سورة طه الآية 41-60

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي : واتّخذتك صنيعتي وخالصتي، واصطفيتك لمحبّتي ورسالتي وكلامي. مثّله فيما خوّله من الكرامة، بمن قرّبه الملك واستخلصه لنفسه.

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي: بمعجزاتى.

وَ لا تَنِيا: ولا تفترا [و لا تقصّرا] .

و قرئ : «تنيا» بكسر التّاء.

فِي ذِكْرِي : لا تنسياني حيثما تقلّبتما.

و قيل : في تبليغ ذكري والدّعاء إلىّ.

اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى :

قيل : أمر به أوّلا موسى وحده، وهاهنا إيّاه وأخاه، فلا تكرير.

قيل : أوحى إلى هارون أن يتلقّى موسى.

و قيل : سمع بمقبله فاستقبله.

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً- [مثل:]  هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ، فإنّه دعوة في صورة عرض ومشورة- حذرا أن يحمله الحماقة على أن يسطو عليكما، أو احتراما لما له من حقّ التّربية عليك.

و قيل : كنّياه. وكان له ثلاث كنى: أبو العبّاس، وأبو الوليد، وأبو مرّة.

و قيل : عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا يزول إلّا بالموت.

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى .

متعلّق ب «أذهبا» أو ب «قولا». أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنّه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإنّ الرّاجي مجتهد، والآيس متكلّف.

و الفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه- تعالى- بأنّه لا يؤمن، إلزام الحجّة وقطع المعذرة، وإظهار ما ظهر في تضاعيف ذلك من الآيات، والتّذكير للتّحقيق  والخشية للمتوهّم. ولذلك قدّم الأوّل. أي: إن لم يتحقّق صدقكما، ولم يتذكّر،فلا أقلّ من أن يتوهّمه فيخشى.

و في كتاب علل الشّرائع : حدّثنا [الحاكم‏]  أبو محمّد جعفر بن نعيم بن شاذان النّيشابوريّ- رضي اللّه عنه- عن عمّه، عن  أبي عبد اللّه محمّد بن شاذان قال: حدّثنا الفضل بن شاذان عن محمّد بن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر- عليهما السّلام-: أخبرني عن قول اللّه- عزّ وجلّ- لموسى- عليه السّلام- [و هارون‏] : اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ (الآية). فقال:

أمّا قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، أي: كنّياه وقولا له: يا أبا مصعب. وكان  فرعون  أبا مصعب الوليد بن مصعب.

و أمّا قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، فإنّما قال ذلك  ليكون أحرص لموسى- عليه السّلام- على الذّهاب. وقد علم اللّه [- عزّ وجلّ- أنّ فرعون لا يتذكّر و. لا يخشى إلّا عند رؤية البأس. ألا تسمع [اللّه- عزّ وجلّ-]  يقول : حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ‏]  لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فلم يقبل اللّه إيمانه وقال : آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.

و في الكافي  أمير المؤمنين- عليه السّلام- في حديث له: واعلم أنّ اللّه- جلّ ثناؤه- قال لموسى- عليه السّلام- حين أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى. [و قد علم أنّه لا يتذكّر ولا يخشى‏] ، ولكن ليكون ذلك أحرص لموسى على الذّهاب.

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا: أن يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر على إتمام الدّعوى وإظهار المعجزة. من فرط: إذا تقدّم. ومنه: الفارط. وفرس فرط:

يسبق الخيل.و قرئ : «يفرط» بالبناء للمفعول. من أفرطته: إذا حملته على العجلة. أي: نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسيّ أو جنّيّ على المعاجلة بالعقاب. و«يفرط» بالبناء للفاعل، من الإفراط في الأذيّة.

أَوْ أَنْ يَطْغى : أن يزاد طغيانا فيتخطّى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب.

قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما بالحفظ والنّصر أَسْمَعُ وَأَرى  ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأحدث في كلّ حالة ما يصرف شرّه عنكما، ويوجب نصرتي لكما.

و يجوز أن لا يقدّر شي‏ء على معنى: إنّني حافظكما، سامعا مبصرا . والحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا، تمّ الحفظ.

فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ: أطلقهم، وَلا تُعَذِّبْهُمْ بالتّكاليف الصّعبة وقتل الولدان. فإنّهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم، ويتعبونهم في العمل، ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام.

قيل : وتعقيب الإتيان بذلك، دليل على أنّ تخليص المؤمنين من الكفرة أهمّ من دعوتهم إلى الإيمان. ويجوز أن يكون للتّدريج في الدّعوة.

قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ:

جملة مقرّرة لما تضمّنه الكلام السّابق من دعوة الرّسالة. وإنّما وحّد الآية، وكان معه آيتان، لأنّ المراد إثبات الدّعوى ببرهانها لا الإشارة إلى وحدة الحجّة وتعدّدها. وكذلك قوله : قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ، فَأْتِ بِآيَةٍ ، أَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ‏ءٍ مُبِينٍ .

وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى : [سلام الملائكة]  وخزنة الجنّة على المهتدين أو السّلامة في الدّارين لهم.

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، أي:عذاب  الدّنيا والآخرة على المكذّبين للرّسل.

قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى :

أي بعد أن أتياه، وقالا له ما أمرا به. والحذف لدلالة الحال عليه.

و إنّما خاطب الاثنين وخصّ موسى بالنّداء، تأكيدا لأنّه الأصل وهارون وزيره وتابعه. أو لأنّه عرف أنّ له رتّة ولأخيه فصاحة، فأراد أن يفحمه.

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ من الأنواع خَلْقَهُ: صورته وشكله الّذي يطابق كماله الممكن له. أو: أعطى خليقته كلّ شي‏ء يحتاجون إليه، ويرتفقون به.

فقدّم المفعول الثّاني، لأنّه المقصود بالبيان. أو: أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق والصّورة زوجا.

و قرئ : «خليقته»  صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ. فيكون المفعول الثّاني محذوفا. أي: أعطى كلّ مخلوق ما يصلحه.

 [ثُمَّ هَدى :

قيل :]  ثمّ عرّفه كيف يرتفق بما أعطي، وكيف يتوصّل به إلى بقائه وكماله، اختيارا أو طبعا.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن إبراهيم بن ميمون، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. قال: ليس شي‏ء من خلق اللّه، إلّا وهو يعرف من شكله الذّكر من الأنثى.

قلت: ما معنى  ثُمَّ هَدى؟ قال: هداه للنّكاح والسّفاح من شكله.

و اعلم أنّ هذا الجواب في غاية البلاغة، لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها، ودلالته على أنّ الغنيّ القادر بالذّات المنعم على الإطلاق، هو اللّه‏- تعالى- وأنّ جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حدّ ذاته وصفاته وأفعاله. ولذلك بهت الّذي كفر، وأفحم عن الدّخل عليه، فلم ير إلّا صرف الكلام عنه.

قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى : فما حالهم بعد الموت من السّعادة والشّقاوة؟

قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي:

أي: انّه غيب لا يعلمه إلّا اللّه، وإنّما أنا عبد مثلك، لا أعلم منه إلّا ما أخبرني به.

فِي كِتابٍ: مثبت في اللّوح المحفوظ.

قيل : ويحتمل أن يكون تمثيلا لتمكّنه في علمه، بما استحفظه العالم وقيّده بالكتبة.

و يؤيّده:

لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى :

الضّلال: أن تخطئ الشّي‏ء في مكانه فلم تهتد إليه. والنّسيان: أن تذهب عنه بحيث لا يخطر بالبال. وهما محالان على العالم بالذّات.

قيل : ويجوز أن يكون  سؤاله دخلا على إحاطة قدرة اللّه بالأشياء كلّها وتخصيصه أبعاضها بالصّور والخواصّ المختلفة، بأنّ ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئيّاتها، والقرون الخالية، مع كثرتهم وتمادي مدّتهم وتباعد أطرافهم، كيف أحاط علمه بهم وبأجزائهم وأحوالهم؟ فيكون معنى الجواب أنّ علمه محيط بذلك كلّه، وأنّه مثبت عنده لا يضلّ ولا ينسى.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً:

مرفوع صفة ل: «ربّي». أو خبر لمحذوف. أو منصوب على المدح.

و قرأ  الكوفيّون: «مهدا». أي: كالمهد تتمهّدونها. وهو مصدر سمّي به.

و الباقون: «مهادا». وهو اسم ما يمهد- كالفراش- أو جمع مهد.

وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا: وحصل لكم فيها سبلا بين الجبال والأودية والبراري، تسلكونها من أرض إلى أرض، لتبتغوا منافعها.

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً: مطرا.فَأَخْرَجْنا بِهِ: عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التّكلّم على الحكاية لكلام اللّه- تعالى- تنبيها  على ظهور ما فيه من الدّلالة على كمال القدرة والحكمة، وإيذانا بأنّه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، ولهذا نظائر في القرآن.

أَزْواجاً: أصنافا- سمّيت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض- مِنْ نَباتٍ: بيان أو صفة ل «لأزواجا». وكذلك شَتَّى .

و يحتمل أن يكون صفة ل «نبات». فإنّه من حيث إنّه مصدر في الأصل، يستوي فيه الواحد والجمع. وهو جمع شتيت، كمريض ومرضى. أي: متفرّقات الصّور والأغراض والمنافع، يصلح بعضها للنّاس وبعضها للبهائم. فلذلك قال:

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ:

و هو حال من ضمير «فأخرجنا» على إرادة القول. أي: أخرجنا أصناف النّبات، قاتلين: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ. والمعنى: معدّيها لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى : لذوي العقول النّاهية عن اتّباع الباطل وارتكاب القبائح. جمع نهية.

و في أصول الكافي : عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو النّخعيّ قال: وحدّثني الحسين بن سيف، عن أخيه عليّ، عن سليمان، عمّن ذكره، عن أبي جعفر- عليه السّلام. [ثمّ قال: وبإسناده عن أبي جعفر- عليه السّلام-]  قال:

 

قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ خياركم أولو النّهى.

قيل: يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ومن أولو النّهى؟

قال: هم ألو الأخلاق الحسنة، والأحلام الرّزينة ، وصلة الأرحام، والبررة بالأمّهات والآباء، والمتعاهدين  للفقراء والجيران واليتامى، ويطعمون الطّعام، ويفشون السّلام في العالم، ويصلّون والنّاس نيام غافلون.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا أحمد بن‏

 

إدريس، عن عبد اللّه بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن عمّار بن مروان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. قال: نحن- واللّه- أولو النّهى.

قلت: ما معنى «نحن أولو النّهى»؟ قال: ما أخبر اللّه به رسوله ممّا يكون بعده من ادّعاء أبي فلان الخلافة والقيام بها، [و الآخر من بعده‏] ، والثّالث من بعدهما ، وبني أميّة ، فأخبر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا. [فكان ذلك كما أخبر اللّه به نبيّه، وكما أخبر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا] ، وكما انتهى إلينا من عليّ فيما يكون من بعده من الملك في بني أميّة وغيرهم.

فهذه الآيات  الّتي ذكرها [اللّه‏]  في الكتاب [العزيز] : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. فنحن ألو النّهى الّذين انتهى إلينا علم ذلك كلّه، فصبرنا لأمر اللّه- عزّ وجلّ.

فنحن قوّام اللّه على خلقه، وخزّانه على دينه، نخزنه ونستره ونكتتم  به من عدوّنا، كما اكتتم  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى أذن اللّه له في الهجرة وجهاد المشركين.

فنحن على منهاج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى يأذن اللّه لنا في إظهار  دينه بالسّيف، وندعو النّاس إليه فنضربهم عليه عودا، كما ضربهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بدء.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: وروي عن العالم أنّه قال: نحن أولو النّهى. أخبر اللّه نبيّه بما يكون من بعده من ادّعاء القوم الخلافة. فأخبر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه‏و آله- أمير المؤمنين- عليه السّلام- بذلك. وانتهى إلينا ذلك من أمير المؤمنين. فنحن أولو النّهى. علم ذلك كلّه إلينا.

مِنْها خَلَقْناكُمْ، فإنّ التّراب أصل خلقة أوّل آباءكم وأوّل مواد أبدانكم.

وَ فِيها نُعِيدُكُمْ بالموت وتفكيك الأجزاء.

وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى  بتأليف أجزائكم المفتّتة المختلطة بالتّراب، على الصّورة السّابقة، وردّ الأرواح إليها.

و في علل الشّرائع  بإسناده إلى عبد الرّحمن بن حمّاد قال: سألت أبا إبراهيم- عليه السّلام- عن الميّت، لم يغسّل غسل الجنابة. قال:

فإنّ اللّه- تبارك وتعالى- أعلى وأخلص من أن يبعث الأشياء  بيده. إنّ للّه- تبارك وتعالى- ملكين خلّاقين. فإذا أراد أن يخلق خلقا، أمر أولئك الخلّاقين، فأخذا  من التّربة الّتي قال اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى فيعجنونها  بالنّطفة المسكنة في الرّحم. فإذا عجنت النّطفة بالتّربة، قالا: يا ربّ، ما تخلق ؟ فيوحي اللّه- تبارك وتعالى- اليهما ما يريد من ذلك، ذكرا أو أنثى، مؤمنا أو كافرا، أسود أو أبيض، شقيّا أو سعيدا. فإن مات سالت منه تلك النّطفة بعينها لا غيرها. فمن ثمّ صار الميّت يغسّل غسل الجنابة.

و بإسناده  إلى أبي عبد اللّه القزوينيّ قال: سألت أبا جعفر بن محمّد بن عليّ- عليهم السّلام-: لأي علّة يولد الإنسان هاهنا، ويموت في موضع آخر؟ قال: لأنّ اللّه- تبارك وتعالى- لمّا خلق خلقه، خلقهم من أديم الأرض. فمرجع كلّ إنسان إلى تربته.

و بإسناده  إلى أحمد بن عليّ الرّاهب قال: قال رجل لأمير المؤمنين- عليه السّلام- يا ابن عمّ خير خلق اللّه، ما معنى السّجدة الأولى؟ فقال: تأويله: اللّهمّ، إنّك منها خلقتنا. يعني: من الأرض. ورفع رأسك: ومنها أخرجتنا. والسّجدة الثّانية: وإليهاتعيدنا. ورفع رأسك من الثّانية: ومنها تخرجنا [تارة أخرى‏] .

و في الكافي : عليّ بن محمّد بن عبد اللّه، عن إبراهيم بن إسحاق، عن محمّد بن سليمان الدّيلميّ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق خلّاقين. فإذا أراد أن يخلق خلقا، أمرهم، فأخذوا من التّربة الّتي [قال‏]  في كتابه: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.

فعجن النّطفة بتلك التّربة الّتي يخلق منها، بعد أن أسكنها الرّحم أربعين ليلة. فذا تمّت لها أربعة أشهر، قالوا: يا ربّ، تخلق  ما ذا؟ فيأمرهم بما يريد من ذكر أو أنثى، أبيض أو أسود. فإذا خرجت الرّوح من البدن، خرجت هذه النّطفة بعينها منه، كائنا ما كان، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى. فلذلك يغسّل الميّت غسل الجنابة.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

عدّة من أصحابنا  عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن مسكان، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما- عليهما السّلام- قال: من خلق من تربة دفن فيها.

عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، عن الحجّال، عن ابن بكير ، عن أبي منهال، عن الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ النّطفة [إذا وقعت في الرّحم، بعث اللّه- عزّ وجلّ- ملكا، فأخذ من التّربة الّتي يدفن فيها، فماثها في النّطفة] . فلا يزال قلبه يحنّ إليها، حتّى يدفن فيها.

وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا: بصّرناه إيّاها. أو: عرّفناه صحّتها.

كُلَّها:

تأكيد لشمول الأنواع، أو لشمول الأفراد، على أنّ المراد ب «آياتنا» آيات معهودة هي الآيات التّسع المختصّة بموسى. أو أنّه- عليه السّلام- أراه آياته، وعدّد عليه ما أوتي غيره من المعجزات.فَكَذَّبَ من فرط عناده، وَأَبى  الإيمان والطّاعة لعتوّه.

قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا: أرض مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى :

قيل : هذا تعلّل وتحيّر، ودليل على أنّه علم كونه محقّا، حتّى خاف منه على ملكه. فإنّ ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه.

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ: مثل سحرك.

فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً: وعدا، لقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، فإنّ الإخلاف لا يلائم الزّمان والمكان.

مَكاناً سُوىً :

قيل : أي منتصفا يستوي إلينا وإليك.

و انتصاب «مكانا» بفعل دلّ عليه المصدر، لا به، فإنّه موصوف. أو بأنّه بدل من «موعدا» على تقدير مكان مضاف إليه.

و على هذا يكون  طباق الجواب في قوله: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من حيث المعنى. فإنّ يوم الزّينة يدلّ على مكان مشتهر باجتماع النّاس فيه في ذلك اليوم. أو بإضمار، مثل: مكان موعدكم مكان يوم الزّنية. كما هو على الأوّل. أو: وعدكم وعد يوم الزّينة.

و قرئ : «يوم»- بالنّصب- وهو ظاهر في أنّ المراد بهما المصدر.

و قيل  في «يوم الزّينة»: يوم عاشوراء، أو يوم النّيروز، أو يوم عيد كان لهم في كلّ عام.

وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى :

عطف على اليوم أو الزّينة.

و قرئ  على البناء للفاعل- بالتّاء- على خطاب فرعون. والياء على أنّ فيه ضمير اليوم أو ضمير فرعون على كون  الخطاب لقومه .فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ: ما يكاد به. يعني السّحرة وآلاتهم.

ثُمَّ أَتى  بالموعد.