سورة النّحل الآية 101-128

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ: بالنّسخ، فجعلنا الآية النّاسخة مكان المنسوخة لفظا أو حكما.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ: من المصالح. فلعلّ ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده، فينسخه. وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه.

و قرأ  ابن كثير وأبو عمرو: «ينزل» بالتّخفيف.قالُوا، أي: الكفرة.

إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ: متقوّل على اللّه، تأمر بشي‏ء ثمّ يبدو لك فتنهى عنه.

و هو جواب «إذا». «وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» اعتراض لتوبيخ الكفّار على قولهم، والتّنبيه على فساد سندهم. ويجوز أن يكون حالا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.

قال: كان إذا نسخت آية، قالوا لرسول اللّه: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ. فردّ اللّه عليهم.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ : حكمة الأحكام، ولا يميّزون الخطأ من الصّواب.

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ، يعني: جبرئيل. وإضافة الرّوح إلى القدس، وهو الطّهر، كقولهم: حاتم الجود.

و قرأ  ابن كثير: «روح القدس» بالتّخفيف، وفي «ينزّل» و«نزّله» تنبيه على أنّ إنزاله مدرجا على حسب  المصالح بما يقتضي التّبديل.

مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ: ملتبسا بالحكمة.

لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا: على الإيمان بأنّه كلامه. وأنّهم إذا سمعوا النّاسخ وتدبّروا ما فيه من رعاية الصّلاح والحكمة، رسخت عقائدهم واطمأنّت قلوبهم.

وَ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ : المنقادين لحكمه. وهما معطوفان على محلّ «ليثبّت»، أي: تثبيتا وهداية وبشارة. وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم.

و قرئ : «ليثبت» بالتّخفيف.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، [عن أبي جعفر- عليه السّلام-]

 في قوله: رُوحُ الْقُدُسِ [مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، يعني: جبرئيل- عليه‏السّلام-.]  و«القدس» الطّاهر لِيُثَبِّتَ الله الَّذِينَ آمَنُوا هم آل محمّد. وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.

و في تفسير العيّاشي : عن محمّد بن عرامة الصّيرفيّ، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- خلق روح القدس، فلم يخلق خلقا أقرب إليه منها، وليست بأكرم خلقه عليه. فإذا أراد اللّه  أمرا ألقاه إليها، فألقاه  إلى النّجوم فجرت به.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قيل : يعنون: جبرا  الرّوميّ، غلام عامر بن الحضرميّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وهو [لسان أبي فكيهة]  مولى ابن الحضرميّ.

و قيل : جبرا  ويسارا كانا يصنعان السّيوف بمكّة، ويقرآن التّوراة والإنجيل، وكان الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- يمرّ عليهما ويسمع ما يقرءانه .

و قيل : عائشا، غلام حويطب بن عبد العزّى، قد أسلم وكان صاحب كتب.

و قيل : سلمان الفارسيّ.

لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ: لغة الرّجل الّذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه. مأخوذ من: لحد القبر.

و قرأ  حمزة والكسائيّ: «يلحدون» بفتح الياء والحاء. لسان أعجمي غير بيّن.

وَ هذا: وهذا القرآن.لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ : ذو بيان وفصاحة.

و الجملتان مستأنفتان، لابطال طعنهم. وتقريره يحتمل وجهين: أحدهما، أنّ ما سمعه منه كلام أعجميّ، لا يفهمه هو ولا أنتم. والقرآن عربيّ تفهمونه بأدنى تأمّل، فكيف يكون تلقّفه منه.

و ثانيهما، هب أنّه تعلّم منه المعنى باستماع كلامه، ولكن لم يتلقّف منه اللّفظ. لأنّ ذلك أعجميّ وهذا عربيّ. والقرآن، كما هو معجز باعتبار المعنى، فهو معجز باعتبار اللّفظ. مع أنّ العلوم الكثيرة الّتي في القرآن، لا يمكن تعلّمها إلّا بملازمة معلّم فائق في تلك العلوم مدّة متطاولة. فكيف تعلّم جميع ذلك من غلام سوقيّ، سمع منه بعض المنقولات، مرتّبا على كلمات أعجميّة لعلّه لا يعرف معناها؟! وطعنهم بالقرآن بأمثال هذه الكلمات الرّكيكة، دليل على غاية عجزهم.

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ: لا يصدّقون أنّها من عند اللّه.

لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ: إلى الحقّ.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : في الآخرة. هدّدهم على كفرهم بالقرآن بعد ما أماط شبهتهم وردّ طعنهم فيه، ثمّ قلب الأمر عليهم فقال: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ: لأنّهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه.

وَ أُولئِكَ: إشارة إلى الّذين كفروا، أو إلى قريش.

هُمُ الْكاذِبُونَ ، أي: الكاذبون على الحقيقة.

أو الكاملون في الكذب، [لأنّ تكذيب آيات اللّه والطّعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب.] .

أو الّذين عادتهم الكذب، لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة.

أو الكاذبون في قولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ: بدل من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وما بينهما اعتراض. أو من «أولئك». أو من «الكاذبون». أو مبتدأ خبره محذوف، دلّ عليه قوله:

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ.

و يجوز أن ينتصب بالذمّ، وأن تكون «من» شرطيّة محذوفة الجواب، دلّ عليه‏قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: على الافتراء. أو كلمة الكفر استثناء متّصل، لأنّ الكفر لغة يعمّ القول والعقد، كالإيمان.

وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ: لم تتغيّر عقيدته.

وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً: اعتقده وطاب به نفسا.

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ : إذ لا أعظم من جرمه.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى داود بن القاسم قال: سمعت عليّ بن موسى، الرّضا- عليه السّلام- يقول: من شبّه اللّه بخلقه، فهو مشرك. ومن وصفه بالمكان، فهو كافر. ومن نسب إليه ما نهى عنه، فهو كاذب. ثمّ تلا هذه الآية: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ.

و في تفسير العيّاشي : عن العبّاس بن هلال، عن أبي الحسن، الرّضا- عليه السّلام- أنّه ذكر رجلا كذّابا، ثمّ قال: فقال اللّه: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.

عن معمّر بن يحيى بن مسلم  قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: إنّ أهل الكوفة يروون عن عليّ- عليه السّلام- أنّه قال: ستدعون إلى سبّي والبراءة منّي. فإن دعيتم إلى سبّي فسبّوني، وإن دعيتم إلى البراءة منّي فلا تتبرّءوا منّي. فإنّي على دين محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: ما أكثر ما يكذبون على عليّ. إنّما قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي والبراءة منّي. فإن دعيتم إلى سبّي فسبّوني، وإن دعيتم إلى البراءة منّي فإنّي على دين محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-. ولم يقل: فلا تتبرّءوا منّي.

قلت: جعلت فداك، فإن أراد الرّجل يمضي على القتل ولا يتبرأ؟

فقال: لا واللّه، إلّا على الّذي مضى عليه عمّار. إنّ اللّه يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

عن أبي بكر ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال بعضنا: جذّ  الرّقاب‏

أحبّ إليك أم البراءة من عليّ؟

فقال: الرّخصة أحبّ إليّ. أما سمعت قول اللّه في عمّار: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

عن عبد اللّه بن عجلان ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته، فقلت له: إنّ الضّحّاك قد ظهر بالكوفة ويوشك أن ندعى إلى البراءة من عليّ، فكيف نصنع؟

قال: فأبرأ منه.

قال: قلت: أيّ شي‏ء أحبّ إليك؟

قال: أن يمضوا  على ما مضى عليه عمّار بن ياسر، أخذ بمكّة، فقالوا له: ابرأ من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فبرأ منه. فأنزل اللّه عذره إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد  قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: فأمّا ما فرض اللّه  على القلب من الإيمان، فالإقرار والمعرفة والعقد والرّضا والتّسليم بأن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمّدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به  من عند اللّه من نبي أو كتاب. فذلك ما فرض اللّه على القلب من الإقرار والمعرفة [، وهو عمله.]  وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً. وقال: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

فذلك ما فرض اللّه- عزّ وجلّ- على القلب من الإقرار والمعرفة، وهو عمله، وهو رأس الإيمان.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

ابن محبوب ، عن خالد بن نافع البجلّي، عن محمّد بن مروان قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- [يقول‏] : إنّ رجلا أتى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-.فقال: يا رسول اللّه، أوصني.

فقال: لا تشرك باللّه شيئا وإن أحرقت  بالنّار وعذّبت، إلّا وقلبك مطمئنّ بالإيمان،

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

عليّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ النّاس يروون، أنّ عليّا- عليه السّلام- قال على منبر الكوفة:

أيّها النّاس، إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرّؤوا  منّي.

قال: ما أكثر ما يكذب النّاس على عليّ- عليه السّلام-.

ثمّ قال: إنّما قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي وإنّي لعلى دين محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-. ولم يقل: ولا تبرّؤوا  منّي.

فقال له السّائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟

فقال: واللّه، ما ذلك عليه وماله، إلّا ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث أكرهه  أهل مكّة وقلبه مطمئنّ بالإيمان. فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

فقال له النّبيّ عندها: يا عمّار، إن عادوا فعد، فقد أنزل اللّه- عزّ وجلّ- عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا.

عليّ ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: ما منع ميثم- رحمه اللّه- من التّقيّة؟

فو اللّه، لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ .

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد، عن أبي داود المسترقّ قال: حدّثني عمرو

 بن مروان قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: رفع عن أمّتي أربع خصال: خطأها، ونسيانها، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون . وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ-: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.

و قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

و في من لا يحضره الفقيه : قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفيّة: وفرض اللّه على القلب، وهو أمير الجوارح الّذي به تعقل وتفهم وتصدر عن أمره ورأيه. فقال- عزّ وجلّ-: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (الآية).

و في قرب الإسناد  للحميريّ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ التّقيّة ترس  المؤمن. ولا إيمان لمن لا تقيّة له.

قلت: جعلت فداك، أ رأيت قول اللّه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

قال: وهل التّقيّة إلّا هذا؟

و في مجمع البيان : قيل: نزل قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ في جماعة أكرهوا، وهم عمّار، وياسر، أبوه، وأمّه، سميّة، وصهيب، وبلال، وخبّاب .

عذّبوا، وقتل أبو عمّار وأمّه. فأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر بذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقال قوم: كفر عمّار.

فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: كلّا، إنّ عمّارا ملي‏ء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وجاء عمّار إلى رسول اللّه، وهو يبكي.

فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: ما وراءك؟

فقال: شرّ ، يا رسول اللّه، ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير.

فجعل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك،فعد لهم بما قلت.

فنزلت الآية. عن ابن عبّاس وقتادة.

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ: بسبب أنّهم آثروها عليها.

وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ، أي: الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم عن الزّيغ.

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ: فأبت عن إدراك الحقّ والتّأمّل فيه.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ : الكاملون في الغفلة، إذ أغفلتهم الحالة الرّاهنة عن تدبّر العواقب.

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ : إذ ضيّعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلّد.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو عمّار بن ياسر، أخذته قريش بمكّة فعذّبوه بالنّار حتّى أعطاهم بلسانه ما أرادوا وقلبه مطمئنّ  بالإيمان [و أمّا] .

قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فهو عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح بن الحارث، من بني لؤيّ. يقول اللّه: [فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ] . ذلك بأنّ اللّه ختم على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ . هكذا في قراءة ابن مسعود [و قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ الآية هكذا في القراءة المشهورة]  هذا كلّه في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، كان عاملا لعثمان بن عفّان على مصر.و في تفسير العيّاشي : عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان يدعو أصحابه. فمن أراد اللّه به خيرا، سمع وعرف ما يدعوه إليه. ومن أراد به شرّا، طبع [قلبه فلا يسمع ولا يعقل. وهو قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ‏]  عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.

 

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا، أي: عذّبوا، كعمّار بالولاية والنّصرة.

و «ثمّ» لتباعد حال هؤلاء عن أولئك.

و قرأ  ابن عامر: «فتنوا» بالفتح، أي: من بعد ما عذّبوا المؤمنين.

قيل : كالحضرميّ أكره مولاه، جبرا، حتّى أرتدّ. ثمّ أسلما، وهاجرا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّه في عمّار- أيضا-.

ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا: على الجهاد، وما أصابهم من المشاقّ.

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها: من بعد الهجرة والجهاد والصّبر.

لَغَفُورٌ: لما فعلوا قبل.

رَحِيمٌ : منعم عليهم، مجازاة على ما صنعوا بعد.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ: منصوب ب «رحيم». أو با ذكر.

تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها، أي: تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها، لا يهمّها شأن غيرها. فتقول: نفسي نفسي.

وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ: جزاء ما عملت.

وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ : لا ينقصون أجورهم.

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً، أي: جعلها مثلا لكلّ قوم أنعم اللّه عليهم، فأبطرتهم النّعمة، فكفروا، فأنزل اللّه بهم نقمته.

أو لمكّة.

كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً: لا يزعج أهلها خوف.

يَأْتِيها رِزْقُها: أقواتها.رَغَداً: واسعا.

مِنْ كُلِّ مَكانٍ: من نواحيها.

فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ: بنعمه. جمع، نعمة، على ترك الاعتداد بالتّاء، كدرع وأدرع. أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس.

فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ: استعار الذّوق لإدراك أثر الضّرر، واللّباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الخوف والجوع.

بِما كانُوا يَصْنَعُونَ : بصنيعهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له: الثّلثان.

و كانت بلادهم خصيبة كثيرة الخير. فكانوا  يستنجون بالعجين ويقولون  هذا ألين لنا فكفروا بأنعم اللّه، واستخفّوا بنعمة اللّه. فحبس اللّه عليهم  الثّلثان، فجدبوا حتّى أحوجهم اللّه إلى ما كانوا يستنجون به، حتّى كانوا  يتقاسمون عليه.

و في محاسن البرقي : عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن أبي  عيينة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ قوما وسّع اللّه  عليهم في أرزاقهم حتّى طغوا. فاستخشنوا  الحجارة فعمدوا إلى النقي  وصنعوا منه، كهيئة الأفهار  فجعلوه في مذاهبهم ، فأخذهم اللّه بالسّنين. فعمدوا إلى أطعمتهم فجعلوها في الخزائن، فبعث اللّه على ما في الخزائن  ما أفسده. حتّى احتاجوا إلى ما كانوا يستنجون به  في مذاهبهم، فجعلوا يغسلونه ويأكلونه.

و في حديث أبي بصير قال: نزلت فيهم هذه الآية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً (إلى آخر الآية).و في تفسير العيّاشي : عن حفص بن سالم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ قوما في بني إسرائيل يؤتي لهم من طعامهم، حتّى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها. فلم يزل اللّه. بهم، حتّى اضطرّوا إلى التّماثيل يبيعونها ويأكلونها . وهو قول اللّه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.

عن زيد الشّحّام ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كان أبي يكره أن يمسح يده بالمنديل وفيه شي‏ء من الطّعام، تعظيما له، إلّا أن يمصّها أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها.

قال: فإنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده ، فيضحك الخادم.

ثمّ قال: إن أهل قرية ممّن كان قبلكم، كان اللّه قد وسّع  عليهم حتّى طغوا.

فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شي‏ء من هذا النّقي، فجعلناه نستنجئ به كان ألين علينا من الحجارة.

قال: فلمّا فعلوا ذلك، بعث اللّه على أرضهم دوابّا أصغر من الجراد فلم تدع لهم شيئا خلقه اللّه إلّا أكلته من شجر أو غيره . فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الّذي كانوا يستنجون به، فأكلوه. وهي القرية الّتي قال اللّه- تعالى-: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ- إلى قوله- بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ، يعني: محمّداً- صلّى اللّه عليه وآله-.

و الضّمير لأهل مكّة.

قيل : عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم.

فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ ، أي: حال التباسهم بالظّلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشّديد. أو وقعة بدر.

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً: أمرهم بأكل الحلال، وهو ما أحلّ اللّه‏لهم. وشكر ما أنعم اللّه عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر وهدّدهم عليه بما ذكر من التّمثيل والعذاب الّذي حلّ بهم، صدّا لهم عن صنع الجاهليّة ومذاهبها الفاسدة.

وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ : تطيعون. أو إن صحّ زعمكم، أنّكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته.

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : لمّا أمرهم بتناول ما أحلّ لهم، عدّد عليهم محرّماته ليعلم أنّ ما عداها حلّ لهم. ثمّ أكّد ذلك بالنّهي عن التّحريم والتّحليل بأهوائهم، فقال: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ وانتصاب «الكذب» ب «لا تقولوا». «و هذا حرام» بدل منه، أو متعلّق ب «متصف» على إرادة القول، أي: ولا تقولوا الكذب لما تصف ألسنتكم، فتقولوا هذا حلال وهذا حرام.

أو مفعول «لا تقولوا»، و«الكذب» منتصب «بتصف» و«ما» مصدريّة، أي: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب،  أي: لا تحرّموا ولا تحلّلوا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل.

و وصف ألسنتكم الكذب، مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، كأنّ حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتهم تصفها وتعرّفها بكلامهم هذا. ولذلك عدّ من فصيح الكلام، كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السّحر.

و قرئ : «كذب» بالجرّ، بدلا من «ما». والكذب، جمع كذوب. أو «كذب» بالرّفع، صفة للألسنة. وبالنّصب على الذّم، أو بمعنى: الكلم الكواذب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ثمّ قال- عزّ وجلّ-: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.

قال: هو ما كانت اليهود تقول : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا .لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ: تعليل يتضمّن الغرض.

إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ : لمّا كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب، نفى عنه الفلاح وبيّنه بقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ، أي: ما يفترون لأجله. أو ما هم فيه منفعة قليلة، ينقطع عن قريب.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : في الآخرة.

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن عليّ بن محمّد بن  سعد، عن محمّد بن مسلم، عن إسحاق بن موسى قال: حدّثني أخي وعمّي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: ثلاثة مجالس يمقتها اللّه ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتيا [ه‏] ، ومجلسا  ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رثّ، ومجلسا فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم.

قال: ثمّ تلا أبو عبد اللّه- عليه السّلام- ثلاث آيات من كتاب اللّه، كأنّما كنّ فيه، أو قال: [في‏]  كفّه وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.

و في كتاب التّوحيد : محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد - رضي اللّه عنه- في جامعه. وحدّثنا به محمّد بن الحسن الصّفّار، عن العبّاس بن معروف قال: حدّثني عبد الرّحمن بن أبي نجران، عن حماد بن عثمان، عن عبد الرّحيم القصير قال: كتب أبو عبد اللّه- عليه السّلام- على يد عبد الملك بن أعين: إذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي الّتي نهى اللّه- عزّ وجلّ- عنها، كان خارجا من الإيمان وساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام. فإن تاب منه واستغفر، عاد إلى الإيمان ولم يخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال. فإذا قال للحلال: هذا حرام، وللحرام: هذا

حلال ودان بذلك، فعندنا  يكون خارجا من الإيمان والإسلام إلى الكفر. وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة، فأحدث في الكعبة حدثا، فأخرج عن الكعبة وعن الحرم، فضربت عنقه وصار إلى النّار.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ثمّ قال- عزّ وجلّ-: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.

قال: هو ما كانت اليهود تقول: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا»

.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى عبد الرّحمن بن سمرة: عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل. يقول فيه: ومن فسّر القرآن برأيه، فقد افترى على اللّه الكذب.

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ، أي: في سورة الأنعام، في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.

مِنْ قَبْلُ: متعلّق ب «قصصنا» أو «بحرّمنا».

وَ ما ظَلَمْناهُمْ: بالتّحريم.

وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ : حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التّحريم، وأنّه، كما يكون للمضرّة، يكون للعقوبة.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ: بسببها أو ملتبسين بها ليعمّ الجهل باللّه وبعقابه، وعدم التّدبّر في العواقب لغلبة الشّهوة، والسّوء يعمّ الافتراء على اللّه وغيره.

ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها: من بعد التّوبة.

لَغَفُورٌ: لذلك السّوء.

رَحِيمٌ : يثيب على الإنابة.

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةًقيل : لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلّا مفرّقة في أشخاص كثيرة، كقوله:

         ليس من اللّه بمستنكر             أن يجمع العالم في واحد

 وهو رئيس الموحّدين، وقدوة المحقّقين الّذي جادل فرق المشركين وأبطل مذاهبهم الزّائفة بالحجج الدّامغة. ولذلك عقّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين، من الشّرك والطّعن في النّبوّة وتحريم ما أحلّه. أو لأنّه كان وحده مؤمنا، وكان سائر النّاس كفّارا.

و قيل : هي فعلة، بمعنى: مفعول، كالرّحلة والنّخبة. من أمّه: إذا قصده، أو اقتدى به. فإنّ النّاس كان يؤمّونه للاستفادة، ويقتدون بسيرته لقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً.

و سيأتي من الأخبار ما يؤيّد هذا.

قانِتاً لِلَّهِ: مطيعا له، قائما بأوامره.

حَنِيفاً: مائلا عن الباطل، مسلما.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-. وقال بعده، وبهذا الإسناد قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: والأمّة واحد فصاعدا، كما قال اللّه- سبحانه وتعالى-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ. يقول: مطيعا للّه.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في تفسير العيّاشي : عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- وأبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً.

قال: شي‏ء فضّله اللّه به.

قال أبو بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً: سمّاه اللّه أمّة.وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، كما زعموا. فإن قريش كانوا يزعمون، أنّهم كانوا على ملّة إبراهيم.

شاكِراً لِأَنْعُمِهِ: ذكر بلفظ القلّة، للتنّبيه على أنّه كان لا يخلّ بشكر النّعم القليلة، فكيف بالكثيرة.

نقل: أنّه لا يتغذّى إلّا مع ضيف.

اجْتَباهُ: للنّبوّة.

يونس بن ظبيان ، عنه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً أمّة واحدة.

عن سماعة بن مهران  قال: سمعت العبد الصالح  يقول: لقد كانت الدّنيا، وما كان فيها إلّا واحد يعبد اللّه. ولو كان معه غيره، إذا لأضافه إليه حيث يقول: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فصبر  بذلك ما شاء اللّه، ثمّ إنّ اللّه آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: وذلك أنّه كان على دين لم يكن عليه أحد غيره، فكان أمّة واحدة. وأمّا  قانتا، فالمطيع. وأمّا الحنيف، فالمسلم.

وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، أي: الطّريق الواضح.

وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً: بأن حبّبه إلى النّاس، حتّى أن أرباب الملل يتولّونه ويثنون عليه، ورزقه أولادا طيّبة، وعمرا طويلا في السّعة والطّاعة.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ : لمن أهل الجنّة، كما سأله بقوله:

وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: يا محمّد.

قيل : «ثمّ» إمّا لتعظيمه والتّنبيه على أنّ أجلّ ما أوتي إبراهيم اتّباع الرّسول‏- صلّى اللّه عليه وآله- ملّة. أو لتراخي أيامه .

أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً: في التّوحيد والدّعوة إليه بالرّفق، وإيراد الدّلائل مرّة بعد أخرى، والمجادلة مع كلّ أحد على حسب فهمه.

وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ : بل كان قدوة الموحّدين.

في مصباح الشّريعة : قال الصّادق- عليه السّلام-: ولا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء، لأنّه المنهج الأوضح. [و المقصد الأصح. قال اللّه- عزّ وجلّ- لأعزّ خلقه محمد- صلّى اللّه عليه وآله-: أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده‏]  قال: اللّه- عزّ وجلّ-: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. فلو كان لدين اللّه- تعالى- مسلك أقوم من الاقتداء، لندب أولياءه وأنبياءه إليه.

و في محاسن البرقيّ : عنه، عن ابن فضّال، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد اللّه بن سليمان الصّيرفيّ قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا.

ثمّ قال: أنتم، واللّه، على دين إبراهيم ومنهاجه، وأنتم أولى النّاس به: [أنتم على ديني ودين آبائي‏] .

عنه ، عن أبيه ومحمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمّار، عن عبّاد بن زياد قال: قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: يا عبّاد، ما على ملّة إبراهيم أحد غيركم.

و في تفسير العيّاشي : عن عمر بن أبي ميثم قال: سمعت الحسين بن علي- عليه السّلام- يقول: ما أحد على ملّة إبراهيم إلّا نحن وشيعتنا، وسائر النّاس منها براء.

عن زرارة ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: ما أبقت الحنيفيّة شيئا، حتّى أنّ منها قصّ الشّارب و[قلم‏]  الأظفار [و الأخذ من الشارب‏]  والختان.إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ: تعظيم السّبت، أو التّخلّي فيه للعبادة.

عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، أي: على نبيّهم، وهم اليهود، أمرهم موسى- عليه السّلام- أن يتفرّغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا إلّا طائفة منهم. وقالوا نتفرّغ يوم السّبت، لأنّه- تعالى- فرغ فيه من خلق السّماوات والأرض. فألزمهم اللّه السّبت، وشدّد الأمر عليهم.

و قيل : معناه: إنّما جعل وبال السّبت، وهو المسخ، على الّذين اختلفوا فيه.

فأحلّوا الصّيد فيه تارة، وحرّموه أخرى، واحتالوا له الحيل. وذكرهم هاهنا لتهديد المشركين، كذكر القرية الّتي كفرت بأنعم اللّه.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ :

بالمجازاة على الاختلاف. أو بمجازاة كلّ فريق بما يستحقّه.

ادْعُ: من بعثت إليهم.

إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ: بالمقالة المحكمة، وهو الدّليل الموضح  المزيح للشّبهة.

وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ: الخطابات المقنعة  والعبر النّافعة. فالأولى لدعوة خواصّ الأمّة الطّالبين للحقائق، والثّانية لدعوة عوامّهم.

وَ جادِلْهُمْ: جادل معانديهم.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: بالطّريقة الّتي هي أحسن طرق المجادلة، من الرّفق واللّين وإيثار الوجه الأيسر والمقدّمات [الّتي هي‏]  أشهر . فإنّ ذلك أنفع في تسكين لهبهم، وتليين شغبهم.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن يزيد ، عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: فأخبر أنّه- تبارك وتعالى- أوّل من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتّباع‏أمره، فبدأ بنفسه وقال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . ثمّ ثنّى برسوله فقال: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، يعني: بالقرآن.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا أبي، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: واللّه، نحن السّبيل الّذي أمركم اللّه باتّباعه.

قوله : وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. قال: بالقرآن.

و في كتاب الاحتجاج» للطّبرسيّ- رضي اللّه عنه-: قال أبو محمّد العسكريّ- عليه السّلام-: ذكر عند الصّادق- عليه السّلام- الجدال في الدّين، وأنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والأئمّة- عليهم السّلام- قد نهوا عنه.

فقال الصّادق- عليه السّلام-: لم ينه عنه مطلقا. ولكنّه نهي عن الجدال بغير الّتي هي أحسن. أما تسمعون قوله- تعالى-: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  وقوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. فالجدال بالّتي هي أحسن قد قرنه  العلماء بالدّين، والجدال بغير الّتي هي أحسن محرّم قد  حرّمه اللّه على شيعتنا. وكيف يحرّم  اللّه الجدال جملة وهو يقول: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى . قال اللّه: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . فجعل [اللّه‏]  علم  الصّدق والإيمان  بالبرهان. وهل يؤتى ببرهان، إلّا بالجدال بالّتي هي أحسن.

قيل: يا ابن رسول اللّه، فما الجدال بالّتي هي أحسن بالّتي ليست بأحسن؟

قال: أمّا الجدال بغير الّتي هي أحسن، فأن تجادل مبطلا، فيورد عليك باطلا،فلا تردّه بحجّة قد نصبها اللّه- تعالى-. ولكن [تحجد قوله أو]  تجحد  حقّا يريد  بذلك المبطل أن يعين به باطله. فتجحد ذلك الحقّ، مخافة أن يكون له عليك به حجّة، لأنّك لا تدري كيف المخلص منه. فذلك حرام على شيعتنا، أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين. أمّا المبطلون، فيجعلون ضعف الضّعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجّة له على باطله. وأمّا الضّعفاء، فتغتمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحقّ  في يد المبطل.

و أمّا الجدال بالّتي هي أحسن، فهو ما أمر اللّه- تعالى- به نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له. فقال اللّه حاكيا عنه: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . فقال اللّه في الرّدّ عليه : قُلْ يا محمّد يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة، وستقف إن شاء اللّه على تتمّة لهذا الكلام في العنكبوت عند قوله- تعالى-: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ (الآية).

روي  عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: نحن المجادلون في دين اللّه على لسان سبعين نبيّا.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ، أي:

إنّما عليك البلاغ والدّعوة، وأمّا حصول الهداية والضّلالة والمجازة عليهما فلا إليك، بل اللّه أعلم بالضّالّين والمهتدين وهو المجازي لهم.

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ، أي: الصّبر.

خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ : من الانتقام للمنتقمين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال يوم أحد: من له علم بعمّي حمزة؟فقال الحرث بن الصّمت : أنا أعرف موضعه.

فجاء حتّى وقف على حمزة، فكره أن يرجع إلى رسول اللّه فيخبره.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: يا عليّ، اطلب عمّك.

فجاء عليّ حتّى وقف على حمزة، فكره أن يرجع إليه. فجاء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى وقف عليه. فلمّا رأى ما فعل به، بكى.

ثم قال: ما وقفت موقفا قطّ أغلظ عليّ من هذا المكان، لئن أمكنني اللّه من قريش لأمثلنّ منهم  بسبعين رجلا منهم.

فنزل  جبرئيل، فقال: وَإِنْ عاقَبْتُمْ (الآية).

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [بل‏]  اصبر.

و في تفسير العيّاشي : عن الحسين بن حمزة قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: لمّا رأى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ما صنع بحمزة بن عبد المطّلب، قال:

الّلهمّ، لك الحمد وإليك المشتكى وأنت  المستعان على ما أرى.

ثمّ قال: لئن ظفرت لأمثّلنّ ولأمثّلنّ.

قال: فأنزل اللّه وَإِنْ عاقَبْتُمْ (الآية).

قال: فقال رسول- صلّى اللّه عليه وآله-: أصبر أصبر.

وَ اصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ: إلّا بتوفيقه وتثبيته.

وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ: على الكافرين. أو على المؤمنين وما فعل بهم.

وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ : في ضيق صدر من مكرهم.

و قرأ  ابن كثير: «في ضيق» بالكسر، هنا وفي النّمل. وهما لغتان، كالقول والقيل. ويجوز أن يكون الضّيق تخفيف ضيق.

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا: المعاصي.وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ : في أعمالهم.