سورة البقرة الآية 261-286

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ:

على تقدير مضاف، أي: مثل نفقتهم كمثل حبّة، أو مثلهم كمثل باذر حبّة.

و إسناد الإنبات إلى الحبّة، مجاز.

و المعنى أنّه: يخرج منها ساق. ينشعب منها سبع شعب. لكلّ منها سنبلة. فيها مائة حبّة. وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه. وقد يكون في الذّرة والدّخن وفي البرّ في الأراضي المغلة.

وَ اللَّهُ يُضاعِفُ تلك المضاعفة، لِمَنْ يَشاءُ بفضله، وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه.

و في كتاب ثواب الأعمال ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا أحسن العبد المؤمن، ضاعف اللّه له عمله، بكلّ حسنة سبعمائة ضعف. وذلك قول اللّه تعالى:

وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ.

 

وَ اللَّهُ واسِعٌ: لا يضيق عليه ما يتفضل به.

عَلِيمٌ  بنيّة المنفق وإخلاصه.

و في تفسير العيّاشيّ : عن المفضّل بن محمّد الجعفيّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه تعالى: حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ قال: «الحبّة»، فاطمة- صلّى اللّه عليها. و«السبع  السنابل»، سبعة من ولدها. سابعها  قائمهم.

قلت: الحسن.

قال: إنّ الحسن إمام من اللّه. مفترض طاعته. ولكن ليس من السّنابل السّبعة.أوّلهم الحسين وآخرهم القائم.

فقلت: قوله: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ.

 

فقال: يولد الرّجل منهم في الكوفة مائة من صلبه وليس ذاك إلّا هؤلاء السّبعة.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ :

 «المنّ» أن يعتدّ بإحسانه على من أحسن إليه.

و «الأذى» أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه.

و «ثمّ» للتّفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى. ولعلّه لم تدخل الفاء فيه. وقد تضمّن ما أسند إليه معنى الشّرط، إيهاما بأنّهم أهل لذلك. وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا؟

و في كتاب الخصال ، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن عليّ- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّ اللّه كرّه لكم، أيّتها الأمّة! أربعا وعشرين خصلة. ونهاكم عنها (إلى قوله- عليه السّلام-) وكرّه المنّ في الصّدقة.

عن أبي ذرّ ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: ثلاثة لا يكلمهم اللّه: المنّان الّذي لا يعطي شيئا إلّا يمنّه، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر.

عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام - قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّ اللّه تعالى كرّه لي ستّ خصال وكرّهتهنّ  للأوصياء من ولدي وأتباعهم من بعدي: العبث في الصلاة، والرّفث في الصّوم، والمنّ بعد الصّدقة ... (الحديث.)

 [و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال الصّادق- عليه السّلام: ما شي‏ء أحبّ إليّ من رجل سلفت  منّي إليه يد أتبعها  أختها وأحسنت بها له. لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع  لسان شكر الأوائل.]

 قَوْلٌ مَعْرُوفٌ: ردّ جميل، وَمَغْفِرَةٌ: تجاوز عن السّائل الحاجة، أو نيل مغفرة من اللّه بالرّدّ الجميل، أو عفو عن السّائل بأن يعذره ويغتفر ردّه، خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً:

خبر عنهما. والابتداء بالنّكرة المخصّصة بالصّفة.

وَ اللَّهُ غَنِيٌّ عن الإنفاق بمنّ وأذى، حَلِيمٌ  عن معاجلة من يمنّ ويؤذى.

و قد روى عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: إذا سأل السّائل، فلا تقطعوا عليه مسألته، حتّى يفرغ منها. ثمّ ردّوا عليه بوقار ولين، إمّا بذل يسير، أو ردّ جميل.

فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جانّ. ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللّه تعالى؟

 (رواه في مجمع البيان .)

 

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى: لا تبطلوا أجرها بكلّ واحد منهما.

و في مجمع البيان : روى عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثمّ آذاه بالكلام، أو منّ عليه، فقد أبطل اللّه صدقته.

و في تفسير العيّاشيّ : عن المفضّل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن جعفر بن محمّد، وأبي جعفر- عليهما السّلام- في قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى (إلى آخر الآية) قال: نزلت في عثمان. [و جرى في معاوية وأتباعهما.

و عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام - فهو قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى لمحمّد وآل محمّد- عليهما السّلام. هذا تأويل.

قال: نزلت في عثمان.]

 كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، كإبطال المنافق الّذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضاء اللّه ولا ثواب الآخرة، أو مماثلين الّذي ينفق رئاء.

فالكاف في محل النّصب على المصدر، أو الحال.

و «رئاء» نصب على المفعول له، أو الحال بمعنى مرائيا، أو المصدر، أي:

إنفاقا رئاء.

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ: كمثل حجر أملس، عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ: مطر عظيم القطر، فَتَرَكَهُ صَلْداً: أملس نقيّا من التّراب، لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ‏ءٍ مِمَّا كَسَبُوا: لا ينتفعون بما فعلوا رياء، ولا يجدون ثوابه.

و الضّمير للّذي ينفق، باعتبار المعنى، كقوله: إنّ الّذي حانت بفلج دمائهم.

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ  إلى الخير والرّشاد.

 [و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ثمّ ضرب اللّه مثلا فيه. فقال: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ‏ءٍ مِمَّا كَسَبُوا. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ، قال: من كثر امتنانه وأذاه لمن يتصدّق عليه، بطلت صدقته، كما يبطل التّراب الّذي يكون على الصّفوان. و«الصّفوان»: الصّخرة الكبيرة الّتي يكون في مفازة، فيجي‏ء المطر، فيغسل التّراب عنها، ويذهب به. فيضرب اللّه هذا المثل لمن اصطنع المعروف، ثمّ أتبعه بالمنّ والأذى.]

 

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ:

في تفسير العيّاشيّ : عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، قال: عليّ أمير المؤمنين- عليه السّلام:

أفضلهم. وهو ممّن ينفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه. [و عن سلام عن المسيّب ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قال: أنزلت في عليّ- عليه السّلام.]

 

وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ: وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان. فإنّ المال شقيق الرّوح. فمن بذل ما له لوجه اللّه، ثبت بعض نفسه. ومن بذل ماله وروحه، ثبتها كلّها، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء. مبتدأ من أصل أنفسهم .

كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ، أي: ومثل نفقة هؤلاء في الزّكاة كمثل بستان بموضع مرتفع.

فإنّ شجره يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. وقرأ ابن عامر وعاصم: بربوة (بالفتح.)

و قرئ بالكسر. وثلاثها لغات فيها.

أَصابَها وابِلٌ: مطر عظيم القطر.

فَآتَتْ أُكُلَها: ثمرتها.

و قرئ بالسّكون للتّخفيف.

ضِعْفَيْنِ: نصب على الحال، أي: مضاعفا.

و «الضّعف»: المثل، أي: مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل.

و قيل : أربعة أمثاله.

و قيل : مثل الّذي كانت تثمر كما أريد بالزّوج الواحد، في قوله : مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.

فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فطلّ، اي: فيصيبها طلّ، أو فالّذي يصيبها.

فَطَلٌّ أو فطلّ يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها، لارتفاع مكانها.

و «الطّلّ» ما يقع باللّيل على الشّجر والنّبات.

و المعنى: أنّ نفقات هؤلاء زاكية عند اللّه. لا تضيع بحال، وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضمّ إليها من أحوالها.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : تحذير عن الرياء. وترغيب في الإخلاص.

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ: الهمزة للإنكار.

أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ:

جعل الجنّة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار، تغليبا لها لشرفهما وكثرة منافعهما. ثمّ ذكر أنّ فيها من كلّ الثّمرات، ليدلّ على احتوائها على سائر أنواع الأشجار.

قيل : ويجوز أن يكون المراد بالثّمرات المنافع.

وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ، أي: كبر السّنّ. فإنّ الفاقة في الشّيخوخة أصعب.

و «الواو»، للحال، أو للعطف، حملا على المعنى. فكأنّه قيل : أ يودّ أحدكم لو كانت له جنّة وأصابه الكبر.

وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا قدرة لهم على الكسب.

فَأَصابَها إِعْصارٌ

في تفسير العيّاشيّ : عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام: إِعْصارٌ فِيهِ، نارٌ، قال: ريح.

فِيهِ نارٌ: صفة «إعصار.»

فَاحْتَرَقَتْ: عطف على «أصابه»، أو تكون باعتبار المعنى .

كَذلِكَ، أي: مثل هذا التّبيين، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ : فيها فتعتبرون.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من حلاله أو جياده.

و في الكافي  عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ، فقال: كان القوم قد كسبوا مكاسب في الجاهليّة. فلمّا أسلمواأرادوا أن يخرجوها من أموالهم، ليتصدّقوا بها. فأبى اللّه- تبارك وتعالى- إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.

و في تفسير العيّاشيّ : عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- قال: كان أهل المدينة يأتون بصدقة الفطر إلى مسجد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وفيه عرق  يسمّى الجعرور  وعرق يسمّى معافارة. كانا عظيم نواهما، رقيق لحاهما في طعمهما مرارة.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- للخارص: لا تخارص عليهم هاتين  اللّونين. لعلّهم يستحيون لا يأتون بهما.

فأنزل اللّه- تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ (إلى قوله) تُنْفِقُونَ.

 

و في مجمع البيان : وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف. فيدخلونه في تمر الصدقة- عن عليّ- عليه السّلام.

و قد روي عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله - أنّه قال: إنّ اللّه يقبل الصّدقات.

و لا يقبل منها إلّا الطّيّب.

وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، أي: من طيّباته. فحذف المضاف، لدلالة ما تقدّم.

وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ: ولا تقصدوا الرّدي‏ء، مِنْهُ، أي: من المال.

و قرئ بضمّ التّاء وبكسر الميم.

تُنْفِقُونَ: حال مقدّرة من فاعل «تيمّموا». ويجوز أن يتعلّق به منه. ويكون الضمير للخبيث. والجملة حالا منه.

و قيل: يجوز أن يكون الضّمير لمّا أخرجنا وتخصيصه بذلك. لأنّ التّفاوت فيه أكثر.و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن داود قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إذا زنى الرّجل فارقه روح الإيمان.

قال: فقال: هذا مثل قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. ثمّ قال غير هذا، أبين منه. ذلك قول اللّه- عزّ وجلّ : وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. هو الّذي فارقه.

وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ، أي: وحالكم أنّكم لا تأخذونه في حقوقكم.

إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ: إلّا أن تتسامحوا فيه. مجاز من أغمض بصره، إذا غضّه .

و قرئ من باب التّفعيل، أي: تحملوا على الإغماض، أو توجدوا مغمضين.

و في الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ، قال: كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذا أمر بالنّخل أن يزكّى، يجي‏ء قوم بألوان من التّمر. وهو من أردأ التّمر يؤدّونه من زكاتهم تمرا. يقال له «الجعرور» و«المعافارة» قليلة اللّحا، عظيمة النّوى. وكان بعضهم يجي‏ء بها عن التّمر الجيّد. فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: لا تخرصوا هاتين التّمرتين. ولا تجيئوا منهما بشي‏ء.

و في ذلك نزل: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا.

 

و الإغماض أن يأخذ هاتين التّمرتين.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم. وإنّما يأمركم به لانتفاعكم.

حَمِيدٌ  بقبوله وإثابته.

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ في الإنفاق. والوعد في الأصل شائع في الخير والشّرّ.

و قرئ الفقر، بالضّمّ والسّكون وبضمّتين وفتحتين.

وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ: ويغريكم على البخل. والعرف يسمّي البخيل فاحشا.

و قيل : المعاصي.وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ، أي: في الإنفاق.

وَ فَضْلًا: خلفا أفضل ممّا أنفقتم.

وَ اللَّهُ واسِعٌ: الفضل لمن أنفق وغيره.

عَلِيمٌ  بالإنفاق وغيره.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، قال: الشّيطان يقول: «لا تنفق مالك. فإنّك تفتقر.» واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلا، أي:

يغفر لكم إن أنفقتم للّه. و«فضلا»، قال: يخلف عليكم.

و في كتاب علل الشّرائع : أبي- رضي اللّه عنه- قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن يحيى، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ، عن [ابن‏]  عبّاس، عن أسباط، عن عبد الرّحمن قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام: إنّي ربّما حزنت. فلا أعرف في حال ولا مال ولا ولد. وربّما فرحت. فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد.

فقال: إنّه ليس من أحد إلّا ومعه ملك وشيطان. فإذا كان فرحه، كان دنّو الملك منه. فإذا كان حزنه، كان دنوّ الشّيطان منه. وذلك قول اللّه- تبارك وتعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.

 

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ:

 [مفعول أوّل آخر للاهتمام بالمفعول الثّاني.

وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ:

بناءه للمفعول. لأنّه المقصود. وقرأ يعقوب بالكسر، أي: ومن يؤته اللّه.

فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً:

و المراد بالحكمة، طاعة اللّه، ومعرفة الإسلام، ومعرفة الإمام الّتي هي العمدة في كلتا المعرفتين الأوّلتين.

و في محاسن البرقيّ : عنه، عن أبيه، عن النّضر بن سويد، عن الحلبيّ، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه تبارك وتعالى:وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال: هي طاعة اللّه ومعرفة الإسلام .

و في مجمع البيان : ويروى عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أتاني القرآن، وأتاني من الحكمة مثل القرآن. وما من بيت ليس فيه شي‏ء من الحكمة إلّا كان خرابا. ألا فتفقّهوا، وتعلّموا، ولا تموتوا  جهّالا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال: الخير الكثير: معرفة أمير المؤمنين والأئمّة- عليهم السّلام. و

فيه ، خطبة له- صلّى اللّه عليه وآله- وفيها: رأس الحكمة، مخافة اللّه.

و في تفسير العيّاشيّ : عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فقال: إنّ الحكمة المعرفة والتّفقّة في الدّين. فمن فقّه منكم، فهو حكيم. وما [من‏]  أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس، من فقيه.

وفي كتاب الخصال ، عن الزّهريّ عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- قال: كان آخر ما أوصى به الخضر، موسى بن عمران- عليهما السّلام- أن قال [له‏]:  لا تعيرنّ أحدا- إلى قوله- ورأس الحكمة مخافة اللّه- تبارك وتعالى.

عن محمّد بن أحمد بن محمّد  بن أبي نصر  قال أبو الحسن- عليه السّلام: من علامات الفقه: الحلم، والعلم، والصّمت. إنّ الصّمت باب من أبواب الحكمة. وإنّ الصّمت يكسب المحبّة. وإنّه دليل على كلّ خير.

عن أبي جعفر- عليه السّلام - قال بينما  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذات‏يوم، في بعض أسفاره، إذ لقيه ركب. فقالوا: السّلام عليك، يا رسول اللّه! فالتفت إليهم. وقال : ما أنتم؟ فقالوا : مؤمنون.

قال: فما حقيقة إيمانكم؟

قالوا: الرّضا بقضاء اللّه، والتّسليم لأمر اللّه، والتّفويض إلى اللّه.

فقال رسول اللّه: علماء حكماء وكادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء. فإن كنتم صادقين، فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتّقوا اللّه الّذي إليه ترجعون.

و في أصول الكافي  عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أيّوب ابن الحرّ، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فقال: طاعة اللّه، ومعرفة الإمام.

يونس»، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

 

سمعته يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال: معرفة الإمام، واجتناب الكبائر الّتي أوجب اللّه عليها النّار.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن النّوفليّ، عن السّكونيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن آبائه- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقد ذكر القرآن: لا تحصى عجائبه. ولا تبلى غرائبه. مصابيح الهدى . ومنار الحكمة.

و في مصباح الشّريعة : قال الصّادق- عليه السّلام: الحكمة ضياء المعرفة، و(ميزان)  التّقوى، وثمرة الصّدق.

و لو قلت: ما أنعم اللّه على عباده  بنعمة أنعم وأعظم  وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة، لقلت: [صادقا]  قال اللّه- عزّ وجلّ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ، أي: لا يعلم ما أودعت وهيّأت في‏الحكمة إلّا من استخلصته لنفسي وخصصته بها.

و الحكمة هي النجاة. وصفة الحكيم، الثّبات عند أوائل الأمور، والوقوف عند عواقبها، وهو هادي خلق اللّه إلى اللّه.

وَ ما يَذَّكَّرُ: وما يتّعض بما قصّ من الآيات، أو ما يتفكّرون. فإنّ المتفكّر كالمتذكّر لما أودع اللّه في قلبه من العلوم، بالقوّة.

إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ : ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم، والرّكون إلى متابعة الهوى.

و في أصول الكافي : بعض أصحابنا - رفعه- عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر- عليه السّلام: يا هشام: إنّ اللّه  ذكر أولي الألباب بأحسن الذّكر، وحلاهم بأحسن الحلية. فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.

 

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ: قليلة أو كثيرة، سرّا أو علانية، في حقّ أو باطل، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ: في طاعة، أو معصية.

فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. فيجازيكم عليه.

و دخول «الفاء»، إمّا في خبر المبتدأ، لتضمّنه معنى الشّرط، أو في الشّرط لكون كلمة، ما من أداة الشّرط.

وَ ما لِلظَّالِمِينَ الّذين يضعون الشي‏ء في غير موضعه، فينفقون في المعاصي، وينذرون فيها، أو يمنعون الصّدقات، ولا يوفون بالنّذور.

مِنْ أَنْصارٍ  ينصرهم من اللّه ويمنعهم من عقابه. جمع ناصر، كأصحاب:

جمع صاحب.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ: فنعم شيئا أبداها.

كلمة «ما» تمييز. والمضاف محذوف.

و قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ، بفتح النّون وكسر العين، على الأصل. وقرأ أبو بكر وقالون بكسر النّون وسكون العين. وروي بكسر النّون وإخفاء حركة العين.وَ إِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ:

و المراد بالصّدقات، سوى الزّكاة. وصلة قرابتك الواجبة، من الصّدقات النّافلة.

فإنّ الإعلان بالزّكاة والأمور المفروضة، أفضل.

روي في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبي المغرا، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت:

قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ. وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.

 

قال: ليس من الزّكاة وصلتك قرابتك. ليس من الزّكاة.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ]  فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ  قال: هي سوى الزّكاة. إنّ الزّكاة علانية غير سرّ.

عليّ بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن خالد، عن عبد اللّه بن يحيى، عن عبد اللّه بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كلّ  ما فرض اللّه عليك، فإعلانه أفضل من إسراره. وكلّما كان تطوّعا، فإسراره أفضل من إعلانه. ولو أنّ رجلا حمل  زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية، كان ذلك حسنا جميلا.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن ابن بكير، عن رجل، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ قال: يعني الزّكاة المفروضة.

قلت : وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ.

 

قال: يعني النّافلة. إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النّوافل.

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد، عن عليّ بن مرداس، عن صفوان بن‏

 يحيى، والحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمّار السّاباطيّ قال: قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: يا عمّار! الصّدقة، واللّه! في السّرّ، أفضل من الصّدقة في العلانية.

و كذلك واللّه العبادة في السّرّ، أفضل منها في العلانية.

و في تفسير العيّاشيّ : عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.

 

قال: ليس تلك الزّكاة. ولكنّه الرّجل يتصدّق لنفسه الزّكاة ، علانية، ليس بسرّ.

و اعلم! أنّ بعض تلك الأحاديث، يدلّ على أنّ في الآية استخداما، والمراد بالصّدقات، الصّدقات الواجبة، وبضميرها المندوبة. ويمكن حمل البعض الآخر عليه- أيضا- إلّا الخبر الأوّل. ويمكن أن يقال أيضا إنّه تفسير لقوله: «و إن تخفوها»- إلى آخره.

وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ:

قرأ ابن عامر وعاصم، في رواية حفص، بالياء، أي: واللّه يكفّر أو الإخفاء.

و قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، في رواية ابن عيّاش ويعقوب، بالنّون، مرفوعا على أنّه جملة فعليّة، مبتدأة، أو اسميّة، معطوفة على ما بعد الفاء، أي: ونحن نكفّر.

و قرأ نافع وحمزة والكسائيّ به، مجزوما على محلّ الفاء وما بعده.

و قرئ مرفوعا ومجزوما.

و الفعل للصّدقات.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ : ترغيب في الإسرار.

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ: ليس عليك أن تجعل كلّ النّاس مهديّين، بمعنى الإلزام على الحقّ. لأنّك لا تتمكّن منه. وإنّما عليك إراءة الحقّ، والحثّ عليه.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. لأنّه يقدر عليه.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ، من نفقة معروفة، فَلِأَنْفُسِكُمْ: فهو لأنفسكم. لا ينتفع به غيركم. فلا تمنّوا عليه. ولا تنفقوا الخبيث.

وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أي: حال كونكم غير متقين إلّا لابتغاء وجهه.و قيل : نفي في معنى النّهي.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ثوابه، أضعافا مضاعفة. فهو تأكيد للشّرطيّة السّابقة، أو ما يخلف المنفق استجابة،

لقوله- عليه السّلام : اللّهمّ اجعل لمنفق خلفا، ولممسك تلفا.

وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ : بتنقيص ثواب نفقتكم، أو إذهاب ثوابها.

لِلْفُقَراءِ: متعلق بمحذوف، أي: اعمدوا للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه لهم، أو صدقاتكم للفقراء.

الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي: أحصرهم الاشتغال بالعبادة، لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم، ضَرْباً فِي الْأَرْضِ: ذهابا فيها للكسب.

في مجمع البيان : قال أبو جعفر- عليه السّلام: نزلت الآية في أصحاب الصّفّة.

يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم.

و قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة، بفتح السّين.

أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ: من أجل تعفّفهم عن السّؤال.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال العالم- عليه السّلام: الفقراء هم الّذين لا يسألون  لقول اللّه تعالى في سورة البقرة: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ- إلى قوله- إِلْحافاً.

 

تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ من الضّعف، ورثاثة الحال. والخطاب للرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- أو لكلّ أحد.

لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً: إلحاحا. وهو أن يلازم المسئول حتّى يعطيه شيئا، من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده.

قيل : «المعنى: أنّهم لا يسألون. وإن سألوا عن ضرورة، لم يلحّوا.» والخبر الذي‏

رواه عليّ بن إبراهيم عن العالم- عليه السّلام- يردّه: بل هو نفي للأمرين، كقوله على لاحب: لا يهتدي بمناره.

و نصبه على المصدر. فإنّه نوع من السّؤال، أو على الحال.

و في مجمع البيان : وفي الحديث: إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتبوّس، ويحب الحليم المتعفّف من عباده، ويبغض الفاحش البذي‏ء السائل الملحف.

و عنه- عليه السّلام - قال: إنّ اللّه كرّه لكم ثلاثا.

قيل: وما هنّ ؟ قال: كثرة السّؤال، وإضاعة المال، ونهى عن عقوق الأمّهات ووأد البنات»

.

و قال- عليه السّلام : الأيدي ثلاث: فيد اللّه العليا، ويد المعطي الّتي تليها ، ويد السائل السّفلى إلى يوم القيامة. ومن سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا، أو خموشا، أو خدوشا في وجهه.

قيل: وما غناه؟

قال: خمسون درهما أو عدلها من الذّهب.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ : ترغيب في الإنفاق، وخصوصا على هؤلاء.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، أي: يعمّون الأوقات والأحوال بالخير.

و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي إسحاق قال: كان لعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- أربعة دراهم. لم يملك غيرها. فتصدّق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم علانية. فبلغ ذلك النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله. فقال: يا عليّ! ما حملك على ما صنعت؟قال: إنجاز موعود اللّه.

فأنزل اللّه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً (إلى آخر  الآية)

و في الكافي  عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبي المغرا عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له : قوله- عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً.

 

قال: ليس من الزّكاة.

و الحديث طويل. أخذنا منه موضع الحاجة.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عبد اللّه بن الوليد الوصافيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: صدقة السّرّ، تطفئ غضب الرّبّ- تبارك وتعالى.

و في من لا يحضره الفقيه : قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في قول اللّه تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قال: نزلت في النّفقة على الخيل.

قال مصنّف هذا الكتاب : روي  أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام. وكان سبب نزولها أنّه كان معه أربعة دراهم فتصدّق بدرهم منها باللّيل، وبدرهم بالنّهار، وبدرهم في السّرّ، وبدرهم في العلانية. فنزلت هذه الآية. والآية إذا نزلت في شي‏ء، فهي منزلة في كلّ ما يجري فيه. فالاعتقاد في تفسيرها أنّها نزلت في أمير المؤمنين- عليه السّلام- وجرت في النّفقة على الخيل وأشباه ذلك. (انتهى).

و في مجمع البيان : قال ابن عبّاس نزلت (هذه) الآية في عليّ- عليه السّلام.

كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بواحد ليلا، وبواحد نهارا، وبواحد سرّا، وبواحد علانية.

و هو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه- عليهما السّلام.

فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ : خبر الّذين‏ينفقون.

و الفاء للسّببيّة. وقيل : للعطف.

و الخبر محذوف، أي: ومنهم الّذين ينفقون. ولذلك جوّز الوقف على «و علانية.»

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا، أي: الآخذون للرّبا. وإنّما ذكر الأكل، لأنّه معظم منافع المال. وهو بيع جنس بما يجانسه، مع الزّيادة، بشرط كونه مكيلا، أو موزونا، والقرض مع اشتراط النّفع.

و إنّما كتب بالواو، كالصّلوة، للتّفخيم على لغة من يفخّم. وزيدت الألف بعدها، تشبيها بألف الجمع.

لا يَقُومُونَ إذا بُعثوا من قبورهم، أو في المحشر، أو في الدّنيا، يؤول عاقبة أمرهم إلى ذلك.

في تفسير العيّاشيّ : عن شهاب بن عبد ربّه قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: آكل الرّبا لا يخرج من الدّنيا حتّى يتخبّطه الشّيطان.

و في الأخبار ما يدلّ على الأوّلين. ويمكن الجمع بأنّ ابتداء حصول هذه الحالة في الدّنيا.

إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ: قياما كقيام المصروع، بناء على ما يزعم النّاس أنّ الشّيطان يمسّ الإنسان، فيصرع.

و «الخبط»: صرع على غير اتّساق، كالعشواء، أو الإفساد.

مِنَ الْمَسِّ: متعلّق بلا يقومون، أي: «لا يقومون من المسّ الّذي بهم، بسبب أكل الربا»، أو بيقوم، أو بيتخبطه. فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين، لا لاختلال عقلهم. ولكن لأنّ اللّه أربى ما في بطونهم ما أكلوه من الربا، فأثقلهم.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: لمّا أسري بي إلى السّماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم، فلا يقدر أن يقوم، من عظم بطنه.

فقلت: من هؤلاء؟ يا جبرئيل!قال: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ.

 

ذلِكَ العقاب، بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا: بسبب أنّهم نظّموا البيع والربا في سلك واحد، لافضائهما إلى الرّبح. فاستحلّوه استحلاله. وهو من باب القلب. والأصل إنّما الربا مثل البيع. عكس للمبالغة. كأنّهم جعلوا الربا أصلا، وقاسوا البيع به.

وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا: في موضع الحال.

في عيون الأخبار ، في باب ما كتب الرّضا- عليه السّلام- إلى محمّد بن سنان، في جواب مسائله في العلل وعلّة تحريم الربا: انّما نهى اللّه لما فيه من فساد الأموال. لأنّ الإنسان إذا اشترى الدّرهم بالدّرهمين، كان ثمن الدّرهم درهما، وثمن الآخر باطلا، فيقع  الربا، واشتراءه  وكسا  على كلّ حال على المشتري وعلى البائع. فحظر  اللّه تعالى الربا لعلّة فساد الأموال، كما حظر على السّفيه أن يدفع إليه ماله، لمّا يتخوّف عليه من إفساده، حتّى يؤنس منه رشد . فلهذه العلّة حرّم اللّه تعالى الرّبا، وبيع الدّرهم بالدّرهمين، يدا بيد. وعلّة تحريم الربا بعد البيّنة، لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم. وهي كبيرة بعد البيان وتحريم اللّه لها. ولم يكن ذلك منه إلّا استخفافا بالمحرّم الحرم . والاستخفاف بذلك دخول في الكفر.

و علّة تحريم الربا بالنسيئة، لعلّة ذهاب المعروف، وتلف الأموال، ورغبة النّاس في الرّبح، وتركهم الفرض، وصنائع المعروف، وما في  ذلك من الفساد والظّلم وفناء الأموال.

و في الكافي  عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن عثمان بن عيسى،

 عن سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام: إنّي رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره.

فقال: أ وتدري لم ذاك؟

قلت: لا. قال: لئلّا يمتنع النّاس من اصطناع المعروف.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّما حرّم اللّه- عزّ وجلّ الرّبا لئلّا  يمتنع النّاس من اصطناع المعروف.

روى عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: درهم ربا ، أعظم عند اللّه، من سبعين زنية بذات محرم، في بيت اللّه الحرام.

و قال: الربا سبعون  جزءا، أيسره أن ينكح الرّجل أمّه في بيت اللّه الحرام.

فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ، أي: وعظ وتوبة.

في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد بن مسلم: أنّ رجلا سأل أبا جعفر- عليه السّلام- وقد عمل بالربا حتّى كثر ماله، بعد أن سأل غيره من الفقهاء، فقالوا: ليس يقبل  منك شي‏ء، إلّا أن تردّه إلى أصحابه.

فلمّا قصّ على أبي جعفر - عليه السّلام- قال له أبو جعفر- عليه السّلام: مخرجك في كتاب اللّه، قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.

 

و الموعظة التّوبة.

و في أصول الكافي»: عليّ بن إبراهيم [عن أبيه‏] ، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما- عليهما السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ:فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ قال: الموعظة التّوبة.

مِنْ رَبِّهِ، أي: بلغه النّهي عن الربا من ربّه.

فَانْتَهى عن أخذه. وتاب عنه.

فَلَهُ ما سَلَفَ: ما تقدّم من أخذه. ولا يستردّ منه.

و «ما» في موضع الرّفع بالظّرف إن جعلت «من» موصولة، وبالابتداء إن جعلت شرطيّة على رأي سيبويه.

 «إذا» الظّرف معتمد على ما قبله.

وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، أي: يجازيه على انتهائه، أو يحكم في شأنه. ولا اعتراض لكم عليه.

في الكافي : أحمد بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبي المغرا [، عن الحلبيّ‏]  قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: كلّ ربا أكله النّاس بجهالة، ثمّ تابوا عنه، فإنّه يقبل منهم، إذا عرف منهم التّوبة. وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الرّبا، فجهل ذلك، ثمّ عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، فما مضى فله، ويدعه فيما يستأنف.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث طويل يقول فيه: إنّ  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قد وضع ما مضى من الرّبا. وحرّم عليهم ما بقي. فمن جهله، وسع له جهله، حتّى يعرفه. فإذا عرف تحريمه، حرّم عليه، ووجب عليه فيه العقوبة، إذا ركنه ، كما يجب على من يأكل الرّبا.

عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمّد، جميعا، عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الرّبيع الشّاميّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن رجل أربى بجهالة، ثمّ أراد أن يتركه.

قال: قال: أمّا ما مضى فله. وليتركه فيما يستقبل.وَ مَنْ عادَ إلى تحليل الربا إذا الكلام فيه، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ  لأنّهم كفروا به، كما مرّ في حديث العيون.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن عيسى، عن منصور، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن الرّجل يأكل الربا، وهو يرى أنّه له حلال.

قال: لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّدا. فإذا أصابه متعمّدا، فهو بالمنزل  الّذي قال اللّه- عزّ وجلّ.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا: يذهب بركته. ويهلك المال الّذي فيه.

في من لا يحضره الفقيه : وسأل رجل الصّادق- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وقد أرى من يأكل الربا، يربو ماله.

قال: فأيّ محق أمحق من درهم ربا يمحق الدّين وإن تاب منه، ذهب ماله وافتقر.

وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ: يضاعف ثوابها. ويبارك فيما أخرجت منه.

في تفسير العيّاشيّ : عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه يقول: ليس من شي‏ء إلّا وكلت به من يقبضه غيري إلّا الصّدقة. فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفا، حتّى أنّ الرّجل والمرأة يتصدّق  بالتّمرة وبشقّ تمرة فأربيها ، كما يربي الرّجل فلوه وفصيله، فيلقى في يوم القيامة  وهو مثل أحد وأعظم من أحد.

و عن أبي حمزة  عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال اللّه- تبارك وتعالى: أنا خالق كلّ شي‏ء. وكلت بالأشياء غيري إلّا الصّدقة- وذكر نحو ما سبق.

و عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى- عليه السّلام- عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: أنه ليس شي‏ء إلّا وقد وكل به‏ملك غير الصّدقة. فإنّ اللّه يأخذه  بيده، ويربيه كما يربي أحدكم ولده، حتّى تلقاه  يوم القيامة وهي مثل أحد.

و في مجمع البيان : روى عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- انه قال: [إنّ اللّه تعالى‏]  يقبل الصّدقات. ولا يقبل منها إلّا الطّيّب. ويربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، حتّى أنّ اللّقمة لتصير مثل أحد.

و في أمالي الصّدوق - ره- بإسناده إلى الصّادق- عليه السّلام- أنّه قال: من تصدّق بصدقة في شعبان، ربّاها- جلّ وعزّ - كما يربّي أحدكم فصيله، حتّى يوافي يوم القيامة وقد صارت  مثل أحد.

وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ: لا يرضاه.

أَثِيمٍ : منهمك في الإثم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه ورسله وأوصياء رسله، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: عطف على «آمنوا» ولا يدلّ على خروج العمل عن الإيمان، كما لا يدلّ عطف.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ عليه، على خروجه عنه.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ على آت.

وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ  على فائت.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا: واتركوا بقايا ما شرطتم على النّاس من الرّبا.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ  بقلوبكم. فإنّ دليله امتثال ما أمرتم به.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّ سبب  نزولها أنّه لمّا أنزل اللّه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فقام خالد بن الوليد إلى‏رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: يا رسول اللّه! ربا أبي في ثقيف. وقد أوصاني عند موته بأخذه.

فأنزل اللّه- تبارك وتعالى- الآية .

قال: من أخذ الرّبا وجب عليه القتل [و كلّ من اربى وجب عليه القتل‏] .

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا: فاعلموا. من أذن بالشي‏ء، إذا علم به.

و قرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عبّاس: فآذنوا، أي: فأعلموا بها غيركم، من الإذن وهو الاستماع. فإنّه من طرق العلم.

بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أى: فاعلموا بها.

و تنكير «حرب»، للتّعظيم، أي: حرب عظيم. وذلك يقتضي أن يقاتل المربي  بعد الاستتابة، حتّى يفي‏ء إلى أمر اللّه. وذلك يقتضي كفره.

وَ إِنْ تُبْتُمْ: رجعتم من الإيتاء واعتقاد حلّه، فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ: فيه دلالة على أنّ المربي لو لم يتب لم يكن له رأس ماله. وهو كذلك. لأنّ المصرّ على التّحليل مرتدّ وماله في‏ء.

لا تَظْلِمُونَ بأخذ الزّيادة.

وَ لا تُظْلَمُونَ  بالمطل والنّقصان من رأس المال.

و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي عمرو الزّبيرىّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ التّوبة مطهّرة من دنس الخطيئة. قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- إلى قوله- لا تَظْلِمُونَ. فهذا ما دعى اللّه إليه [عباده‏]  من التّوبة، ووعدهم  عليها من ثوابه. فمن خالف ما أمره اللّه به من التّوبة، سخط اللّه عليه، وكانت النّار أولى به وأحقّ.

و في الكافي»: أحمد بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبي المغرا، عن الحلبيّ قال: قال‏

 أبو عبد اللّه- عليه السّلام: لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التّجارة (بغير) حلال كان حلالا طيّبا. فليأكله. وإن عرف منه شيئا أنّه ربا. فليأخذ رأس ماله. وليردّ الربا.

 [عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سئل عن الرّجل يكون له دين إلى أجل مسمّى. فيأتيه غريمه. يقول: أنقدني كذا وكذا. وأضع عنك بقيّته. أو يقول: أنقدني بعضه. وأمدّ لك في الأجل فيما بقي عليك.

قال: لا أرى به بأسا. إنّه لم يزدد على رأس ماله. قال اللّه- عزّ وجلّ: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ. لا تَظْلِمُونَ. وَلا تُظْلَمُونَ.

 

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: أتى رجل أبي. فقال: إنّي ورثت مالا. وقد علمت أنّ صاحبه الّذي ورثته منه قد كان يربي . وقد أعرف أنّ فيه ربا. وأستيقن ذلك. وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه. وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز. فقالوا: لا يحلّ أكله.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام: إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا، وتعرف أهله، فخذ رأس مالك، وردّ ما سوى ذلك. وإن كان مختلطا، فكله هنيئا [مريئا.]  فإنّ المال مالك. واجتنب ما كان يصنع صاحبه.]

 

وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ، أي: إن وقع غريم ذو عسر.

و قرئ: ذا عسرة.

و «المعسر»: من لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد.

قال في مجمع البيان  روي ذلك عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام.

 

و الظّاهر أنّ المراد، ما فضل عن قوت اليوم واللّيلة.

فَنَظِرَةٌ، أي: فالحكم نظرة، أو فعليكم نظرة، أو فليكن نظرة. وهي الإنظار.

و قرئ: فناظره، على لفظ الخبر، على معنى فالمستحقّ ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظريّة على طريق النّسب، أو على لفظ الأمر، أي: فسامحه بالنّظرة.

و على كلّ تقدير، فإنظار المعسر واجب في كلّ دين. قال في مجمع البيان : وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه- عليهما السّلام.

 

إِلى مَيْسَرَةٍ: يسار.

و قرأ نافع وحمزة بضمّ السّين. وهما لغتان، كمشرقة ومشرفة.

و قرئ بهما مضافين، بحذف التّاء عند الإضافة، كقوله: وأخلفوك عند الأمر الّذي وعدوا.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سليمان، عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمّد قال: سأل الرّضا- عليه السّلام- رجل وأنا أسمع، فقال له: جعلت فداك! إنّ اللّه- تبارك وتعالى- يقول: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ، أخبرني عن هذه النّظرة الّتي ذكرها اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه. لها حدّ يعرف إذا صار هذا المعسر ، لا بدّ له من أن ينظر، وقد أخذ مال هذا الرّجل، وأنفقه على عياله، وليس له غلّة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محلّه، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟

قال: نعم. ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام. فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين، إذا كان أنفقه في طاعة اللّه. فإن كان أنفقه في معصية اللّه، فلا شي‏ء له على الإمام.

قلت: فما لهذا الرّجل  ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه: في طاعة اللّه أم في (معصية اللّه)؟

قال: يسعى له في ماله، فيردّه ، وهو صاغرا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن السّكونيّ، عن مالك بن مغيرة، عن حمّاد بن سلمة، عن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن عائشة أنّها قالت: سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاةالمسلمين [و استبان للوالي عسرته إلّا برئ هذا المعسر من دينه، وصار دينه على والي المسلمين‏]  فيما في يديه من أموال المسلمين.

قال: ومن كان له على رجل مال أخذه ولم ينفقه في إسراف أو معصية فعسر عليه أن يقضيه فعلى من له المال أن ينظره حتّى يرزقه اللّه فيقضيه. وإذا  كان الإمام العادل قائما، فعليه أن يقضى عنه دينه، لقول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: من ترك مالا فلورثته. ومن ترك دينا أو ضياعا فعلى والي المسلمين وعلى  الإمام ما ضمّنه الرّسول.

وَ أَنْ تَصَدَّقُوا: بالإبراء.

و قرأ عاصم بتخفيف الصّاد.

خَيْرٌ لَكُمْ: أكثر ثوابا من الإنظار، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ  أنّه معسر.

في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: صعد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- المنبر ذات يوم. فحمد اللّه. وأثنى عليه. وصلّى على أنبيائه- صلّى اللّه عليهم. ثمّ قال: أيّها النّاس! ليبلغ الشّاهد منكم الغائب: ألا ومن أنظر معسرا، كان له على اللّه في كلّ يوم صدقة بمثل ماله، حتّى يستوفيه.

ثمّ قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه معسر. فتصدّقوا عليه بما لكم (عليه). فهو خير لكم.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من أراد أن يظلّه اللّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه؟

قالها ثلاثا. فهابه النّاس أن يسألوه.

فقال: فلينظر معسرا ، أو ليدع له من حقّه.

محمّد بن  يحيى، عن عبد اللّه بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان،

 عن عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال في يوم حارّ، حنا  كفّه: من أحبّ أن يستظلّ من فور جهنّم؟

قالها ثلاث مرّات.

فقال النّاس في كلّ مرّة: نحن، يا رسول اللّه! فقال: من أنظر غريما، أو ترك لمعسر.

ثمّ قال لي أبو عبد اللّه [- عليه السّلام- قال لي عبد اللّه‏]  بن كعب بن مالك: إنّ أبي أخبرني أنّه لزم غريما له في المسجد. فجاء  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. فدخل بيته، ونحن جالسان. ثمّ خرج في الهاجرة. فكشف رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ستره.

فقال له: يا كعب! ما زلتما جالسين؟

قال: نعم. بأبي وأمّي! قال: فأشار رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بكفّه: خذ النّصف.

قال: قلت: بأبي وأمّي.

ثمّ قال له: أتبعه ببقيّة حقّك.

قال: فأخذت النّصف. ووضعت [له‏]  النّصف.

 [عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، عن عليّ بن أسباط، عن يعقوب بن سالم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: خلّوا سبيل المعسر، كما خلّاه اللّه.]

 

وَ اتَّقُوا يَوْماً: نصب على المفعول به على الاتّساع، أي: ما فيه.

تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ: يوم القيامة، أو يوم الموت، أو الأعمّ. فتأهّبوا لمصيركم إليه.

و قرأ أبو عمرو ويعقوب، بفتح التّاء وكسر الجيم.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ: جزاء ما عملت، من خير أو شرّ.

وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ  بنقص ثواب وتضعيف عذاب.

قال البيضاويّ : وعن ابن عبّاس: أنّها آخر آية نزل بها جبرئيل [على رسول اللّه‏- صلّى اللّه عليه وآله-]  وقال ضعها في رأس المائتين والثّمانين من البقرة. وعاش رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بعدها أحدا وعشرين يوما. وقيل: أحدا وثمانين. وقيل:

سبعة أيّام. وقيل: ثلاث ساعات.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ: إذا داين بعضكم بعضا.

و «التّداين» و«المداينة»: المعاملة نسيئة، معطيا أو آخذا.

و ذكر الدّين لدفع توهّم أنّه من التّداين، بمعنى المجازاة.

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى: معلوم بالأيّام والأشهر. فإنّه معلوم. لا بالحصاد وقدوم الحاجّ.

فإنّه لا يجوز. لأنّه غير معلوم.

فَاكْتُبُوهُ. لأنّه أوثق وأدفع للنّزاع. والأمر بها للاستحباب.

في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي جعفر- عليه السّلام- [قال‏] : إنّ اللّه- عزّ وجلّ- عرض على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم.

قال: فمرّ  آدم باسم داود [النّبيّ- عليه السّلام.]  فإذا عمره في العالم أربعون سنة.

فقال آدم: يا ربّ! ما أقلّ عمر داود. وما أكثر عمري! يا ربّ! إن أنا زدت داود [من عمرى‏]» ثلاثين سنة. أتثبت  ذلك له؟

قال: نعم، يا آدم! قال: فإنّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة. فأنفذ ذلك له. وأثبتها له عندك.

و اطرحها من عمري.

قال أبو جعفر- عليه السّلام: فأثبت اللّه- عزّ وجلّ- لداود في عمره ثلاثين سنة.

و كانت له عند اللّه مثبتة. (فذلك قوله - عزّ وجلّ : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.

 قال: فمحا اللّه ما كان [عنده‏]  مثبتا لآدم. وأثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا.

قال: فمضى عمر آدم. فهبط [عليه‏]  ملك الموت، لقبض روحه.

فقال له آدم: يا ملك الموت! إنّه قد بقي من عمري ثلاثون  سنة.

فقال له ملك الموت: يا آدم! ألم تجعلها لابنك داود النّبيّ، وطرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذرّيّتك، وعرضت عليك أعمارهم، وأنت يومئذ بوادي الدخيا ؟

فقال له آدم: ما أذكر هذا؟

قال: فقال له ملك الموت: يا آدم! لا تجحد. ألم تسأل اللّه- عزّ وجلّ- أن يثبته  لداود ويمحوها من عمرك؟ فأثبتها لداود في الزّبور. ومحاها من عمرك في الذّكر.

قال آدم حتّى أعلم ذلك.

قال أبو جعفر- عليه السّلام: وكان آدم صادقا. لم يذكر. ولم يجحد. فمن ذلك اليوم أمر اللّه- تبارك وتعالى- العباد  أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل [مسمّى‏] ، لنسيان آدم وجحوده ما جعل على نفسه.

و في الكافي : أبو عليّ الأشعريّ، عن عيسى بن أيّوب، عن عليّ بن مهزيار، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لمّا عرض على آدم ولده، نظر إلى داود. فأعجبه. فزاده خمسين سنة من عمره.

 [قال: ونزل عليه جبرائيل وميكائيل. فكتب عليه ملك الموت صكّا بالخمسين سنة. فلمّا حضرته الوفاة، أنزل عليه ملك الموت.

فقال آدم: قد بقي من عمري خمسون سنة]  قال: فأين الخمسون سنة  الّتي جعلتها لابنك داود؟

قال: فأمّا أن يكون نسيها، أو أنكرها. فنزل جبرئيل وميكائيل فشهدا عليه.

و قبضه ملك الموت.فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: كان أوّل صكّ كتب في الدّنيا. وفيه حديث آخر طويل نحوه ، غير أنّ فيه: أنّ عمر داود كان أربعين سنة. فزاده آدم ستّين تمام المائة.

وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ: بالسّويّة. لا يزيد ولا ينقص. وهو للاستحباب، أيضا.

وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ: لا يمتنع أحد من الكتّاب. وهو للاستحباب، أيضا.

أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ من كتبة الوثائق. وهو أن يكتب بالعدل، أو لا يأب أن ينتفع النّاس بكتابته، كما نفعه اللّه بتعليمها.

فَلْيَكْتُبْ تلك المعلمة. أمر بها بعد النّهي عن الإباء، تأكيدا.

و قيل : «يجوز أن تتعلّق الكاف بالأمر. فيكون النّهي عن الامتناع [منها، مطلقة،]  ثمّ الأمر بها مقيّدة.» وهو ضعيف.

وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. لأنّه المقرّ.

و الإملال والإملاء، واحد.

وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، أي: المملي أو الكاتب.

وَ لا يَبْخَسْ: لا ينقص، مِنْهُ شَيْئاً، أي: من الحقّ، أو ممّا أملي عليه.

فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً: ناقص العقل، أَوْ ضَعِيفاً: صبيّا.

و في تفسير العيّاشيّ : عن ابن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام: متى يدفع إلى الغلام ماله؟

قال: إذا بلغ وأونس منه رشد، ولم يكن سفيها أو ضعيفا.

قال: قلت: فإنّ منهم من يبلغ خمس عشرة  سنة وستّ عشرة  سنة ولم يبلغ.

قال: إذا بلغ ثلاث عشرة سنة جاز أمره، إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا.قال: قلت: وما السّفيه والضّعيف؟

قال: السّفيه، الشّارب الخمر. والضّعيف الّذي يأخذ واحدا باثنين.

و في تهذيب الأحكام : عليّ بن (الحسين ، عن أحمد ومحمّد)، ابني الحسن، عن أبيهما، عن أحمد بن عمر الحلبيّ، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سأله أبي، وأنا حاضر، عن قول اللّه- عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ.

 

قال: الاحتلام.

قال: فقال: يحتلم في ستّ عشرة وسبع عشرة  سنة  ونحوها.

فقال: إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة  [و نحوها.

فقال: لا. إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة،]  كتبت له الحسنات [و كتبت عليه السّيّئات.]  وجاز أمره. إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا.

فقال: وما السّفيه؟

فقال: الّذي يشتري الدّرهم بأضعافه.

فقال: وما الضّعيف؟

قال: الأبله.

 [و في كتاب الخصال، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سأله أبي، وأنا حاضر، عن اليتيم متى يجوز أمره؟

قال: حتّى يبلغ أشدّه.

قال: قلت : وما أشدّه؟

قال: احتلامه .

قال: قلت: قد يكون الغلام ابن ثمان عشرة  سنة، أو أقلّ، أو أكثر ولا يحتلم.قال: فإذا بلغ وكتب عليه الشي‏ء، جاز أمره. إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا.]

 

أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس أو جهل باللّغة.

فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، أي: الّذي يلي أمره، ويقوم مقامه، من الوليّ الشّرعيّ للصّبيّ والمختلّ العقل، والوكيل المترجم المعتبر، على الوجه الّذي اعتبره الشرع من كونه عدلين خبيرين بقصده.

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ:

و اطلبوا أن يشهد على الدّين شاهدان، مِنْ رِجالِكُمْ المؤمنين.

فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، أي: فليشهدوا. فالمستشهد، رجل وامرأتان.

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لعلمكم بعدالتهم.

في الكافي : أحمد بن محمّد العاصميّ، عن عليّ بن الحسن التميميّ، عن ابن بقاح، عن أبي عبد اللّه المؤمن، عن عمّار بن أبي عاصم قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: أربعة لا يستجاب لهم دعوة. أحدهم : رجل كان له مال. فأدانه بغير بيّنة. يقول  اللّه- عزّ وجلّ: ألم آمرك بالشّهادة.

عدّة من أصحابنا»، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن محمّد بن عليّ، عن موسى بن سعدان، عن عبد اللّه بن القسم، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من ذهب حقّه على غير بيّنة لم يؤجر.

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد اللّه بن القسم، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله.

 

و في تهذيب الأحكام : سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، وعليّ بن‏

 حديد، عن عليّ بن النّعمان، عن داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

سألته عن شهادة النّساء في النّكاح بلا رجل معهنّ، إذا كانت المرأة منكرة.

فقال: لا بأس به،- إلى قوله- وكان أمير المؤمنين- عليه السّلام- يجيز شهادة امرأتين في النّكاح، عند الإنكار. ولا يجيز في الطّلاق، إلّا شاهدين عدلين.

قلت: فأنّى ذكر اللّه تعالى؟ وقوله فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ.

 

فقال: ذلك في الدّين، إذا لم يكن رجلان، فرجل وامرأتان. ورجل واحد ويمين المدّعي، إذا لم يكن  امرأتان . قضى بذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأمير المؤمنين- عليه السّلام- بعده عندكم.

أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما، أي: تضلّ إحدى المرأتين، أي: نسيت الشّهادة.

فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، أي: إنّما اعتبر التّعدّد في المرأة، لإرادة أن تذكّر إحداهما الأخرى، إن ضلّت ونسيت الشّهادة. وذلك لنقصان عقولهنّ وقلّة ضبطهنّ. والعلّة في الحقيقة التّذكير، وضع سببه مقامه.

و قرأ حمزة: «أن تضلّ» (على الشّرط) «فتذكّر» (بالرّفع.) وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: «فتذكّر» (من الإذكار.)

وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا.، لتحمّل الشّهادة.

و سمّوا «شهداء»، تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع وما مزيدة.

و قيل : لأداء الشّهادة أو التّحمّل.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا قال . لا ينبغي لأحد إذا دعي للشّهادة ، يشهد عليها أن يقول لا أشهد لكم.

 [محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الصّباح الكنانيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله. وقال: فذلك قبل الكتاب.]

 عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا فقال: إذا دعاك الرّجل لتشهد  له على دين أو حق، لم ينبغ لك أن نقاعس عنه.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا، قال: قبل الشّهادة.

عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لا يأب الشّهداء أن تجيب  حين تدعى  قبل الكتاب.

لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ: ولا تملّوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدّين.

و قيل : كنّى بالسّأمة عن الكسل.

صَغِيراً أَوْ كَبِيراً: كان الحقّ صغيرا أو كبيرا، أو الكتاب مختصرا أو مشبعا.

إِلى أَجَلِهِ: متعلّق بتكتبوه، أي: وقت حلوله الّذي أقرّ به المديون.

ذلِكُمْ: إشارة إلى أَنْ تَكْتُبُوهُ.

أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: أكثر قسطا.

وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ: وأثبت لها.

و هما مبنيّان من أقسط وأقام على غير قياس، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم.

و إنّما صحّت الواو في «أقوم» كما صحّت في التّعجّب، لجموده.

وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا: وأقرب في أن لا تشكّوا في جنس الدّين وقدره وأجله والشّهود ونحو ذلك.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً:

استثناء عن مفعول فاكتبوه الرّاجع إلى دين، باعتبار تعلّق الكتابة به وتعلّقه‏

بالتّداين. وما بينهما اعتراض، أي: اكتبوا الدّين المتداين به، إلّا أن يكون تجارة.

و نصب عاصم «تجارة»، على أنّه الخبر، والاسم مضمر تقديره: «إلّا أن يكون الدّين المتداين به تجارة.» وقرأ الباقون بالرّفع، على أنّ الخبر تُدِيرُونَها، أو على كان التّامّة.

حاضِرَةً: والتّجارة الحاضرة تكون بدين وعين.

تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها: وإدارة التّجارة تعاطيهم إيّاها يدا بيد. فهو على تقدير كونه صفة مخصّصة، أي: فلا بأس بعدم الكتابة حينئذ.

وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ مطلقا. لأنّه أحوط.

و قيل : المراد هذا التّبايع.

و الأوامر الّتي في هذه الآية، للاستحباب. وقيل : للوجوب. فمن قائل بالإحكام وقائل بالنّسخ.

وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ: يحتمل البنائين. ويدلّ عليه قراءة: ولا يضارّ (بالكسر والفتح.) فعلى البناء للفاعل، نهي لهما عن ترك الإجابة والتّحريف والتّغيير في الكتبة والشّهادة. وعلى البناء للمفعول، نهى للمستكتب والمستشهد، من أن يضارّهما بالتّكليف لهما، ما لا يسوغ لهما، من حبس جعل الكاتب وحبس الشّهيد وغير ذلك.

وَ إِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ: خروج عن الطّاعة.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة نهيه.

وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمّنة لمصالحكم.

وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ.  كرّر لفظ «اللّه» في الجمل الثّلاث، للمبالغة.

فإنّه لمّا كان موضوعا للذّات الكاملة مع جميع صفات الكمال على الكمال، فيكون عقابه في النّهاية والكمال. فيقتضي الاتّقاء منه، أشدّ اقتضاء. ويكون تعليمه للأحكام في نهاية الإفضال. فلا يجوز مخالفة حكمه بحال. ويكون علمه بقدر الجزاء، شاملا أتمّ شمول. فلا يسوغ إغفال العمل بالذّهول.

و قيل : كرّر لاستقلالها. فإنّ الأولى، حثّ على التّقوى. والثّانية، وعد بإنعامه.

و الثّالثة، تعظيم لشأنه. ولأنّه أدخل في التّعظيم من الكناية.و الوجه الأوّل من تعليليه ضعيف. لأنّ الإضمار لا يقتضي عدم الاستقلال.

فتأمّل.

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ: راكب سفر، أي: مسافرين، وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً، فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ، أي: فالّذي يستوثق رهان، أو فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان.

و ظنّ مجاهد والضّحّاك، أنّ هذا التّعليق لاشتراط السّفر في الارتهان. [و ليس كما ظنّا. بل الظّاهر أنّه لإقامة التّوثّق بالارتهان‏]  مقام التّوثّق بالكتب في السّفر الّذي هو مظنّة الإعواز.

و بعضهم استدلّ بالآية، على أنّ القبض بالمعنى الأخصّ، معتبر في الرّهن. وفيه أنّه يحتمل أن يكون ذكر القبض واردا في الآية، على ما هو اكثر موارده، على أنّه يحتمل أن يكون المراد بالقبض، ما يشمل عدم جواز تصرّف الرّاهن، بدون إذن المرتهن فيه.

و ما رواه العيّاشيّ : في تفسيره «عن محمّد بن عيسى، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لا رهن إلّا مقبوض »

محمول على هذا المعنى.

و قرأ ابن كثير وأبو عمرو: فرهن، كسقف. وكلاهما جمع رهن، بمعنى مرهون، وقرئ بإسكان الهاء، على التّخفيف.

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أي: عدّ بعضكم البعض الآخر أمينا، واستغنى بأمانته عن الكتبة والارتهان، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ، أي: دينه.

سمّاه «أمانة»، لائتمانه عليه بترك الارتهان. ويحتمل أن يكون المراد بالائتمان، الاستيداع.

و قرئ بالّذيّتمن (بقلب الهمزة ياء) والّذتمن (بإدغام الياء في التّاء).

قيل : [و هو خطأ. لأنّ المنقلبة عن الهمزة في حكمها. فلا تدغم.

وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة.

و في ذكر الرّبّ والإضافة إلى المؤتمن بعد ذكر الاسم الدّالّ على الذّات‏المستجمع لجميع الصّفات المقتضية للاتّقاء عنه، زيادة اقتضاء للاتّقاء، على وجه اللّطف والمرحمة، لإشعاره بأنّه تعالى مربّيه. فيجب أن لا يرتكب ما فيه، مناقضة بكمال تربيته. فإنّ فيه كسر للمربّي ظاهرا. ففيه نهاية الإعطاف والإفضال وإظهار الملاطفة والإشعار.

فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ، أيّها الشّهود! وقيل : أو المديونون. والشّهادة، شهادتهم على أنفسهم.

وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، اي: يأثم قلبه، أو قلبه يأثم. وعلى الثّاني، الجملة خبر «إنّ» وإسناد الإثم إلى القلب. لأنّ الكتمان يقترفه، أو للمبالغة. فإنّه رئيس الأعضاء. وأفعاله أعظم الأفعال.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام: وبما في الصّدور يجازى  العباد.

و قرئ: قلبه (بالنّصب، كحسن وجهه.)

و في من لا يحضره الفقيه : روى جابر ، عن أبي جعفر - عليه السّلام- قال في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: كافر قلبه.]

 

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ : تهديد.

في أمالي الصّدوق- رحمه اللّه - في مناهي النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: ونهى- صلّى اللّه عليه وآله- عن كتمان الشّهادة. وقال: من كتمها»

 أطعمه اللّه لحمه على رؤوس الخلائق. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ. وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.

 

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن عبد الرّحمن بن أبي نجران، ومحمّد بن عليّ، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:

 

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: من كتم شهادة، أو شهد بها، ليهدر بها دم امرئ مسلم،أو ليزوي مال امرئ مسلم، أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة، مدّ البصر وفي وجهه كدوح.

تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: خلقا وملكا.

وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ: ما استقرّ في أنفسكم من السّوء حتّى تعزموا عليه.

لا ما خطر فيه. فإنّه موضوع عنكم. فإن تبدوه بالعمل أو باللّسان.

أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يوم القيمة.

فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته.

وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه.

و قد رفعهما عامر وعاصم ويعقوب، على الاستئناف. وجزمهما الباقون، عطفا على جواب الشّرط. ومن جزم بغير فاء، جعلهما بدلا عنه، بدل البعض من الكلّ أو الاشتمال، كقوله:

         متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا             تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا

 وإدغام الرّاء في اللّام، لحن، إذ الرّاء لا يدغم إلّا في مثله.

و في تفسير العيّاشيّ : عن سعدان، عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ قال: حقيق على اللّه أن لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من حبّهما.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: رفع عن أمّتي تسعة أشياء :

الخطأ، والنّسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطّيرة، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق، ما لم ينطق بشفة.

و بإسناده  إلى حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الاستطاعة. فلم يجبني. فدخلت عليه دخلة أخرى. فقلت: أصلحك اللّه! إنّه قد وضع  في قلبي منها شي‏ء، ولا يخرجه إلّا شي‏ء أسمعه منك.قال: فإنّه لا يضرّك ما كان في قلبك.

و سيأتي تمام الحديث- إن شاء اللّه.

وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ . فيقدر على الإحياء والمحاسبة والمغفرة والتّعذيب.

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ: شهادة. تنصيص من اللّه تعالى، على صحّة إيمانه والاعتداد به. وإنّه جازم في أمره، غير شاكّ فيه.

في كتاب الغيبة، لشيخ الطّائفة- قدس سرّه - بإسناده إلى سلام قال: سمعت أبا سلمى راعي النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: ليلة  أسري بي إلى السّماء، قال العزيز- جلّ ثناؤه: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.

 

قلت: وَالْمُؤْمِنُونَ.

 

قال: صدقت يا محمّد.

 [و في شرح الآيات الباهرة :]  وروى المقلّد بن غالب- رحمه اللّه- عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن رهبان، عن محمّد بن أحمد، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن جابر قال: سمعت أبا سلمى راعي النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يقول:

 

سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: ليلة أسري بي إلى السّماء، قال الرّبّ- عزّ وجلّ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.

 

قلت: وَالْمُؤْمِنُونَ.

 

قال: صدقت يا محمّد. من خلّفت على أمّتك؟

قلت: خيرها.

قال: عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام؟

قلت: نعم، يا ربّ! فقال: يا محمّد! إنّي اطّلعت إلى الأرض، اطلاعة. فاخترتك منها. فشققت لك اسما من أسمائي. فلا أذكر  في موضع إلّا ذكرت معي. فأنا المحمود وأنت محمّد. ثمّ‏اطّلعت ثانية. واخترت عليّا. فشققت له اسما من أسمائي. فأنا الأعلى. وهو عليّ.

يا محمّد! إنّي خلقتك وخلقت عليّا وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولد الحسين، من نوري.

يا محمّد! إنّي عرضت ولايتكم على أهل السّماوات والأرضين. فمن قبلها كان عندي من المؤمنين. ومن جحدها كان عندي من الظّالمين.

يا محمّد! تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم. يا ربّ! قال: التفت.

فالتفت عن يمين العرش. فإذا أنا باسم عليّ وفاطمة والحسن والحسين وعليّ ومحمّد وجعفر وموسى وعليّ ومحمّد وعليّ والحسن والمهديّ في وسطهم، كأنّه كوكب درّيّ.

فقال: يا محمّد! هؤلاء حججي على خلقي. وهذا القائم من ولدك بالسّيف، والمنتقم من أعدائك.

فعلى هذين الخبرين، قوله وَالْمُؤْمِنُونَ معطوف على «الرّسول» عطف تلقين.

و قوله:

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مبتدأ وخبر. والضّمير الّذي ناب عنه التّنوين في كلّ، للرّسول وللمؤمنين.

و جوّز البيضاويّ  كون «المؤمنون» مبتدأ أولا، وكون الضّمير لهم، «و كلّ» مبتدأ ثانيا مع خبره. وهو مع خبره خبر للأوّل.

قال: ويكون إفراد الرّسول لتعظيمه، أو لأنّ إيمانه عن مشاهدة وعيان، وإيمانهم عن نظر واستدلال.

و قرأ حمزة والكسائيّ: «و كتابه»، يعني: القرآن أو الجنس. والفرق بينه وبين الجمع أنّه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه. ولذلك قيل: الكتاب أكثر من الكتب.

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ بالتّصديق لبعضهم والتّكذيب لبعض آخر، أي:يقولون لا نفرّق.

و يحتمل عدم تقدير القول بجعله حالا من الفاعل. وهو الرّسول والمؤمنون. ويكون العدول عن الغيبة، لتعظيمهم وذلك أوجه.

و قرأ يعقوب بالياء، على أنّ الفعل لكلّ.

و قرئ «لا يفرّقون»، حملا على المعنى.

وَ قالُوا سَمِعْنا قولك.

وَ أَطَعْنا أمرك.

غُفْرانَكَ رَبَّنا، أي: اغفر غفرانك، أو نطلب غفرانك.

و يحتمل بعيدا كونه معمول «أطعنا وسمعنا» على سبيل التّنازع، أي: غفرانك، أي: موجبه. وهو الإيمان. سمعناه. وأطعناه. فآمنّا.

وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ  بعد الموت. وهو إقرار منهم بالبعث.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- ره- عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- في حديث طويل، وفيه خطبة الغدير، وفيها: معاشر النّاس! قولوا الّذي قلت لكم. وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين. وقولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

 

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها: إلّا ما يسعه قدرتها، أو مادون مدى طاقتها.

و يكون يسيرا عليها لقوله : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وفيه تصريح بعدم وقوع التّكليف بالمحال.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى أبي جميلة المفضّل بن صالح، عن محمّد بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: ما أمر العباد إلّا بدون سعتهم. وكل  شي‏ء أمر النّاس بأخذه، فهم متّسعون له. وما لا يتّسعون له، فهو موضوع عنهم. ولكنّ النّاس لا خير فيهم.

و بإسناده  إلى عبد السّلام بن صالح الهرويّ قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى بن جعفر- عليه السّلام- يقول: من قال بالجبر، فلا تعطوه من الزّكاة، ولا تقبلوا له‏شهادة. إنّ اللّه- تبارك وتعالى- يقول : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ  نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. ولا يحمل  فوق طاقتها. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.

 

و بإسناده  إلى حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الاستطاعة- إلى قوله- قلت: أصلحك اللّه! فإنّي أقول: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- لم يكلّف العباد إلّا ما يستطيعون وإلّا ما يطيقون. فإنّهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلّا بإرادة اللّه ومشيئته وقضائه وقدره.

قال: وهذا دين اللّه الّذي أنا عليه وآبائي.

لَها ما كَسَبَتْ من خير.

وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من شرّ. لا ينتفع بطاعتها. ولا يتضرّر بمعصيتها غيرها.

و تخصيص الكسب بالخير، والاكتساب بالشّرّ. لأنّ الاكتساب فيه اعتمال.

و الشّرّ تشتهيه الأنفس وتنجذب إليه. فكانت أجدّ في تحصيله وأعمل، بخلاف الخير.

رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، أي: لا تؤاخذنا بما أدّى بنا إلى نسيان، أو خطأ، أو بما يؤدّي الخطأ والنّسيان إليه بالآخرة من عمل آخر. فإنّهما يمكن أن يؤدّي كثرتهما واعتيادهما إلى عمل قبيح.

و قيل: أو بأنفسهما إذ لا يمتنع المؤاخذة بهما عقلا. فإنّ الذّنوب كالسّموم. فكما أنّ تناولها يؤدّي إلى الهلاك، وإن كان خطأ. فتعاطي الذّنوب لا يبعد أن يفضى إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة. لكنّه تعالى وعد التّجاوز عنه، رحمة وفضلا. فيجوز أن يدعو الإنسان به، استدامة واعتدادا بالنّعمة فيه.

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّي بن محمّد، عن أبي داود المسترق قال: حدّثني عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: رفع عن أمّتي أربع خصال: خطأها، ونسيانها، وما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا. وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.

 و قوله . إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

 

و يحتمل أن يكون هذا دعوة الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- قبل رفع الخطأ والنّسيان. وبعدها رفع، كما يجي‏ء في الخبر.

و الغرض من الدّعاء به، التّأسّي به، وتذكّر ما أنعم اللّه تعالى بسبب دعوته- عليه السّلام.

رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. ثقيلا يأصر صاحبه، أي: يحبسه في مكانه. والمراد به التّكاليف الشّاقّة.

و قرئ: ولا تحمّل (بالتّشديد، للمبالغة.)

كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا: حملا مثل حملك إيّاه عليهم، أو مثل الّذي حملته إيّاهم. فيكون صفة لإصرا، أو المراد به ما كلّف به بنو إسرائيل، من الأمور الّتي ذكر في الخبر الّذي ينقل عن الاحتجاج .

رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من البلاء والعقوبة، أو من التّكاليف الّتي لا تفي بها القوّة البشريّة. وهو لا يدلّ على جواز التّكليف بما لا يطاق، بناء على احتمال كون المراد ممّا لا طاقة لنا العقوبة لا التّكاليف.

و التّشديد هنا، لتعدية الفعل إلى مفعول ثان.

وَ اعْفُ عَنَّا: وامح ذنوبنا.

وَ اغْفِرْ لَنا: واستر عيوبنا. ولا تفضحنا بالمؤاخذة.

وَ ارْحَمْنا: وتعطّف بنا. وتفضّل علينا.

أَنْتَ مَوْلانا: سيّدنا وناصرنا.

فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ : والمراد بهم عامّة الكفرة.

و في كتاب الاحتجاج ، للطبرسيّ- رحمه اللّه: روى عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليه السّلام- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في حديث طويل، يقول فيه- وقد ذكر مناقب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: فدنى بالقلم . فتدلّى فدنى له  من الجنّة رفرف أخضر. وغشى النّور بصره. فرأى عظمة ربّه‏- عزّ وجلّ- بفؤاده. ولم يرها بعينه. فكان كقاب قوسين بينها وبينه ، أو أدنى. فأوحى [اللّه‏]  إلى عبده ما أوحى. وكان في ما أوحى إليه الآية الّتي في سورة البقرة، قوله تعالى:

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ. وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم- عليه السّلام- إلى أن بعث اللّه- تبارك وتعالى- محمّدا.

و عرضت على الأمم. فأبوا أن يقبلوا  من ثقلها. وقبلها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله.

و عرضها على أمّته. فقبلوها. فلمّا رأى اللّه- تبارك وتعالى- منهم القبول، علم أنهم لا يطيقونها.

فلمّا أن سار إلى ساق العرش، كرّر عليه الكلام، ليفهمه. فقال: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.

 

فأجاب- صلّى اللّه عليه وآله- مجيبا عنه: وعن» أمّته؟

فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.

فقال- جلّ ذكره: لهم الجنّة والمغفرة على أن فعلوا ذلك.

فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: [أمّا]  إذا فعلت ذلك ربّنا ، فغفرانك ربّنا.

و إليك المصير، يعنى: المرجع في الآخرة.

قال: فأجابه اللّه جلّ ثناؤه: وقد فعلت ذلك بك وبأمّتك؟

ثمّ قال- عزّ وجلّ: أمّا إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمّتك، فحقّ عليّ أن أرفعها. عن أمّتك.

و قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. لَها ما كَسَبَتْ من خير. وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من شرّ.

فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا سمع ذلك: أمّا إذا فعلت ذلك بي وبأمّتي، فزدني.

قال: سل.

قال: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا.

 

قال اللّه- عزّ وجلّ: لست أؤاخذ أمّتك بالنّسيان أو الخطأ، لكرامتك عليّ.

و كانت الأمم السّالفة إذا نسوا ما ذكّروا به، فتحت عليهم أبواب العذاب. وقد رفعت  ذلك عن أمّتك. وكانت الأمّة السّالفة إذا أخطأوا، أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه . وقد رفعت ذلك عن أمّتك، لكرامتك عليّ.

فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: [أللهمّ‏]  إذا أعطيتني ذلك، فزدني.

فقال اللّه تعالى له: سل.

قال: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، يعني: بالإصر، الشّدائد الّتي كانت على من كان قبلنا.

فأجابه اللّه إلى ذلك. فقال- تبارك اسمه: قد رفعت عن أمّتك الآصار الّتي كانت على الأمم السّالفة:

كنت لا أقبل صلاتهم إلّا في بقاع من الأرض معلومة  اخترتها لهم. وإن بعدت.

و قد جعلت الأرض لأمّتك كلها  مسجدا وطهورا. فهذه من الآصار الّتي كانت على الأمم قبلك. فرفعتها عن أمّتك.

و كانت الأمّة السّالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم. وقد جعلت الماء لأمّتك طهورا. فهذه  من الآصار الّتي كانت عليهم. فرفعتها عن أمّتك.

و كانت الأمم السّالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس. فمن قبلت ذلك منه، أرسلت اليه  نارا، فأكلته. فرجع مسرورا. ومن لم أقبل ذلك ، رجع مثبورا.

و قد جعلت قربان أمّتك في بطون فقرائها ومساكينها. فمن قبلت ذلك منه، أضعفت له

 أضعافا مضاعفة. ومن لم أقبل ذلك منه، رفعت عنه عقوبات الدّنيا. وقد رفعت ذلك عن أمّتك وهي من الآصار الّتي كانت على الأمم قبلك .

و كانت الأمم السّالفة صلاتها مفروضة عليها في ظلم اللّيل وأنصاف النّهار. وهي من الشّدائد الّتي كانت عليهم. فرفعتها عن أمّتك. وفرضت عليهم صلاتهم في أطراف الليل والنهار، في أوقات  نشاطهم. وكانت الأمم السّالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة، في خمسين وقتا. وهي من الآصار الّتي كانت عليهم. فرفعتها عن أمّتك. وجعلتها خمسا في خمسة أوقات. وهي إحدى وخمسون ركعة. وجعلت لهم أجر خمسين صلاة.

و كانت الأمم السّالفة حسنتهم بحسنة وسيّئتهم بسيّئة. وهي من الآصار الّتي كانت عليهم. فرفعتها  من أمّتك. وجعلت الحسنة بعشر  والسّيّئة بواحدة.

و كانت الأمم السّالفة إذا نوى أحدهم بحسنة ، ثمّ لم يعملها، لم تكتب له، وإن عملها كتبت له حسنة. وإنّ أمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة، ولم يعملها  كتبت له حسنة.

و إن عملها كتبت له عشرا . وهي من الآصار الّتي كانت عليهم. فرفعتها عن أمّتك.

و كانت الأمم السّالفة إذا همّ أحدهم بسيّئة، فلم يعملها، لم تكتب عليه. وإن عملها، كتبت عليه سيّئة. وإنّ أمّتك إذا همّ أحدهم بسيّئة، ثمّ لم يعملها، كتبت له حسنة. وهذه من الآصار الّتي كانت عليهم. فرفعت  ذلك عن أمّتك.

و كانت الأمم السّالفة إذا أذنبوا، كتبت ذنوبهم على أبوابهم. وجعلت توبتهم من الذّنوب أن حرّمت عليهم بعد التّوبة أحبّ الطّعام إليهم. وقد رفعت ذلك عن أمّتك.

و جعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم. وجعلت عليهم ستورا كثيفة. وقبلت توبتهم بلا عقوبة. ولا أعاقبهم بأن أحرّم عليهم أحبّ الطّعام إليهم.

و كانت الأمم السّالفة يتوب أحدهم  من الذّنب الواحد، مائة سنة وثمانين سنة، أو خمسين سنة. ثمّ لا أقبل توبته دون أن أعاقبهم  في الدّنيا بعقوبة. وهي من الآصار الّتي‏كانت عليهم. فرفعتها عن أمّتك.

و إنّ الرّجل من أمّتك ليذنب عشرين سنة، أو ثلاثين، أو أربعين سنة، أو مائة سنة، ثمّ يتوب ويندم طرفة عين، فأغفر ذلك كلّه.

فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: إذا أعطيتني ذلك كلّه، فزدني.

قال: سل.

قال: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.

 

قال- تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بأمّتك. وقد رفعت عنهم عظم بلايا الأمم.

و ذلك حكمي في جميع الأمم: ألّا أكلّف خلقا فوق طاقتهم.

قال- صلّى اللّه عليه وآله: وَاعْفُ عَنَّا. وَاغْفِرْ لَنا. وَارْحَمْنا. أَنْتَ مَوْلانا.

 

قال اللّه- عزّ وجلّ: قد فعلت بتائبي أمّتك.

ثم قال- صلّى اللّه عليه وآله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.

 

قال اللّه- جلّ اسمه: إنّ أمّتك في الأرض، كالشّامة البيضاء في الثّور الأسود.

هم القادرون، هم القاهرون ، يستخدمون، ولا يستخدمون لكرامتك عليّ. وحقّ عليّ أن أظهر دينك على الأديان، حتّى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلّا دينك، أو  يؤدّون إلى أهل دينك الجزية.

و في كتاب بصائر الدّرجات : أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن النّضر بن سويد، عن عبد الصّمد بن بشير قال: ذكر أبو عبد اللّه- عليه السّلام- بدوّ الأذان وقصّة الأذان في إسراء النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى انتهى إلى سدرة المنتهى.

قال: فقالت السّدرة: ما جاز بي مخلوق قبل.

قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى.

 

قال: فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وأصحاب الشّمال. فأخذ كتاب  أصحاب اليمين بيمينه. وفتحه  فنظر إليه. فإذا فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم.

قال: فقال له: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.

 فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا.

 

فقال اللّه: قد فعلت.

 [فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا.

 

قال اللّه: قد فعلت .]

قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا. [وَ اغْفِرْ لَنا. (وَ ارْحَمْنا. أَنْتَ مَوْلانا. فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.) ]  إلى اخر السّورة. كلّ ذلك يقول اللّه- عزّ وجلّ: قد فعلت.

ثمّ قال: طوى الصّحيفة. فأمسكها بيمينه. وفتح صحيفة أصحاب الشّمال. فإذا فيها أسماء أهل النّار وأسماء آبائهم وقبائلهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أمّا قوله آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فإنّه‏

حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام: أنّ هذه الآية مشافهة اللّه لنبيّه- صلّى اللّه عليه وآله»

- لمّا أسرى به إلى السّماء. قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: انتهيت إلى محلّ سدرة المنتهى. وإذا الورقة  منها تظلّ أمّة من الأمم.

فكنت من ربّي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى اللّه- عزّ وجلّ-. فناداني ربّي- تبارك وتعالى-: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.

 

فقلت أنا مجيبه  عني وعن أمّتي: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏]  فقلت : سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

فقال اللّه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.

 فقلت: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا.

 

فقال اللّه: لا أؤاخذك.

فقلت: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا.

 

فقال اللّه: لا أحملك.

فقلت: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. وَاعْفُ عَنَّا. وَاغْفِرْ لَنا. وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا. فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.

 

فقال اللّه- تبارك وتعالى: قد أعطيت ذلك لك ولأمّتك.

فقال الصّادق- صلوات اللّه عليه-: ما وفد إلى اللّه- تبارك وتعالى-: أحد أكرم من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حين  سأل لأمّته هذه الخصال.

و في تفسير العيّاشيّ : عن عبد الصّمد بن بشير ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل وفيه نحو ما في تفسير عليّ بن إبراهيم معنى، إلّا قوله: فقال الصّادق- صلوات اللّه عليه-، إلخ- في فضل قوله آمَنَ الرَّسُولُ- إلى آخر السّورة.

روي عن قتادة  قال: كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذا قرأ هذه الآية:

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، حتّى يختمها، قال: وحقّ اللّه! إنّ للّه كتابا قبل أن يخلق السّماوات والأرض، بألفي سنة، فوضعه عنده فوق العرش. فأنزل آيتين. فختم بهما البقرة. فأيما بيت قرئ فيه، لم يدخله شيطان.

و في كتاب ثواب الأعمال ، عن عمرو بن جميع، رفعه إلى عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة، وآية الكرسيّ، وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وفي ماله شيئا يكرهه، ولم يقربه شيطان، ولا ينسى القرآن.

و عن جابر بن عبد اللّه ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- في حديث طويل يقول‏

 - عليه السّلام. فيه: قال لي اللّه تعالى: وأعطيت لك ولأمّتك كنزا من كنوز العرش، فاتحة الكتاب وخاتمة سورة البقرة.