سورة المائدة الآية 41-60

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، أي: صنع الّذين يقعون في الكفر سريعا إذا وجدوا منه فرصة. 

مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، أي: من المنافقين. و«الباء» متعلّقة «بقالوا». و«الواو» تحتمل الحال، والعطف.

 [و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد  قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال في حديث طويل: فأمّا ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة، والعقد والرّضا، والتّسليم بأنّ لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا وأنّ محمّدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند اللّه من نبي أو كتاب: فذلك ما فرض اللّه على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ- : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً. وقال : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وقال : الذين آمنوا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. وقال :إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. فذلك ما فرض اللّه- عزّ وجلّ- على القلب من الإقرار، وهو عمله، وهو رأس الإيمان.

و في من لا يحضره الفقيه : قال أمير المؤمنين في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفيّة: وفرض على القلب وهو أمير الجوارح الّذي به تعقل وتفهم وتصدر عن أمره ورأيه فقال- إلى قوله- وقال- عزّ وجلّ- حين أخبر عن قوم أعطوا الإيمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم فقال- عزّ وجلّ-: الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه-: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام-: وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنّجاة ممّا هلك به الغواة، ولو كان كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتّوحيد وإقرارها باللّه، ونجا سائر المقرّين بالوحدانيّة من إبليس فمن دونه في الكفر، وقد بيّن اللّه ذلك بقوله: الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. فالإيمان بالقلب هو التّسليم للرّب ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره.] .

وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا: عطف على مِنَ الَّذِينَ قالُوا.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سمّاعون [. والضّمير للفريقين. أو «للّذين يسارعون».

و يجوز أن يكون مبتدأ «و من الّذين» خبره، أي: ومن اليهود قوم سمّاعون.]

و الّلام في «للكذب» إمّا مزيدة للتّأكيد، أو لتضمّن السّماع معنى القبول، أي: قابلون لما تفتريه الأحبار. أو للعلّة والمفعول محذوف، أي: سمّاعون كلامك ليكذبوا عليك.

سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ، أي: لقوم آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك، وتجافوا عنك تكبّرا وإفراطا في البغضاء، والمعنى على الوجهين: أنّهم يصغون لهم، قابلون كلامهم. أو سمّاعون منك لأجلهم والإنهاء إليهم.و يجوز أن تتعلّق الّلام «بالكذب»، لأن «سمّاعون» الثّاني مكرر للتّأكيد، أي: سمّاعون ليكذبوا لقوم آخرين.

 [و في مجمع البيان : سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أرسلوهم في قصّة زان محصن، فقالوا [لهم‏] : إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرّجم فلا تقبلوه. لأنّهم كانوا حرّفوا [حكم‏]  الرّجم الّذي في التّوراة.

عن ابن عبّاس وجابر وسعيد بن المسيّب والسّديّ .

و قال أبو جعفر- عليه السّلام -: وكان ذلك في أمر بني النّضير وبني قريظة.] .

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ: أي: يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه فيها. إمّا لفظا بإهماله، أو تغيير وضعه. وإمّا معنى بحمله على غير المراد، وإجرائه في غير مورده.

و الجملة، صفة أخرى «لقوم»، أو صفة «لسمّاعون»، أو حال من الضّمير فيه، أو استئناف لا موضع له، أو في موضع الرّفع خبر المحذوف، أي: هم يحرّفون. وكذلك يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ، أي: إن أوتيتم هذا المحرّف، أو ما اتّفق عليه رأيكم فاقبلوه واعلموا به.

وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ: بل أفتاكم محمّد بخلافه.

فَاحْذَرُوا: قبول ما أفتاكم به.

قال البيضاويّ : روي أنّ شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين. فكرهوا رجمهما، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عنه، وقالوا: إن أمركم بالجلد والتّحميم فاقبلوه، وإن أمركم بالرّجم فلا. فأمرهم بالرّجم فأبوا عنه. فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم، وقال له: أنشدك باللّه الّذي لاإله إلّا هو، الّذي فلق البحر لموسى- عليه السّلام- ورفع فوقكم الطّور وأنجاكم وأغرق [آل‏]  فرعون، والّذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟

قال: نعم. فوثبوا عليه فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب.

فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بالزّانيين فرجما عند باب المسجد.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : كان سبب نزولها: أنّه كان في المدينة بطنان من اليهود من بني هارون وهم النّضير وقريظة. وكانت قريضة سبعمائة والنّضير ألفا.

و كانت النّضير أكثر مالا وأحسن حالا من قريظة. وكانوا حلفاء لعبد اللّه بن أبيّ. فكان إذا وقع بين قريظة والنّضير قتيل  وكان القتيل  من بني النّضير قالوا لبني قريظة: لا نرضى أن يكون قتيل منّا بقتيل منكم.

فجرى بينهم في ذلك مخاطبات كثيرة حتّى كادوا أن يقتتلوا ، حتّى رضيت قريظة وكتبوا بينهم كتابا على أنّه: أيّ رجل من اليهود من النّضير قتل رجلا من بني قريظة أن يحينه  ويحمّم- والتّحينة، أن يقعد على جمل ويولى وجهه إلى ذنب الجمل ويلطّخ وجهه  بالحمأة- ويدفع نصف الدّية، وأيّما رجل من بني قريظة قتل رجلا من النّضير أن يدفع إليه الدّية كاملة ويقتل به.

فلمّا هاجر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى المدينة ودخل الأوس والخزرج في الإسلام ضعف أمر اليهود، فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النّضير. فبعثوا  إليهم بنو النّضير: ابعثوا إلينا بدية المقتول وبالقاتل حتّى نقتله.

فقالت قريظة. ليس هذا حكم التّوراة وإنّما هو شي‏ء غلبتمونا عليه، فأمّا الدّية وأمّا القتل، وإلّا فهذا محمّد بيننا وبينكم فهلمّوا نتحاكم إليه.فمشت بنو النّضير إلى عبد اللّه بن أبيّ فقالوا: سل محمّدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الّذي بيننا وبين بني قريظة في القتل.

فقال عبد اللّه بن أبيّ: ابعثوا معي رجلا يسمع كلامي وكلامه. فإن حكم لكم بما تريدون وإلّا فلا ترضوا به.

فبعثوا معه رجلا فجاء إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: يا رسول اللّه، إنّ هؤلاء القوم قريظة والنّضير، قد كتبوا بينهم كتابا وعهدا وثيقا تراضوا به، والآن في قدومك يريدون نقضه، وقد رضوا بحكمك فيهم فلا تنقض كتابهم عليهم وشرطهم. فإنّ بني النّضير لهم القوّة والسّلاح والكراع ونحن نخاف [الغوائل و]  الدّوائر.

فاغتمّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من ذلك  ولم يجبه  بشي‏ء، فنزل جبرئيل بهذه الآيات.

قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، يعني: عبد اللّه بن أبيّ وبني النّضير.

وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا، يعني: عبد اللّه [بن أبيّ حيث‏]  قال لبني النّضير: إن لم يحكم  بما تريدون فلا تقبلوا.

و في مجمع البيان : قال أبو جعفر- عليه السّلام-: كان ذلك في أمر بني النّضير وبني قريظة.

وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ: اختباره.

فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً: فلن تستطيع له من اللّه شيئا في دفعها.

أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ: من العقوبات المترتّبة على الكفر، كالختم والطّبع والضّيق.لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ: هوان، بإلزام الجزية على اليهود، وإجلاء بني النّضير منهم، وإظهار كذبهم في كتمان الحقّ، وظهور كفر المنافقين، وخوفهم جميعا من المنافقين.

وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ : وهو الخلود في النّار. والضّمير «للّذين هادوا» إن استأنفت بقوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا وإلّا فللفريقين.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: تكريره للتّأكيد.

أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، أي: الحرام، كالرّشا. من سحته: إذا استأصله. لأنّه مسحوت البركة.

و قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ ويعقوب، بضمّتين. وهما لغتان. كالعنق، والعنق.

و قرئ، بفتح السّين. على لفظ المصدر .

في عيون الأخبار ، عن الرّضا- عليه السّلام- بإسناده عن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قال: هو الرّجل الّذي يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديّته.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمّد عن ابن محبوب، عن عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن الغلول؟ فقال كلّ شي‏ء غلّ من الإمام فهو سحت: وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسّحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر وثمن الخمر والنّبيذ المسكر والرّبا بعد البيّنة. فأمّا الرّشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم وبرسوله- صلّى اللّه عليه وآله-.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن النّوفليّ، عن السّكونيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: السّحت، ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغيّ والرّشوة في الحكم وأجر الكاهن.عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه . عن الجامورانيّ، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن زرعة، عن سماعة قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-:

السّحت أنواع، منها كسب الحجّام إذا شارط وأجر الزّانية وثمن الخمر. فأمّا الرّشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان، عن ابن مسكان، عن يزيد بن فرقد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن السّحت؟ فقال: الرّشا في الحكم.

عليّ بن محمّد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد اللّه ، عن محمّد بن عليّ، عن عبد الرّحمن بن أبي هاشم ، عن القاسم بن الوليد [العمّاريّ،]  عن عبد الرّحمن الأصمّ، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه القمّاري  قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن ثمن الكلب الّذي لا يصيد؟

فقال: سحت، وأمّا الصّيود فلا بأس.

و بإسناده عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: الصّنّاع إذا سهروا اللّيل كلّه، فهو سحت.

و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: السّحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظّلمة.

و في من لا يحضره الفقيه : روى الحسن بن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه- عليه السّلام- عن قاض بين قريتين يأخذ من السّلطان على القضاء الرّزق؟قال: ذلك سحت.

فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: تخيير له- صلّى اللّه عليه وآله-.

في تهذيب الأحكام : سعد بن عبد اللّه، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن سويد بن سعيد القّلاء ، عن أبي أيّوب ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إن الحاكم إذا أتاه أهل التّوراة وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم.

و في مجمع البيان : والظّاهر في روايات أصحابنا، إنّ هذا لتخيير ثابت في الشّرع للأئمّة والحكّام.

وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً: بأن يعادوك لإعراضك  عنهم، فإنّ اللّه يعصمك من النّاس.

وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ: بالعدل الّذي أمر اللّه به.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ : فيحفظهم، ويعظّم شأنهم.

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ: تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أنّ الحكم منصوص عليه في الكتاب الّذي عندهم.

و تنبيه على أنّهم ما قصدوا بالتّحكيم معرفة الحقّ وإقامة الشّرع، وإنّما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم اللّه في زعمهم.

و فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من «التّوراة» إن رفعتها بالظّرف، وإن جعلتها مبتدأفمن ضميرها المستكنّ فيه. وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنّث في كلامهم لفظا، كموماة ودوداة.

ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ: ثمّ يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التّحكيم. وهو عطف على «يحكّمونك» داخل في حكم التّعجيب.

وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ : بكتابهم. لإعراضهم عنه أوّلا، وعمّا يوافقه ثانيا. أو بك وبه.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً: يهدي إلى الحقّ.

وَ نُورٌ: يكشف ما اشتبه عليهم من الأحكام.

يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا: وصف النّبيّين به مدحا لهم، وتنويها لشأن المسلمين، وتعريضا باليهود. وأنّهم بمعزل عن دين الأنبياء، واقتفاء هديهم.

لِلَّذِينَ هادُوا: متعلّق «بأنزل» أو «بيحكم»، أي: يحكمون بها في تحاكمهم.

وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ: عطف على «النّبيّون».

بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ: بسبب أمر اللّه إيّاهم أن يحفظوا كتابه من التّغيير والتّحريف. والرّاجع إلى «ما» محذوف. و«من» للتّبيين.

وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ: رقباء، لا يتركون أن يغيّر. أو شهداء يبيّنون ما يخفى منه.

قيل : هم علماؤهم وزهادهم، السّالكون طريقة أنبيائهم.

و في تفسير العيّاشي : عن مالك الجهنيّ قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام- أنّه قال في هذه الآية. فينا نزلت.

و عن أبي عمرو الزّبيريّ ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: أنّ ممّا استحقّت‏به الإمامة التّطهير والطّهارة من الذّنوب والمعاصي الموبقة الّتي توجب النّار، ثمّ العلم النّور  بجميع ما يحتاج إليه الأمّة»

 من حلالها وحرامها، والعلم بكتابها خاصّة وعامّة والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه.

قلت: وما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلّا عالما بهذه الأشياء الّتي ذكرت؟

قال: قول اللّه في من أذن [اللّه‏]  لهم في الحكومة  وجعلهم أهلها: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ فهذه الأئمّة دون الأنبياء الّذين يربّون النّاس بعلمهم، وأمّا الأحبار فهم العلماء دون الرّبّانيّين. ثمّ أخبرنا  فقال: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ. ولم يقل: بما حملوا منه.

 [و في كتاب التّوحيد ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع أصحاب المقالات والأديان. قال الرّضا- عليه السّلام- لرأس الجالوت: وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأه: اللّهمّ ابعث مقيم السّنّة بعد الفترة. فهل تعرف نبيّا أقام السّنّة بعد الفترة غير محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-؟

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره. ولكن عنى بذلك: عيسى، وأيّامه هي الفترة.

قال الرّضا- عليه السّلام-: جهلت أنّ عيسى لم يخالف السّنّة، وقد كان موافقا لسنّة التّوراة حتّى رفعه اللّه إليه.]

 

فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ: قيل : نهي للحكّام أن يخشوا غير اللّه في حكوماتهم، ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير. [و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن صالح بن حمزة رفعه قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ من العبادة شدّة الخوف من اللّه، يقول اللّه- عزّ وجلّ- : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.

 

و قال- جلّ ثناؤه-: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.] .

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا: ولا تستبدلوا بأحكامي الّتي أنزلتها ثمنا قليلا. وهو الرّشوة، والجاه.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ : ظاهر الآية عموم من حكم بغير ما أنزل اللّه، للاستهانة أو غيره.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه فقد كفر. ومن حكم في درهمين فأخطأ كفر.

و عن بعض أصحابه  قال: سمعت عمّارا يقول على منبر الكوفة: ثلاثة يشهدون على عثمان أنّه كافر وأنا الرّابع، وأنا أسمّي الأربعة. ثمّ قرأ هذه الآيات في المائدة:

 [ «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ والظّالمون والفاسقون».

و عن أبي العبّاس ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من حكم في درهمين بغير ما أنزل فقد كفر. قلت: كفر بما أنزل اللّه‏]  أو بما أنزل اللّه على محمّد؟

قال: ويلك إذا كفر بما أنزل اللّه على محمّد أليس قد كفر بما أنزل اللّه؟

و عن أبي بصير ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال عليّ- عليه السّلام-: من قضى في درهمين بغير ما أنزل اللّه فقد كفر.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، عن عبد اللّه بن كثير، عن عبد اللّه بن مسكان رفعه قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه كان من أهل هذه الآية: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.

فقلت: وكيف يجبر عليه؟

فقال: يكون له سوط وسجن فيحكم عليه. فإن  رضى بحكمه  وإلّا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن ثعلبة، عن صالح الأزرق، عن حكم الحنّاط ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- وحكم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قالا: من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه- عزّ وجلّ- ممّن له سوط أو عصا، فهو كافر بما أنزل اللّه على محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ: فرضنا على اليهود.

فِيها: في التّوراة.

أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: أي: أنّ النّفس تقتل بالنّفس.

وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ: رفعها الكسائي، على أنّها جمل معطوفة على «أنّ» وما في حيّزها باعتبار المعنى، وكأنّه قيل:

كتبنا عليهم النّفس بالنّفس والعين بالعين. فإنّ الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول.

أو جملة مستأنفة، ومعناها: وكذلك العين مفقودة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسّنّ مقلوعة بالسّنّ. أو على أنّ المرفوع منهامعطوف على المستكنّ في قوله: «بالنّفس»، وإنّما ساغ لأنّه في الأصل مفصول عنه بالظّرف. والجارّ والمجرور، حال، مبيّنة للمعنى .

و قرأ نافع: «و الأذن بالأذن» وفي «أذنيه» بإسكان الذّال حيث وقع .

 [و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سأل رجل أبي  عن حروب أمير المؤمنين- عليه السّلام- وكان السّائل من محبّينا.

فقال له أبي : إنّ اللّه- تعالى- بعث محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- بخمسة أسياف: ثلاثة فيها شاهرة لا تغمد إلى أن تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتّى تطلع الشّمس من مغربها [، فإذا طلعت الشّمس من مغربها آمن النّاس كلّهم في ذلك اليوم فيومئذ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ]  وسيف منها ملفوف، وسيف منها مغمد سلّه إلى غيرنا وحكمه إلينا- إلى أن قال-: وأمّا السّيف المغمود فالّذي  يقام به القصاص، قال اللّه- تعالى-:

أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فسلّه إلى أولياء المقتول وحكمه إلينا.] .

وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ، أي: ذات قصاص. وقرأه الكسائيّ- أيضا- بالرّفع.

و وافقه ابن كثير وأبو عمرو. وعلى كلّ تقدير إجمال للحكم بعد التّفصيل .

 [و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن أعور فقأ عين صحيح متعمّدا؟قال: تفقأ عينه.

قلت: يكون أعمى.

قال: الحقّ أعماه.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن أبي عمير، وعليّ بن حديد جميعا، عن جميل بن درّاج، عن بعض أصحابه، عن أحدهما- عليه السّلام- أنّه قال: في سنّ الصّبيّ يضربها الرّجل فتسقط ثمّ تنبت؟

قال: ليس عليه القصاص، وعليه الأرش.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد»، عن الحسين بن سعيد، عن النّضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

سألته عن السّنّ والذّراع يكسران عمدا، أ لهما أرش أو قود؟

فقال: قود.

قلت: فإن أضعفوا الدّية؟

قال: إن أرضوه بما شاء فهو له.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن محبوب [، عن إسحاق بن عمّار،]  عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قضى أمير المؤمنين- عليه السّلام- فيما كان من جراحات الجسد، أنّ فيها القصاص أو يقبل المجروح دية الجراحة [فيعطاها.] .

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن حديد، عن جميل بن درّاج، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما- عليهما السّلام- في رجل كسر يد رجل ثمّ برئت يد الرّجل؟ قال: ليس في هذا قصاص، لكن يعطى الأرش.] .

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّه منسوخ بقوله:كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى: وقوله: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ لم ينسخ.

و في تهذيب الأحكام : الحسين بن سعيد، عن فضّالة، عن أبان، عن زرارة، عن أحدهما- عليهما السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. (الآية) قال: هي محكمة.

و الجمع بين الخبرين، إمّا بأنّ المراد بقوله: «محكمة» أنّ الجروح قصاص محكمة. وإمّا بأنّ المراد بالمنسوخة، ما ظاهره منسوخ، أي: عمومه. وإن كان في الحقيقة، تخصيصا بالنّفس المساوي لها.

فَمَنْ تَصَدَّقَ: من المستحقّين.

بِهِ: بالقصاص، أي فمن عفا عنه.

فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ: للتّصدّق، فيكفّر اللّه به ذنوبه.

و قيل : الجاني يسقط عنه ما لزمه.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.

فقال: يكفّر عنه من ذنوبه، بقدر ما عفا.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم، عن [عليّ بن‏]  أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-:

فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.

قال: يكفّر عنه من ذنوبه، بقدر ما عفا من جراح أو غيره.

و في من لا يحضره الفقيه : وروى جعفر بن بشير، عن معلى بن عثمان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-:فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. قال: يكفّر عنه من ذنوبه على قدر ما عفا عن العمد.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ: من القصاص وغيره.

فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ :

 [في روضة الكافي : أبان، عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي عبد اللّه- عليه السّلام- إذ دخلت علينا  أمّ خالد، الّتي كان قطعها يوسف بن عمر، تستأذن عليه. فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: أ يسرّك أن تسمع كلامها؟

قال: قلت: نعم.

قال: فأذن لها [. قال:]  وأجلسني معه على الطّنفسة. قال: ثمّ دخلت فتكلّمت، فإذا امرأة بليغة. فسألته عنهما؟ فقال [لها:]  تولّيهما؟

قالت: فأقول لربيّ إذا لقيته إنّك أمرتني بولايتهما.

قال: نعم.

قالت: فإنّ هذا الّذي معك على الطّنفسة يأمرني بالبراءة منهما وكثير النّوا يأمرني بولايتهما، فأيّهما خير وأحبّ إليك؟

قال: هذا واللّه أحبّ إليّ من كثير النّوا وأصحابه، إنّ هذا يخاصم  فيقول وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.

الحسين بن محمّد الأشعريّ، عن [محمّد ، عن‏]  معلى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير مثله سواء.] .

 

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ: أي: وأتبعناهم على آثارهم. فحذف المفعول، لدلالة الجارّ والمجرور عليه. والضّمير، للتّبيين.بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: مفعول ثان، عدّى إليه الفعل بالباء.

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ:

و قرئ: بفتح الهمزة .

فِيهِ هُدىً وَنُورٌ: في موضع النّصب بالحال.

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ: عطف عليه. وكذا قوله.

وَ هُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ : ويجوز نصبهما على المفعول له، عطفا على محذوف. أو تعلّقا به، وعطف.

وَ لْيَحْكُمْ [أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: عليه، في قراءة حمزة. وعلى الأوّل الّلام متعلّقة بمحذوف، أي: وآتيناه ليحكم. وقرئ: وأن  ليحكم.]  على أنّ «أن» موصولة بالأمر. كقوله: أمرتك بأن قم، أي: وأمرنا بأن ليحكم.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ : عن الإيمان.

ففي مجمع البيان : وروى البراء بن عازب، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّ قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وبعده فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلّ ذلك في الكفّار خاصّة. أورده مسلم في الصّحيح.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي جميلة، عن بعض أصحابه، عن أحدهما- عليهما السّلام- قال: قد فرض اللّه في الخمس نصيبا لآل محمد، فأبى أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم حسدا وعداوة. وقد قال اللّه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وكان أبو بكر أوّل من منع آل محمد- عليهم السّلام- حقّهم وظلمهم وحمل الناس على رقابهم.

و لمّا قبض أبو بكر استخلفه عمر على غير شورى من المسلمين ولا رضى من آل‏محمّد، فعاش عمر بذلك لم يعط آل محمد حقّهم وصنع ما صنع أبو بكر.

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: أي: القرآن.

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ: من جنس الكتب المنزلة. فالّلام الأولى للعهد، والثّانية للجنس.

وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ: ورقيبا على سائر الكتب، يحفظه عن التّغيير، ويشهد لها بالصّحّة والثّبات.

و قرئ: على بنية المفعول، أي: هو من عليه، وحوفظ من التّحريف. والحافظ له هو اللّه- تعالى- أو الحفّاظ في كلّ عصر .

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن عليّ بن عيسى رفعه قال: إنّ موسى- صلّى اللّه عليه وآله- ناجاه ربّه- تبارك وتعالى- فقال له في مناجاته: أوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر الطّيّب الطّاهر المطهّر، فمثله في كتابك أنّه مؤمن مهيمن على الكتب كلّها.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

 [و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن صالح بن السّنديّ، عن جعفر بن بشير، عن سعد الإسكاف قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أعطيت السّور الطّوال مكان التّوراة. وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزّبور. وفضّلت بالمفصّل ثمان وستّون سورة. وهو مهيمن على سائر الكتب. فالتّوراة  لموسى. والإنجيل لعيسى. والزّبور لداود- عليهم السّلام-.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه-: وعن معمّر بن راشد قال:

 

سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقد ذكر الأنبياء- عليهم السّلام-: وأنّ اللّه جعل كتابي المهيمن على كتبهم، النّاسخ لها.و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.] .

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، أي: بما أنزل إليك.

وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه.

 «فعن» صلة ل «لا تتّبع» لتضّمنه معنى الانحراف. أو حال من فاعله، أي:

لا تتّبع أهواءهم مسائلا عمّا جاءك.

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ: أيّها النّاس.

شِرْعَةً: وهي الطّريقة إلى الماء. شبّه بها الدّين، لأنّه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبديّة.

و قرئ، بفتح الشّين .

وَ مِنْهاجاً: واضحا في الدّين. من نهج الأمر: إذا وضح.

 [و في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: لكلّ نبيّ شرعة وطريق.

و في كتاب علل الشّرائع»، بإسناده إلى حنان بن سدير قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: لأيّ علّة لم يسعنا  إلّا أن نعرف كلّ إمام بعد النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ويسعنا أن لا نعرف كلّ إمام قبل النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-؟

قال: لاختلاف الشّرائع.] .

و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، عن بعض أصحابه، عن آدم بن إسحاق، عن عبد الرّزّاق بن مهران، عن الحسين بن ميمون، عن محمّد بن سالم، عن أبي جعفر- عليه السّلام-، حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: فلمّا استجاب لكلّ نبيّ من استجاب له من قومه من المؤمنين جعل لكلّ منهم شرعة ومنهاجا. والشّرعة والمنهاج سبيل‏و سنّة. وقال اللّه- تعالى-: لمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله -: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وأمر كلّ نبيّ بالأخذ بالسّبيل والسّنّة. وكان من السّبيل والسّنّة الّتي أمر اللّه- عزّ وجلّ- بها موسى أن جعل اللّه عليهم السّبت.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً: جماعة متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار، من غير نسخ وتحويل. ومفعول «لو شاء» محذوف، دلّ عليه الجواب.

و قيل : المعنى: لو شاء اللّه اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه.

وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ: من الشّرائع المختلفة، المناسبة لكلّ عصر وقرن. هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أنّ اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهيّة، أم تزيغون من الحقّ وتفرّطون في العمل.

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ: فابتدروها، انتهازا للفرصة، وحيازة لفضل السّبق والتّقدّم.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً: استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق، ووعد ووعيد للمبادرين والمقصّرين.

فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ : بالجزاء، الفاصل بين المحقّ والمبطل والعامل والمقصّر.

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ: عطف على الكتاب، أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم. أو على الحقّ، أي: أنزلناه بالحقّ وبأن احكم.

و يجوز أن يكون جملة بتقدير: وأمرنا أن احكم.

و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام- إنّما كرّر الأمر بالحكم بينهم.

لأنّهما حكمان أمر بهما جميعا. لأنّهم احتكموا إليه في زنا المحصن ثمّ احتكموا إليه في قتل كان بينهم.

وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏، أي: يضلّوك ويصرفوك عنه.

و «أن» بصلته بدل من «هم» بدل الاشتمال، أي احذرهم فتنتهم. أو مفعول له: أي: احذرهم مخافة أن يفتنوك. نزلت في قريظة والنّضير في الحكاية السّالفة عنهم.

قيل : روي أنّ أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه.

فقالوا: يا محمّد، قد عرفت أنّا أحبار اليهود، وأنّا إن اتّبعناك اتّبعنا اليهود كلّهم، وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدّقك.

فأبى ذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فنزلت.

فَإِنْ تَوَلَّوْا: عن الحكم المنزل، وأرادوا غيره.

فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ: يعني: ذنب التّولّي عن حكم اللّه. فعبّر عنه بذلك، تنبيها على أنّ لهم ذنوبا كثيرة، وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها.

و في لفظ «بعض» دلالة على التّعظيم، كما في التّنكير، ونظيره قول لبيد :

         أو يرتبط بعض النّفوس حمامها

 

 وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ : المتمرّدون في الكفر، المعتدّون فيه.

أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ: الّذي فيه الميل والمداهنة في الحكم. والمراد بالجاهليّة، الملّة الجاهليّة الّتي هي متابعة الهوى.

و قرئ، برفع الحكم. على أنّه مبتدأ و«يبغون» خبره. والرّاجع محذوف، حذفه في الصّلة في قوله: أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. واستضعف ذلك في غير الشّعر .

و قرئ: «أ فحكم الجاهليّة»، أي: يبغون حاكما كحكّام الجاهليّة يحكم‏

بحسب تشهيهم .

و قرأ ابن عامر: «تبغون» بالتّاء. على معنى قل لهم: أ فحكم الجاهليّة تبغون .

وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ : أي: عندهم.

و «الّلام» للبيان، كما في قوله: هَيْتَ لَكَ، أي: هذا الاستفهام لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فإنّهم هم الّذين يبتدرون الأمور ويتحقّقون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون أنّ لا أحسن حكما من اللّه.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه رفعه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: الحكم حكمان: حكم اللّه وحكم الجاهلية. فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهلية.

أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن ابن فضّال ، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: الحكم حكمان: حكم اللّه وحكم الجاهليّة. وقد قال اللّه- عزّ وجلّ-: ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وأشهد  على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ: فلا تعتمدوا عليهم، ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب.

بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: إيماء إلى علّة النّهي، أي: فإنّهم متّفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا لاتّحادهم في الدّين واجتماعهم على مضادّتكم.

 [و في مجمع البيان : عن الصّادق- عليه السّلام-: لا يتوارث  أهل ملّتين،نحن نرثهم ولا يرثونا. ] .

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، أي: من استنصر بهم فإنّه كافر مثلهم.

في تفسير العيّاشي : عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من تولّى آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- وقدّمهم على جميع النّاس بما قدّمهم من قرابة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فهو من آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- لا أنّه من القوم بأعيانهم، وإنّما هو منهم بتولّيه إليهم واتّباعه إيّاهم. وكذلك حكم اللّه في كتابه:

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وقول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، أي: الّذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفّار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم.

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يعني: ابن أبيّ وأضرابه.

يُسارِعُونَ فِيهِمْ، أي: في موالاتهم ومعاونتهم.

يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: يعتذرون بأنّهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزّمان، بأن ينقلب الأمر وتكون الدّولة للكفّار.

روي أنّ عبادة بن الصّامت قال لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، وإنّي أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم، وأوالي اللّه ورسوله.

فقال ابن أبيّ: إنّي رجل أخاف الدّوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فنزلت .

فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ: لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على أعدائه وإظهار المسلمين.

أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ: يقطع شأفة اليهود، من القتل والإجلاء. أو الأمر، بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم.

فَيُصْبِحُوا: أي: هؤلاء المنافقين.

عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ : على ما استبطنوه من الكفرو الشّكّ في أمر رسول اللّه، فضلا ممّا أظهروه ممّا أشعر على نفاقهم.

و في تفسير العيّاشي : عن داود الرّقيّ قال: سأل أبا عبد اللّه- عليه السّلام- رجل وأنا حاضر عن قول اللّه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.

قال: أذن في هلاك بني أميّة بعد إحراق زيد بسبعة أيّام.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا:

بالرّفع، قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ. على أنّه كلام مبتدأ. ويؤيّده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر، مرفوعا بغير واو، على أنّه جواب قائل يقول: فإذا يقول المؤمنون حينئذ  وقرأه بالنّصب أبو عمرو ويعقوب، عطفا على «أن يأتي» باعتبار المعنى، وكأنّه قال: عسى أن يأتي اللّه بالفتح ويقول: آمنوا. أو يجعله بدلا من اسم «اللّه» داخلا في اسم «عسى» مغنيا عن الخبر بما تضمّنه من الحدث. أو على الفتح، بمعنى: عسى اللّه أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين. فإنّ الإتيان بما يوجبه، كالإتيان به .

أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ: يقوله المؤمنون بعضهم لبعض، تعجّبا من حال المنافقين حلفوا لهم بالمعارضة، وتبجّحا بما من اللّه عليهم من الإخلاص. أو يقولون لليهود، فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى اللّه عنهم . وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ.

و جهد الأيمان، أغلظها. وهو في الأصل مصدر. ونصبه على الحال، على تقدير:

و أقسموا باللّه يجتهدون جهد أيمانهم. فحذف الفعل وأقيم المصدر ونصبه مقامه، ولذلك ساغ كونها معرفة. أو على المصدر، لأنّه بمعنى: أقسموا.

 «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ : إمّا من جملة المقولين. أو من‏قول اللّه، شهادة لهم بحبوط أعمالهم. وفيه معنى التّعجّب، كأنّه قيل : ما أحبط أعمالهم وما أخسرهم!

و في تفسير العيّاشي : عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام - يقول: إنّ الحكم بن عتيبة وكثير النّوا  وسلمة وأبا المقدام والتّمّار، يعني: سالما، أضلّوا كثيرا ممّن ضلّ من هؤلاء النّاس. وإنّهم ممّن قال اللّه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وإنّهم ممّن قال اللّه: أَقْسَمُوا  بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [يحلفون باللّه‏]  إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ:

و قرئ: «يرتدد» بدالين. وجوابه محذوف، يعني: فلن يضرّوا اللّه شيئا، فإن اللّه لا يخلي دينه من أنصار يحمونه. وهذا من الكائنات الّتي أخبر اللّه عنها قبل وقوعها.

قيل»

: وقد ارتدّ من العرب في أواخر عهد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ثلاث فرق: بنو مدلج. وكان رئيسهم ذا الخمار الأسود العنسي: تنبّا باليمن واستولى على بلاده. ثمّ قتله فيروز الدّيلميّ ليلة قبض رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن غدها.

و أخبر الرّسول في تلك اللّيلة فسرّ المسلمون. وأتى الخبر في أواخر ربيع الأوّل، وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة، تنبّأ وكتب إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: «من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّد رسول اللّه، أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك.» فأجاب: «من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب، أمّا بعد فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.» فحاربه أبو بكر بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد. تنبّأ فبعث إليه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- خالدا.فهرب بعد القتال إلى الشّام. ثمّ أسلم وحسن إسلامه.

و في عهد أبي بكر سبع: فزارة قوم عيينة بن حصين، وغطفان قوم قرّة بن سلمة، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر والمتنبّئة زوجة مسيلمة، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم [بن زيد.]  وكفى اللّه أمرهم على يده.

و في أمرة  عمر: غسّان قوم جبلة بن الأيهم. تنصّر وسار إلى الشّام.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم- رحمه اللّه - قال: هو مخاطبة لأصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الّذين غصبوا آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- حقّهم وارتدّوا عن دين اللّه.

و في مجمع البيان : وروى أبو إسحاق الثّعلبيّ في تفسيره بالإسناد، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال:

يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي أصحابي.

فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ:

قيل : هم اليمن. لما

روي أنّه- عليه السّلام- أشار إلى أبي موسى [الأشعريّ‏] وقال [: هم‏] قوم هذا.

و قيل : الّذين جاهدوا يوم القادسيّة [، ألفان‏] من النّخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء النّاس.

و قيل : الفرس.

لأنّه- عليه السّلام- سئل عنهم؟ فضرب يده على عاتق سلمان وقال هذا وذووه.و في مجمع البيان : عن الباقر والصّادق- عليهما السّلام-: هم أمير المؤمنين وأصحابه، حين قاتل من قاتله من النّاكثين والقاسطين والمارقين.

قال: ويؤيّد هذا،

أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وصفه بهذه الصّفات [المذكورة في الآية، فقال فيه وقد ندبه‏]  حين ندبه لفتح خيبر بعد أن ردّ عنها حامل الرّاية إليه مرّة بعد أخرى وهو يجبّن النّاس ويجبّنونه: لأعطيّن الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّارا غير فرّار حتّى يفتح اللّه على يديه، ثمّ أعطاها إيّاه.

و عن عليّ- عليه السّلام - أنّه قال يوم البصرة: واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم.

و تلا هذه الآية.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : [أنّها نزلت في مهديّ الأمّة وأصحابه.] .

 [قال : هو مخاطبة لأصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الّذين غصبوا آل محمّد حقّهم وارتدّوا عن دين اللّه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ نزلت في القائم وأصحابه، الّذين يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم.

و

في تفسير العيّاشي : [عن ابن سنان،]  عن سليمان بن هارون قال: قال:

و اللّه، لو أنّ أهل السّماء والأرض اجتمعوا على أن يحوّلوا هذا الأمر من موضعه  الّذي وضعه اللّه فيه ما استطاعوا. ولو أنّ النّاس كفروا جميعا حتّى لا يبقى أحد لجاء اللّه لهذا الأمر بأهل يكونون هم أهله. ثمّ قال: أما تسمع اللّه يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ قال الموالي ] .و لا منافاة بين الرّوايتين، بناء على جواز التّعميم. والرّاجع إلى «من» محذوف، تقديره: فسوف يأتي اللّه بقوم مكانهم. ومعنى محبة اللّه للعباد، إرادة الهدى والتّوفيق لهم في الدّنيا وحسن الثّواب في الآخرة. ومحبّة العباد، إرادة طاعته والاجتناب عن معاصيه.

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: عاطفين عليهم، متذلّلين لهم. جمع «ذليل» لا «ذلول». فإنّ جمعه، ذلل. واستعماله مع «على» إمّا لتضمين معنى العطف والحنّو، أو للتّنبيه على أنّهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم، أو للمقابلة.

أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ: شداد متغلّبين عليهم. من عزّه: إذا غلبه.

و قرئ، بالنّصب، على الحال .

يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: صفة أخرى «لقوم». أو حال من الضّمير في «أعزّة».

وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: عطف على «يجاهدون»، بمعنى: أنّهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل اللّه، والتّصلّب في دينه. أو حال، بمعنى: أنّهم يجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين. فإنّهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود، فلا يعلمون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم.

و اللّومة، المرّة من اللّوم. وفيها وفي تنكير «لائم» مبالغتان.

و في كتاب تلخيص الأقوال في تحقيق أحوال الرّجال  وفي ق  حجر بن عديّ‏الكنديّ الكوفيّ قال الفضل بن شاذان: ومن التّابعين الكبار ورؤسائهم وزهّادهم حجر بن عديّ.

و روي كتاب عن الحسين- عليه السّلام- إلى معاوية فيه: أ لست القاتل حجر بن عديّ أخا كندة ، والمصلّين العابدين الّذين كانوا ينكرون الظّلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في اللّه لومة لائم؟

و في كتاب الاحتجاج : قال عليّ- عليه السّلام- في خطبة له: إنّ اللّه ذا الجلال والإكرام، لمّا خلق الخلق واختار خيرة من خلقه واصطفى صفوة من عباده وأرسل رسولا منهم وأنزل عليه كتابه وشرّع له دينه وفرض فرائضه، وكانت الجملة قول اللّه- جلّ ذكره- حيث أمر فقال : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فهو لنا أهل البيت خاصّة دون غيرنا، فانقلبتم على أعقابكم ورددتم ونقضتم الأمر ونكثتم العهد ولم تضرّوا اللّه شيئا. وقد أمركم اللّه، أن تردّوا الأمر إلى اللّه وإلى رسوله وإلى أولي الأمر [منكم‏]  المستنبطين للعلم، فأقررتم وجحدتم.

و بإسناده إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام -، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل، وفيه يقول وقد ذكر عليّا- عليه السّلام-: فهو الّذي يهدي إلى الحقّ ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، ولا يأخذه في اللّه لومة لائم.

و في كتاب الخصال : عن أبي بريدة، عن أبيه أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- أمرني بحبّ أربعة.

فقلنا: يا رسول اللّه، من هم، سمّهم لنا؟

فقال: عليّ- عليه السّلام- منهم وسلمان وأبو ذرّ والمقداد. وأمرني بحبّهم.و أخبرني أنّه يحبّهم.

و عن أبي بريدة ، عن أبيه قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ اللّه أمرني بحبّ أربعة من أصحابي وأخبرني أنّه يحبّهم.

فقلنا: يا رسول اللّه، من هم، فكلّنا يحبّ أن يكون  منهم؟

فقال: ألا إنّ عليّا منهم. ثمّ سكت، ثمّ قال: ألا إنّ عليّا منهم. ثمّ سكت، ثمّ قال: ألا إنّ عليّا منهم وأبو ذرّ وسلمان الفارسيّ والمقداد بن الأسود الكنديّ.

 

عن عبد اللّه بن الصّامت ، عن أبي ذرّ- رحمه اللّه- قال: أوصاني رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بسبع: أوصاني أن لا أخاف في اللّه لومة لائم.

 (الحديث).

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف.

فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ: يمنحه ويوفّق له.

وَ اللَّهُ واسِعٌ: كثير الفضل.

عَلِيمٌ : بمن هو أهله.

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا: لمّا نهى عن موالاة الكفرة، ذكر عقيبه من هو حقيق بها. وإنّما قال: «وليّكم»، ولم يقل: «أولياؤكم»، للتّنبيه على أنّ الولاية للَّه ولرسوله»

 وللمؤمنين واحدة. والمراد بالوليّ، المتولّي للأمور والمستحقّ للتّصرّف فيهم.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ: صفة «للّذين آمنوا»، لأنّه جرى مجرى الأسماء. أو بدل منه. ويجوز رفعه ونصبه، على المدح.وَ هُمْ راكِعُونَ : حال من فاعل «يؤتون»، أي: يؤتون الزّكاة في حال ركوعهم في الصّلاة، حرصا على الإحسان ومسارعة إليه.

في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلى بن محمّد، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن محمّد الهاشميّ، عن أبيه، عن أحمد بن عيسى، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في تفسير هذه الآية، يعني: أولى بكم، أي: أحقّ بكم وبأموركم من أنفسكم وأموالكم، اللَّه ورسوله والّذين آمنوا، يعني عليّا وأولاده الأئمّة- عليهم السّلام- إلى يوم القيامة. ثمّ وصفهم اللّه- عزّ وجلّ- فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وكان أمير المؤمنين- عليه السّلام- في صلاة الظّهر وقد صلّى ركعتين وهو راكع وعليه حلّة قيمتها ألف دينار، وكان النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أعطاه إيّاها، وكان النّجاشي أهداها له، فجاء سائل فقال:

السّلام عليك يا وليّ اللَّه وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدّق على مسكين. فطرح الحلّة إليه وأومأ بيده إليه أن احملها، فأنزل اللّه فيه هذه الآية، وصيّر نعمة أولاده بنعمته. فكلّ من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النّعمة مثله، فيتصدّقون وهم راكعون.

و السّائل الّذي سأل أمير المؤمنين، هو من الملائكة. والّذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة.

الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محمّد الهاشميّ قال: حدّثني أبي، عن أحمد بن عيسى قال: حدّثني جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه- عليهم السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها قال:

لمّا نزلت إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ اجتمع نفر من أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في مسجد المدينة، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في هذه الآية؟

فقال بعضهم: إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنّا فإنّ هذا ذلّ حين يسلّط علينا عليّ بن أبي طالب.

فقالوا: قد علمنا أنّ محمّدا صادق فيما يقول، ولكنّا نتولّاه ولا نطيع عليّا فيما أمرنا. قال: فنزلت هذه الآية : يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها يعرفون، يعني، ولاية عليّ وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ بالولاية.

 [و فيه : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعا عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أمر اللّه- عزّ وجلّ- رسوله بولاية عليّ، وأنزل عليه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وفرض اللّه ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي، فأمر اللّه محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ، فلمّا أتاه ذلك من اللَّه ضاق بذلك صدر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وتخوّف عن أن يرتدّوا عن دينهم وأن يكذّبوه، فضاق صدره وراجع ربّه- عزّ وجلّ- فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فصدع بأمر اللّه- تعالى ذكره- فقام بولاية عليّ- عليه السّلام- يوم غدير خمّ، فنادى الصّلاة جامعة وأمر النّاس أن يبلّغ الشّاهد الغائب.

قال عمر بن أذينة: قالوا جميعا غير أبي الجارود قال أبو جعفر: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال أبو جعفر- عليه السّلام-: يقول اللّه- عزّ وجلّ-: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم دينكم الفرائض.

بعض أصحابنا، عن محمّد بن أبي عبد اللّه ، عن عبد الوهّاب بن بشير ، عن‏

 موسى بن قادم، عن سليمان، عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

قال: إنّ اللّه أعظم وأعزّ وأجلّ وأمنع من أن يظلم ولكنّه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، يعني: الأئمّة منّا. ثمّ قال في موضع : وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثمّ ذكر مثله.

أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرت لأبي عبد اللّه قولنا في الأوصياء، إنّ طاعتهم مفترضة؟

قال: فقال: نعم، هم الّذين قال اللّه- تعالى-: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم الّذين قال اللّه- عزّ وجلّ-: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن خالد البرقيّ، عن محمّد بن القاسم الجوهريّ، عن الحسين بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: الأوصياء طاعتهم مفترضة؟

قال: نعم هم الّذين قال اللّه- عزّ وجلّ-: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم الّذين قال اللّه- تعالى -: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.

و في عيون الأخبار ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع المأمون، في الفرق بين العترة والأمّة، له- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام- في شأن ذي القربى: فما رضيه لنفسه ولرسوله رضيه لهم، وكذلك الفي‏ء ما رضيه منه لنفسه ولنبيّه رضيه لذي القربى، كما أجراهم في الغنيمة فبدأ بنفسه- جلّ جلاله- ثمّ برسوله‏ثمّ بهم، وقرن سهمهم بسهم اللّه  وسهم رسوله، وكذلك في الطّاعة فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فبدأ بنفسه ثمّ برسوله ثمّ بأهل بيته. وكذلك آية الولاية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ‏]  فجعل طاعتهم  مع طاعة الرّسول مقرونة بطاعته [كذلك ولايتهم مع ولاية رسول اللّه مقرونة بطاعته‏]  كما جعل سهمهم مع سهم الرّسول بسهمه في الغنيمة والفي‏ء، فتبارك اللّه وتعالى ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت.

و في تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي  قال: حدّثني جعفر بن محمّد بن سعيد، عن المنهال قال: سألت عليّ بن الحسن  وعبد اللّه بن محمّد عن قول اللّه- تعالى-: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. قال: عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-.

و قال : حدّثني محمّد بن عيسى بن زكريّا الدّهقان معنعنا، عن [أمير المؤمنين‏] .

 

عليّ [بن أبي طالب-]  عليه السّلام- دخلت على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وهو يقرأ سورة المائدة، فقال: اكتب. فكتبت حتّى انتهى  إلى هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ثمّ أتى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يخفق برأسه كأنّه نائم وهو يملي عليّ بلسانه  حتّى فرغ من آخر سورة المائدة، ثمّ انتبه فقال لي: اكتب. فأملى عليّ من الموضع الّذي  خفق عند .فقلت: ألم تملي عليّ حتى ختمتها؟

فقال: اللّه أكبر، ذلك الّذي أملى  عليك جبرئيل- عليه السّلام- ثمّ قال عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-: فأملأ عليّ منها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- سبعين  آية، وأملأ عليّ جبرئيل- عليه السّلام- أربعا وستّين آية .

و قال : حدّثني الحسين بن سعيد معنعنا، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان [يصلّي‏]  ذات يوم في مسجد فمرّ به فقير»

، فقال له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: هل  تصدّق عليك [أحد]  بشي‏ء؟

قال: نعم، مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه. وأشار بيده فإذا هو عليّ بن أبي طالب، فنزلت هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [وَ الَّذِينَ آمَنُوا]  الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: هو وليّكم من بعدي.

و قال ابن عبّاس : نزلت في عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- خاصّة.

و قال : حدّثني زيد بن حمزة بن محمّد بن عليّ بن زياد القصّار  معنعنا، عن [أمير المؤمنين‏]  عليّ [بن أبي طالب-]  عليه السّلام- أنّه كان يقول: من أحبّ اللّه أحبّ النّبيّ، ومن أحبّ النّبيّ أحبّنا، ومن أحبّنا أحبّ شيعتنا، فإنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ونحن وشيعتنا من طينة واحدة، ونحن في الجنّة ولا نبغض من يحبّنا ، ولانحبّ من أبغضنا، اقرؤوا إن شئتم: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا (إلى آخر الآية).

قال الحارث: صدق وصدق  اللّه، ما نزلت إلّا فيه.

و في شرح الآيات الباهرة : ذكر أبو عليّ الطّبرسيّ- رحمه اللّه- بحذف الإسناد: عن الأعمش بن غيابة بن ربعي  قال: بينا عبد اللّه بن عبّاس جالس على شفير زمزم وهو يقول: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذ أقبل رجل معمّم بعمامة، فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلّا قال ذلك الرّجل قال: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال ابن عبّاس: سألت باللّه من أنت ؟

فكشف العمامة عن وجهه وقال: أيّها النّاس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدريّ أبو ذرّ الغفاريّ، سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بهاتين وإلّا صمّتا، ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا يقول: عليّ قائد البررة، قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. أما إنّي صلّيت مع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يوما من الأيّام صلاة الظّهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السّائل يده إلى السّماء وقال: اللّهمّ، إنّي سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا. وكان عليّ راكعا فأومى بخنصره اليمنى وكان مختّم فيها. فأقبل السّائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فلمّا فرغ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- من صلاته رفع رأسه إلى السّماء وقال: اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي‏

 فأنزلت عليه قرآنا ناطقا، سنشدّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما. اللّهمّ وأنا محمّد صفيّك ونبيّك، فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي أشدد به أزري.

قال أبو ذرّ: فو اللّه ما استتمّ الكلام حتّى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه- تعالى-.

فقال: يا محمّد، اقرأ.

قال: وما أقرأ؟

قال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.]

 

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه: فقال المنافقون: هل بقي لربّك علينا بعد الّذي فرضه علينا شي‏ء آخر يفترضه فتذكره، ولتسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره؟ فأنزل اللّه- تعالى- في ذلك : قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ، يعني: الولاية. وأنزل  إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.

 

و ليس بين الأمّة خلاف أنّه لم يؤت الزّكاة يومئذ أحد منهم وهو راكع [غيره. ظ.]  ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط.

و بإسناده إلى محمّد بن عليّ الباقر- عليه السّلام  قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: قد أنزل اللّه- تبارك وتعالى-: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ. وعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- أقام الصّلاة وأتى الزّكاة وهو راكع، يريد اللّه- عزّ وجلّ- في كلّ حال.و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى سليم بن قيس الهلاليّ، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه قال في أثناء كلام له في جمع من المهاجرين والأنصار في المسجد أيّام خلافة عثمان: فأنشدكم اللّه- عزّ وجلّ- أ تعلمون حيث نزلت : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وحيث نزلت: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وحيث نزلت :

وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً دونهم .

قال النّاس: يا رسول اللّه هذه خاصّة في بعض  المؤمنين أم عامّة لجميعهم؟ فأمر اللّه- عزّ وجلّ- نبيّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن يعلّمهم ولاة أمرهم، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجّهم. فنصبني للنّاس بغدير خم [.

ثم خطب‏]  فقال: يا أيّها النّاس، إنّ اللّه [أرسلني برسالة ضاق بها صدري. وظننت أن النّاس يفتتنون بها. فأوعدني لأبلّغنّها أو ليعذّبني.]  ثمّ أمر فنودي الصّلاة جامعة. ثمّ خطب النّاس فقال: أيّها النّاس، أ تعلمون أنّ اللّه- عزّ وجلّ- مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: قم يا عليّ، فقمت.

فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه [، وانصر من نصره، واخذل من خذله.] .

فقام سلمان الفارسيّ فقال: يا رسول اللّه، ولاؤه كما ذا؟

فقال- عليه السّلام-: ولاؤه كولائي. من كنت أولى به من نفسه [فعليّ أولى به من نفسه.]  فأنزل اللّه- تبارك وتعالى-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً

 فكبّر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقال: اللّه أكبر، تمام نبوّتي وتمام ديني  دين اللّه- عزّ وجلّ- وولاية عليّ بعدي.

فقام أبو بكر وعمر فقالا: يا رسول اللّه، هذه الآيات خاصّة [لعليّ- عليه السّلام-؟] .

قال: بلى [خاصّة]  فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة.

قالا: يا رسول اللّه، بيّنهم لنا.

قال: عليّ أخي ووزيري ووارثي ووصيّي وخليفتي في أمّتي ووليّ كلّ مؤمن بعدي، ثمّ ابني الحسن [، ثمّ ابني الحسين،]  ثمّ تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد. القرآن معهم وهم مع القرآن. لا يفارقونه ولا يفارقهم حتّى يردوا عليّ الحوض .

قالوا: اللّهمّ نعم، قد سمعنا ذلك، وشهدنا كما قلت سواء.

و قال بعضهم: قد حفظنا ما قلت ولم نحفظه كلّه. وهؤلاء الّذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا.

فقال- عليه السّلام-: صدقتم، ليس كلّ النّاس يتساوون في الحفظ.

و في كتاب الخصال ، في احتجاج عليّ- عليه السّلام- على أبي بكر قال:

فأنشدك باللّه، إليّ الولاية من اللّه مع ولاية رسوله في آية زكاة الخاتم أم لك؟

قال: بل لك.

و فيه ، في مناقب أمير المؤمنين- عليه السّلام- وتعدادها قال- عليه السّلام-:

و أمّا الخامسة والسّتّون، فإنّي كنت أصلّي في المسجد، فجاء سائل فسأل وأنا راكع، فأوليته خاتمي من إصبعي. وأنزل اللّه بعد فيّ. إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (الآية).

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الباقر- عليه السّلام- قال: بينما رسول اللّه‏- صلّى اللّه عليه وآله- جالس وعنده قوم من اليهود وفيهم عبد اللّه بن سلام، إذ أنزلت  عليه هذه الآية، فخرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى المسجد، فاستقبله سائل فقال: هل أعطاك أحد شيئا؟

قال: نعم، ذلك المصلّي. فجاء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فإذا هو أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه-.

و الأخبار ممّا روته العامّة والخاصّة في أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين- عليه السّلام- كثيرة جدّا.

و نقل في مجمع البيان : عن جمهور المفسّرين، أنّها نزلت في أمير المؤمنين- عليه السّلام- حين تصدّق بخاتمه في ركوعه. وذكر قصّته عن ابن عبّاس وغيره.

قيل : والتّوفيق بين ما رواه في الكافي  أنّ التّصدّق به كان حلّة، وبين ما رواه غيره واشتهر بين العامّة والخاصّة أنّه كان خاتما، بأنّه- عليه السّلام- لعلّه تصدّق في ركوعه مرّة بالحلّة والأخرى بالخاتم.

و الآية نزلت بعد الثّانية.

و في قوله- تعالى-: «و يؤتون» إشعار بذلك، لتضمّنه التّكرار والتّعدّد. كما أنّ فيه إشعار بفعل أولاده- أيضا-.

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ، أي: فإنّهم الغالبون. ولكن وضع الظّاهر موضع المضمر، تنبيها على البرهان عليه وكأنّه قيل: ومن يتولّ هؤلاء فهم حزب اللّه، وحزب اللّه هم الغالبون. وتنويها بذكرهم، وتعظيما لشأنهم، وتشريفا لهم بهذا الاسم، وتعريضا بموالي غير هؤلاء بأنّه حزب الشّيطان. وأصل الحزب: القوم يجتمعون لأمر حزبهم.

 [و في شرح الآيات الباهرة : روى الشّيخ الصّدوق محمّد بن بابويه القمّيّ، عن‏

 عليّ بن حاتم، عن أحمد بن محمّد قال: حدّثنا جعفر بن عبد اللّه قال: حدّثنا كثير بن عيّاش، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-]  في قول اللّه- عزّ وجلّ-:

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ (الآية) قال: إنّ رهطا من اليهود أسلموا، منهم عبد اللّه بن سلام وأسيد بن ثعلبة  وابن يامين وابن صوريا ، فأتوا النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّ موسى- عليه السّلام- أوصى إلى يوشع بن نون. فمن وصيّك يا رسول اللّه؟ ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. (الآية).

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: قوموا. فقاموا. فأتوا المسجد. فإذا سائل خارج. فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئا؟

قال: نعم، هذا الخاتم. قال: من أعطاكه؟

قال: أعطانيه ذلك الرّجل الّذي يصلّي.

قال: على أيّ حال أعطاك؟

قال: كان راكعا. فكبّر النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وكبّر أهل المسجد.

فقال: النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: عليّ بن أبي طالب وليّكم بعدي.

قالوا: رضينا باللّه ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيّا وبعليّ بن أبي طالب إماما ووليّا. فأنزل اللّه- تعالى-: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.

و روي عن عمر بن الخطّاب  أنّه قال: واللّه لقد تصدّقت بأربعين خاتما وأنا راكع لينزل فيّ ما نزل في عليّ بن أبي طالب، فما نزل.

 [و في أمالي الصّدوق- رحمه اللّه- مثله سواء .] .

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه-: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-: والَّذِينَ آمَنُوا في هذا الموضع، هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر.

و في كتاب التّوحيد : عن الصّادق- عليه السّلام-: يجي‏ء رسول اللّه- صلّى اللَّه عليه وآله- يوم القيامة آخذا بحجزة ربّه، ونحن آخذون بحجزة نبيّنا، وشيعتنا آخذون بحجزتنا، ونحن وشيعتنا حزب اللّه وحزب اللّه هم الغالبون. واللّه ما يزعم أنّها حجزة الإزار، ولكنّها أعظم من ذلك: يجي‏ء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- آخذا بدين اللّه، ونحن نجي‏ء آخذين بدين نبيّنا، ويجي‏ء شيعتنا آخذين بديننا.

 [و في تفسير العيّاشي : عن صفوان قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: لقد حضر الغدير اثنا عشر ألف رجل يشهدون لعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فما قدر على أخذ حقّه، وإنّ أحدكم يكون له المال وله شاهدان فيأخذ حقّه فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ في عليّ- عليه السّلام-.] .

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ: نزلت في رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث، أظهرا الإسلام ثمّ نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما.

و قد رتّب النّهي عن موالاتهم على اتّخاذهم دينهم هزوا ولعبا، إيماء إلى  العلّة، وتنبيها على أنّ من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة [و البغضاء.] .

و فصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفّار، على قراءة من جرّه، وهم أبو عمرو والكسائيّ ويعقوب. والكفّار وإن عمّ أهل الكتاب، يطلق على المشركين خاصّة، لتضاعف كفرهم. ومن نصبه، عطفه «على الّذين اتّخذوا» على أنّ النّهي عن موالاة من ليس على الحقّ رأسا. سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرّفه عن الصّواب كأهل‏الكتاب، ومن لم يكن كالمشركين .

وَ اتَّقُوا اللَّهَ: بترك المناهي.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : لأنّ الإيمان حقّا يقتضي ذلك.

و قيل : إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده.

وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً: أي: اتّخذوا الصّلاة أو المناداة. وفيه دليل، على أنّ الأذان مشروع للصّلاة.

روي : أنّ نصرانيّا بالمدينة، كان إذا سمع المؤذّن يقول: أشهد أنّ محمّدا رسول اللَّه. قال: أحرق اللّه الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام، فتطاير شررها في البيت، فأحرقه وأهله.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ : فإنّ السّفه يؤدّي الى الجهل بالحقّ، والهزء به. والعقل يمنع منه.

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا: هل تنكرون منّا، وتعيبون.

يقال: نقم منه كذا: إذا أنكره. وانتقم: إذا كافأه.

و قرئ: «تنقمون» بفتح القاف. وهي لغة .

إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ: الإيمان بالكتب المنزلة كلّها.

وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ : عطف على «أن آمنّا» فكأنّ المستثنى لازم الأمرين، وهو المخالفة، أي: ما تنكرون منا إلّا مخالفتكم، حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه. أو كان الأصل: واعتقاد أنّ أكثركم فاسقون، فحذف المضاعف. أو على «ما»، أي: وما تنقمون منّا إلّا الإيمان باللّه وما أنزل، وبأنّ أكثركم. أو على علّة محذوفة، والتّقدير: هل تنقمون منّا إلّا أن آمنّا لقلّة إنصافكم وفسقكم. أو نصب بإضمار فعل، دلّ عليه «هل تنقمون»، أي: ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. أو رفع على‏الابتداء، والخبر محذوف، أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم، ولكنّ حبّ الرّئاسة والمال يمنعكم من الإنصاف.

و الآية خطاب ليهود سألوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عمّن يؤمن به؟

فقال: أؤمن باللّه وما أنزل إلينا [إلى قوله، ونحن له مسلمون.

فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى: لا نعلم دينا شرّا من دينكم.

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ، أي: ذلك المنقوم.

مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ: جزاء ثابتا عند اللّه. والمثوبة مختصّة بالخير، كالعقوبة بالشّرّ. فوضعت هاهنا موضعها، على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع.

و نصبها على التّميز عن «بشرّ».

مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ: بدل من «شرّ» على حذف مضاف، أي: بشرّ من أهل ذلك من لعنه اللّه. أو بشرّ من ذلك دين من لعنه اللّه. أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو من لعنه اللّه. وهم اليهود، أبعدهم اللّه من رحمته، وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات، ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السّبت، وبعضهم خنازير وهم كفّار أهل مائدة عيسى- عليه السّلام-.

و قيل : كلا المسخين في أصحاب السّبت: مسخت شبابهم قردة ومشايخهم خنازير.

وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ: عطف على صلة «من». وكذا عبد الطّاغوت، على البناء للمفعول ورفع الطّاغوت.

و «عبد»، بمعنى: صار الطّاغوت معبودا. فيكون الرّاجع محذوفا، أي: فيهم، أو بينهم.

و من قرأ: و«عابد الطّاغوت» أو «عبد» على أنّه نعت. كفطن. أو «عبدة» أو «عبد الطّاغوت» على أنّه جمع، كخدم. أو انّ أصله: عبدة، فحذف التّاء للإضافة عطفه على القردة.و من قرأ: «و عبد الطاغوت» بالجرّ، عطفه على «من».

و المراد من الطاغوت، العجل.

و قيل : الكهنة، وكلّ من أطاعوه في معصية اللّه.

و قرأ حمزة «عبدة الطّاغوت» بضمّ الباء، وجرّ التّاء. والباقون، بفتح الباء ونصب التّاء .

أُولئِكَ: الملعونون.

شَرٌّ مَكاناً: جعل مكانهم شرًّا، ليكون أبلغ في الدّلالة على شرارتهم.

و قيل : مكانا منصرفا.

وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ : قصد الطّريق المتوسّط، بين غلوّ النّصارى وقدح اليهود.

و المراد من صيغتي التّفضيل، الزّيادة مطلقا، لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشّرارة والضّلالة.