» أي، بعاقبة سلوكهم ومآل أمرهم، الى فيضان تلك الأنوار والأسرار، في أثناء سلوكهم، لظهور آثارها، متيقنون. أُولئِكَ عَلى هُدىً مشهود، مِنْ رَبِّهِمْ الظاهر بالاسم                   

   تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب،

 الهادي في مظاهره، لا يحتجبون بالمظاهر  عن الظاهر. وأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

الذين خرقوا حجب المظاهر. وشقّوها. فيشاهدون مشهودهم، كفاحا.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لما ذكر خاصة أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم، التي أهلتهم لاصابة الزلفى عنده وبيّن أن «الكتاب»، «هدى» ولطف لهم، خاصة، قفّى على أثره بذكر أضدادهم. وهم العتاة المردة من الكفار، الذي لا ينفع فيهم الهدى. ولا يجدي عليهم اللطف. وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه  وإنذار الرسول وسكوته .

و روي عن الامام الحسن العسكري- عليه السلام-  في معنى الاية: انه لما ذكر المؤمنين ومدحهم، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم، فقال: ان الذين كفروا باللّه وبما آمن به هؤلاء المؤمنون، بتوحيد اللّه تعالى وبنبوة محمد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم- وبوصية علي أمير المؤمنين، ولي اللّه ووصي رسوله وبالأئمة الطيبين الطاهرين، خيار عباده الميامين القوامين بمصالح خلق اللّه تعالى، سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، أي: خوفتهم أو لم تخوفهم أخبر عن علم بأنهم لا يؤمنون. انتهى كلامه- عليه السلام-.

و لم يوسط العاطف، بين الجملتين، لتباينهما في الغرض والأسلوب.

أما الغرض، فلأن الغرض من الأولى، بيان كون الكتاب، بالغا في الهداية حد الكمال. ومن الثانية، وصف الكفار بأنه لا يؤثر فيهم الانذار.

و أما في الأسلوب، فلأن الطريق الأولى، الحكم على الكتاب، بجملة محذوفة المبتدأ، موصولة بغيرها، من ذكر المتقين وأحوال المؤمنين. وطريق‏الثانية، الحكم على الكافرين، قصدا بجملة تامة مصدرة بأن، المشعرة بالأخذ في فن آخر، لتجرد الأولى عنها. بخلاف قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ  لتوافقهما في الغرض والأسلوب. وهو ظاهر.

و يحتمل أن يقال: لما كانت النسبة بين المؤمنين والكافرين، كمال المباينة، وبين الكافرين والمنافقين، على ما هو في شأن المنافقين، كمال المناسبة، قطع ما كان في شأن الكافرين، عما كان في شأن المؤمنين وعطف ما كان في شأن المنافقين على ما هو في شان الكافرين، تنبيها على تينك النسبتين.

و «أن» من الحروف التي شابهت الفعل، في عدد الحروف. والبناء على الفتح. ولزوم الأسماء. وإعطاء معانيه والمتعدي، خاصة، في دخولها على اسمين ولذلك أعملت عمله الفرعي. وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني، إيذانا بأنه فرع في العمل.

و قال الكوفيون: الخبر قبل دخولها، كان مرفوعا بالخبرية. وهي بعد باقية مقتضية للرفع، قضية  للاستصحاب. فلا يرفعه الحرف.

و رد بأن اقتضاء الخبرية الرفع. مشروط بالتجرد، لتخلفه عنها، في خبر كان. وقد زال بدخولها فتعين اعمال الحرف. وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها.

و لذلك يتلقى بها القسم، ويصدر بها الاجوبة، وتذكر في معرض الشك.

روي أن الكندي المتفلسف، ركب «الى المبرد»  وقال: اني أجد في كلام العرب حشوا، أجد العرب يقول: عبد اللّه قائم. ثم يقول : ان عبد اللّه قائم. ثم‏يقول : ان عبد اللّه لقائم.

فقال المبرد: المعاني مختلفة، فقولهم: عبد اللّه قائم، اخبار عن قيامه. وقولهم  ان عبد اللّه قائم، جواب عن سؤال سائل. وقولهم: ان عبد اللّه لقائم، جواب عن انكار منكر لقيامه.

و «الكفر» لغة، ستر النعمة. وأصله الكفر، بالفتح. وهو الستر. ومنه سمي الليل، كافرا، لستره الأشياء، بظلمته والزارع، كافرا، لأنه يستر الحب في التراب وكمام الثمرة، كافورا، لسترها الثمرة. وفي الشرع، انكار ما علم بالضرورة، مجي‏ء الرسول- عليه السلام- به، كوجوب الصوم والصلاة والزكاة وغير ذلك.

و انما عد لبس الغيار وشد الزنار، كفرا. لأنهما تدلان على التكذيب. فان من صدق الرسول- عليه السلام- لا يتجرأ  عليها. «لا لأنهما»  كفر في أنفسهما واحتجت المعتزلة، بما جاء في القرآن، بلفظ الماضي، على حدوثه، لاستدعائه سابقة مخبر عنه. وحيث لا يصح الحكم، على الكافرين، مطلقا، باستواء الانذار وتركه، لتحقق الايمان من بعضهم، فتعريف الموصول اما للعهد. والمراد به ناس، بأعيانهم، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فان هؤلاء وأضرابهم، أعلام الكفرة. فهم كالحاضرين في الذهن. فإذا أطلق اللفظ التفت الخاطر اليهم. أو لاستغراق الجنس. وهو الشائع في الاستعمال، اما مطلقا فيستغرق المصرين وغير المصرين. وخص منه غير المصرين، بقرينة الخبر.

أقول: واما  مقيد بالإصرار بهذه القرينة. فانه- أيضا- جنس، فيستغرق أفرادجنس المصرين، فقط، أو لبعض أفراد الجنس، من غير عهد واستغراق. ويكون تعيين المصرين، بقرينة الخبر.

أقول: ويحتمل أن يكون المراد به، مالك بن الضيف وكعب بن أشرف وحي بن أخطب «وحدي بن أخطب»  تابعي أبي لبابة بن المنذر. يدل على ارادة ذلك ما

روي عن محمد بن علي الباقر- عليه السلام- : أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم- لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه وبينات نبوته كادته اليهود، أشد كيد. وقصدوه، أقبح قصد. يقصدون أنواره ليطمسوها وحججه  ليبطلوها. فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه، مالك بن الضيف وكعب بن أشرف  وحي بن أخطب  وحدي بن أخطب  وأبو لبابة بن عبد المنذر  وشيعته.

فقال مالك لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم-: يا محمد! تزعم أنك رسول اللّه؟

 «قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-:»  كذلك قال اللّه خالق الخلق أجمعين.

قال: يا محمد! لن نؤمن أنك رسوله ، حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتي. ولن نشهد لك أنك عن اللّه جئتنا، حتى يشهد لك هذا البساط.و قال أبو لبابه بن عبد المنذر: لن نؤمن لك [يا محمد!]  أنك رسول اللّه. ولا نشهد لك به، حتى يؤمن لك  ويشهد لك  هذا السوط الذي في يدي.

و قال كعب بن أشرف : لن نؤمن لك أنك رسول اللّه. ولن نصدقك به، حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه.

فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم-: [انه‏]  ليس للعباد الاقتراح على اللّه. بل عليهم التسليم للّه والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعل  كافيا. أما كفاكم أن نطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم بنبوّتي ودل على صدقي؟

و بيّن فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي في أمتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي، علي بن أبي طالب؟ وأنزل عليّ هذا القرآن الباهر، للخلق أجمعين ، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله، وان تكلفوا  شبهه؟ وأما  الذي اقترحتموه، فلست أقترحه على ربي- عز وجل- بل أقول: ان ما اعطاني  ربي- عز وجل- من دلالة  هو حسبي وحسبكم. فان فعل- عز وجل- ما اقترحتموه، فذاك زائدفي تطوّله علينا وعليكم. وان منعنا ذلك فلعلمه  بأن الذي فعله، كاف فيما أراده منا.

قال: فلما فرغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم- من كلامه هذا، أنطق اللّه البساط.

و الحديث طويل، مضمونه: ان كلّا من البساط والسوط والحمار شهد بالوحدانية والنبوة والولاية. وظهر من كل منها آيات عجيبة. ولم يؤمن أحدهم الا أبو لبابة، فانه أظهر الإسلام ولم يحسن إسلامه.

ثم قال- عليه السلام: فلما انصرف القوم من عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلم- ولم يؤمنوا، أنزل اللّه: يا محمد! إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ» في العظة  أَأَنْذَرْتَهُمْ ووعظتهم وخوفتهم أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لا يصدقون بنبوتك وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا فكيف يؤمنون [بك عند قولك ودعائك‏] .

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ :

سواء، اسم مصدر. بمعنى الاستواء. أجري على ما يتصف بالاستواء، كما يجرى المصادر، على ما يتصف بها. وهو مرفوع على أنه خبر «ان».

و قوله أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، بتأويل المصدر. مرفوع على الفاعلية، أي: ان الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو هو مرفوع بالابتداء. وسواء خبره مقدما عليه. والفعل، انما يمتنع الاخبار عنه، إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ومطلق الحدث المدلول عليه- ضمنا- على الاتساع فلا. وانما عدل عنه، الى الفعل، لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة.

قيل: لا يجوز أن يكون «سواء» خبرا. لأن الجملة، لما كانت مصدرة بالاستفهام، لا يجوز تقديم ما في حيّزها عليها.

ورد بأن «الهمزة» و«أم» دخلتا عليه، لتقرير معنى الاستواء وتأكيده. فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام، لمجرد الاستواء، كما جردت حرف النداء، عن الطلب لمجرد التخصيص، في قولهم: «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة»، بل هو أولى من أن يكون فاعلا، للاستواء. لأنه لما كان اسما غير صفة، فالأصل أن لا يعمل.

و إذا جعله بمعنى اسم الفاعل، فأتت المبالغة المقصودة، من الوصف بالمصادر ووجه افراده على الأول، ظاهر. وعلى الثاني، لجهة مصدريته. ولما كان الاستواء المستفاد، من الحرفين، غير الاستواء المفهوم من سواء، فلا تكرار.

و ذهب بعض النحاة الى أن «سواء» مثل هذا المقام، خبر مبتدأ محذوف أي، الأمران سواء عليهم.

و ان الهمزة بما بعدها، بيان للأمرين. والفعلان في معنى الشرط، على أن يكون الهمزة، بمعنى أن الشائع استعمالها، في غير المتيقن.

و «أم» بمعنى «أو» لأن كليهما، لأحد الأمرين.

و الجملة، الاسمية، أعني ، الأمران سواء دالة على الجزاء. فعلى هذا يكون، خبر «ان»، هو الجملة الشرطية. والمعنى: ان الذين كفروا ان أنذرت أو لم تنذر، فهما سواء عليهم.

و «عليهم»، متعلق بالاستواء.

و «الانذار»، التخويف. أريد به التخويف من عقاب اللّه. وانما اقتصر  عليه، دون البشارة، لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس، من حيث أن‏دفع الضر، أهم من جلب النفع. فإذا لم ينفع فيهم، كانت البشارة بعدم النفع أولى.

و قرئ ء أنذرتهم، بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية. بين بين وقلبها ألفا.

و هو لحن. لأن المتحركة لا تقلب. ولأنه يؤدي الى التقاء الساكنين على غير حده.

و بتوسيط ألف بينهما، محققتين وبتوسيطها. والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.

لا يُؤْمِنُونَ، تأكيد أو بيان، للجملة التي قبلها، أعني: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. وحينئذ يكون محله الرفع، ان جعل ما قبله جملة من مبتدأ وخبر لا صفة مع الفاعل. فانه على هذا التقدير لم يكن لقوله «يؤمنون»، محل، أو خبر بعد خبر، أو جملة مستأنفة، أو حال من مفعول «أنذرتهم». قيل: أو خبر.

و قوله «سواء»- الخ، اعتراض بين المبتدأ والخبر.

ورد بأن الاخبار عن المصرين على الكفر، بعدم الايمان لا فائدة فيه. واحتجت المجوّزة لتكليف ما لا يطاق، بالاية، بأنه سبحانه، أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون، وأمرهم بالايمان. فلو آمنوا، انقلب خبره، كذبا. وشمل ايمانهم، الايمان بأنهم لا يؤمنون. فيجتمع الضدان.

و الجواب: ان الاخبار بوقوع الشي‏ء أو عدمه، لا ينفي القدرة عليه، كاخباره تعالى عما يفعله هو. والعبد باختياره. وفائدة الانذار بعد العلم، بأنه لا ينجع الزام الحجة وحيازة الرسول، فضل  الإبلاغ. ولذلك قال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ. ولم يقل «سواء عليك». كما قال لعبدة الأصنام: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وقد حقق الكلام في هذا الجواب، العلامة النحرير القزويني - أدام اللّه ظله‏العالي- في حاشيته الشريفة على العدة.

 (و في اصول الكافي : علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القسم  بن يزيد، عن أبى عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر، في كتاب اللّه- عز وجل-.

قال: الكفر في كتاب اللّه، على خمسة أوجه:

فمنها كفر الجحود، على وجهين. فالكفر  بترك ما أمر اللّه، وكفر البراءة، وكفر النعم.

فأما كفر الجحود، فهو الجحود بالربوبية. وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار. وهو قول من صنفين من الزنادقة. يقال لهم: الدهرية. وهم الذين يقولون : وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ. وهو دين وضعوه لأنفسهم، بالاستحسان. فهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشي‏ء مما يقولون. قال اللّه- عز وجل- :إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. ان ذلك كما يقولون. وقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، لا يُؤْمِنُونَ، يعنى بتوحيد اللّه [تعالى‏] . فهذا أحد وجوه الكفر.

- والحديث طويل-، أخذت منه موضع الحاجة.

و في تفسير علي بن ابراهيم : حدثني أبي، عن بكر بن صالح، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: الكفر في كتاب اللّه، على خمسة أوجه . فمنه كفر الجحود . وهو على وجهين: جحود بعلم، وجحود بغير علم.

فأما الذين جحدوا بغير علم، فهم الذين حكى اللّه عنهم في قوله تعالى :

وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وقوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فهؤلاء كفروا وجحدوا بغير علم.- والحديث طويل-، أخذت منه موضع الحاجة) .

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ: بيان وتأكيد للحكم السابق. أو تعليل له.و «الختم»، قريب من الكتم، لفظا، لتوافقهما في العين واللام، ومعنى.

لأن «الختم» على الشي‏ء، يستلزم كتم ما فيه. فيناسبه في اللازم.

و «الغشاوة»، فعالة، من غشاه إذا غطاه. بنيت لما يشتمل على الشي‏ء، كالعصابة والعمامة. ولا ختم ولا تغشية، ثم على الحقيقة، بل على سبيل المجاز والاستعارة.

فان كان المشبه به، في خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، المعنى المصدري الحقيقي للختم، والمشبه احداث حالة في قلوبهم، مانعة من نفوذ الحق فيها، كان طرفا التشبيه، مفردين، والاستعارة، مصرحة. وان جعل المشبه به، هيئة مركبة منتزعة من الشي‏ء والختم الوارد عليه ومنعه صاحبه من الانتفاع به والمشبه، هيئة منتزعة من القلب والحالة الحادثة فيه ومنعها صاحبها عن الانتفاع به في الأمور الدينية ، كان طرفا التشبيه مركبين والاستعارة تمثيلية. قد اقتصر فيها من ألفاظ المشبه به، على ما معناه، عمدة في تصوير تلك الهيئة، واعتبارها، أعني: الختم. وباقي الألفاظ، منوي مراد. وان لم يكن مقدرا في نظم الكلام والاقتصار، على بعض الألفاظ، للاختصار في العبارة .

و تكثير محتملاتها، بأن يحمل تارة على التشبيه وتارة على التمثيلية وأخرى على غيرهما، ولو صرح بالكل، تعينت التمثيلية، وان قصد تشبيه قلوبهم بأشياء مختومة.

و جعل ذكر «الختم»، الذي هو من روادف المشبه به، المسكوت عنه، تنبيها عليه ورمزا، كان من قبيل الاستعارة بالكناية. وقس عليه قوله: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ.

و المعتزلة لما اضطرت في معنى ظاهر الاية، ذكروا له وجوها من التأويل.منها: ان القوم لما أعرضوا وتمكّن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.

و منها: ان المراد «بالختم»، وسم على  قلوبهم، بسمة تعرفها الملائكة.

فيبغضونهم. ويتنفرون عنهم. وعلى هذا يحمل كل ما يضاف الى اللّه من طبع وإضلال.

يدل على هذا التأويل‏

ما روي في تفسير الحسن العسكري- عليه السلام-  عن الصادق- عليه السلام- أنه قال: ان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- لما دعا هؤلاء المعينين في الاية المقدمة ، [في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏]  وأظهر لهم  تلك الآيات. فقابلوها بالكفر. أخبر اللّه- عز وجل- [عنهم‏]  بأنه خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ختما يكون علامة للملائكة  المقربين القراء لما في اللوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم. حتى إذا نظروا الى أحوالهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، شاهدوا ما هنالك  «من ختم اللّه- عز وجل- عليها ازدادوا باللّه معرفة. وعلموا بما يكون قبل أن يكون»  يقينا.قال : فقالوا: يا رسول اللّه! فهل من عباد اللّه، من يشاهد هذا الختم، كما يشاهده  الملائكة؟

فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: بلى، محمد رسول اللّه يشاهده ، باشهاد - عز وجل- له . ويشاهده من أمته أطوعهم للّه- عز وجل- وأشدهم جدا  في طاعة اللّه وأفضلهم في دين اللّه.

فقالوا: من هو، يا رسول اللّه؟- وكل منهم تمنى أن يكون هو-.

فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: دعوه يكن من شاء اللّه. فليس الجلالة في المراتب عند اللّه- عز وجل- بالتمني ولا بالتظني ولا بالاقتراح. ولكنه فضل من اللّه- عز وجل- على من يشاء، يوفقه للأعمال الصالحة، تكرمه لها. فيبلغه أفضل الدرجات وأشرف المراتب. ان اللّه سيكرم بذلك من تريكموه  في غد.

فجدوا في الاعمال الصالحة. فمن وفق اللّه له  ما يوجب عظيم كرامته عليه ، فللّه عليه بذلك الفضل العظيم.قال: فلما أصبح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- وغص مجلسه بأهله. وقد جد بالأمس، كل من خيارهم، في خير عمله وإحسانه الى ربه، و قدم يرجو أن يكون هو ذلك الخير الأفضل.

قالوا: يا رسول اللّه! من هذا؟ عرّفناه بصفته. وان لم تنص لنا على اسمه.

فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: هذا، الجامع للمكارم، الحاوي للفضائل، المشتمل على الجميل- ثم بعد ذكر كلام طويل، مشتمل على كرامات ومجاهدات، وقعت في تلك الليلة من أمير المؤمنين- عليه السلام- ذكر أنه  قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- لعلي عليه السلام: انظر! فنظر الى عبد اللّه بن أبيّ والى سبعة من اليهود.

فقال: شاهدت ختم اللّه على قلوبهم وأسماعهم .

فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: أنت، يا علي! أفضل شهداء اللّه في الأرض بعد محمد رسول اللّه.

قال: فذلك قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، تبصرها الملائكة. فيعرفونهم بها. ويبصرها رسول اللّه، محمد. ويبصرها خير خلق اللّه بعده علي بن أبي طالب.

و في عيون الأخبار : بإسناده الى ابراهيم بن أبي محمود، قال: سألت أبا الحسن الرضا- عليه السلام- عن قول اللّه- عز وجل: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار، عقوبة على كفرهم. كما قال- عز وجل -: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا .

و عَلى سَمْعِهِمْ، يحتمل أن يكون معطوفا على قلوبهم ومعطوفا عليه «لعلى أبصارهم». ورجح الأول، بقوله : وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، وبالوقف «على سمعهم» اتفاقا. ولأنهما لما كان ادراكهما من جميع الجوانب، جعل المانع عنه، بما يكون كذلك لظهور «أن الغشاء»  يكون بين المرئي والرائي.

و كرر الجار، للدلالة على أن الختم يتعلق بكل واحد منهما، بالاستقلال.

فيكون أشد. ولأن تعلق فعل بمجموع أمرين، لا يستلزم تعلقه بكل واحد.

و افراد «السمع»، للأمن من اللبس مع الخفة والتفنن. أو لأنه في الأصل مصدر. وهو لا يجمع. أو على تقدير مضاف، أي: مواضع سمع. أو لرعاية المناسبة بين المدرك والمدرك. فان مدرك السمع، واحد. وهو الصوت. ومدركاتهما أنواع.

و قرئ: «و على أسماعهم».

و وجه الترتيب، أنه تعالى لما ذكر هذه الطائفة، أولا بالكفر، وثانيا باستواء الانذار وعدمه عليهم، فالختم على قلوبهم، ناظر الى كفرهم. لأن الكفر والايمان من صفات القلب. والختم على سمعهم، ناظر الى ذلك الاستواء. لان محل ورود الإنذارات، ليس الا السمع. ولما حكم عليهما بالختم فصار مكان أن يقال علمناوقوع الختم عليهما: ألم يكن لهم أبصار يبصرون بها الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة؟ فقال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ. ولما لم يكن في نظم الكلام، ما ينظر اليه التغشية، غيّر الأسلوب.

و «البصر»، قوة أودعت في ملتقى العصبتين، المجوفتين النابتتين ، من مقدم الدماغ. وقد يطلق على العضو. وكذلك «السمع». وهو قوة أودعت في باطن الصماخ .

و «غشاوة»، مرفوع مبتدأ. و«على أبصارهم» خبره عند سيبويه. وفاعل الظرف، عند الأخفش لاعتماده على ما قبله. ويؤيده العطف على الجملة الفعلية.

و قرئ بالنصب، على معنى وجعل على أبصارهم غشاوة. أو على حذف الجار. وإيصال الفعل، نفسه اليها. والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة.

و قرئ بالضم والرفع وبالفتح والنصب.

و «غشوة» بالكسر، مرفوعة. و«بالفتح مرفوعة»  ومنصوبة.

و «غشاوة»، بالعين الغير معجمة، من العشا مصدر الأعشى. وهو الذي لا يبصر بالليل.

وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ : وعيد، وبيان لما يستحقونه.

 «و العذاب»، كالنكال، بناء ومعنى. يقال «أعذب عن الشي‏ء ونكل»، إذا أمسك عنه. ومنه الماء العذب، لأنه يقمع العطش، ويردعه. فسمّي «العذاب»، عذابا، لأنه يردع الجاني عن المعاودة الى الجناية. ثم اتسع، فأطلق على كل ألم شديد وان لم يكن، نكالا، أي. عقابا، يرتدع به الجاني عن المعاودة.

و قيل : «اشتقاقه من التعذيب. الذي هو ازالة العذب . كالتغذية والتمريض».

أو من العذبة. وهي القذاة. وماء ذو عذب، أي: كثير القذى. فكما أن القذاة تنغص  الماء وكذلك العذاب، ينغص  العيش.

أو من أعذب حوضك، أي: انزع ما فيه من قذى. فكذلك العذاب ينزع  من الجاني، ما فيه من الجناية.

أو من العذوبة. لأن عذاب كل أحد مما  يستعذبه ضده. فعذاب الكافرين، مما يستعذ به المؤمنون.

و «العظيم»، ضد الحقير، والكبير ضد الصغير. كما أن الحقير، دون الصغير.

فالعظيم فوق الكبير.

قيل : «و معنى التوصيف به، أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه، قصر عنه جميعه، وحقر بالاضافة اليه. ومعنى التنكير في الاية، ان على أبصارهم غشاء، ليس مما يتعارفه الناس. وهو التعامي عن الآيات. ولهم من الآلام العظام، نوع، يعلم كنهه اللّه تعالى»، أي: في الاخرة.

و قال بعضهم: ان لهم عذابا في الدنيا والاخرة. لأن عذابهم الأخروي، ليس الا صور اعتقاداتهم ونتائج أعمالهم، من دركات النيران. وما فيها من الآلام، كانت في الدنيا معاني، فصارت في الاخرة صورا، فهم دائمون فيها. لكنهم‏لا يتألمون بها في الدنيا، لكثافتهم «و غلظ حجابهم» . والذين صاروا في الدنيا، أهل الاخرة، يرونهم داخلين في النار وما فيها، من أنواع العذاب.

قال بعض الصوفية: وإذ قد علمت ما بين لك من المعاني الظاهرة، فألق سمعك، تسمع بطنا من بطونها:

فنقول: ان الذين كفروا، خرجوا  من الايمان الرسمي المنوط بغيبتهم، عن المؤمن به، ودخلوا في الكفر الحقيقي، بستر وجوداتهم، في الفناء في اللّه، ان أنذرتهم بسوء عاقبة ارتدادهم من هذا الكفر، الى ذلك الايمان، أم لم تنذرهم، فهما سيان عليهم . لأنهم لا يؤمنون، أي: لا يرجعون الى الايمان الرسمي، أبدا. لأن الفاني، لا يرد. وكأنه الى هذا الايمان والكفر، أشار من قال:

 «كفرت بدين اللّه والكفر واجب»  لدي، وعند المسلمين، قبيح. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فلا يدخل فيها شي‏ء مما سوى اللّه. وان دخل فيها شي‏ء، فهو صورة من صور تجلّياته، انخلعت من لباس الغيرية. وختم «على أسماعهم»، فلا يسمعون شيئا، مما سواه. فانه المتكلم على ألسنة الموجودات. فكلما يسمعونه بلسان الحال أو المقال، فهو من صور كلامه، لا غير. وعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مانعة من رؤية غيره سبحانه.

فكلما يرونه ليس الا من صور تجلّياته، تجلّى به على نظر شهودهم. وَلَهُمْ عَذابٌ، أي: أمر يعده  المحجوبون، عذابا. وهو استهلاكهم في الوجود الحق.

و إمساكهم عن اللذات العاجلة والراحات الاجلة. «عظيم»، أي: جليل قدره. لايعرفه الا من ذاقه .

 (و في كتاب الاحتجاج  للطبرسي ره: بإسناده الى أبي محمد العسكري- عليه السلام- أنه قال في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ، غِشاوَةٌ. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، أي: وسمها بسمة يعرف  من يشاء من ملائكته، إذا نظروا اليها، بأنهم الذين لا يؤمنون. وَعَلى سَمْعِهِمْ، كذلك بسمات وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ. وذلك لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه، وقصروا فيما أريد منهم، وجهلوا ما لزمهم، من الايمان [به‏] ، فصاروا كمن على عينيه غطاء، لا يبصر ما أمامه. فان اللّه- عز وجل- يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه. فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير الى ما قد صدهم بالقسر عنه. [ثم‏]  قال: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، يعني: في الاخرة، العذاب المعد للكافر، وفي الدنيا، أيضا، لمن يريد أن يستصلحه بما نزل  به، من عذاب الاستصلاح، لينبهه لطاعته. أو من عذاب الاصطلام، ليصيّره الى عدله وحكمته) .

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا. لإنشاء الايمان. أو للاخبار بوقوعه، فيما مضى.و افراد الضمير، في «يقول»، بالنظر الى اللفظ. وجمعه، فيما بعد بالنظر الى المعنى. لأنهم في قولهم «آمنا» بمنزلة شخص واحد، لاتفاقهم عليه، في غير اختلاف. وأما إتيانهم بما ينافي الايمان، فالتعدد فيه ممكن، بل واقع. فلذلك لوحظ فيه جهة كثرتهم، بإيراد ضمير الجماعة.

 

و «الناس»، اشتقاقه من الأناس، حذفت همزته تخفيفا. منه انسان وأناس وأنس. وحذفها مع لام التعريف، واجب. لا يكاد يقال الأناس. وهو مأخوذ من الأنس، بالضم، ضد الوحشة. لأنهم مدنيّون بالطبع، يستأنسون بأمثالهم، أشد استئناس. أو من الانس، بالكسر. بمعنى الإيناس. وهو الأبصار.

قيل: وهذا أشبه، ليناسب المقابل، أعني الجن. لأنهم سمّوا به، لاجتنانهم.

و يوافق اسمه الاخر. أعني، البشر. لأنه من البشرة  ظاهر الجلد.

و ذهب الكسائي الى أنه من نون وواو وسين. والأصل، نوس. فقلبت الواو، ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها. والنوس: الحركة.

و قيل : «من نسي، فقلبت اللام الى موضع العين فصارت نيس» . ثم قلبت الياء ألفا. سموا بذلك، لنسيانهم. فوزنه على الأول، عال وعلى الثاني فعل وعلى الثالث فلع.

قيل: لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من شي‏ء آخر. والا لزم التسلسل.

و على هذا، لا حاجة الى جعل لفظ «الإنسان» مشتقا من شي‏ء آخر.

ورد بأن المقصود من ذلك، تقليل اللغات، بحسب الوسع. ولا شك أن الألفاظ المتعددة، إذا ردت الى أصل واحد، صارت اللغات، أقل.و «اللام» فيه لتعريف الجنس. أو العهد، اشارة الى الَّذِينَ كَفَرُوا، أي: المصرين على الكفر- مطلقا، أو مقيدا- بكونهم غير ما حضين، أو جماعة معهودين منهم. فلها أربع احتمالات.

و «من» في «من يقول»، اما موصولة، أو موصوفة. اما لتعريف الجنس، أو العهد. اشارة الى جماعة معهودين، كابن أبيّ وأضرابه.

ففيها ثلاثة احتمالات يحصل من ضربها في أربع احتمالات، اثنا عشر وجها.

فعليك بالتأمل، حتى يظهر وجهها.

ثم المراد «بالذين كفروا» ان كان ناسا معهودين ماحضين للكفر غير منافقين، أو الجنس المخصوص مما عدا المنافقين، اما بقرينة المقابلة، أو لتبادر الفهم اليه، من اطلاق المعرف بلام الجنس.

فالمقصود من هذه الآيات، استيفاء الأقسام، حيث ذكر أولا المؤمنين ، ثم الماحضين، ثم المنافقين. وان كان المراد بهم ما يعم الماحضين والمنافقين.

فذكر المنافقين من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لكمال الاهتمام بالنداء، على تفاصيل صفاتهم الذميمة  وأعمالهم الخبيثة، لكونهم أخبث الكفرة وأبغضهم، اليه تعالى.

لأنهم خلطوا الايمان بالكفر، تمويها وتدليسا، وبالشرك، استهزاء وخداعا.

و «القول»: هو التلفظ بما يفيد. ويقال: بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس والمعبر عنه باللفظ والرأي والمذهب، مجازا.

و قصة المنافقين، معطوفة على قصة الذين كفروا. وليس ذلك من باب عطف جملة على جملة، ليطلب مناسبة الثانية، مع السابقة، بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض، الى آخر، مسوقة لآخر، وشرطه المناسبة بين الغرضين. فكلما كانت المناسبةأشد وأمكن، كان العطف بينهما أشد وأحسن.

قال بعض المفسرين : هذه الاية، مع الاثني عشر الآيات التي بعدها، أنزلت في ذم المنافقين. الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر، لمصالح دعتهم الى ذلك.

ثم قال: ودخل فيهم من كان على صفة النفاق، حال نزول الاية. واشتهر به.

أو كان ولم يشتهر. وظهر بعد ذلك، نفاقه وخبثه. أو حدث النفاق، بعد ذلك، في زمان النبي- عليه السلام- أو بعد زمانه. فان كل هؤلاء، مصداق هذه الآيات.

ثم قال: ولا يتوهم أنه يلزم في الدخول، تحقق المخاطبات التي ذكرت في الآيات الاتية، فيخرج من لم يتحقق فيه، تلك الأقوال. فلا يمكن أن يقال: ان الآيات، نزلت فيهم، لأن الشرطية، لا تقتضي وقوع الطرفين.

أقول: يظهر من كلام ذلك الفاضل، أن إذا الواقعة في تلك الآيات، شرطية ويرد احتمالها التأمل الصادق، في تلك الآيات. ويحتمل أن يكون المراد منه، الخلفاء الثلاثة، مع شيعتهم. يدل على ذلك‏

ما روي أبي محمد العسكري- عليه السلام- .

 

و في شرح الآيات الباهرة : قال العالم موسى بن جعفر- عليه السلام-: ان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- لما أوقف أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب- عليه السلام- في يوم الغدير، موقفه المشهور المعروف، قال : يا عباد اللّه! أنسبوني.

فقالوا: أنت محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.ثم قال: أيها الناس! أ لست أولى بكم من أنفسكم ؟ وأنا مولاكم وأولى  بكم منكم بأنفسكم؟

قالوا: بلى، يا رسول اللّه!.

فنظر الى السماء. وقال: اللهم! اشهد «يقول هو  ذلك ثلاثا ويقولون ذلك ثلاثا» .

ثم قال: ألا من  كنت مولاه وأولى به، فهذا علي مولاه وأولى به. اللهم! وال من والاه. وعاد من عاداه. وانصر من نصره. واخذل من خذله.

ثم قال: قم، يا أبا بكر! فبايع له  بإمرة المؤمنين.

 «ثم قال: قم، يا عمر! فبايع له بإمرة المؤمنين» .

فقام، فبايع له، «بإمرة المؤمنين» .

ثم قال بعد ذلك، لتمام التسعة «من رؤساء»  المهاجرين والأنصار. فبايعوه كلهم.

فقام من بين جماعتهم، عمر بن الخطاب. فقال: بخ بخ يا بن أبي طالب! أصبحت  مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.ثم تفرقوا عن ذلك. وقد أكدت  عليهم العهود والمواثيق.

ثم ان قوما من متمرديهم وجبابرتهم، تواطئوا  بينهم، لئن كانت لمحمد- صلى اللّه عليه وآله وسلم- كائنة لندفعن  هذا الأمر عن  علي. ولا نتركه  له.

فعرف اللّه تعالى ذلك  من قلبهم. وكانوا يأتون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- ويقولون: لقد أقمت علينا  أحب الخلق  الى اللّه واليك وإلينا. فكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا. وعلم اللّه تعالى من قلوبهم خلاف ذلك، من مواطأة بعضهم لبعض، أنهم على العداوة مقيمون ولدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون. فأخبر اللّه- عز وجل- محمدا عنهم. فقال: يا محمد! وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ، الذي  أمرك بنصب علي، اماما وسائسا  ولأمتك مدبّرا  وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بذلك. ولكنهم يتواطئون على اهلاكك وإهلاكه  ويوطّئون أنفسهم، على التمرد على عليّ، ان كانت بك كائنة.بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: أي، بالمبدأ والمعاد. اللذين هما المقصود الأعظم من الايمان. ولهذا اختصا بالذكر.

و المراد «باليوم» الذي هو اسم لبياض النهار، زمان ممتد من وقت الحشر الى الأبد، أو الى زمان استقرار كل في مستقره، من الجنة والنار. وهذا أشبه باليوم الحقيقي، في تحقق الحد من الطرفين.

و أما كونه «آخرا»، فلتأخر  هذين الزمانين، عن الأيام الدنيوية المنقضية.

و قيل في الثاني، «لأنه آخر الأوقات المحدودة»  الذي لا وقت بعده.

ورد بأنه: لا شك أن في كل، من الجنة والنار، أحوالا وحوادث، كلية يمكن تحديد الأوقات بها. وقد شهدت الكلمات النبوية، بوجودها. اللهم الا أن يقال المنفي، هو الحد المشهور، غاية الاشتهار.

و في تكرير «الباء»، ادعاء الايمان، بكل واحد على الاصالة والاستحكام.

وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ : نفي لما ادعوا. والأصل يقتضي أن يقول: وما آمنوا، ليطابق قولهم. لكنه قدم المسند اليه وجعل المسند، صفة. فصارت الجملة اسمية غير دالة، على زمان . لان في ذلك سلوكا، لطريق الكناية، في رد دعواهم الكاذبة. فان انخراطهم في سلك المؤمنين وكونهم طائفة من طوائفهم، من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم. وانتفاء اللازم، دل على انتفاء الملزوم. ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في الملزوم، ابتداء. وايضا، فيه مبالغة في نفي اللازم، بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم، مطلقا. وأكد ذلك النفي، «بالباء» ايضا. وأطلق الايمان، لزيادة التأكيد على معنى أنهم ليسوا من الايمان في شي‏ء.أو أرادوا ما هم بمؤمنين باللّه وباليوم الاخر، بقرينة ما أجيب به عنه. ولما اعتبر التأكيد والاستمرار، بعد ورود النفي، لم يفد الا تأكيد النفي.

و استدل من ذهب الى أن الايمان، ليس هو الإقرار فقط بالاية.

و أقول: الاية تدل على أن من ادعى الايمان وخالف قلبه، لسانه بالاعتقاد، لم يكن مؤمنا. ولا تدل على أن من تكلم بالشهادتين، بدون الاعتقاد، لم يكن مؤمنا. وهو المتنازع فيه.

 «و أيضا، يجوز أن يكون قولهم «آمنا» لأخبار الايمان، لا لانشائه» .

و قوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، جملة متعلق، خبره محذوف. والتقدير:

و «ما هم بمؤمنين باللّه واليوم الاخر، أو بشي‏ء من الأشياء».

فعلى الأول، وجهه ظاهر.

و على الثاني، توجيهه، أن نفي الايمان منهم، مطلقا مع أن منافقي أهل الكتاب، كانوا مؤمنين باللّه واليوم الاخر، بناء على أن ايمانهم «كلا ايمانهم»  لاعتقاد التشبيه واتخاذ الولد وأن الجنة لا يدخلها غيرهم وأن النار لا تمسهم، الا أياما معدودة، فلو قالوا ما قالوه، لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم هذه، لم يكن ايمانا.

كيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم. فظهر من ذلك أن اطلاق رفع الإيجاب الكلي والسلب الكلي، في هذه الحملية، مسامحة، ارتكبها العلامة السبزواري، حيث قال في توجيه التقدير الثاني: ان قولهم هذا، كناية عن تصديقهم بجميع الشرائع. فإذا لم يؤمنوا ببعض، صدق رفع الإيجاب الكلي.

مع أنه يمكن أن يقال: عدم الايمان بالبعض، كاشف عن عدم الايمان بالكل.

فيصح السلب الكلي، على أنه يرد احتمال أن لا يكون قولهم هذا، كناية عن الايمان بالجميع.

و أيضا، لو قدر المتعلق خاصا، بقرينة سابقة، كان رفعا، للإيجاب الكلي.

فلا حاجة حينئذ، الى تقدير عمومه. فليتأمل.

و أقول: يحتمل أن يكون قوله «بمؤمنين»، غير متعد الى شي‏ء، أصلا.

و المعنى، ليس لهم وجد حقيقة الايمان. (بل ما وجد لهم، من النفاق.

و في كتاب الخصال : عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين- في حديث طويل: والنفاق على أربع دعائم: على الهوى، والهوينا، والحفيظة، والطمع.

فالهوى  على أربع شعب: على البغي، والعدوان، والشهوة، والطغيان. فمن بغى كثرت غوائله وعلاته. ومن اعتدى، لم تؤمن بوائقه، ولم يسلم قلبه. ومن لم يعزل نفسه عن الشهوات، خاض في الخبيثات. ومن طغى، ضل على غير يقين. ولا حجة له.

و شعب الهوينا: الهيبة والغرة، والمماطلة والأمل. وذلك لأن الهيبة ترد على دين الحق، وتفرط المماطلة في العمل، حتى يقدم الأجل. ولو لا الأمل، علم الإنسان، حسب ما هو فيه. ولو علم حسب ما هو فيه، مات من الهول والوجل.

و شعب الحفيظة: الكبر، والفخر، والحمية، والعصبية. فمن استكبر، أدبر، ومن فخر فجر، ومن حمى، أضر. ومن أخذته العصبية جار، فبئس الأمر، أمر بين الاستكبار والأدبار، وفجور وجور.

و شعب الطمع، أربع: الفرح، والمرح، واللجاجة، والتكاثر. والفرح، مكروه عند اللّه- عز وجل. والمرح، خيلاء. واللجاجة، بلاء لمن اضطرته الى حبائل الاثام. والتكاثر، لهو وشغل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير،فذلك النفاق ودعائمه وشعبه.

و في أصول الكافي : محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين ابن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن معلى بن عثمان، عن أبي بصير، قال: قال لي: ان الحكم بن عيينة  ممن قال اللّه تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فليشرّق  الحكم وليغرّب، أما واللّه! لا يصيب العلم، الا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل- عليه السلام) .

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا: «الخدع»، أن توهم صاحبك، خلاف ما تريد به، من المكروه. وتصيبه به، مع خوف واستحياء من المجاهرة به، وقيل: للاصابة، لأن مجرد الارادة، لا يكفي في تحقق الخدع.

و قوله «مع خوف أو استحياء»، ليخرج الاستدراج الذي هو من أفعال اللّه تعالى، لعدم جواز الخوف  والحياء عليه سبحانه.

و هو من قولهم: ضب خادع أو خدع إذا أحس بالحارش، أي: الصائد على باب جحره وأوهمه إقباله عليه، من هذا الباب، ثم خرج من باب آخر.

و أصله، الإخفاء. ومنه المخدع على صيغة المفعول، للخزانة. والأخدعان لعرقين خفيين في العنق.

و صيغة المخادعة، يقتضي صدور الفعل، من كل واحد من الجانبين، متعلقا بالآخر. وخداعهم مع اللّه، ليس على ظاهره، لأنه لا يخفى عليه، خافية. ولأنهم لم يقصدوا، خديعته. بل المراد اما مخادعة رسوله، على حذف المضاف. أوعلى أن معاملة الرسول، معاملة اللّه من حيث أنه خليفته. كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ . الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ .

يدل على ذلك‏

ما روي «في شرح الآيات الباهرة، عن أبي محمد العسكري- عليه السلام-»   عن موسى بن جعفر عليهما السلام: لما اتصل ذلك من مواطأتهم وقيلهم  في علي وسوء تدبيرهم عليه برسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- دعاهم  وعاتبهم، فاجتهدوا في الأيمان.

فقال  أوّلهم: يا رسول اللّه! واللّه ما اعتددت بشي‏ء كاعتدادي بهذه البيعة.

و لقد رجوت أن يفسح اللّه بها لي، في قصور الجنان، ويجعلني فيها من أفضل النزّال والسّكان.

و قال ثانيهم: بأبي أنت وأمي، يا رسول اللّه! ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار، الا بهذه البيعة. واللّه ما يسرني أن نقضتها، أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي، ما أعطيت. ولو أن لي  طلاع، ما بين الثرى، الى العرش. لآلي‏ء رطبة وجواهر فاخرة.

و قال ثالثهم: واللّه  يا رسول اللّه لقد صرت من الفرح بهذه البيعة والسرور

 و الفسح من الآمال، في رضوان اللّه . وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلها عليّ، لمحقت  عني، بهذه البيعة. وحلف  على ما قال، من ذلك.

و لعن من بلّغ عنه، رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- خلاف ما حلف عليه.

ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار، من بعدهم من الجبابرة والمتمردين. قال  اللّه- عز وجل- لمحمد- صلى اللّه عليه وآله وسلم-: يُخادِعُونَ اللَّهَ يعني:

يخادعون رسول اللّه، بأيمانهم. خلاف ما في جوانحهم. وَالَّذِينَ آمَنُوا لذلك، أيضا. الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب- عليه السلام-.

و يحتمل أن يقال: المقصود، أن بينهما حالة، شبيهة بالمخادعة، لا حقيقة المخادعة. فان صورة صنعهم مع اللّه، من اظهار الايمان واستبطان الكفر، وضع اللّه معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار، واستدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين، أمر اللّه في إخفاء حالهم، واجراء حكم الإسلام عليهم، صورة صنع المخادعين . فشبهت تلك الصورة بهذه الصورة. فاستعمال لفظ هذه فيها، ان وقع كان استعارة تصريحية واشتقاق يخادعون منه، استعارة تبعية.

أو  يقال: المخادعة، محمول على حقيقتها. لكنها ترجمة، عن معتقدهم الباطل وظنهم الفاسد. كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون. وأنه يخدعهم. وكذلك المؤمنون‏يخدعونهم.

أو يقال: المراد، يخدعون الذين آمنوا.

و ذكر اللّه ليس لتعليق الخدع به، بل لمجرد التوطئة. وفائدتها، التنبيه على قوة اختصاص المؤمنين، باللّه وقربهم منه. حتى كان الفعل ، المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا. وكذلك الحال في «أعجبني زيد وكرمه». فان ذكر زيد توطئة وتنبيه، على أن الكرم قد شاع فيه. وتمكن بحيث يصح أن يسند اليه، أيضا، الاعجاب الذي لكرمه. ومثل هذا العطف، يسمى جاريا مجرى التفسير.

و وجه العدول عن خدع، الى خادع، قصد المبالغة. لان المفاعلة في الأصل للمغالبة  وهي أن يفعل كل من الجانبين، مثل صاحبه، ليغلبه. وحينئذ يقوى الداعي الى الفعل. ويجي‏ء ابلغ وأحكم.

 «و يخادعون»، بدل أو بيان «ليقول» لأنه وان كان واضحا في نفسه، ففيه خفاء بالنسبة الى الغرض. ولما كان خفاؤه باعتبار الغرض منه، اكتفى في بيانه بذكره وهو الخداع.

و يجوز أن يكون مستأنفا. كأنه قيل: ولم يدعون الايمان كاذبين. فقيل:

يخادعون. وكان غرضهم من المخادعة، اما دفع المضرة عن أنفسهم، كالقتل والأسر، أو جذب المنفعة، كأخذ الغنائم، أو إيصال  المضرة الى المؤمنين، كافشاء أسرارهم، الى أعدائهم من الكفار.

أقول: ويحتمل أن يكون معنى يخادعون، يريدون أن يخدعوا. اما لدلالة جوهر الصيغة عليه. واما باعتبار أن الأفعال التي من شأنها أن تصدر بالارادةو الاختيار، إذا نسبت الى ذوي الاختيار. فهم ارادتها.

وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ: قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو .

و المعنى، ان دائرة المخادعة التي سبقت، وهي المخادعة المستعارة للمعاملة الجارية بينهم وبين اللّه والمؤمنين، المشبهة بمعاملة المخادعين.

أو المخادعة المحمولة على حقيقتها. لكن في ظنهم الفاسد.

أو المخادعة الواقعة بينهم وبين الرسول.

أو بينهم وبين المؤمنين راجعة اليهم. وضررها يحيق بهم لا يعدوهم.

أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غرّوها بذلك. وخدعتهم أنفسهم حيث حدّثتهم بالأماني الفارغة. وحملتهم على مخادعة من لا يخفى عليه خافية.

فعلى الأول، يكون العبارة الدالة على قصة المخادعة، مجازا أو كناية، عن انحصار ضررها فيهم. ويحتمل أن يجعل لفظ الخداع، مجازا مرسلا، عن ضرره في المرتبة الأولى أو الثانية.

و على الثاني، يكون المخادعة مستعملا في معناه حقيقة.

و قرأ الباقون: وما يخدعون.

قيل : لأن المخادعة لا يتصور الا بين اثنين.

أقول: نعم. لكن الاثنين أعم من أن يكون اثنين حقيقة أو اعتبارا. اللهم الا أن يقال: الاثنينية الحقيقية، مشروطة لحسن  المخادعة.

و قرئ، يخدعون، من خدع. ويخدعون، بفتح الياء. والأصل يختدعون، بمعنى، يخدعون. كيقتدرون. بمعنى، يقدرون. فأدغم. ويخدعون ويخادعون على‏لفظ ما لم يسم فاعله. وحينئذ يكون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، معناه، الّا عن أنفسهم، على حذف حرف الجر. يقال: خدعت زيدا نفسه. أي عن نفسه: نحو: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ . ويحتمل النصب على التميّز، عند من يجوز كونه معرفة.

و استعمال الخدع، بناء على تضمينه، معنى الصدور، أي: ما يخدعون الا خدعا صادرا، عن أنفسهم، منشئا عنهما.

و النفس، الذات. ويقال للقلب، بمعنى العضو الصنوبري، نفس. لأن قوام النفس، بمعنى الذات، بذلك. ولهذا المعنى- أيضا- يقال للروح وللدم نفس. وللماء، لفرط حاجتها اليه. وللرأي، في قولهم فلان يؤامر نفسه، أي:

يشاورها. لأنه ينبعث عنها، تسمية للمسبب، باسم السبب. أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه. فيكون استعارة مبنية على التشبيه.

و المراد بالأنفس، هنا، ذواتهم. ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم.

قيل: أن المختار عند المحققين من الفلاسفة وأهل الإسلام، من الصوفية وغيرهم، أنها، أي النفس، جوهر مجرد في ذاته، متعلق بالبدن، تعلق التدبير والتصرف. ومتعلقه، أولا، هو الروح الحيواني القلبي، المتكون في جوفه الأيسر، من بخار الغذاء ولطيفه. ويفيد قوة لها يسري، في جميع البدن. فيفيد كل عضو قوة بها، يتم نفعه. وقد يطلق على هذا الجوهر المجرد، القلب والروح أيضا. فعلى هذا يمكن أن يراد بالأنفس، النفوس المتعلقة بأبدانهم، على سبيل الحقيقة. بأن يكون موضوعا لهذا الجوهر المجرد. كما للذات، على تقدير وضعه للذات، فقط، إطلاقه عليه، اما بالحقيقة، أو المجاز. فان الذات، لو كانت عبارة من مجموع الجثة  والروح المجرد، فإطلاق النفس عليه من اطلاق اسم الكل‏على الجزء. وان كانت عبارة عن الجثة  فقط، فاطلاقه عليه، لعلاقة واقعة بينهما.

و ان كانت عبارة عن الروح المجرد، فقط، وهو الظاهر، فان الذات في الحقيقة ما يعبّر عنه بلفظ «أنا». وهو الباقي من أول العمر الى آخره، وما عداه كالعوارض بالنسبة اليه. ولا شك أن هذا الأمر، هو الروح المجرد، لا الجثة. فإنها كل يوم تتبدل. فعلى هذا اطلاق النفس، بمعنى، الذات عليه، حقيقة. وفيما عداه مجاز.

و إذا أريد «بأنفسهم»، النفوس الناطقة المتعلقة بأبدانهم، أو القلوب، أو الأرواح بمعناه، فلا شك أن ضرر المخادعة الواقعة بينهم وبين اللّه والمؤمنين، راجع اليها، مقصور عليها. لكن قصرا إضافيا. فان ذلك الضرر، يعود الى جثتهم وقلوبهم الصنوبرية وأرواحهم الحيوانية، أيضا. فان عذابهم، لا يكون روحانيا، فقط.

وَ ما يَشْعُرُونَ : معطوف على قوله: وَما يَخْدَعُونَ، أو على قوله:

يُخادِعُونَ.

و قيل: معترضة من الشعور. وهو ادراك الشي‏ء بالحاسة. مشتق من الشعار.

و هو ثوب يلي شعر الجسد. ومنه مشاعر الإنسان، أي: حواسه الخمسة التي يشعر بها. لأنها متلبسة بجسده. كالشعار. أو من الشعر. وهو ادراك الشي‏ء من وجه يدق ويخفى.

و الأول، أبلغ وأنسب بالمقام. لان فيه أشعارا بانحطاطهم، عن مرتبة البهائم حيث لا يدركون أجلى المعلومات. أعني، المحسوسات التي تدركه  البهائم.

و لذلك اختاره على ما يعلمون.

و مفعوله، محذوف. فاما أن يقدر للعلم به. والمعنى، وما يشعرون أن وبال‏خداعهم راجع الى أنفسهم. أو اطلاع اللّه عليهم. أو ينزل منزلة اللازم. ولا يقدر له مفعول. وحينئذ، اما أن لا يجعل، كناية عنه، متعلقا بمفعول خاص. أو يجعل.

و الثاني أبلغ  من الاول. والثالث أبلغ منه.

 (و في شرح الآيات الباهرة - في الحديث السابق-: عن موسى بن جعفر- عليهما السلام- ثم قال: وَما «يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ، وما يضرون بتلك الخديعة، الا أنفسهم. فان اللّه غني  عن نصرتهم. ولو لا إمهاله لهم ، لما قدروا على شي‏ء من فجورهم وطغيانهم. وما يشعرون أن الأمر كذلك. وان اللّه يطلع نبيه على نفاقهم وكفرهم وكذبهم. ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين. وذلك اللعن لا يفارقهم في الدنيا، يلعنهم خيار عباد اللّه. وفي الاخرة يبتلون بشدائد عذاب  اللّه.

و في كتاب ثواب الأعمال : بإسناده الى مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه- عليهما السلام-: ان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- سئل فما  النجاة غدا؟

قال: انما النجاة في أن لا تخادعوا اللّه، فيخدعكم. فانه من يخادع اللّه،يخدعه. ويخلع  منه الايمان. ونفسه يخدع لو يشعر.

قيل له: وكيف  يخادع اللّه؟

قال: يعمل ما أمره اللّه- عز وجل- ثم يريد به غيره. فاتقوا اللّه والرياء. فانه شرك باللّه.

و في مصباح الشريعة : قال الصادق- عليه السلام-: واعلم! انك لا تقدر على إخفاء شي‏ء من باطنك عليه . وتصير مخدوعا بنفسك. قال اللّه تعالى:

يُخادِعُونَ اللَّهَ ورسوله  وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ .

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: جملة مستأنفة، لبيان الموجب لخداعهم، وما هم فيه من النفاق. ويحتمل أن يكون مقدرة، لعدم شعورهم.

و قرئ مرض، بسكون الراء. وهو صفة توجب وقوع الخلل، في الافعال الصادرة، عن موضع تلك الصفة. ويمكن اتصاف القلب به. وذلك لأن الإنسان إذا صار مبتليا بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك، صار سببا لتغير مزاج القلب وتألمه. واتصاف قلوب المنافقين، بهذا التغير ، غير معلوم. فالمراد به هنا المعنى المجازي، الذي هو آفته، كسوء الاعتقاد والكفر، أو هيئة باعثة على ارتكاب الرذائل، كالغل والحسد والبغض، أو مانعة عن اكتساب الفضائل، كالضعف‏

أو الجبن والخور، لان قلوبهم كانت متصفة بهذه الاعراض كلها.

و في تقديم الخبر فائدتان: تخصيص المبتدأ النكرة وافادة الحصر، ادعاء.

فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: معطوف على الجملة السابقة.

و المعنى أنه لما كان في قلوبهم، مرض واستعداد للمرض، فزيد مرضهم.

و المراد «بالزيادة»، الختم على قلوبهم، حتى لا يخرج شي‏ء من هذه النقائص ولا يدخل شي‏ء ممّا لها، من النقائض. وانما أتى بالجملة الفعلية، في المعطوف، دون المعطوف عليه، لتجدد ذلك التزايد، يوما فيوما. بخلاف أصل المرض. فانه كان ثابتا مستقرا في قلوبهم.

و يمكن أن يراد «بالزيادة»، زيادته بحسب زيادة التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر. فحينئذ يكون اسناد الزيادة الى اللّه، من حيث أنه مسبب من فعله أو دعائية. والمتعين حينئذ، هو المعنى الاول.

و «الزيادة» يجي‏ء لازما ومتعديا الى مفعولين، كما في الاية أيضا. فحينئذ يكون مفعوله الثاني، «مرضا»، أو محذوفا، أي: فزادهم اللّه مرضهم. وقيل:

الاول محذوف. وهو تكلف.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: قال البيضاوي : أي مؤلم. يقال: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع . وصف به العذاب للمبالغة، كقوله: تحية بينهم، ضرب وجيع ورد بأن: فعيل بمعنى مفعل. اسم فاعل غير ثابت، على ما سيجي‏ء في قوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ  فهو بمعنى المؤلم، اسم مفعول، كوجع فهو وجيع بمعنى الموجع. وانما أسند الى العذاب، لأنه من ملابسات فاعله الذي هو المعذب‏كما أسند الربح الى التجارة في قوله تعالى  فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، لأنها من ملابسات التاجر. وفيه مبالغة وتنبيه على أن الألم، بلغ الغاية . بحيث عرض لصفة المعذب، كما عرض له. وعلى هذا يكون المجاز في الاسناد.

و لو جعل المؤلم  بمعنى ما يلابسه الألم، لأنهما متلاقيان في موصوف واحد فيكون المجاز في المفرد. لكن يفوت  المبالغة. ووجه أنه تعالى قال في حق المصرين على الكفر: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، ولم يذكر له سببا وفي حق المنافقين:

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ، وبين أن سببه الكذب، أن الكافرين المصرين هم المطرودون. فينبغي أن يكون عذابهم عظيما. لكنهم لا يجدون شدة ألمه، لعدم صفاء قلوبهم، كحال العضو الميت أو المفلوج، إذا وقع عليه القطع.

و المنافقين لثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء ادراكهم في الجملة، يجدون شدة الألم، فيكون عذابهم مؤلما مسببا عن الكذب ولواحقه. بخلاف عذاب المصرين.

فانه ذاتي لهم. لا لأمر عارض.

و في تقديم الخبر هاهنا- أيضا- فائدتان: زيادة تخصيص المبتدأ النكرة وافادة الحصر، ادعاء.

بِما كانُوا يَكْذِبُونَ : «قراءة عاصم وحمزة والكسائي» .

 «و الكذب»، الاخبار عن الشي‏ء، بغير ما هو عليه.

و قرئ يكذبون، من كذبه، نقيض صدقه، أو من كذب الذي هو للمبالغة والتكثير أو من كذب الوحشي، إذا جرى شوطا. ووقف لينظر ما ورائه. فان المنافق،متحير متردد.

 «و الباء» للسببية، أو البدلية المتعلقة بالظرف، في قوله لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» و«ما» مصدرية. ويحتمل الموصولية والموصوفية.

و استدل الذاهبون الى قبح الكذب، مطلقا، بالاية، بأنه جعل عذابهم الأليم سببا لكذبهم. وتخصيصه بالذكر، من بين جهات استحقاقهم إياها، مع كثرتها، مبالغة في قبح الكذب، لينزجر السامعون عنه. وقيل: نمنع قبحه، مطلقا. فانه قد يمكن أن يتضمن عصمة دم مسلم، بل نبي ولا يتيسر التعريض، فيحسن.

ورد، بأن الحسن العارضي، لا ينفي القبح الذاتي، وهو المراد بالقبح، هاهنا. فعلى هذا يحرم الكذب. سواء تعلق به غرض، أو لم يتعلق. أما إذا لم يتعلق فظاهر. واما إذا تعلق فلأن في المعاريض لمندوحة عنه والتعريض، ليس بكذب إذا كان المعرض به مطابقا للواقع. فان مرجع الصدق والكذب، الى المراد من الكلام الخبري، لا الى مطلق مدلوله. وما ينسب الى ابراهيم من الكذبات الثلاث:

من قوله: إِنِّي سَقِيمٌ ، سأسقم. وقد علمه: بأمارة من النجوم. أو اني سقيم الآن بسبب غيظي وحنقي، من اتخاذكم الآلهة.

و قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ . والمراد به أنه إذا لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه وغيره فكيف يصلح إلها. أو أن تعظيمه كان هو الحامل له على كسرها.

و قوله لملك الشام: «ان سارة اختي». ومراده الاخوة في الدين.

و قيل كذباته الثلاث ، قوله في الكواكب: هذا رَبِّي ، ثلاث مرات.و قصد به الحكاية أو الفرض ليرشدهم، الى عدم صلاحية الألوهية، فمحمول على التعريض. ولكن لما كان صورته، صورة الكذب، سمي به. ووجه إيراد كان الدالة على المضي. و«يقولون» و«يخادعون» و«يخدعون»، للحال.

و وقوع كلام المنافقين، قبلها، ليس بمعلوم أن كذبهم، سبب لثبوت العذاب لهم في الاستقبال أو للحكم به في الحال، فينبغي أن يكون متقدما على ما هو سبب له.

فالمراد بالمضي، هذا التقدم، سواء كان بالزمان، أو بالذات.

قال بعض الفضلاء: وإذ قد أوقعنا المباحث اللفظية، في وادي التفرقة، فلا بد أن نستريح باستشمام روائح رياض الجمعية. فنقول:

و «من الناس»، الناسي اعترافهم، في معهد أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ، بربوبية ربهم، بتجلّيه العلمي- أولا- بصور أعيانهم الثابتة على نفسه، وتجلّيه الوجودي- ثانيا- بصور أعيانهم الخارجية، وتربيته  إياهم، طورا بعد طور ومرتبة بعد مرتبة، الى أن وصلوا الى هذه النشأة الجسمانية العنصرية، «من يقولون» بألسنة أقوالهم «آمنا باللّه» أحدية جمع الأسماء الالهية السارية، بالكل في الكل. فلا فاعل، بل لا موجود في الوجود، الا هو. فهو الفاعل في كل عين، إذ لا فعل للعين. بل الفعل له. ولكن فيها «و باليوم الاخر»، أي بتجلّيه النوري الوجودي آخرا بالاسم المجازي لجزاء الأعمال. فلا مجازي الا هو. فهو العامل وهو المجازي على العمل فهم وان كانوا مؤمنين بالقول، صورة، فما هم بمؤمنين بالحال حقيقة. إذ حقيقة الايمان باللّه سبحانه، يقتضي أن لا يسند الآثار، الا اليه. بل لا يرى في الوجود، الا هو. فحيث قالوا «آمنا»، وما قالوا بتجلي  الحق في صورة، منوطة باسمه‏المؤمن، اشتقوا الايمان، لأنفسهم. وهذا شركه  في التوحيد. يُخادِعُونَ اللَّهَ أي يظهرون بألسنة أقوالهم الظاهرة، ما لم يتحققوا به في بواطنهم، وهو الايمان باللّه.

فلا يوافق ظاهرهم، باطنهم، وكذلك يخادعون الذين آمنوا، أي: الذين تجلى عليهم بالاسم المؤمن. فسوى هذا التجلي في ظاهرهم وباطنهم. فآمنوا صورة وحقيقة وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. إذ الأشياء في حقيقة الوحدة الجمعية إلاهية، متحدة، بعضها مع بعض. ومع تلك الحقيقة، ايضا، فكل شي‏ء نفس الأشياء الاخر. ونفس تلك الحقيقة، ايضا من هذه الحيثية. «و» لكنهم «ما يشعرون» بذلك الاتحاد، لاغتشاء مشاعرهم، بصورة التعينات الحجابية والتعددات المظهرية، في قلوبهم التي من صفتها، صحة التقلب مع الشؤون الالهية، بحيث لا يحجبها شأنا  من شهوده تعالى «مرض»  يضاد هذه الصحة. ويمنعها عن الظهور.

فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً على مرض، بازدياد أضداد تلك الصحة. وتتابعها. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بسبب كذبهم في قولهم «آمنا» وتكذيبهم إياه، بحسب حالهم.

و الغرض من نقل أمثال هذه المباحث، الاطلاع على الآراء الكاسدة والاهواء المضلة. فان الحق يعرف بضده.

و «في شرح الآيات الباهرة»:  وقد جاء في هذه الاية، منقبة عظيمة وفضيلة جسيمة، لمولانا أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- في تفسير الامام العسكري- عليه السلام- : قال: قال موسى بن جعفر عليهما السلام: ان رسول اللّه- صلى اللّه‏عليه وآله- لما اعتذر اليه هؤلاء المنافقون . بما اعتذروا وتكرم عليهم، بأن قبل ظواهرهم. و«أما»  بواطنهم الى ربهم. لكن جبرئيل- عليه السلام- أتاه فقال:

 [يا محمد]  ان العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: أخرج هؤلاء  المردة الذين اتصل بك عنهم، في علي ونكثهم لبيعته. وتوطينهم نفوسهم على مخالفته  «ما اتصل حتى»  ليظهر من عجائب ما أكرمه اللّه به، من طاعة  الأرض والجبال والسماء له وسائر ما خلق اللّه، لما أوقفه موقفك، واقامه مقامك. ليعلموا أن ولي اللّه علي غني عنهم، وأنه لا يكف عنهم، انتقامه ، الا بأمر اللّه الذي له فيه وفيهم التدبير. الذي هو بالغه والحكمة التي هو عامل بها. وممض لما يوجبها.

فأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- الجماعة [من الذين اتصل به عنهم ما اتصل في أمر علي- عليه السلام- والمواطاة على مخالفته‏]  بالخروج.

 «ثم قال»  لعلي- عليه السلام- لما استقر عند سفح بعض جبال المدينة:

يا علي! ان اللّه- عز وجل- أمر هؤلاء بنصرتك ومساعدتك والمواظبة على خدمتك والجد في طاعتك. فان أطاعوك، فهو خير لهم. يصيرون في جنان اللّه، ملوكاخالدين ناعمين. وان خالفوك، فهو شر لهم. يصيرون في جهنم خالدين معذبين.

ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- لتلك الجماعة: اعلموا! انكم ان أطعتم عليا، سعدتم. وان خالفتموه، شقيتم. وأغناه اللّه عنكم بمن سيريكموه .

ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: يا علي سل ربك بجاه محمد وآله الطيبين الذين أنت بعد محمد، سيدهم أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت.

فسأل ربه . فانقلبت الجبال فضة. ونادته الجبال: يا علي! يا وصي رسول رب العالمين! ان اللّه قد أعدنا لك. فان أردت إنفاقنا في أمرك. فمتى دعوتنا، أجبناك، لتمضي فينا حكمك. وتنفذ  فينا قضاؤك.

ثم انقلبت  ذهبا  كلها. فقالت مثل مقالة الفضة.

ثم انقلبت مسكا وعنبرا وعبيرا وجواهر ويواقيت.

و كل شي‏ء ينقلب «منها، يناديه» : يا أبا الحسن! يا أخا رسول اللّه! نحن المسخرات لك. ادعنا متى شئت، لتنفقنا، فيما شئت، بحبك، ونتحول لك الى ما شئت.

ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: يا علي! سل اللّه بمحمد وآله الطيبين الذين أنت سيدهم  أن يقلب لك أشجارها، رجالا شاكين الأسلحة، وصخورهاأسودا ونمورا وأفاعي.

فدعى اللّه علي- عليه السلام- بذلك. فامتلأت الجبال والهضبات وقرار الأرض، من الرجال الشاكين  الأسلحة. الذين لا يفي  الواحد منهم، عشرة آلاف من الناس المعنودين .

و من الأسود والنمور والأفاعي  وكل ينادي: يا علي! يا وصي رسول اللّه ها  نحن قد سخرنا اللّه لك. وأمرنا بإجابتك، كلما دعوتنا الى اصطلام كل من سلطتنا  عليه. فسمنا ما شئت. وادعنا ، نجبك وأمرنا ، نطعك.

يا علي: يا وصي رسول اللّه! ان لك عند اللّه من الشأن، ان سألت اللّه أن يصير لك أطراف الأرض وجوانبها هذه، صرة واحدة، كصرة كيس، لفعل. أو يحط لك السماء، الى الأرض، لفعل. ويرفع لك الأرض الى السماء، لفعل. أو يقلب لك ما في بحارها، أجاجا ماء عذبا، أو زئبقا أو بانا، أو ما شئت من أنواع الاشربة والادهان، لفعل. ولو شئت أن يجمد البحار ويجعل سائر الأرض، مثل البحار، لفعل. ولا يحزنك تمرد هؤلاء المتمردين وخلاف هؤلاء المخالفين. فكأنهم بالدنيا وقد  انقضت عنهم وكأن لم يكونوا فيها. وكأنهم بالاخرة إذا وردوا عليها ،لم يزالوا  فيها.

يا علي! ان الذي  أمهلهم مع كفرهم وفسقهم في تمردهم، عن طاعتك، هو الذي أمهل فرعون ذا الأوتاد ونمرود وكنعان  ومن ادعى الالهية من ذوي الطغيان. وأطغى الطغاة، إبليس، رأس الضلالات. وما خلقت أنت ولاهم لدار الفناء، ولكن  خلقتم لدار البقاء. ولكنكم تنقلون من دار الى دار. ولا حاجة لربك الى من يسوسهم ويرعاهم. ولكنه أراد تشريفك عليهم وابانتك بالفضل فيهم .

و لو شاء لهداهم أجمعين .

قال: فمرضت قلوب القوم، لما شاهدوا من ذلك، مضافا الى ما كان في قلوبهم من مرض . فقال اللّه عند ذلك: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ».

 

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ: معطوف على «يكذبون»، أو على «يقول آمنا». ورجح الأول بقربه وبافادته تسبب الفساد. فيدل على وجوب الاحتراز عنه، كالكذب.

و فيه بحث، لأنه يفيد تسبب هذا القول منهم، في جواب «لا تفسدوا» للعذاب. لا تسبب الفساد له. والثاني يكون الآيات، حينئذ، على نمط تعديدقبائحهم وبافادتها، اتصافهم بكل من تلك الأوصاف، استقلالا. وبدلالتها على أن لحوق العذاب الأليم، بسبب كذبهم. الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم. فما ظنك بسائرها.

و يحتمل أن تكون معطوفة على قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ- الى آخره. لكنه بعيد، لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم. إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها، اليهم.

و يخطر بالبال، احتمال أن يكون معطوفا على قوله يُخادِعُونَ اللَّهَ- الى آخره-.

و «إذا»، ظرف زمان. ويلزمها معنى الشرط، غالبا. ولا يكون الا في الأمر المحقق، أو المرجح وقوعه. ويختص بالدخول على الجملة الفعلية. ويكون الفعل بعدها ماضيا كثيرا ومضارعا دون ذلك.

و «الفساد»، خروج الشي‏ء عن كونه منتفعا به. والصلاح، ضده.

و كان من جملة فسادهم في الأرض، هيج الحروب والفتن، بمخادعة المسلمين ومعاونة الكفار عليهم، بإفشاء أسرارهم اليهم.

و منها: الإخلال بالشرائع التي برعايتها، ينتظم العالم، بإظهار المعاصي.

و منها: الدعوة في السر الى تكذيب المسلمين. وجحد الإسلام. والغاء السنة.

و القائل، هو اللّه سبحانه، بلسان الرسول. أو الرسول. أو بعض المؤمنين.

قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ : جواب «إذا». ورد للناصح، على سبيل المبالغة. لأن «انما» هي كلمة «ان» التي لاثبات المسند، للمسند اليه.

ثم اتصلت بها، «ما» الكافة، لزيادة التأكيد. فقصدوا بها، قصر ما دخلته على ما بعده. فهذا من باب قصر المسند اليه، على المسند. لكن قصر افراد. لأنهم لما سمعوا قول المسلمين لهم: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، توهموا أنهم يجعلونهم                      

                   تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب،

 مصلحين، تارة ومفسدين أخرى، لاستبعادهم أن يجعلوهم مفسدين، في جميع الأحوال.

فأجابوا بأنهم مقصرون على الإصلاح. لا يتجاوزونه الى الإفساد. فاصلاحهم غير مشوب بإفساد.

و كلمة «انما» دالة على أن ذلك أمر مكشوف، لا ينبغي أن يشك فيه. فان الشرط فيها، أن يدخل على حكم، يكون بيّنا في نفس الأمر. أو بحسب الادعاء.

و انما قالوا ذلك، لأنهم ممن زين له سوء عمله، فرآه حسنا.

و روي «في تفسير أبي محمد العسكري- عليه السلام-» :  عن العالم موسى [بن جعفر] - عليه السلام- في تفسير الاية- «إذا قيل» لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بإظهار نكث البيعة، لعباد اللّه المستضعفين.

فتشوشون عليهم دينهم. وتحيرونهم في مذاهبهم. قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ»، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد. ونحن في الدين، متحيرون. فنحن نرضى في الظاهر محمدا، بإظهار قبول دينه وشريعته ونفضي في الباطن الى شهواتنا.

 «فنمتنع ونتركه»  ونعتق أنفسنا من رق محمد ونفكها من طاعة ابن عمه علي، لكي لا  نذل  في الدنيا، كنا  قد توجهنا عنده. وان اضمحل أمره: كنا  قد

سلمنا على  أعدائه.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ :

ألا وأما، مركبتان من همزة الاستفهام وحرف النفي، لاعطاء معنى التنبيه، على تحقق ما بعدها. فان الاستفهام، إذا كان للإنكار ودخل على النفي، أفاد تحقيقا، لأن نفي النفي اثبات وتحقيق، كقوله: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ.

و الأكثرون على أنهما، حرفان موضوعان لذلك المعنى، لا تركيب فيهما.

و يدخلان على الجملتين. ويشاركهما، في الدلالة على معنى التنبيه «الهاء».

لكنها تختص بالدخول على أسماء الاشارة والضمائر غالبا.

و لما بالغ المنافقون، في اظهار الإصلاح، بولغ في افسادهم، من جهات متعددة الاستئناف. فانه يقصد به زيادة تمكّن الحكم، في ذهن السامع، لوروده عليه، بعد  السؤال والطلب وما في كل واحدة من كلمتي «ألا» و«ان»، من تأكيد الحكم وتحقيقه وتعريف الخبر المفيد وحصر المسند، على المسند اليه، قصر قلب وتوسيط الفعل المؤكد لهذا الحصر.

و قوله «لا يشعرون»، لدلالته على أن كونهم مفسدين، قد ظهر ظهور المحسوس.

لكن لا حس لهم، ليدركوه.

و قيل المبالغة في تعريف المفسدين، على قياس ما مر في «المفلحين». انه ان حصلت صفة المفسدين وتحققوا وتصوروا، بصورتهم الحقيقية، فالمنافقون هم ، هم لا يعدون تلك الحقيقة، فيكون الفصل مؤكدا لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في افادة المطلوب.و روي في تفسير «أبي محمد العسكري- عليه السلام-  عن موسى بن جعفر، في تفسير»  تلك الاية: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ بما يغفلون أمورا لنفسهم .

لأن اللّه يعرّف نبيهم ، نفاقهم. فهو يلعنهم. ويأمر المسلمين بلعنهم. ولا يثق  بهم- أيضا - أعداء المؤمنين. لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم- أيضا - كما ينافقون أصحاب محمد- صلى اللّه عليه وآله وسلم- فلا يرتفع  لهم، عندهم منزلة. ولا يحلّون  عندهم محل أهل الثقة .

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا: هذا، من تمام النصح والإرشاد.

فان الايمان مجموع أمرين، الاعراض عما لا ينبغي. وهو المقصود بقول لا تُفْسِدُوا. والإتيان بما ينبغي. وهو المطلوب بقوله «آمنوا».

و أمرهم بالايمان بعد نهيهم عن الإفساد: لأن التحلية، لا يتيسر الا بعد التخليّة.

كَما آمَنَ النَّاسُ: «ما» في «كما»، اما كافة، كما في قوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ، أو مصدرية كما في قوله تعالى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ .فان كانت كافة للكفّ عن العمل، مصححة لدخولها على الجملة، كان التشبيه بين مضموني الجملتين. أي، حققوا ايمانكم، كما حقق الناس ايمانهم. وان كانت مصدرية، فالمعنى، آمنوا ايمانا كايمانهم.

و على التقديرين، قوله كَما آمَنَ النَّاسُ في موضع النصب، على المصدرية.

و «اللام»، للعهد. أي، كما آمن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- ومن معه. وهم ناس معهودون، على الإطلاق، عندهم. أو من آمن من أهل بلدتهم، كابن سلام وأصحابه. وهم ناس معهودون عندهم. أو للجنس. والمراد به، الكاملون في الانسانية، العاملون بقضية العقل. فان اسم الجنس، كما يستعمل لمسماه ، مطلقا، يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه. ولذلك يسلب عن غيره. فيقال: زيد ليس بإنسان. وقد جمع الاستعمالين [في‏] قول الشاعر:

         إذا الناس ناس و            الزمان زمان‏

 واستدل به على مطلبين: أحدهما أن توبة الزنديق مقبولة. وثانيهما أن الإقرار باللسان، ايمان.

تقرير الأول: ان الكافرين مأمورون بالايمان. فلو لم يكن توبتهم مقبولة، لم يكونوا مكلفين. ضرورة، ان كونهم مكلفين مع عدم قبول توبتهم، جبر. وهذا انما يتم لو كان دعوة بعض المؤمنين، الى الايمان، تكليفا. ولو سلم، فإنما يدل على ذلك لو كان قولهم ذلك، بطريق دعوة والحق، أن توبة الزنديق، عن غير فطرة، مقبولة، مطلقا ، وعن الفطرة، غير مقبولة، ظاهرا. لكن لا بدلالة الاية، بل بدلالة الآيات الاخر والأحاديث المروية.

و تقرير الثاني: انه لو لم يكن ايمانا، لم يفد التقييد بقوله كَما آمَنَ النَّاسُ.و التالي باطل. فالمقدم مثله. والملازمة ممنوعة. والمستند أن ذلك مبني على أن يكون المراد من الناس، المنافقين المذكورين سابقا وليس كذلك. بل المراد، المؤمنون.

و فائدة التقييد، التحريص. ونظيره قوله: أكرم أخاك، كما أكرمه عمرو.

 (و بعض استدل من قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ على أن الإقرار فقط، ليس بإيمان. وهو أيضا، باطل. لجواز أن يكون قولهم «آمنا» لأخبار الايمان، لا إنشائه) .

قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ:

 «الهمزة» فيه للإنكار، مجازا، إذ الأصل فيها  الاستفهام. استعملت فيه لعلاقة عدم اعتقاد الثبوت فيهما. وإذا كانت للاستفهام، يطلب بها التصور والتصديق، كما يطلب بهل، التصديق وبباقي أدوات، الاستفهام التصور. والحق أن الكل، لطلب التصور، في المآل. ومعنى الإنكار فيه، أن ذلك لا يكون أصلا.

و «اللام» للعهد، اشارة الى «الناس» المذكور سابقا. أو الجنس. وهم مندرجون تحت مفهومه، على زعمهم وتسفيههم. اما لجعل الايمان سفها، أو لجعل المؤمنين المشهورين به. أو ليجعلونهم مشهورين به. أو لاعتقادهم فساد رأيهم.

أو لتحقير شأنهم. فان أكثر المؤمنين كانوا فقراء. ومنهم موالي، كصهيب وبلال.

أو للتجلد وعدم المبالاة لهم، بمن آمن منهم، ان فسر الناس بعبد اللّه بن سلام وأشياعه.

و «السفه»، خفة العقل وقلته. ويقابله الحلم، بالكسر. وهو الأناءة . وكأن هذا الكلام مقولا فيما بينهم، لا في وجوه المؤمنين. لأنهم كانوا منافقين، يقولون‏بأفواههم ما ليس في قلوبهم. فأخبر سبحانه بذلك، نبيه. ورد عليهم أبلغ رد.

و قال:

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ :

تفصيل هذه الاية «بلا يعلمون» والتي قبلها «بلا يشعرون». لأنه أكثر طباقا لذكر السفه. ولأن الوقوف على أمر الدين والتميز بين الحق والباطل، مما يفتقر الى نظر وتفكر. وأما النفاق وما فيه من النقص والفساد، فمما  يدرك بأدنى تفطن وتأمل، فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم.

و روي في تفسير تلك الاية (في تفسير أبي محمد العسكري عليه السلام)   عن موسى- عليه السلام: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة، قال لهم خيار  المؤمنين كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار: «آمنوا» برسول اللّه وعلي - عليهما السلام- الذي أوقفه موقفه. وأقامه مقامه. وأناط  مصالح الدين والدنيا، كلها به. و«آمنوا» بهذا النبي. وسلموا لهذا الامام. وسلموا له ظاهرة  وباطنة، كَما آمَنَ النَّاسُ المؤمنون ، قالوا في الجواب، (لمن يفيضون اليهم  لا لهؤلاء المؤمنين. فإنهم‏لا يجرءون على مكاشفتهم بهذا الجواب)  ولكنهم يذكرون لمن يفيضون اليهم  من أهليهم  الذين يثقون بهم [من المنافقين ومن المستضعفين، أو المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم،]  يقولون لهم: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، يعنون سلمان وأصحابه، لما أعطوا عليا خالص دينهم وودهم. ومحض طاعتهم. وكشفوا رؤوسهم لموالاة  أوليائه ومعاداة أعدائه. (حتى ان اضمحل أمر محمد، طحطحهم أعداؤه وأهلكهم بسائر الملوك والمخالفين لمحمد، أي: فهم بهذا التعرض، لأعداء محمد جاهلون سفهاء. قال اللّه تعالى: ألا انهم هم السفهاء الإخفاء العقول والآراء.)

 

 (فرد اللّه عليهم)  «الذين لم ينظروا في أمر محمد» ، حق النظر، فيعرفوا نبوته ويعرفوا به صحة ما ناطه بعلي- عليه السلام- من أمر الدين والدنيا، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج اللّه جاهلين. وصاروا خائفين وجلين من محمد وذريته  (و من مخالفيهم، لا يؤمنون انهم يغلبون  فيهلكون معه ، فهم السفهاء حيث لا يسلم لهم بنفاقهم هذا جنبة  جنبة محمد والمؤمنين ولا جنبة اليهود وسائر الكافرين‏لأنهم  يظهرون لمحمد- صلى اللّه عليه وآله- من موالاته وموالاة أخيه علي ومعاداة أعدائهم اليهود والنصارى  والنواصب كما  يظهرون لهم، من معاداة محمد وعلي- صلى اللّه عليهما وآلهما- وموالاة أعدائهم. فهم يقدّرون  أن نفاقهم معهم كنفاقهم مع محمد وعلي- عليهما السلام-.)  وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كذلك وأن اللّه يطلّع نبيه- صلى اللّه عليه وآله- على أسرارهم. فيخسئهم  ويلعنهم ويسفههم .

قال بعض الفضلاء: وإذا سمعت شطرا من الأحكام اللفظية، فاسمع نبذا من المعاني البطنية. فنقول:

 «و إذا قيل» لهؤلاء المتوسمين بالايمان الرسمي، المدعين التوحيد الحقيقي لا تفسدوا في أرض  استعدادكم، لذلك التوحيد. ولا تبذروا فيها، بذر فساد الشرك، باضافة الأفعال الى أنفسكم. قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ لها، بارتكاب الأعمال الصالحة واكتساب الأفعال الحسنة. ليترتب عليها الأجزية  الأخروية، من الجنات وما فيها، من أنواع النعيم المقيم. فقيل في ردهم: ألا انهم هم المفسدون لها. فان ترتب تلك الأجزية، لا يتوقف الا على نفس الأعمال، لا على اضافتهاالى أنفسهم. بل بهذه الاضافة، يبقون محرومين عن التوحيد. ولا يتحققون به أصلا. وكيف يتحققون وهم لا يصلون الى توحيد الأفعال، فكيف بتوحيد الصفات والذات. فلا يحظون بما يترتب عليه، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكنهم لا يشعرون بذلك الإفساد. لأنه من قبيل الشرك الخفي، الذي هو أخفى من دبيب النمل، وإذا قيل لهم آمنوا ايمانا حقيقيا كَما آمَنَ النَّاسُ المتحققون بحقائق، الحقيقة الانسانية الكمالية، الباذلون وجودهم بالفناء في اللّه.

قالُوا: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ فان من السفه، بذل الوجود الذي، هو رأس مال الحظوظ  العاجلة والاجلة. فقيل في ردهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ. فان من يبذل وجوده الفاني، يبقى ببقاء الحق سبحانه. وأين الوجود الفاني، من البقاء بالحق. ولكنهم لا يعلمون ذلك. لأن هذا العلم، لا يحصل بالحجة والبرهان. بل بالذوق والوجدان.

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا:

و قرئ «و لاقوا».

هذه الجملة، مع ما عطفت عليها، في حكم كلام واحد، مساقة لبيان معاملتهم مع المؤمنين وأهل دينهم. وتنافي قوليهم لهما، بخلاف صدر قصتهم. فانه مسوق ، لبيان أصل نفاقهم، من غير تعرض، للقائهم المؤمنين.

و قولهم معهم، ولخلوهم مع شياطينهم، وقولهم لهم، فيما يتوهم في أجزاء الشرطية الأولى، من التكرر، مضمحل، بالكلية.

تقول: لقيته ولاقيته، إذا استقبلته، قريبا منه. ومنه، ألقيته، إذا طرحته. لأنك بطرحه، جعلته بحيث يلقى.وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ:

من خلوت بفلان واليه، إذا انفردت معه، أي: إذا انفردوا مع شياطينهم. أو من خلاك ذم، أي: عداك ومضى عنك. ومنه، القرون الخالية، أي: الماضية.

أي، إذا مضوا عن المؤمنين، الى شياطينهم.

و استعمال «خلا»، «بالي»، على هذين المعنيين ظاهر. أو، خلوت به، إذا سخرت منه . وحينئذ يحتاج في استعماله «بالي» الى تضمين معنى الإنهاء، أي: إذا سخروا من المؤمنين، منهين  هذه السخرية، الى شياطينهم. وهذا كما تقول: أحمد اليك فلانا، أي: أحمده منهيا ذلك الحمد، اليك.

و «شياطينهم»، أصحابهم. الذين ماثلوا الشياطين، في تمردهم، منافقين كانوا، أو مشركين. فيكون من قبيل الاستعارة. وجعل سيبويه، تارة، نونه أصلية، على أنه من شطن، إذا بعد. فهو بعيد عن الصلاح. ويشهد له قولهم: «تشيطن».

و أخرى زائدة، على أنه من «شاط»، إذا بطل. ومن أسمائه الباطل.

قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ: في عدم الايمان بمحمد- صلى اللّه عليه وآله-.

و خاطبوا المؤمنين المنكرين بالفعلية، مجردة عن التأكيد، وشياطينهم الذين لا ينكرون ، بالاسمية، مؤكدة. والقياس العكس. لأنهم كانوا مع المؤمنين، بصدد  الاخبار، بحدوث الايمان منهم.

و تركوا التأكيد، لعدم الباعث عليه ، من بواطنهم، من صدق رغبة  ووفوراعتقاد، أو لعدم رواجه عنهم، عند المخاطبين. الذين هم ارباب فهم وكياسة، بلفظ التأكيد. بخلاف مخاطبتهم، مع شياطينهم. فإنهم فيما أخبروهم  به، على صدق رغبة ووفور نشاط. وهو رائج عنهم، متقبل منهم، على لفظ التأكيد.

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ :

تأكيد لسابقه، إذ معنى إِنَّا مَعَكُمْ، هو الثبات على اليهودية.

و قوله إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ وان لم يكن بظاهره، تأكيدا لهذا المعنى، لكن له لازم. وهو أنه، رد ونفي للإسلام، يؤكده. لأن دفع نقيض الشي‏ء، تأكيد لثباته.

أو بدل. وتقريره، أنه لما كان قصدهم الى اظهار تصلبهم  في دينهم، وكان في الكلام الأول، قصور عن افادته، إذ كانوا يوافقون المؤمنين، في بعض الأحوال فاستأنفوا القصد، الى ذلك، بأنهم يعظمون كفرهم، بتحقير الإسلام وأهله. فهم أرسخ قدما من شياطينهم.

أو استئناف كأن الشياطين قالوا: ان صح ذلك، فما بالكم توافقون المؤمنين.

فأجابوا بذلك. وهو، أوجه لزيادة الفائدة، وقوة المحرك للسؤال.

و هذه الوجوه الثلاثة، بيان لترك العاطف في كلامهم. وأما تركه في حكايته فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد .

و «الاستهزاء»، السخرية والاستخفاف. يقال: هزأت واستهزأت، بمعنى.

كأجبت واستجبت.

و أصله، الخفة، من الهزء- بالفتح. وهو القتل السريع. وهزأ يهزأ- بالفتح فيهما- مات على المكان. وناقته تهزأ به، أي، تسرع وتخف.

 (و في مجمع البيان : وروى عن أبي جعفر الباقر- عليه السلام-: انهم قالوا:

إِنَّا مَعَكُمْ، أي، على دينكم. إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، أي، نستهزئ بأصحاب محمد ونسخر بهم، في قولنا «آمنا») .

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ:

المراد باستهزاء اللّه، مجازاته إياهم، على استهزائهم بالمؤمنين، لما بين الفعل وجزائه، ملابسة قوية، ونوع سببية، مع المشاكلة المحسنة، من مقابلة اللفظ باللفظ والمماثلة في القدر. فيكون من قبيل المجاز المرسل.

و قد روى رئيس المحدثين، في كتاب التوحيد ، بإسناده عن علي بن الحسين ابن فضال، عن أبيه، عن الرضا، علي بن موسى- عليهما السلام- قال: سألته عن قول اللّه- عز وجل-: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ، وعن قوله- عز وجل-: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وعن قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، وعن قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ‏

.

فقال: ان اللّه- تبارك وتعالى- لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه- عز وجل- يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

 (و في عيون الأخبار ، بإسناده عن الحسن بن علي بن فضال، قال: سألت الرضا- عليه السلام- الى أن قال: فقال: ان اللّه تعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع. لكنه تعالى يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوّا كبيرا)  انتهى.أو انزال الهوان والحقارة بهم، لأنه الغرض من  الاستهزاء. فهذا، أيضا، من المجاز المرسل، لعلاقة السببية في التصور والمسببية في الوجود. وفي هذا التوجيه، تنبيه على أن مذهبهم، حقيق بأن يسخر منه ويستهزئ به، لأجله، أو معاملته سبحانه، معاملة المستهزأ بمن يستهزئ به. واستعمل لفظ المشبه به، في المشبه، فيكون استعارة. وهي، في الدنيا، فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة في النعمة، مع تماديهم في الطغيان، وفي الآخرة، فبأن يفتح وهم في النار، باب الى الجنة، فيسرعون اليه. فإذا قربوا منه، سدّ عليهم.

أو إرجاع وبال الاستهزاء اليهم، فيكون كالمستهزئ بهم. فيكون استعارة، أيضا.

أو لازم معناه. وهي اظهار خفة عقل المستهزأ به وقلته. فيكون سبحانه، مستهزئ بهم، في عين استهزائهم بالمؤمنين. فان من استهزائهم بهم، مع ظهور أمرهم يظهر خفة عقولهم وقلتها. وهو استئناف. فإنهم لما بالغوا في استهزاء المؤمنين، مبالغة تامة، ظهر بها، شناعة ما ارتكبوه. وتعاظمه على الأسماع، على وجه، يحرك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم، ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟

و كيف معاملة اللّه والمؤمنين إياهم؟

و في تصدير الاستئناف بذكر اللّه، دلالة، أولا، على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ. الذي لا اعتداد معه، باستهزائهم. وذلك لصدوره، عمن يضمحل علمهم وقدرتهم، في جنب علمه وقدرته. وثانيا، على أنه تعالى، يكفي مؤنة عباده المؤمنين وينتقم  لهم، ولا يحوجهم الى معارضة المنافقين، تعظيما لشأنهم. وانما قال: «يستهزئ». ولم يوافق لقولهم، ليفيد حدوث الاستهزاءو تجدده وقتا بعد وقت.

أما افادته الحدوث، فلكونه فعلا. وأما افادة تجدده وقتا بعد وقت، فلأن المضارع لما كان دالّا على الزمان المستقبل الذي يحدث شيئا بعد شي‏ء، على الاستمرار، ناسب  أن يقصد به، إذا وقع موقع غيره أن معنى مصدره المقارن لذلك الزمان، يحدث مستمرا استمرارا تجدديا لا ثبوتيا. كما في الجملة الاسمية.

و انما أفيد ذلك، ليكون على طبق نكايات اللّه فيهم وبلاياه النازلة. أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؟

وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ : من مدّ الجيش وأمدّه، إذا زاده وقوّاه. ومددت السراج والأرض، إذا استصلحتهما، بالزيت والسماد. ومنه مدّ الدوات وأمدّها، إذا أراد أن يصلحها. لا من مد العمر، بمعنى الاملاء والامهال.

فانه يعدى باللام، كأملى له. والحذف والإيصال، خلاف الأصل. فلا يصار اليه الا بدليل. ويؤيده قراءة ابن كثير. ويمدهم- بضم الياء- من الامداد، بمعنى إعطاء المدد. وليس من المد في العمر والامهال في شي‏ء.

و الأصل في الطغيان- بالضم والكسر، كلقيان ولقيان- تجاوز الشي‏ء عن مكانه.

و المراد، تجاوز الحد في الكفر والغلوّ في العصيان. والمراد، زيادة طغيانهم، بسبب تمكين الشيطان، من اغوائهم.

أو أنه لما منعهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم وسدهم  طرق التوفيق، على أنفسهم، فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة، تزايد قلوب المؤمنين، انشراحا ونورا.

فاسناد الفعل الى اللّه، اسناد الى المسبب. واضافة الطغيان اليهم، لئلا يتوهم‏أن اسناد الفعل اليه، على الحقيقة. والعمه. قيل: مثل العمى. الا أن العمى، عام في البصر والرأي. والعمه في الرأي، خاصة. وقيل: العمى في العين والعمه في القلب، وهو التحير والتردد، لا يدري أين يتوجه. يقال: رجل عامه وعمه.

و أرض عمهاء. لا مارّ بها.

و لعل التخصيص، يكون «حيث يكون»  المقابلة.

و «في طغيانهم»، اما متعلق بيمدهم، وحينئذ يكون «يعمهون»، حالا من مفعول «يمدهم». أو فاعل «الطغيان». واما متعلق «بيعمهون»، قدم عليه، لرعاية الفاصلة. وحينئذ يتعين أن يكون حالا من الأول.

 (و في كتاب الاحتجاج ، للطبرسي- رحمه اللّه- عن أمير المؤمنين- عليه السلام- حديث طويل وفيه: ولو علم المنافقون- لعنهم اللّه- ما عليهم من ترك هذه الآيات التي، بينت لك تأويلها، لأسقطوها، مع ما أسقطوا منه. ولكن اللّه- تبارك اسمه- ماض حكمه، بإيجاب الحجة على خلقه. كما  قال : فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. أغشى أبصارهم. وجعل على قلوبهم، أكنة عن تأمل ذلك. فتركوه بحاله وحجبوا عن تأكيد الملتبس بابطاله. فالسعداء يتنبهون  عليه. والأشقياء يعمهون  عنه) .

قال بعض الفضلاء: وإذ قد وقع الفراغ، من حل ظاهر عباراته، فاسمع‏بطنا من بطون إشاراته. فنقول:

إذا لاقى المتوسمون بالايمان الرسمي، الذين آمنوا ايمانا حقيقيا وتحققوا بحقيقة التوحيد. وانعكست اليهم، أنوارهم الايمانية، فتوهموا أنها من أنفسهم وملك لهم، قالوا بلسان حالهم: «آمنا» ايمانا كايمانهم. «و إذا» فارقوا وخَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ المبعدين. وانفصلت منهم، تلك الأنوار. ورجعوا الى ظلمتهم الأصلية الحجابية. وتضاعفت به  ظلمتهم، لاجتماعهم مع هؤلاء الشياطين، «قالوا» لهم: انا معكم متفقون بكم، فيما آمنتم فيه، من اثبات ذواتكم، واسناد الصفات والأفعال اليها مستهزئون بالذين لا يثبتون الا وجودا واحدا. ويسندون اليه الأفعال والصفات، كلها. فان ذلك شي‏ء ، لا يحكم بصحته العقل. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، في عين استهزائهم بهم. ذلك الاستهزاء، فعل الحق فيهم. انصبغ بصبغ الاستهزاء.

لالحاق الهوان والحقارة بهم ، في عيون أرباب البصيرة. فيكون استهزاء بهم وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ، أي، غلوهم في نفي التوحيد الحقيقي، مترددين متحيرين بين المؤمنين، ايمانا حقيقيا وبين شياطينهم الجاحدين ذلك الايمان، مذبذبين بين ذلك، لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى:

معللة للجملة الدالة على استحقاقهم الاستهزاء، على سبيل الاستئناف. أو مقررة لقوله يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ على سبيل التوكيد.

و أصل الاشتراء، بذل الثمن، لتحصيل ما يطلب من الأعيان. فان كان أحد العوضين، ناضّا، تعين من حيث أنه لا يطلب لعينه، أن يكون ثمنا. وبذله، اشتراء.

و أخذه، بيع. ولذلك عدت الكلمتان، من الاضداد. والنض والناض الدنانيرو الدراهم، عند أهل الحجاز. والا فأي العوضين، تصورته  بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذه بائع، ثم استعير للأعراض عما في يده، محصلا به غيره. سواء كان من المعاني، أو الأعيان. ثم اتسع فاستعمل للرغبة عن الشي‏ء، طمعا في غيره.

فان اكتفى بجعل الطرفين، أعم من أن يكون الأعيان، أو المعاني، أو مختلفين.

و بقي الاستبدال، محفوظا. والاستبدال، موقوف على تملك ما هو، كالثمن.

فاحتيج في اشتراء الضلالة بالهدى، الى أن نزل التمكن، من الهدى، بحسب الفطرة، منزلة تملّكه. فيكون التجوّز، في نسبة الهدى بالتملك اليهم، لا في نفسه.

أو أريد «بالهدى»، ما جبلوا عليه، من تمكنهم منه. وهو فطرة اللّه التي، فطر الناس عليها. فيكون التجوز، في نفس الهدى، لا في نسبته اليهم، بالتملك.

فان التمكن من الهدى، ثابت لهم من غير تجوز. وان لم يبق الاستبدال، أيضا، محفوظا كما إذا استعمل للرغبة عن الشي‏ء، طمعا في غيره، فلا حاجة الى ذلك التنزيل، أو التجوز.

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ: وقرأ ابن عبلة، «تجاراتهم»، بصيغة الجمع.

و ذكر الربح، ترشيح للمجاز الواقع، في كلمة «اشترى». وهو أن يقرن بالمجاز، ما يلائم المعنى الحقيقي، فانه لما استعمل الاشتراء، في معاملتهم، أتبعه بما يشاكله، تمثيلا، لخسارتهم.

و المعنى ضرت تجارتهم. لأن عدم الربح وان كان أعم من الخسران، لوجود الواسطة بينهما، لكن المقام، يخصه به. لان المقصود، ذم المنافقين. والذم في الخسران، آكد من عدم الربح. وانما عبر عن الخسران، بنفي الربح، للتصريح أولا، بانتفاء ما هو مقصود من التجارة والدلالة ثانيا، على اثبات ضده، والافادة ثالثا، المبالغة بأن نفي الربح بالبيع والشرى.و الربح، الفضل على رأس المال. واسناده الى التجارة، نفيا واثباتا، لتلبسه بالتجارة، مجاز عقلي. وهو اسناد شي‏ء الى غير ما هو له، نفيا أو اثباتا. كما أن الحقيقة العقلية، اسناده الى ما هو  كذلك. لكن في الحقيقة، فالموجبة ، صادقة والسالبة، كاذبة. وفي المجاز، بالعكس. فلا حاجة في كونه من المجاز العقلي، الى تأويل ما ربحت، بخسرت. ولا الى أن يفرق بين اسناد النفي ونفي الاسناد. هكذا قيل. وفيه نظر، يعرف بالتأمل والتحقيق، ما ذكره السكاكي، من أن المراد بالتجارة المشترون، مجازا والاسناد، حقيقة. فتأمل! وَما كانُوا مُهْتَدِينَ : عطف على فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، أي:

ما كانوا مهتدين لطرق التجارة. فحذف المفعول، لدلالة الكلام عليه.

و ليمكّن، حمله على العموم. وان اشتمل على تكرار «ما»، فالحمل على الأول، أولى. لأنه لما وصفوا بالخسارة، في هذه التجارة، أشير الى عدم اهتدائهم لطرق التجارة، كما يهتدي اليه التجار البصراء، بالأمور التي، يربح فيها ويخسر.

فهو راجع الى الترشيح.

و يحتمل عطفه على «اشتروا». بل هو أولى. لأن عطفه على «ما ربحت» يوجب ترتّبه على ما تقدم «بالفاء». فيلزم تأخره عنه. لكن الأمر، بالعكس.

و يحتمل أن يكون حالا، من فاعل «اشتروا»، أو «ربحت»، أو ضمير «تجارتهم». وانما حكم بانتفاء الربح، عن تجارتهم وعدم اهتدائهم لطرق التجارة لأن مقصود التجار منها، سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا رأس المال. فكيف يفوزون بالربح الذي هو الفضل عليه؟و روي (في تفسير أبي محمد العسكري- عليه السلام-  عن موسى بن جعفر ما معناه:)

 انه حضر قوم عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- وقالوا:

سبحان الرازق! كان فلان في ضنك وشدة، فسافر ببضاعة جماعة. وربح الواحدة، عشرة. فهو اليوم من مياسير أهل المدينة.

و قال جماعة أخرى بحضرته: ان فلانا كان في سعة ودعة وكثرة مال، فسافر في البحر. فغرقت سفينته. وتلفت أمواله. ونجى بنفسه، في كمال الفقر والفاقة والحيرة.

فقال لهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: ألا أخبركم بالأحسن من الأول والأسوء من الثاني ؟

فقالوا: بلى، يا رسول اللّه! فقال: أما الأول، فرجل اعتقد في علي بن أبي طالب، ما يجب اعتقاده، من كونه وصي رسول اللّه وأخاه ووليه وخليفته ومفروض الطاعة. فشكر له ربه ونبيه ووصي نبيه. فجمع اللّه له بذلك خير الدنيا والاخرة. فكانت تجارته، أربح وغنيمته أكثر وأعظم.

و أما الثاني، فرجل أعطى عليا بيعته. وأظهر له موافقته. ثم نكث بعد ذلك.

و خالفه. ووالى أعداءه. فختم له سوء أعماله. فصار الى عذاب لا يبيد ولا ينفد .

ذلك هو الخسران المبين.

قال بعض الفضلاء: ان تأويل الاية، بالاشارة الى بطن من بطونها، أن يقال: «أولئك» المتوسمون بالايمان الرسمي، هم الذين اشتروا ضلالة» ظلمة جحدانياتهم، «بهدى» نور استعدادهم الفطري، لكشف حقائق التوحيد الحقيقي.

و اختاروها عليه. فما ربحت تجارتهم هذه. لأنهم أضاعوا رأس مالهم، الذي هو هدى ذوي الاستعداد. فكيف تربح تجارتهم، بعد اضاعتهم إياه. «و» الحال أنهم ما كانوا مهتدين، لطرق تلك التجارة، سالكين سبيل الفوز بها، على وجه، يربحون ولا يخسرون.

مَثَلُهُمْ:

لمّا بيّن حقيقة صفة المنافقين، أراد أن يكشف عنها، كشفا  تاما. ويبرزها في معرض المحسوس المشاهد. ففيها يضرب المثل، مبالغة في البيان. ولأمر ما، أكثر اللّه في كتبه الأمثال. وكثر في كلام الأنبياء والحكماء ومن سور الإنجيل، سورة الأمثال.

و «المثل» في الأصل، بمعنى، المثل. وهو النظير. يقال: مثل ومثل ومثيل.

كشبه وشبه وشبيه.

ثم قيل: مثل للقول السائر. ويعتبر فيه أن يكون تشبيها تمثيليا، على سبيل الاستعارة. ومن ثم حوفظ عليه. ولم يغير. فيكون بعينه لفظ المشبه به. فان وقع تغيير، لم يكن مثلا. بل هو مأخوذ منه واشارة اليه. كما في قولك: بالصيف ضيّعت اللبن- بالفتح.

و قيل: لم يغير، لأنه ينبغي أن يكون فيه، غرابة من بعض الوجوه. فلو غير، لربما انتفت تلك الغرابة. وانما سمي مثلا، لأنه جعل مضربه. وهو ما يضرب فيه، ثانيا مثلا، لمورده. وهو ما ورد فيه- أولا- ثم استعير لكل حال، أو قصة، أو صفةلها بيان. وفيها غرابة. ويمكن حمله هناك على كل واحد من تلك المعاني.

كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً:

معناه، حالهم العجيبة الشأن، كحال من استوقد نارا.

و «الذي»، بمعنى الذين. كما في قوله: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا، ان جعل مرجع الضمير، في «بنورهم». وانما جاز ذلك. ولم يجز  وضع القائم، موضع القائمين. لأنه غير مقصود بالوصف. بل الجملة التي هي صلته، وهو وصلة الى وصف المعرفة، بجملة موصولة بها. ولأنه ليس باسم تام، بل هو كالجزء منه.

فحقه أن لا يجمع، كما لا يجمع أخواتها. ويستوي فيه الواحد والجمع. وليس «الذين» جمعه المصحح، بل ذو زيادة، زيدت لزيادة المعنى. ولذلك جاء بالياء- أبدا- على اللغة الفصيحة، التي جاء التنزيل عليها.

و لكونه مستطالا بصلته، استحق التخفيف. ولذلك بولغ فيه. فحذف ياؤه ثم كسرته، ثم اقتصر على اللام، في أسماء الفاعلين والمفعولين. أو قصد به، جنس المستوقدين. أو الفوج الذي استوقد. وان لم يجعل مرجعا لذلك الضمير. فلا حاجة الى ذلك. لأن المقصود، تشبيه الحال بالحال. وهما متطابقتان. الا أن يقصد رعاية المطابقة، بين الحالين، في كونهما بالواحد، أو الجماعة- أيضا-.

فان المماثلة، حينئذ، أقوى. والتشبيه الى القبول، أقرب.

و «الاستيقاد»، طلب الوقود. والسعي في تحصيله. وهو سطوع النار.

و ارتفاع لهبها.

و اشتقاق «النار» من نار ينور، إذا نفر. لأن فيها حركة واضطرابا. و«النور» مشتق منها. فان الحركة والاضطراب، يوجد في النار، أو لا وبالذات، وفي نورها

ثانيا وبالعرض. فاشتقاق «النور» منها، أولى من اشتقاقه منه .

فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ: عطف على الصلة. فيكون التشبيه، بحال المستوقد الموصوف بمضمون الشرطية. أعني، لمّا مع جوابه.

و «لما»، تدل على وقوع الشي‏ء، لوقوع غيره، بمعنى الظرف. والعامل فيه، جوابه.

و «الاضاءة»، فرط الانارة. كما أن الضوء، فرط النور. ومصداق ذلك، قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً .

و يناسبه، ما اصطلح عليه الحكماء، من أن الضوء، ما يكون للشي‏ء، من ذاته، كما للشمس. والنور ما يكون من غيره، كما للقمر.

 «و أضاء»، في الاية:

اما متعد. فيكون «ما حوله»، مفعولا به، أي: جعلت النار ما حول المستوقد مضيئا.

و اما لازم. فيكون مسند الى «ما حوله»، أي: صارت الأماكن والأشياء التي حوله، مضيئة بالنار. أو الى ضمير «النار».

حينئذ، اما أن يكون كلمة «ما» زائدة و«حوله»، ظرفا لغوا «لأضاءت».

و اما موصولة، وقعت عبارة عن الأمكنة. فيكون مع صلتها، مفعولا فيه «لأضاءت».

و يرد على الأول، ان اضاءة النار، حول المستوقد، يقتضي دورانها حوله.

و هو  خلاف المعهود.و أجيب بأن المراد، دوران ضوئها. لكنه  جعل دوران الضوء، بمنزلة دوران النار، اسناد الى السبب.

و على الثاني، بأنه  كان ينبغي أن يصرح بكلمة «في». لأن حذفها في لفظ مكان انما، كان  لكثرة الاستعمال ولا كثرة في الموصول الذي عبّر به عن الأمكنة.

اللهم الا أن يحمل، على أنه من قبيل عسل الطريق الثعلب. وعلى هذا التوجيه، يلزم دوران مكان النار. وهو لا يستدعي استيعاب النار، جميعه. بل بعضه .

و «حوله»، نصب على الظرفية.

و تأليف حروفه على هذا الترتيب، للدوران والاطافة.

و قيل : للعام حول لأنه يدور.

و منه، حال الشي‏ء واستحال، إذا تغير. وحال الإنسان. وهي عوارضه التي تتغير عليه. والحوالة  وهي اسم من أحال عليه، بدينه.

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ: جواب «لما». كما هو الظاهر.

و فيه مانعان، لفظي ومعنوي:

الأول: توحيد الضمير، في استوقد وحوله وجمعه في «بنورهم».

و الثاني: ان المستوقد، لم يفعل ما يستحق به، اذهاب نوره. بخلاف المنافق.

فجعله جوابا غير مناسب.و الجواب عن الأول: ان توحيد الضمير، بالنظر الى لفظ الموصول. وجمعه بالنظر الى معناه، على أحد الوجوه المذكورة فيما سبق.

و عن الثاني: انه يمكن أن يكون، اذهاب نوره، بسبب سماوي، ريح أو مطر. لا بسبب فعل المستوقد. ولذلك أسند الى اللّه سبحانه. أو يكون المراد بالمستوقد، مستوقد نار، لا يرضى  بها اللّه. كما أوقدها الغواة، ليتوصلوا بالاستضاءة بها، الى بعض المعاصي. فأطفاها اللّه.

و يحتمل أن يكون جواب «لما» محذوفا . وقوله: ذَهَبَ اللَّهُ- الى آخره- استئنافا.

و المصحح لهذا الحذف، قرينة المقام، والمرجح المبالغة، في سوء حال المستوقد، بإيهام أن الجواب، مما يقصر العبارة عنه.

و تقدير الاستئناف، أنه لما شبهت حالهم، بحال المستوقد الذي خمده ناره سأل سائل. وقال: ما بالهم قد شبهت حالهم، بحال هذا المستوقد.

فقيل له: ذهب اللّه بنورهم.

و حينئذ، يكون ضمير الجماعة للمنافقين. ويحتمل أن يكون بدلا من الجملة التمثيلية وبيانا له. كأنه قيل: كمثل الذي ذهب اللّه بنورهم. وحينئذ يكون مرجع الضمير الَّذِي اسْتَوْقَدَ، على أحد الوجوه التي سبقت.

و انما قال: «بنورهم». ولم يقل: «بنارهم». لأنه المقصود من إيقادها.

و لم يقل: «بضوئهم». كما هو مقتضى اللفظ. لأن في «الضوء»، دلالة على الزيادة.

فلو علق الذهاب به، لأوهم الذهاب بالزيادة. وبقاء ما يسمى نورا. والمقصود ازالة النور عنهم، رأسا.و انما اختير- أولا- «أضاءت» على «أنارت»، تنبيها على مزيد الحيرة والخيبة، واشعارا بالبطلان، لما تقرر في الأذهان، من قوة أمر الباطل، في بدء الحال واضمحلاله سريعا، في المآل.

و انما قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. ولم يقل: «أذهب اللّه نورهم»- كما قرأ بعضهم- لأن معنى «أذهبه»، أزاله، وجعله ذاهبا. ويقال: ذهب به، إذا استصحبه.

و معنى «به»، معه. فان «الباء» وان كانت للتعدية، كالهمزة. الا أن فيها معنى المصاحبة واللصوق. وذهب السلطان بماله، أخذه. فالمعنى أخذ اللّه نورهم وأمسكه.

و ما يمسك ، فلا مرسل له. وهو أبلغ من الاذهاب. لما فيه من معنى الأخذ والإمساك. أما الأخذ، فظاهر. وأما الإمساك، فلما يقتضيه المصاحبة واللصوق.

قال بعض الفضلاء: وعند العارفين، النكتة فيه، غير ما ذكر، فان مجي‏ء اللّه سبحانه بالنور، ليس الا بتجلّيه  باسم النور، على المتجلى له. فهو عند تجليه بالنور، متلبس به، غير منفصل  عنه. وكذلك ذهابه بالنور. ليس الا متعلقا دون هذا التجلي. فهو يذهب مكتسبا بالنور، لا منفصلا عنه. فهو المتلبس بالنور، في الحالين. بل هو النور في العلم. (و العين لا)  نور سواه. ثم أكد ذلك.

و قرره بقوله:

وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ : ففيه زيادة على ما يدل عليه، اذهاب نورهم، من وقوعهم في الظلمة، كمّا وكيفا. اما كمّا، فلما (في الظلمات‏من)  الجمعية. واما كيفا، فلما فيها من تنوين التعظيم، واردافها بقوله «لا يبصرون».

فانه يدل على أنها بحيث لا يتراءى، فيها شبحان.

و «الظلمة»، عدم النور- مطلقا- وقيل: عما  من شأنه ذلك. وقال بعض  المتكلمين: وهي عرض، ينافي النور.

فعلى الأول، التقابل بينهما، تقابل الإيجاب والسلب.

و على الثاني، تقابل العدم والملكة.

و على الثالث، (تقابل التضاد.)  وهي مأخوذة من قولهم: ما ظلمك ان تفعل كذا، أي: ما منعك. لأنها تسد البصر. وتمنع الرؤية.

و قرئ في ظلمة- بالتوحيد- وتوحيدها، ظاهرا.

و أما جمعها: فباعتبار انضمام ظلمة الليل، الى ظلمتي الغمام. وتطبيقه، مثلا هذا، على  تقدير أن يكون ضمير الجماعة، كناية عن المستوقدين. كما هو الظاهر.

و أما إذا كان كناية عن المنافقين، فقيل: ظلماتهم، ظلمة الكفر. وظلمة النفاق.

و ظلمة يوم القيامة. أو ظلمة الضلال. وظلمة سخط اللّه. وظلمة العقاب السرمدي.

و قيل: المراد بها، على التقديرين، ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة .

فيكون الجمعية- أيضا- لزيادتها في الكيف.

و قوله  «لا يبصرون»، نزل منزلة اللازم. وقطع النظر، عن مفعوله المتروك.و قصد الى نفس الفعل، كأنه قيل: ليس لهم أبصار.

و هو أبلغ من أن يقدر المفعول. أي لا يبصرون شيئا. لأن الأول يستلزم الثاني.

دون العكس.

و «ترك»، في الأصل، بمعنى، خلى وطرح. وله مفعول واحد. وقد يضمن معنى صيّر. فيقتضي مفعولين. فعلى هذا، قوله «في ظلمات»، مفعوله الثاني.

و قوله «لا يبصرون»، حال من مفعوله الأول.

و يحتمل أن يترك على معناه الأصلي. ويكون فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالين مترادفين. أو متداخلين.

و في آخر روضة الكافي : بإسناده، عن أبي جعفر- عليه السلام- في تفسير الاية، ما مضمونه: انه أضاءت الأرض بنور محمد- صلى اللّه عليه وآله وسلم- كما تضي‏ء الشمس. فلما قبض اللّه محمدا، ظهرت الظلمة. فلم يبصروا فضل أهل بيته- عليهم السلام-.

و في عيون الأخبار : بإسناده الى ابراهيم بن أبي محمود، قال: سألت أبا الحسن الرضا- عليه السلام- عن قول اللّه تبارك وتعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ.

فقال: ان اللّه تعالى لا يوصف بالترك، كما يوصف خلقه. ولكنهم  متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة ، منعهم المعاونة واللطف. وخلى بينهم وبين اختيارهم.صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ: خبر مبتدأ محذوف. والضمير المحذوف، ان كان كناية عن المستوقدين- فإطلاق هذه الصفات عليهم، على سبيل الحقيقة.

و المعنى، أنهم أوقدوا نارا، ذهب اللّه بنورهم. وتركهم في ظلمات هائلة.

أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم. وانتقصت قواهم. فصاروا صما بكما عميا.

و ان كان عبارة عن المنافقين، فاطلاقها عليهم، على طريقة التشبيه. لأنهم لما سدوا آذانهم، عن إصغاء الحق وألسنتهم، عن النطق به وأبصارهم، عن مشاهدة آياته، جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم. وانتفت لا على سبيل الاستعارة، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له، أي: لا يكون مذكورا على وجه، ينبئ عن التشبيه.

و هو أن يكون بين طرفيه حمل، أو  ما في معناه. كذا في الكشاف .

قيل: وهنا بحث. وهو أنه لا نزاع في أن تقدير الاية، هم صم. لكن مع ذلك، ليس المستعار له، مذكورا هاهنا. لأنه أحوال مشاعر المنافقين وحواسهم.

لا ذواتهم. ففي هذه الصفات، استعارة تبعية مصرحة. لأنها استعير مصادرها، لتلك الأحوال. ثم اشتقت هي، منها.

أقول: فعلى هذا، الصم، جمع الأصم. والبكم، جمع الأبكم. والعمي، جمع الأعمى. وقد صرح به، بعض أهل اللغة. فحينئذ، ما ذكره بعض المفسرين، من أن الحمل على سبيل المبالغة، في غاية السقوط.

و غاية ما يتكلف، عما في الكشاف أن يقال: تشبيه ذوات المنافقين، بذوات الأشخاص الصم، متفرع على تشبيه حالهم، بالصم. لكن القصد الى اثبات هذا الفرع، أقوى وأبلغ اشارة، الى أن المشابهة بين الحالين، قويت، حتى كأنها تعدت الى الذاتين. فحمل الاية على هذا التشبيه، انما هو لرعاية المبالغة، في‏اثبات الآفة . والا فمقتضى ظاهر الصناعة الحمل، على الاستعارة، بتبعية المصادر.

و قرئ في الكل، بالنصب، على الحال، من مفعول «تركهم».

و «الصمم»، الانسداد. تقول: قناة صماء، إذا لم تكن مجوّفة. وصممت القارورة، إذا سددتها. والصمّام، لما تسدها به. فالأصم، من انسدت سامعته.

فلا يدخلها هواء، يسمع الصوت، بتموّجه.

و «البكم»، الخرس.

و العمى، عدم البصر، عما من شأنه، أن يبصر. وقد استعير لعدم البصيرة.

فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ :

يقال: رجع عن كذا الى كذا. فالمعنى، انهم لا يرجعون عن الضلالة التي اشتروها، الى الهدى الذي باعوه.

فيندفع ما قاله بعض المفسرين من، أن المراد به ، لا يرجعون الى الهدى.

أو عن الضلالة.

و ليعلم أن توضيح تمثيل المنافقين، بالمستوقدين الموصوفين بما ذكر، وتشبيه حالهم العجيبة، بحالهم، موقوف على تحقيق طرفي التشبيه، ووجه الشبه.

فنقول: أما المشبه به، فهو صفة المستوقدين نارا، كلما أضاءت ما حولهم، من الأماكن والأشياء، أذهب اللّه  نورهم، عند الإضاءة. وأمسكه. وتركهم في ظلمات متعددة شديدة. أدهشتهم بحيث اختلت مشاعرهم وقواهم. فهم لا يقدرون على الرجوع، الى ما كانوا عليه، من قبل.

و أما المشبه: فهو صفة المنافقين الذين اظهارهم الايمان باللسان، بمنزلة إيقاد النار العظيمة وانتفاعهم به، بسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك، كإضاءتهاما حولهم. وزوال ذلك الاستنفاع عنهم، على القرب باهلاكهم، أو افشاء نفاقهم ، على النبي- صلى اللّه عليه وآله- هو ذهاب نورهم، وإلقاؤهم في أحيان ظهور النفاق، والوعيد بالعذاب السرمد. أو الوقوع فيه، على مراتبه تركهم، في الظلمات المتعددة الشديدة. وعدم استعمالهم قواهم فيما خلقت له، بمنزلة اخلالها.

و رسوخهم وتمكنهم فيما أوقعهم فيه، بما يخالف فطرتهم، كعدم القدرة من المستوقدين على الرجوع الى ما كانوا عليه.

و أما وجه الشبه: فان اعتبرته بين مفردين، من مفردات طرفي التشبيه، كما سبقت الاشارة اليه، فذلك من قبيل التشبيه المفرد. وهو أن تأخذ أشياء، فرادى.

فتشبهها بأمثالها كقوله:

         كأن قلوب الطير رطبا ويابسا             لدى وكرها العناب والخشف البالي

 وان اعتبرته بأن تنزع من مفردات أحد الطرفين، هيئة اجتماعية وحدانية وشبهتها بهيئة انتزعتها من مفردات الطرف الآخر، من غير ملاحظة تفاصيل مفردات الطرفين ومشابهة بعضها مع بعض، فذلك من قبيل التشبيه المركب المسمى عند أرباب البيان، بالتمثيل. وهو الذي يهتم به أرباب البلاغة.

و كل كلام يحتملهما فذكرهم الأول، احتمال لفظي. ولا مساغ للذهاب الا الى الثاني. وذلك لأنه يحصل في النفس، من تشبيه الهيئة المركبة، ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. ولعبد القاهر ، كلام مشهور في أن اعتبار التركيب، في قول الشاعر:         وكأن أجرام النجوم لوامعا             درر نشرن  على بساط أزرق‏

 أحق وأولى، وان صح التشبيه بين مفرداته.

 (و في روضة الكافي : محمد بن يعقوب الكليني، قال: حدثني علي بن ابراهيم:

 

عن أبيه، عن ابن فضال، عن حفص المؤذن عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- أنه قال في رسالة طويلة، الى أصحابه: فان ذلك اللسان، فيما يكره اللّه وفيما نهى  عنه مرداة للعبد، عند اللّه. ومقت من اللّه. وصم وعمي وبكم يورثه اللّه إياه يوم القيامة فتصيروا  كما قال اللّه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، يعني: لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون) .

قال بعض الفضلاء: تأويل الاية، ببعض بطونها، أن يقال: مثل المتوسمين بالايمان الرسمي، كمثل المستوقدين الذين سبق ذكرهم، حيث تنورت بواطنهم، بارتكاب بعض العبادات، في بعض الأوقات. فتنبهوا  لما في أنفسهم، من النقائص  والكمالات. ولم ينفذ فيهم، ذلك النور، بحيث يتعدى من معرفة أنفسهم، الى معرفة ربهم. بل تنقص ببعض الغفلات. فبقوا متروكين في ظلمات حجب انياتهم . لا يبصرون ما في الآفاق وما في أنفسهم، من لوائح الوحدانية.

فهم صم، عن سماع ما ينطق به دلائلها بكم. لا يسألونه بلسان استعدادهم. عمي لا يرونه ببصر بصيرتهم. فهم لا يرجعون عما هم فيه، من أسباب الشقاوة، الى ما فاتهم من موجبات السعادة.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ:

ثم ثنى اللّه سبحانه، في شأنهم، بتمثيل آخر، ليكون تحقيقا لحالهم، بعد كشف، وإيضاحا غبّ إيضاح.

و كما يجب على البليغ، في مظانّ الإجمال والإيجاز، أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه، في موارد التفصيل والاشباع، أن يفصّل ويشبع.

و هو، عطف على قوله كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ. أي، مثلهم كمثل الذي استوقد. أو، كمثل ذوي صيّب.

و انما قدّر كذلك، لتعيين مرجع الضمائر الاتية، وتحصيل كمال الملائمة، مع المعطوف عليه ومع المشبه- أيضا- أعني : مثلهم.

و أما نفس التشبيه، فلا يقتضي تقدير شي‏ء. إذ لا يلزم في التشبيه المركب، أن يكون ما يلي الكاف، هو المشبه به. كما في قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا، كَماءٍ .

و مما ثنّي من التمثيل، في التنزيل، قوله: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ .

و «أو»، موضوعة في أصلها للتساوي. ولذلك اشتهرت بأنها كلمة شك.

فتكون مخصوصة بالخبر. ثم استعيرت للتساوي، في غير الشك. فاستعمل في‏غير الخبر، بالمعنى المجازي، فقط. كالتساوي في استصواب المجالسة، في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. وفي الخبر، بكلا المعنيين، أعني، الحقيقي، الذي هو الشك والمجازي، كالتساوي في الاستقلال، بوجه التمثيل.

كما في هذه الاية. فيستفاد صحة التشبيه، بكل واحد من هاتين القصتين، صريحا، وبهما، معا، بالطريق الأولى. وهذا بناء على تبادر معنى الشك، منه. وهو المفهوم من الكشاف .

و المفهوم من المفصل ، أن كلمة «أو» لأحد الأمرين. ولا شك أن هذا معنى يعم مواردها، من الإنشاء والاخبار- كلها- وأما الشك والتشكيك والإبهام والتخيير والاباحة، فليس شي‏ء منها، داخلا في مفهومها. بل يستفاد من مواقعها في الكلام.

 «و الصيّب»، فيعل من الصوب. وهو فرط الانسكاب والوقوع. يقال على المطر وعلى السحاب. والاية يحتملهما.

و تنكيره، لأنه أريد به نوع شديد هائل.

و قرئ «كصائب». والأول أبلغ.

و «السماء»، هو المظلة. أو جهة العلو. وتعريفها للجنس، للدلالة على أن الصيّب، منطبق آخذ بآفاق السماء، كلها. فان كل أفق ككل طبقة منها، يسمى سماء. فتعريف الجنس من غير قرينة البعضية، يدل على أنه منطبق آخذ بكلها.

لا يختص بسماء دون سماء.

و في الدلالة على التطبيق، أمداد لسائر المبالغات التي في الصيّب، من جهةمادته الأولى، أي: الحروف. فان «الصاد» من المستعلية. و«الياء»، مشددة.

و «الباء» من الشديدة. ومادته الثانية، أي: الصوب. فانه فرط الانسكاب- كما مر.

و من جهة البناء، أعني، الصورة. فان فيعلا صفة مشبهة، دالة على الثبوت.

و من جهة التنكير العارض، لأنه للتهويل والتعظيم. كتنكير النار، في الاية الأولى.

و إذا أريد «بالصيّب»، المطر، فيحتمل أن يراد «بالسماء»، السحاب.

و يجعل اللام لاستغراق جميع ما يمكن أن يظل قطعة من وجه الأرض. فانه يصلح أن يطلق عليه، اسم السحاب. وان أريد «بالصيب»، السحاب، وبالسماء- أيضا-.

فالمعنى، هذا النوع من السحاب. وليس فيه كثير فائدة.

و التمثيل الثاني، أبلغ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته.

و لذلك أخّر. وهم يتدرجون في نحو هذا، من الأهون الى الأغلظ.

فِيهِ ظُلُماتٌ: بضم الفاء والعين. وقري‏ء بفتح اللام وسكونه. جمع ظلمة، بضم الفاء وسكون العين. فاعل الظرف، لاعتماده على الموصوف. ومن المتفق عليه بينهم، أن الظرف إذا اعتمد على موصوف، أو موصول، أو حرف استفهام، أو حرف نفي، فانه يجوز أن يرفع الظاهر، بخلاف ما إذا لم يعتمد.

فانه لا يجوز إعماله عند سيبويه.

و يجوز في جميع ذلك، أن الظرف خبر متقدم، على مبتدئه. فعلى هذا يظهر فساد ما قاله البيضاوي ، من أن ارتفاعها بالظرف، وفاقا. وان أريد بالصيّب، المطر، فظلماته ظلمة  تكاثفه وتتابع قطراته. لان تقارب القطرات ومتابعتها،يقتضي قلة الهواء المتخلل المنير.

و ظلمة أظلام، غمامه، وظلمة الليل المستفادة، من قوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ.

و المراد بها، ما يتوزع على الأجرام، من ظلمته. لا ظلمته كلها، حتى يرد أن المطر في ظلمة، لا ظلمة الليل فيه. ولا شك أن نسبة الظلمة المتوزعة عليه، اليه كنسبة العرض الى موضوعه والصفة الى موصوفها. فيصح انتسابها اليه. وان أريد به السحاب فظلماته، ظلمة سحمته . أي، سواده المسبب عن تراكمه وكثرة مائه.

و ظلمة تطبيقه واحاطته بجميع الآفاق وظلمة الليل.

و على ما حققناه، يندفع ما قاله بعض المفسرين من، أن الظرفية هنا، باعتبار الملابسة. لأنه يكون بناء عليه انتساب الظرف، الى مظروفه «بقي» جائزا. وهو غير جائز.

وَ رَعْدٌ وَبَرْقٌ:

 «الرعد»، من الرعدة، بالكسر. وهو صوت يسمع من السحاب. وسببها- على المشهور- اضطراب أجرام السحاب. واصطكاكها، إذا ساقتها الريح.

 «و البرق»، الأحسن فيه، أن يكون معطوفا على «رعد». ويكون المجموع معطوفا على «الظلمات»، بعاطف واحد، من برق الشي‏ء بريقا، إذا لمع. وهو ما يلمع من السحاب بواسطة اصطكاكها.

و قيل : الرعد، ملك موكل بالسحاب. يسبح.

و قيل : صوت ملك يزجر السحاب.

و قيل : هو ريح، تحتبس تحت السماء. (و في مجمع البيان : وقيل: الرعد، هو ملك موكل بالسحاب. يسبح. وهو  المروي عن أئمتنا- عليهم السلام-.

و في من لا يحضره الفقيه : وقال علي - عليه السلام-: الرعد، صوت الملك. والبرق، سوطه.

و روي : ان الرعد، صوت ملك، أكبر من الذباب وأصغر من الزنبور.

و سأل أبو بصير ، أبا عبد اللّه- عليه السلام- عن الرعد، أي شي‏ء يقول؟

قال: انه بمنزلة الرجل، يكون في الإبل. فيزجرها، هاي هاي، كهيئة ذلك.

قال: قلت: جعلت فداك! فما حال البرق؟

قال : تلك مخاريق الملائكة تضرب  السحاب. فتسوقه الى الموضع الذي قضى اللّه- عز وجل- فيه المطر) .

و لم يجمعا كالظلمات، لمصدريتهما في الأصل.

و يحتمل أن يكون المراد بهما، معنييهما المصدريين ، أيضا. أعني، الارعادو الإبراق. ولأنهما ليسا أنواعا مختلفة، بالنظر الى أسبابها ، كالظلمة. وكينونتهما في السحاب، ظاهرة. وأما في المطر، فلأنهما لما كانا في محل يتصل به أعلاه ومصبه، أعني، السحاب، جعلا كأنهما فيه. أو لأن المطر كما ينزل من أسفل السحاب، ينزل من أعلاه- أيضا- فهو شامل للفضاء  الذي فيه السحاب. فهما في جزء من المطر، يتصل بالسحاب.

و انما جاءت الأشياء، نكرة، لأن المراد، أنواع منها. كأنه قيل: فيه ظلمات داجية  ورعد قاصف  وبرق خاطف.

و الأصل في كلمة «في»، أن تستعمل  في ظرفية  الأجسام، للأجسام. ثم اتسع فيها، فاستعمل في ظرفية الزمان، للأحداث. ولمحلية المعروضات، لأعراضها والموصوفات لصفاتها، الى غير ذلك.

يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ:

الضمائر، ترجع الى أصحاب الصيّب. ولفظ «الأصحاب» وان حذف.

و أقيم «الصيب» مقامه، لكن معناه باق. فيجوز أن يعول عليه. وهو استئناف لا محل له من الاعراب. فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول، قيل: فكيف حالهم مع ذلك؟ فأجيب: بأنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم .فان قلت: الجواب، حينئذ، لا يكون مطابقا للسؤال. فانه بين، حينئذ، حالهم، مع الصواعق، دون الرعد.

قلت: لما كانت الصاعقة، قصفة رعد. تنقض معها شقة من نار، كان الجواب مطابقا. كأنه قيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم من شدة صوت الرعد، وانقضاض قطعة نار معها.

و يحتمل أن يكون، حالا من المضاف، الى الصيب المحذوف. «و جعل» جاء متعديا الى مفعولين. نحو، جعلت الطين خزفا. أي، صيّرت. والى مفعول واحد كقوله: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، أي: صنع. وبمعنى التسمية. كقوله:

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ، أي: سمّوا له. وبمعنى أفعال المقاربة. نحو، جعل زيد يفعل.

و اليد تتجزّأ  الى الانملة والأصبع والكف والساعد والعضد. والمتعين منها لسد الأذان، أنملة السبابة. فإطلاق الأصابع، موضع الأنامل، بل بعضها، من اتساعات اللغة.

و النكتة المبالغة التي ليس في ذكر الأنامل وبعضها، وهي أنهم لشدة الأمر عليهم وخوفهم، من تقصيف الرعد، يجعلون أصابعهم، بالكلية في آذانهم، لئلا يسمعوه، أصلا. أو لفرط دهشتهم وحيرتهم، يفعلون ذلك. ولا يدرون ما يفعلون.

و عدم تخصيص ما هو متعين لسد الآذان، من الأصابع، أعني السبابة، للاشارة الى أنه لم يبق لهم، من فرط الدهشة والحيرة، قوة التمييز بينها . أو لما في‏السبابة من معنى السبّ. ولذلك استكرهوها. فكنوا عنها، بالمسبحة والسباحة وغيرهما، طوى ذكرها، إذ لم يكن لها اسم وراءها يتعارفه الناس في ذلك العهد.

مِنَ الصَّواعِقِ: متعلق «بيجعلون».

و لفظة «من» في أمثال ذلك، ابتدائية، على سبيل العلية. فيقال: قعد من الجبن. وقد يكون ما بعدها، غرضا مطلوبا مما وقع قبله، إذا صرح بما يدل على ذلك. كقولك: ضربت من أجل التأديب. بخلاف «اللام» فإنها، وحدها، يستعمل في كل منهما. ويشاركهما في التعليل «في».

كما في قوله- عليه السلام-:

ان امرأة دخلت النار، في هرة ربطتها. ولم تدعها، حتى تأكل من حشاش  الأرض.

و «الصواعق»، جمع الصاعقة. وهي قصفة رعد. أي شدة صوت منه.

ينقض معها شقة، أي، قطعة من نار. وهي في الأصل، اما صفة لفصفة  الرعد.

و التاء للتأنيث. أو للرعد. والتاء للمبالغة. كما في الراوية. أو مصدر، كالعافية والكاذبة.

و قرئ من الصواقع. وليس بقلب من الصواعق. لأن كلا من البنائين، سواء في التصرف، يبنى على كل منها كثير من الأمثلة. تقول: صقع الديك، إذا صاح.

و سقعه على رأسه. وصقع رأسه، أي: ضرب صوقعته. وهي موضع البياض، في وسط الرأس. وخطيب مصقع، أي: مجهر- بكسر الميم- وهو الذي من عادته، أن يجهر بكلامه.

أقول: الصاعقة والصاقعة، إذا كانتا اسمي صفتين، فجمعهما على الفواعل مطرد. وأما إذا كانتا مصدرين، فلا. لكن ذلك، شي‏ء، ذكره صاحب الكشاف والبيضاوي.

حَذَرَ الْمَوْتِ: وقرأ ابن أبي ليلى: حذار الموت.

فقد جاء حذر، يحذر، حذار وحذارا، منصوب على أنه مفعول له، ليجعلون.

فهو علة للجعل المعلل، أي: جعلهم أصابعهم في آذانهم ، لأجل الصواعق، واقع لأجل الحذر من الموت المتوهم، لشدة الصوت.

و «الموت»، عدم الحياة، عما من شأنه ذلك، فالتقابل بينه وبين الحياة، تقابل العدم والملكة. وقيل: عرض يمنع الاحساس، يعرض عقيب الحياة، أي:

لا يجمعها. فيكون التقابل بينهما، تقابل التضاد.

و استدل عليه، بقوله تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ . فان الخلق والإيجاد، لا يتعلق الا بالأمور الوجودية.

و أجيب، بأن المقصود من الخلق، التقدير. ولو سلم، فالعدم، يمكن أن يخلق باعتبار استمراره. ولو سلم، فالذي لا يخلق، هو العدم، بمعنى السلب.

و الموت، ليس كذلك. كما مر.

وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ :

أمال أبو عمر.

و الكاف من «الكافرين»، في موضع الخفض والنصب. وروي ذلك، عن الكسائي. والباقون لا يميلون.

و وجه حسنه، لزوم كسرة الراء التي تجري مجرى الكسرتين، بعد الفاء المكسورة.و تلك، اعتراضية، لا محل لها من الاعراب.

و فائدتها، أن المحذر عن الموت، لا يفيد.

و وضع «الكافرين»، موضع المضمر، للدلالة على أن أصحاب الصيّب، كفار. ليظهر استحقاقهم شدة الأمر.

و قيل: هذه المعترضة، لبيان أحوال المشبه، على أن المراد «بالكافرين»، المنافقون. دل بها على أنهم، لا مدفع لهم، من  عذاب اللّه، في الدنيا والاخرة.

و وسطت بين أحوال المشبه به، مع أن القياس، يقتضي تقديمها أو تأخيرها، تنبيها على شدة الاتصال بين المشبه والمشبه به، ودلالة على فرط الاهتمام، بشأن المشبه واحاطة اللّه، مجاز.

فان شبه شمول قدرته تعالى، باحاطة المحيط، «بما أحاط به في امتناع فوات كان هناك استعارة تبعية، في الصفة، سارية اليها، من مصدرها.

و ان شبه حاله تعالى معهم، بحال المحيط» ، مع المحاط، أي، شبه هيئة منتزعة من عدة أمور، بأخرى مثلها، كان هناك استعارة تمثيلية ، لا تصرف في  شي‏ء، من ألفاظ مفرداتها. الا أنه لم يصرح منها، الا بلفظ ما هو العمدة في الهيئة المشبه بها، أعني، الاحاطة. والبواقي من الألفاظ، منوية في الارادة.

و احاطة اللّه سبحانه، عند الصوفية بالكافرين، بل بالموجودات، كلها، عبارة عن تجلّيه بصور الموجودات. فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه، سار في الموجودات كلها، ذاتا وعلما وقدرة، الى غير ذلك، من الصفات. والمراد باحاطته تعالى،

هذه السراية. انه لا يعزب  عنه، مثقال  ذرة، في السموات والأرض، إذ كل ما يعزب  عنه، يلتحق بالعدم. وقالوا: هذه الاحاطة، ليست كاحاطة الظرف بالمظروف. ولا كاحاطة الكل بأجزائه. ولا كاحاطة الكلي بجزئياته. بل كاحاطة الملزوم، بلوازمه. فان التعينات اللاحقة، لذاته المطلقة، انما هي لوازم له، بواسطة أو بغير واسطة، وبشرط أو بغير شرط. ولا يقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها.

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ: استئناف ثان. كأنه قيل: ما حالهم مع تلك الصواعق ؟

فأجيب: و«يكاد» مضارع كاد. وهو من كدت، تكاد، كيدا ومكادة. وحكى الأصمعي: كودا. فيكون كخفت، تخاف، خوفا. والأول أشهر.

و «كاد» من أفعال المقاربة. وضعت لمقاربة الخبر، من الوجود لعروض، سببه، لكنه لم يوجد اما لفقد شرط، أو لعروض مانع. والشرط في خبره، أن يكون فعلا مضارعا، بدون «ان». وقد يكون معها، بخلاف «عسى». فانه لرجائه.

و قد يدخل على خبرها، «ان».

و قرئ يخطف- بكسر الطاء- ويختطف ويخطف- بفتح الياء والخاء- وأصله يختطف، نقلت حركة التاء الى الخاء. ثم أدغمت في الطاء. ويخطف- بكسرهما- بحذف حركة التاء، للادغام وبتحريك الخاء بالكسر، اما لالتقاء الساكنين. واما لمتابعة الطاء. ويجعل حرف المضارعة، تابعا للخاء.

و «يخطف»، مضارع خطف، من باب التفعيل. ويتخطف مضارع تخطف‏من باب التفعل.

كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ. وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، قامُوا: استئناف ثالث.

جواب لمن يقول: كيف يصنعون عند خفوق  البرق وخفيه  ؟

و كلمة «كل» في «كلما» منصوب على الظرفية، باتفاق. وناصبها، الفعل الذي، هو جوابها: أعني، «مشوا». وإفادتها الظرفية، من جهة «ما». فإنها  محتملة لوجهين:

أحدهما: أن يكون حرفا مصدريا. والجملة، صلة له. فلا محل لها. فالأصل كل وقت إضاءته. ثم عبر عن المصدر، «بما». والفعل، ثم، أنيبا  عن الزمان بتقدير «الوقت».

و الثاني: أن يكون اسما نكرة، بمعنى، وقت. فلا يحتاج على هذا الى تقدير «وقت».

و الجملة بعده، في موضع خفض، على الصفة، فيحتاج الى تقدير، عائد فيها ، أي: كل وقت أضاء لهم البرق، فيه. هكذا قيل.

و أقول: «ما» المصدرية، قسمان: مصدرية صرفة ومصدرية ظرفية. وكلمة «ما» المركبة، مع كل مصدرية ظرفية. فعلى هذا، لا حاجة الى تقدير، ولا الى حذف عائد.و «أضاء»، اما متعد. والمفعول محذوف. والتقدير، كلما أضاء طريقا لهم مشوا فيه. وضمير «فيه»، حينئذ، اما عائد الى المفعول المحذوف- واليه ذهب المبرد- أو الى «البرق»- وعليه الجمهور- واما لازم، بمعنى، كلما لمع لهم مشوا فيه. ويتعين عود الضمير اليه. وإذا عاد الضمير، الى «البرق»- على التقديرين- فلا بد في الظرفية، من  تقدير مضاف، أي: في ضوئه.

و كذلك «أظلم»، اما لازم. أو متعد. من ظلم الليل- بالكسر- ويؤيده قراءة «أظلم»، على البناء للمفعول.

ورد باحتمال أن يكون عليهم، قائما مقام الفاعل. فيكون تعدية «أظلم»، «بعلى». لا بنفسه.

و أجيب بأن عليهم أن يقابل لهم، في أضاء لهم. فان جعلا مستقرين، لم يصلح عليهم لأن يقوم مقام الفاعل. وان جعلا صلتين للفعل، على تضمين معنى النفع والضر  ولم يصلح عليهم، لأن يقوم مقام فاعل المضمن ولا المضمن فيه.

و على تقدير صلوحه، فعطف إذا «أظلم»، على «كلما أضاء»، مع كونها جوابا للسؤال عما يضعون  في تارتي خفوق  البرق.

و خفيته  يقتضي أن يكون «أظلم» مسند الى ضمير «البرق»، كأضاء.

على معنى كلما نفعهم البرق باضاءته ، افترضوه ، وإذا ضرهم باظلامه واختفائه‏دهشوا.

و قد يجاب- أيضا- بأن بناء الفعل للمفعول، من المتعدي بنفسه، أكثر.

فالحمل عليه، أولى وأنسب. وانما قال في الاضاءة، «كلما» وفي الاظلام، «إذا»، لأنهم حراص على المشي. فكلما صادفوا منه  فرصة، انتهزوها. ولا كذلك التوقف.

و معنى قاموا، وقفوا. بدليل وقوعه في مقابلة «مشوا». ومنه، قام الماء، جمد. وقام السوق، إذا كسد وسكن. وقد مر استعماله بمعنى، نفق، مأخوذا من القيام، بمعنى، الانتصاب. فهو من الأضداد.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ: معطوفة اما على الجملة الاستئنافية، أعني: «يجعلون». واما على  جملة كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ».

و كلمة «لو»، عند المحققين، يدل  على ثلاثة أمور: عقد السببية والمسببية بين الجملتين بعدها، وكونهما في الماضي، وانتفاء السبب. ولا دلالة لها على امتناع الجواب. ولكنه ان كان مساويا للشرط، في الواقع، أو عند المتكلم، كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة، لكان النهار موجودا، وقولك: لو جئتني، لأكرمتك، لزم انتفاؤه. وان كان أعم- كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة، لكان الضوء موجودا- فلا.

و انما يلزم انتفاء القدر المساوي منه، للشرط، يعني: الضوء المستفاد من الطلوع، في المثال المذكور، مثلا. ثم انه يحتمل أن يكون المقصود هنا، بيان مسببية  ذهاب سمعهم وبصرهم، لمشية الحق سبحانه، كما هو شأن الحوادث، كلها. لا الدلالة على انتفاء أحدهما، لانتفاء الاخر. فلذلك قال بعضهم: «لو» هنا مستعمل، لربط جزائها بشرطها، مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما، لانتفاء الاخر، فهو بمنزلة إن.

و قد يقال: انها باقية على أصلها. وقصد بها التنبيه، على أن مشقتهم، بسبب الرعد والبرق، وصلت غايتها وقاربت ازالة الحواس، بحيث لو تعلقت بها المشيّة لأزالت بلا حاجة، الى زيادة، في وصف الرعد وضوء البرق، كما ذكر أولا.

و النكتة في اختيار ذهب بسمعهم وأبصارهم، على أذهب سمعهم وأبصارهم قد مر بيانها «في ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.

و المعنى «لو شاء اللّه أن يذهب بسمعهم»، بشدة صوت الرعد، «و أبصارهم»، بقوة لمعان البرق، لذهب بهما. فحذف المفعول، لدلالة الجواب عليه. ولهذا تكاثر حذف المفعول، في «شاء» و«أراد» ومتصرفاتهما، إذا وقعتا في حيز  الشرط، لدلالة الجواب على ذلك المحذوف، ومع وقوعه في محله لفظا. ولأن في ذلك نوعا من التفسير، بعد الإبهام، الا في الشي‏ء المستغرب. فانه لا يكتفى فيه، بدلالة الجواب عليه. بل يصرح به، إغناء بتعيينه، ودفعا لذهاب الوهم الى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به، واستغرابه، كقوله:

         ولو شئت أن ابكي دما، لبكيته             عليه ولكن ساحة الصبر أوسع‏

 وقرئ: لأذهب بسمعهم وأبصارهم، بزيادة الباء. كقوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ .إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ : تقرير لما قبلها.

و الشي‏ء، يختص بالموجود، في الأصل. مصدر شاء. أطلق بمعنى شاء- تارة- وحينئذ، يتناول الباري، كما قال: «أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ» .

و بمعنى مشي‏ء أخرى، أي: مشي‏ء وجوده. وما شاء اللّه وجوده، فهو موجود، في الجملة.

قال المعتزلة: الشي‏ء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه .

و قيل: والشيئية  على قسمين: ثبوتية (و هي ثبوت)  المعلومات، في علم اللّه تعالى، متميزا بعضها عن بعض.

و هي  على ثلثة أقسام:

أحدها: ما يجب وجوده في العين، كذات الواجب.

و ثانيها: ما يمكن بروزه من العلم، الى العين. وهو الممكنات.

و ثالثها: ما لا يمكن. وهو الممتنعات.

و الثبوتية في الأول والثالث، باعتبار الوجود العلمي. وفي الثاني، باعتباره.

و باعتبار الثبوت العيني- أيضا- فإنهم قسّموا الكون في الخارج، الى ما يترتب عليه الآثار الخارجية، وسموه وجودا عينيا. وما لا يترتب عليه الآثار الخارجية سموه ثبوتا خارجيا.

و متعلق قدرة اللّه، من تلك الأقسام، هو الثاني، دون الأول والثالث. ومشيّةوجودها، هي وجودها خارج العلم. والموجودات الخارجية، من حيث تعلق القدرة، بإخراجها من العلم الى العين، لا يتعلق بها قدرة أخرى، لاستحالة تحصيل الحاصل. فان تعلقت قدرة بها، فباعتبار إعدامها. فذات الواجب تعالى وصفاته والممتنعات والموجودات الممكنة، من حيث أنها تعلقت القدرة بها، مستثناة- عقلا- من الحكم على اللّه تعالى، بأنه على كل شي‏ء قدير.

و القدرة في اللغة، التمكن.

و قدرة اللّه، عند الحكيم، بمعنى أنه ان شاء، فعل. وان لم يشأ، لم يفعل.

لكن شاء، ففعل بالمشيّة القديمة. وحاصله، إمكان الفعل والترك، بالنظر الى الذات.

و وجوب الفعل وامتناع الترك، بالنظر الى الارادة.

و عند الأشاعرة، صفة يقتضي التمكن.

و قيل : قدرة الإنسان، هيئة بها، يتمكن من الفعل. وقدرة اللّه نفي العجز عنه. والقدير، الفعال لما يشاء. ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى. وانما سمي القدير قديرا، لأنه يوقع الفعل، على مقدار قوته. أو على مقدار ما يقتضيه مشيّته. أو على مقدار علمه.

و على ما حققنا في الآية، دليل على أن الحادث، حال حدوثه، والممكن، حال بقائه، مقدوران. وان مقدور العبد، مقدور اللّه. لأنه شي‏ء. وكل شي‏ء، مقدور. وهذا التمثيل، كالتمثيل الأول. يحتمل أن يكون من قبيل تشبيه المفرد.

و أن يكون من قبيل تشبيه المركب. فشبه على الأول، ذوات المنافقين، بأصحاب الصيب، في اشتمال كل منهما، على أمر كثير النفع. وشبه اسلام المنافقين، من حيث مطلق الأقسام، لا من حيث أنه مضاف اليهم، بالصيب، في أن كل واحدمنهما، سبب للحياة.

فالأول، سبب لحياة القلوب. والثاني، سبب لحياة الأرض.

و شبّهت، شبههم التي يتمسكون بها، في الاستمرار على كفرهم ونفاقهم، بالظلمات. ووعدهم  في الظاهر على إسلامهم، بالرعد. فانه صياح بلا طائل.

و وعيدهم في نفس الأمر، بالبرق. فانه نار محرقة. وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة المسلمين، بالصواعق. واظهارهم الايمان، حذرا عن اصابة هذه المصيبات بجعل  الأصابع، في الأذان من الصواعق، حذر الموت. واحتيازهم لما يلمع لهم وشديد ركونه، بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم. وتحيرهم وتوقفهم من الأمر، حين يعنّ لهم مصيبة، بتوقفهم إذا أظلم عليهم.

و شبّه على الثاني، ما وقع المنافقون فيه، من الضلالة وما خبطوا فيه، من الحيرة والدهشة، بحال من أخذتهم السماء، في ليلة تكاثف ظلمتها، بتراكم السحب واتصال قطراتها وتواتر فيها الرعود الهائلة والبروق المخيفة والصواعق المهلكة.

و هم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت.

و لا شك، انك إذا تصورت حالهم بهذه المثابة، حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك الى معرفة حال المنافقين، على وجه، يتقاصر عنه، تشبيهك اسلام المنافقين والشبهات.

 (و في كتاب التوحيد : بإسناده الى أبي هاشم الجعفري: عن أبي جعفر الثاني- عليه السلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السلام-: قولك ان اللّه قدير، خبرت أنه لا يعجزه شي‏ء. فنفيت بالكلمة العجز. وجعلت العجز سواه.و بإسناده  الى أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السلام- يقول: لم يزل اللّه- عز وجل- ربنا. والعلم ذاته. ولا معلوم. والسمع ذاته. ولا مسموع.

و البصر ذاته. ولا مبصر. والقدرة ذاته. ولا مقدور. فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم، وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور.

و بإسناده  الى محمد بن أبي إسحاق الخفاف، قال: حدثني عدة من أصحابنا: أن عبد اللّه الديصاني، أتى هشام بن الحكم. فقال له: أ لك رب؟

فقال: بلى.

قال: قادر؟

قال: نعم، قادر قاهر.

قال: يقدر أن يدخل الدنيا- كلها- في البيضة، لا تكبر البيضة ولا تصغر  الدنيا؟

فقال هشام: النظرة.

فقال له: قد أنظرتك حولا.

ثم خرج عنه. فركب هشام الى أبي عبد اللّه- عليه السلام- فاستأذن عليه.

فأذن له. فقال له: يا بن رسول اللّه! أتاني عبد اللّه الديصاني، بمسألة. ليس المعوّل فيها، الا على اللّه، وعليك.

فقال له أبو عبد اللّه- عليه السلام- عما  سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت.فقال أبو عبد اللّه- عليه السلام-: يا هشام! كم حواسك؟

قال: خمس.

قال : أيها أصغر؟

قال : الناظر.

قال : وكم قدر الناظر؟

قال: مثل العدسة، أو أقل منها.

فقال له : يا هشام! فانظر أمامك وفوقك. فأخبرني بما ترى؟

فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا.

فقال له أبو عبد اللّه- عليه السلام-: ان الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة، أو أقل منها، قادر أن يدخل الدنيا، كلها البيضة، لا تصغر  الدنيا، ولا تكبر  البيضة.

فانكبّ هشام عليه. وقبّل يديه ورجليه. وقال: حسبي، يا بن رسول اللّه- والحديث طويل-، أخذت منه موضع الحاجة.

و بإسناده ، الى ابن  أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: ان إبليس قال لعيسى بن مريم- عليهما السلام-: أ يقدر ربك على أن يدخل الأرض، بيضة، لا تصغر  الأرض ولا تكبر البيضة؟

فقال عيسى- عليه السلام-: ويلك! ان اللّه تعالى لا يوصف بعجز. ومن أقدر ممن يلطف الأرض ويعظم البيضة؟

و بإسناده  الى عمر بن أذينة، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: قيل لأمير المؤمنين- عليه السلام-: هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر  الدنيا أو تكبر  البيضة؟

قال: ان اللّه- تبارك وتعالى- لا ينسب الى العجز. والذي سألتني لا يكون.

و بإسناده  الى أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: جاء رجل الى أمير المؤمنين- عليه السلام- فقال: أ يقدر اللّه أن يدخل الأرض في بيضة ولا تصغر  الأرض ولا تكبر البيضة؟

فقال له : ويلك! ان اللّه لا يوصف بالعجز. ومن أقدر ممن يلطف الأرض ويعظم البيضة؟

و بإسناده  الى أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: جاء رجل الى الرضا- عليه السلام- فقال له: هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟

قال: نعم. وفي أصغر من البيضة. وقد جعلها في عينك. وهو أقل من البيضة.لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، فلو شاء لأعماك عنها)