سورة مريم‏ الآية 41-60

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً: ملازما للصّديق، كثير التصديق  لكثرة ما صدّق به من غيوب اللّه وآياته وكتبه ورسله.

نَبِيًّا : استنبأه اللّه.

إِذْ قالَ‏: بدل من إبراهيم، وما بينهما اعتراض. أو متعلّق ب «صدّيقا» أو «نبيّا».

لِأَبِيهِ‏: قد سبق الكلام في كونه أباه، أو أنّه كان عمّه أو جدّه لأمّه، لطهارة آباء الأنبياء عن الشّرك.

يا أَبَتِ‏: التّاء معوّضة عن ياء الإضافة. فلا يقال: يا أبتي، ويقال: يا أبتا. وإنّما تذكّر للاستعطاف، فلذلك كرّرها.

لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ

 فيعرف حالك، ويسمع ذكرك، ويرى خضوعك!؟

وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً

  في جلب نفع ودفع ضرّ!؟

دعاه إلى الهدى، وبيّن ضلاله، واحتجّ عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب [حيث لم يصرّح بضلاله‏] ، بل طلب العلّة الّتي تدعوه [إلى عبادة ما يستخفّ به العقل الصّريح، ويأبى الرّكون إليه، فضلا عن عبادته الّتي (هي غاية) ]  التّعظيم، ولا تحقّ إلّا لمن له الاستغناء التّامّ والإنعام العامّ .

ثمّ دعاه إلى أن يتّبعه، ليهديه إلى الحقّ القويم، فقال: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا . ولم يصفه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، بل نفسه كرفيق في طريق  يكون أعرف به.ثمّ ثبّطّه عمّا كان عليه، بأنّه مع خلوّه عن النّفع، مستلزم للضّرّ. فإنّه في الحقيقة عبادة الشّيطان من حيث إنّه الآمر به. فقال:

يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ:

استهجن ذلك. وبيّن وجه الضّرّ فيه، بأنّ الشّيطان مستعص على ربّك المولى المنعم بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا . ومعلوم أنّ المطاوع للعاصي عاص. وكلّ عاص حقيق بأن تستردّ منه النّعم، وينتقم منه. ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجرّ إليه، فقال:

يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا : قرينا في اللّعن والعذاب، تليه ويليك. أو: ثابتا في موالاته، فإنّه أكبر من العذاب. كما أنّ رضوان اللّه أكبر من الثواب.

و ذكر الخوف والمسّ، وتنكير العذاب، إمّا للمجاملة، أو لخفاء العاقبة.

و لعلّ اقتصاره على عصيان الشّيطان من جناياته، لارتقاء همّته في الرّبّانيّة. أو لأنّه ملاكها. أو لأنّه من حيث إنّه نتيجة  معاداته لآدم وذرّيّته ومنبّه عليها.

قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ:

قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد، بالفظاظة وغلظة العناد. فناداه باسمه، ولم يقابل «يا أبت» ب: «يا بنيّ». وأخّره، وقدّم الخبر على المبتدأ وصدّره بالهمزة، لإنكار نفس الرّغبة على ضرب من التّعجّب، كأنّها ممّا لا يرغب عنها عاقل. ثمّ هدّده فقال:

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن مقالك فيها أو الرّغبة [عنها]  لَأَرْجُمَنَّكَ بلساني، يعني الشّتم والذّمّ. أو: بالحجارة، حتّى تموت، أو تبعد منّيّ.

وَ اهْجُرْنِي:

عطف على ما دلّ عليه «لأرجمنّك». أي: فاحذرني، واهجرني.

مَلِيًّا : زمانا طويلا. من الملاوة. أو مليا بالذّهاب عنّي.

قالَ إبراهيم:

سَلامٌ عَلَيْكَ:توديع ومتاركة، ومقابلة للسّيّئة بالحسنة. أي: لا أصيبك  بمكروه، ولا أقول لك بعد ما يؤذيك، ولكن سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي. لعلّه يوفّقك للتّوبة والإيمان. فإنّ حقيقة الاستغفار للكافر، الدّعاء بالتّوفيق لما يوجب مغفرته.

إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا : بليغا في البرّ والألطاف.

وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني. وَأَدْعُوا رَبِّي وأعبده وحده.

عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا : خائبا ضائع السّعي مثلكم في دعاء آلهتكم.

و في تصدير الكلام ب «عسى» التّواضع وهضم النّفس، والتّنبيه على أنّ الإجابة والاثابة تفضّل غير واجب، وأنّ ملاك الأمر خاتمته، وهو غيب.

في كتاب علل الشّرائع  بإسناده إلى ابن مسعود قال: احتجّوا في مسجد الكوفة، فقالوا: ما بال أمير المؤمنين- عليه السّلام- لم ينازع الثّلاثة، كما نازع طلحة والزّبير وعائشة ومعاوية!؟

فبلغ ذلك عليّا- عليه السّلام. فأمر أن ينادى: الصّلاة جامعة . فلمّا اجتمعوا، صعد المنبر. فحمد اللّه، وأثنى عليه. ثمّ قال: معاشر النّاس! إنّه بلغني عنكم كذا وكذا.

قالوا: صدق أمير المؤمنين. قد قلنا ذلك.

قال: إنّ  لي بسنّة من  الأنبياء أسوة فيما فعلت. قال اللّه- تعالى- في محكم  كتابه : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

 

قالوا: ومن هم يا أمير المؤمنين؟

قال: أوّلهم إبراهيم- عليه السّلام- إذ قال لقومه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فإن قلتم: إنّ إبراهيم اعتزل قومه لغير مكروه أصابه منهم، فقد كفرتم. وإن قلتم:

اعتزلهم لمكروه رآه منهم، فالوصيّ أعذر.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ، عن ابن القدّاح، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: رحم اللّه عبدا طلب من اللّه- عزّ وجلّ- حاجة، فألحّ في الدّعاء. استجيب له، أو لم يستجب. وتلا هذه الآية: وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا.

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالهجرة إلى الشّام، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولدا . وَيَعْقُوبَ ولد ولد، بدل من فارقهم من الكفرة.

قيل : لمّا قصد إلى الشّام، أتى أوّلا حرّان، وتزوّج بسارة. وولدت له إسحاق.

و ولد منه يعقوب. ولعلّ تخصيصهما بالذّكر، لأنّهما شجرتا الأنبياء. أو لأنّه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد.

وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا : وكلّا منهما أو منهم.

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا النّبوّة والأموال والأولاد [و كلّ خير دينيّ ودنيويّ‏] .

وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا .

لسان الصّدق: الثّناء الحسن. عبّر باللّسان، عمّا يوجد به، كما يعبّر باليد عمّا يطلق باليد، وهو العطيّة. والعليّ: المرتفع. فإنّ كلّ أهل الأديان يتولّونه ويثنون عليه وعلى ذرّيّته، ويفخرون به. وهي إجابة لدعوته، حيث قال : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ. يعني إبراهيم. [وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا]  وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا. يعني لإبراهيم وإسحاق ويعقوب من رحمتنا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا. يعني أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه.

حدّثني بذلك أبي، عن الحسن بن‏عليّ العسكريّ- عليه السّلام.

و ذكر الشّيخ أبو جعفر بن بابويه- رحمه اللّه- في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة  وقال ما هذا لفظه: ثمّ غاب إبراهيم الغيبة الثّانية. وذلك حين  نفاه الطّاغوت عن مصر فقال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فقال- تقدّس ذكره- بعد ذلك: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا. يعني به عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام. لأنّ إبراهيم- عليه السّلام- قد كان دعا اللّه- عزّ وجلّ- أن يجعل له لسان صدق في الآخرين. فجعله اللّه- عزّ وجلّ- له ولإسحاق ويعقوب لسان صدق عليّا. [يعني به عليّا] .

و ذكر أيضا  عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن جدّه أنّه قال: كتبت إلى أبي الحسن- عليه السّلام- أسأله عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا. فأخذ الكتاب ووقّع تحته: وفّقك اللّه ورحمك، هو أمير المؤمنين- عليه السّلام.

و في شرح الآيات الباهرة : وذكر محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه- قال: حدّثنا أحمد بن القاسم قال: حدّثنا أحمد بن محمّد السيّاريّ، عن يونس بن عبد الرّحمن قال: قلت لأبي الحسن الرّضا- عليه السّلام-: إنّ قوما  طالبوني باسم أمير المؤمنين- عليه السّلام- في كتاب اللّه- عزّ وجلّ. فقلت لهم: من قوله- تعالى-: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا. فقال: صدقت. هو هكذا.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى [عن عثمان بن عيسى‏] ، عن يحيى، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه‏

 السّلام-: لسان الصّدق للمرء  يجعله  اللّه في النّاس، خير  من المال يأكله ويورثه.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام- ألا وإنّ اللّسان الصّالح يجعله اللّه للمرء في النّاس، خير له من المال يورثه من لا يحمده‏

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً: موحّدا أخلص عبادته عن الرّياء، وأسلم وجهه للّه، وأخلص نفسه عمّا سواه.

و قرئ  بالفتح، على أنّ اللّه أخلصه.

وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا : أرسله اللّه إلى الخلق، فأنبأهم عنه. ولذلك قدّم «رسولا» مع أنّه أخصّ وأعلى.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، [عن أحمد بن محمّد] ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا ما الرّسول؟ وما النّبيّ؟ قال: النّبيّ الّذي يرى في المنام ، ويسمع الصّوت، ولا يعاين الملك. والرّسول الّذي يسمع الصّوت، ويرى في المنام، ويعاين الملك.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ: من ناحيته اليمنى. وهي الّتي يلي يمين موسى. أو: من جانبه الميمون- من اليمن- بأن تمثّل له الكلام من تلك الجهة.

وَ قَرَّبْناهُ تقريب تشريف.

شبّهه بمن قرّبه الملك لمناجاته.

نَجِيًّا : مناجيا.

حال من أحد الضّميرين.

و قيل : مرتفعا. من النّجوة، وهو: الارتفاع. حال من المفعول. لما

روي أنّه رفع‏فوق السّموات حتّى سمع صرير القلم.

في بصائر الدّرجات : أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضّالة بن أيّوب، عن عمر  بن أبان، عن أديم أخي أيّوب، عن حمران [بن أعين‏]  قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: جعلت فداك: بلغني أنّ اللّه- تبارك وتعالى- ناجى عليّا- عليه السّلام. قال: أجل، قد كان بينهما مناجاة بالطّائف، نزل بينهما جبرئيل.

إبراهيم بن هشام ، عن يحيى بن عمران، عن يونس، عن حمّاد بن عثمان، عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ سلمة بن كهيل يروي في عليّ أشياء .

قال: ما هي؟

قلت: حدّثني أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان محاصرا أهل الطّائف وأنّه خلا بعليّ يوما. فقال رجل من أصحابه: عجبا لما نحن فيه [من الشّدّة]  وإنّه يناجي هذا الغلام [مثل اليوم ]؟ فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: ما أنا بمناج له. إنّما يناجي ربّه.

فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: [إنّما]  هذه أشياء يعرف  بعضها من بعض.

محمّد بن عيسى ، عن القاسم بن عروة، عن عاصم عن معاوية، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد اللّه قال: لمّا كان يوم الطّائف، ناجى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا . فقال أبو بكر وعمر: انتجيته [دوننا!؟ فقال: ما انتجيته‏] ، بل اللّه ناجاه.

عليّ بن محمّد  قال: حدّثني حمدان بن سليمان [النيشابوري‏]  قال: حدّثني عبد اللّه بن محمّد اليمانيّ، عن منيع، عن يونس، عن عليّ بن أعين، عن أبي رافع قال: لمّادعا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا يوم خيبر، فتفل في عينيه. ثمّ قال له: إذا أنت فتحتها، فقف بين النّاس، فإنّ اللّه أمرني بذلك.

قال أبو رافع: فمضى عليّ وأنا معه. فلمّا أصبح، افتتح خيبر و بخيبر وقف بين  النّاس، وأطال الوقوف. فقال النّاس: إنّ عليّا يناجي ربّه. فلمّا مكث [ساعة]  أمر بانتهاب المدينة الّتي فتحها.

قال أبو رافع: فأتيت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقلت: إنّ عليّا وقف بين النّاس كما أمرته، فقال قوم : اللّه ناجاه. فقال: نعم يا أبا رافع ، إنّ اللّه ناجاه يوم الطّائف، ويوم عقبة تبوك، ويوم حنين .

و عنه  بهذا الإسناد، عن منيع، عن يونس، عن عليّ بن أعين، [عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-]  قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لأهل الطّائف: لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي يفتح اللّه  به الخيبر. سوطه  سيفه . فتشرّف النّاس لها . فلمّا أصبح، دعا عليّا، فقال: اذهب إلى الطّائف .

ثمّ أمر اللّه- عزّ وجلّ- النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أن يرحل  إليها بعد أن دخله  عليّ- عليه السّلام. فلمّا صار إليها، كان عليّ  على رأس الجبل. فقال له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: اثبت. فثبت. فسمعنا  مثل صرير الرّحا . فقيل . ما هذا يا رسول اللّه!؟ قال: إنّ اللّه يناجي عليّا- عليه السّلام.وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا: من أجل رحمتنا- أو: بعض رحمتنا- أَخاهُ:

معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي . فإنّه كان أسنّ من موسى بأربع سنين. وهو مفعول أو بدل.

هارُونَ:

عطف بيان له.

نَبِيًّا :

حال منه.

في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق- رضي اللّه عنه- قال: أخبرنا أحمد بن محمّد الهمدانيّ قال: حدّثنا علي بن الحسن بن [عليّ بن‏]  فضّال، عن أبيه، عن هشام بن سالم قال: قلت للصّادق جعفر بن محمّد- عليهما السّلام-: الحسن أفضل أم الحسين- عليهما السّلام؟

فقال: الحسن أفضل من الحسين- عليهما السّلام.

قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون الحسن ؟

فقال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- لم يرد بذلك إلّا  أن يجعل سنّة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين- عليهما السّلام. ألا ترى أنّهما كانا شريكين في النّبوّة، كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة، وأنّ اللّه- عزّ وجلّ- جعل النّبوّة في ولد هارون، ولم يجعلها في ولد موسى، وإن كان موسى أفضل من هارون- عليه السّلام.

و بإسناده  إلى محمّد بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه، عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: عاش موسى- عليه السّلام- مائة وستّة  وعشرين سنة. وعاش هارون مائة وثلاثة وثلاثين سنة.

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ:ذكره بذلك لأنّه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره.

في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

 

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: ثلاث من كنّ فيه، كان منافقا، وإن صام وصلّى وزعم أنّه [مسلم: من إذا ائتمن، خان، وإذا حدّث، كذب، وإذا وعد، أخلف. إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول في كتابه : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وقال : أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ‏]  إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وفي قوله- تعالى-: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ (الآية).

ابن أبي عمير ، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّما سمّي  إسماعيل صادق الوعد، لأنّه وعد رجلا في مكان، فانتظره [في ذلك المكان‏]  سنّة. فسمّاه اللّه- تعالى- صادق الوعد. ثمّ  إنّ الرّجل أتاه بعد ذلك. فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك.

و في عيون الأخبار  بإسناده إلى سليمان الجعفريّ، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: أ تدري لم سمّي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلا، فجلس حولا ينتظره.

وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا :

في مجمع البيان : هو إسماعيل بن إبراهيم. إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ. وكان إذا وعد بشي‏ء وفى به، ولم يخلف. «و كان» مع ذلك «رسولا نبيّا» إلى جرهم .

و قيل : إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه. وإنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ. قال: وعد وعدا، فانتظر صاحبه سنة. وهو إسماعيل بن حزقيل.

و. في كتاب علل الشّرائع ، في باب العلّة الّتي من أجلها سمّي إسماعيل بن حزقيل صادق الوعد: حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد- رضي اللّه عنه- قال:

 

حدّثنا محمّد بن الحسن الصّفّار، عن يعقوب بن يزيد ، عن محمّد بن أبي عمير ومحمّد بن سنان، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ إسماعيل الّذي قال اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان  نبيّا من الأنبياء، بعثه اللّه إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه. فأتاه ملك فقال: إنّ اللّه- جلّ جلاله- بعثني إليك. فمرني بما شئت. فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين - عليه السّلام.

و بإسناده  إلى أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: انّ إسماعيل كانَ رَسُولًا نَبِيًّا سلّط عليه قومه، فقشروا جلدة وجهه  وفروة رأسه. فأتاه رسول من ربّ العالمين، فقال له: ربّك يقرئك السّلام و. يقول: قد رأيت ما صنع بك، وقد أمرني بطاعتك. فمرني بما شئت. فقال يكون لي بالحسين بن عليّ- عليه السّلام- أسوة.

أقول: ويمكن حمل الأخبار الأوّلة الّتي استدلّ بها من قال بأنّه إسماعيل بن إبراهيم على هذه. لأنّها مطلقة وهذه مقيّدة. والواجب أن تحمل المطلقة على المقيّدة.

و أمّا ما قيل من أنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه، ففي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: عاش إسماعيل بن إبراهيم- عليهما السّلام- مائة وعشرين سنة.

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ اشتغالا بالأهمّ، وهو أن يقبل الرّجل على نفسه ومن هو أقرب النّاس إليه.وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا  لاستقامة أقواله وأحواله وأفعاله.

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ:

قيل : هو سبط شيث وجدّ أبي نوح، واسمه: أخنوخ.

و روي  أنّه أنزل عليه ثلاثون صحيفة. وأنّه أوّل من خطّ بالقلم، ونظر في علم النّجوم والحساب، وأوّل من خاط الثّياب، وكانوا يلبسون الجلود. واشتقاقه من الدرس، يردّه منع صرفه. نعم، لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللّغة قريبا من ذلك، فلقّب به لكثرة درسه.

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا :

في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة  بإسناده إلى إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليهم السّلام- قال: كان [بدء]  نبوّة إدريس- عليه السّلام- أنّه كان في زمانه ملك جبّار، وأنّه ركب ذات يوم في بعض نزهة. فمرّ بأرض خضرة [نضرة]  لعبد مؤمن من الرّافضة فأعجبته. فسأل وزراءه: لمن هذه الأرض؟ قالوا: لعبد مؤمن من عبيد الملك، فلان الرافضيّ. فدعا به، فقال له: أمتعني بأرضك هذه. فقال له: عيالي أحوج إليها منك. قال: فسمني بها أثمن لك . قال: لا أمتعك بها، ولا أسومك. دع عنك ذكرها! فغضب الملك عند ذلك. وأسف وانصرف إلى أهله، وهو مغموم متفكّر في أمره.

و كانت له امرأة من الأزارقة ، وكان بها معجبا يشاورها في الأمر إذا نزل به. فلمّا استقرّ في مجلسه، بعث إليها يشاورها في أمر صاحب الأرض. فخرجت إليه، فرأت في وجهه الغضب. فقالت: أيّها الملك، ما الّذي دهاك حتّى بدا الغضب في وجهك قبل فعلك؟

فأخبرها بخبر الأرض، وما كان من قوله لصاحبها [و من قول صاحبها]  له. فقالت:أيّها الملك إنّما يغتمّ ويهتمّ من لا يقدر على التّغيير والانتقام. فإن كنت تكره أن تقتله بغير حجّة، فأنا أكفيك أمره، وأصيّر أرضه إليك  بحجّة لك فيها العذر عند أهل مملكتك.

قال: وما هي؟ قالت: أبعث إليه أقواما من أصحابي من الأزارقة حتّى يأتوك به، فيشهدوا عليه عندك أنّه قد بري‏ء من دينك. فيجوز لك قتله وأخذ أرضه. قال: فافعلي ذلك.

قال: وكان لها أصحاب من الأزارقة على دينها، يرون قتل الرّافضة  من المؤمنين.

فبعثت إلى قوم من الأزارقة. فأتوها. فأمرتهم أن يشهدوا على فلان الرّافضي عند الملك أنّه قد بري‏ء من دين الملك. [فشهدوا عليه أنّه قد بري‏ء من دين الملك‏] . فقتله، واستخلص أرضه.

فغضب اللّه- تعالى- للمؤمن عند ذلك. فأوحى اللّه إلى إدريس أن ائت عبدي هذا الجبّار، فقل له: أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما، حتّى استخلصت أرضه خالصة لك، فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم!؟ أما- وعزّتي- لأنتقمنّ له منك في الآجل. ولأسلبنّك ملكك في العاجل. ولأخربنّ مدينتك. ولأذلّنّ عزّك. ولأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك. فقد غرّك- يا مبتلى- حلمي عنك! فأتاه إدريس- عليه السّلام- برسالة ربّه، وهو في مجلسه، وحوله أصحابه. فقال:

أيّها الجبّار! إنّي رسول اللّه إليك، وهو يقول لك: أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما ، حتّى استخلصت أرضه خالصة لك، وأحوجت عياله من بعده، وأجعتهم!؟ أما- وعزّتي- لأنتقمنّ له منك في الآجل. ولأسلبنّك ملكك في العاجل. ولأخربنّ مدينتك ولأذلّنّ عزّك. ولأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك. فقال الجبّار: اخرج عنّي يا إدريس! فلن تسبقني بنفسك .

ثمّ أرسل إلى امرأته. فأخبرها بما جاء به إدريس. فقالت : لا يهوّلنّك [رسالة إله إدريس. أنا أكفيك أمر إدريس. أنا  أرسل اللّه من يقتله فتبطل‏]  رسالة إلهه وكلّما جاء به. قال: فافعلي.

قال: فكان لإدريس أصحاب من الرّوافض مؤمنون، يجتمعون إليه في مجلس له، فيأنسون به، ويأنس بهم. فأخبرهم إدريس بما كان من وحي اللّه- عزّ وجلّ- اليه ورسالته إلى الجبّار، [و ما كان من تبليغه رسالة اللّه إلى الجبّار]  فأشفقوا  على إدريس أصحابه وخافوا عليه القتل.

و بعثت امرأة الجبّار إلى إدريس  أربعين رجلا من الأزارقة ليقتلوه. فأتوه في مجلسه الّذي كان يجتمع إليه فيه أصحابه. فلم يجدوه. فانصرفوا، وقد رآهم أصحاب إدريس، فحسبوا أنّهم أتوا إدريس ليقتلوه. فتفرّقوا في طلبه. فلقوه، فقالوا له: خذ حذرك يا إدريس! فإنّ الجبّار قاتلك. قد بعث اليوم أربعين رجلا من الأزارقة ليقتلوك. فاخرج من هذه القرية.

فتنحّى إدريس عن القرية من يومه ذلك، ومعه نفر من أصحابه. فلمّا كان في السّحر، ناجى إدريس ربّه فقال: يا ربّ، بعثتني إلى جبّار، فبلّغت رسالتك. وقد توعّدني هذا الجبّار بالقتل، بل هو قاتلي، إن ظفر بي. فأوحى اللّه- عزّ وجلّ إليه- أن: تنحّ عنه، واخرج من قريته. وخلّني وإيّاه. فو عزّتي، لأنفذن فيه أمري. ولأصدّقنّ قولك فيه، وما أرسلتك به إليه.

فقال إدريس: يا ربّ، إنّ لي حاجة. قال اللّه- عزّ وجلّ-: سلها، تعطها. قال:

أسألك أن لا تمطر السّماء على هذه القرية وما حولها وما حوت عليه، حتّى أسألك ذلك.

قال اللّه- عزّ وجلّ-: يا إدريس، إذا تخرب القرية، ويشتدّ جهد أهلها ويجوعون! قال إدريس: وإن خربت، وجهدوا وجاعوا. قال اللّه- عزّ وجلّ-: إنّي قد أعطيتك ما سألت. ولن أمطر السّماء عليهم حتّى تسألني ذلك. وأنا أحقّ من وفى بوعده.فأخبر إدريس أصحابه بما سأل اللّه من حبس المطر عليهم، وبما أوحى اللّه إليه ووعده أن لا يمطر السّماء على قريتهم  حتّى يسأله ذلك. فاخرجوا- أيّها المؤمنون- من هذه القرية إلى غيرها من القرى. فخرجوا منها، وعدّتهم يومئذ عشرون رجلا. فتفرّقوا في القرى، وشاع خبر إدريس في القرى بما سأل ربّه.

و تنحّى إدريس إلى كهف في الجبل شاهق، فلجأ إليه. ووكّل اللّه- عزّ وجلّ- به ملكا يأتيه بطعامه عند كلّ مساء. وكان يصوم النّهار، فيأتيه الملك بطعامه عند كلّ مساء. وسلب اللّه- عزّ وجلّ- عند ذلك ملك الجبّار، وقتله. وأخرب مدينته. وأطعم الكلاب لحم امرأته، غضبا للمؤمن. فظهر في المدينة جبّار آخر عاص.

فمكثوا بذلك، بعد خروج إدريس عن القرية، عشرين سنّة لم تمطر السّماء عليهم قطرة من مائها . فجهد القوم، واشتدّت حالهم. وصاروا يمتارون الأطعمة  من القرى من بعد.

فلمّا جهدوا، مشى بعضهم إلى بعض فقالوا: إنّ الّذي نزل بنا ممّا ترون بسؤال إدريس ربّه أن لا يمطر السّماء علينا حتّى يسأله هو. وقد تنحّى  إدريس عنّا، ولا علم لنا بموضعه.

و اللّه أرحم بنا منه. فأجمع أمرهم على أن يتوبوا إلى اللّه ويدعوه، ويفزعوا إليه. ويسألوه أن يمطر السّماء عليهم وما حوت  قريتهم.

فقاموا على الرّماد. ولبسوا المنسوح . وحثّوا على رؤوسهم التّراب. وعجّوا إلى اللّه بالتّوبة والاستغفار والبكاء والتّضرّع إليه.

فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إلى إدريس: [يا إدريس‏]  إنّ أهل قريتك قد عجّوا إليّ بالتّوبة والاستغفار والبكاء والتّضرّع. وأنا اللّه الرّحمن الرّحيم. أقبل التّوبة، وأعفو عن السّيّئة. وقد رحمتهم، ولم يمنعني من إجابتهم إلى ما سألوني من المطر إلّا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السّماء عليهم [حتّى تسألني. فاسألني- يا إدريس- حتّى أغيثهم ،و أمطر السّماء عليهم.]  قال إدريس: اللّهمّ إنّي لا أسألك ذلك. قال اللّه- عزّ وجلّ- ألم تسألني- يا إدريس- فأجبتك إلى  ما سألت!؟ وأنا أسألك أن تسألني، فلم لا تجيب مسألتي!؟ قال إدريس: اللّهمّ لا أسألك.

قال: فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إلى الملك الّذي أمره أن يأتي إدريس بطعامه كلّ مساء، أن: احبس عن إدريس طعامه، ولا تأته به. فلمّا أمسى إدريس في ليلة يومه ذلك، فلم يؤت بطعامه، حزن وجاع. فصبر. فلمّا كان في ليلة اليوم الثّاني، فلم يؤت بطعامه، اشتدّ حزنه وجوعه. فصبر . فلمّا كانت اللّيلة من اليوم الثّالث، فلم يؤت بطعامه، اشتدّ جهده وجوعه وحزنه، وقلّ صبره. فنادى ربّه: يا ربّ، حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي!؟

فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه: يا إدريس، جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام ولياليها، ولم تجزع ولم تذكر جوع أهل قريتك وجهدهم  منذ عشرين سنة! ثمّ سألتك عند  جهدهم ورحمتي إيّاهم أن تسألني، فأمطر السّماء عليهم. فلم تسألني، وبخلت عليهم بمسألتك إيّاي! فأدّبتك بالجوع، فقلّ عند ذلك صبرك، وظهر جزعك.

فاهبط من موضعك، فاطلب المعاش لنفسك! فقد وكلتك في طلبه إلى جدّك.

 

فهبط إدريس- عليه السّلام- من موضعه إلى قرية يطلب أكلة من جوع. فلمّا دخل القرية، نظر إلى دخان في بعض منازلها. فأقبل نحوه. فهجم على عجوز كبيرة وهي ترقّق قرصتين لها على مقلاة . فقال لها: أيّتها المرأة، أطعميني، فإنّي مجهود من الجوع! فقالت له: يا عبد اللّه، ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا- وحلفت أنّها ما تملك غيره شيئا - فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية. فقال لها: أطعميني ما أمسك به روحي، وتحملني به رجلي، إلى أن أطلب. قالت: إنّهما قرصتان، واحدة لي، والأخرى لابني. فإن أطعمتك قوتي، متّ. وإن أطعمتك قوت ابني، مات. وما هاهنا فضل أطعمكه. فقال لها: إنّ ابنك صغير يجزئه نصف قرصة، فيحيى به، ويجزئني النّصف‏الآخر فأحيى  به. وفي ذلك بلغة لي وله.

فأكلت المرأة قرصتها. وكسرت الأخرى بين إدريس وبين ابنها. فلمّا رأى ابنها إدريس يأكل من قرصته، اضطرب حتّى مات. قالت أمّه: يا عبد اللّه! قتلت عليّ  ابني جزعا على قوته! فقال لها إدريس: فأنا أحييه بإذن اللّه، فلا تجزعي. ثمّ أخذ إدريس- عليه السّلام- بعضد الصّبيّ. ثمّ قال: أيّتها الرّوح الخارجة عن بدن هذا الغلام بأمر اللّه، ارجعي إلى بدنه بإذن اللّه. وأنا إدريس النّبيّ. فرجعت روح الغلام إليه بإذن اللّه.

فلمّا سمعت المرأة  كلام إدريس وقوله: «أنا إدريس» ونظرت إلى  ابنها قد عاش بعد الموت، قالت: أشهد  أنّك إدريس النّبيّ.

و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج ! فقد دخل إدريس في قريتكم.

و مضى إدريس حتّى جلس على موضع مدينة الجبّار الأوّل فوجدها وهي تلّ .

فاجتمع اليه أناس من أهل قريته فقالوا له: يا إدريس! أما رحمتنا في هذه العشرين سنة الّتي جهدنا فيها ومتنا من  الجوع والجهد فيها!؟ فادع اللّه لنا أن يمطر السّماء علينا. قال:

لا، حتّى يأتيني جبّاركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة، فيسألوني ذلك.

فبلغ الجبّار قوله. فبعث إليه أربعين رجلا يأتوه بإدريس. فأتوه، فقالوا: له: إنّ الجبّار بعثنا إليك، لنذهب بك إليه. فدعا عليهم. فماتوا. فبلغ ذلك الجبّار. فبعث خمسمائة رجل، ليأتوه به. فقالوا له: يا إدريس، إنّ الجبّار بعثنا إليك، لنذهب بك إليه. فقال لهم إدريس: انظروا إلى مصارع أصحابكم. فقالوا له: يا إدريس! قتلتنا بالجوع منذ عشرين سنة، ثمّ تريد أن تدعو علينا بالموت! أمالك رحمة!؟ فقال: ما أنا بذاهب إليه. و[ما أنا بسائل‏]  اللّه أن يمطر السّماء عليكم، حتّى يأتيني جبّاركم ماشيا حافيا وأهل قريتكم.

فانطلقوا إلى الجبّار، فأخبروه بقول إدريس. وسألوه أن يمضي معهم وجميع أهل‏قريتهم إلى إدريس مشاة حفاة. فأتوه، حتّى وقفوا بين يديه، خاضعين له، طالبين إليه أن يسأل- عزّ وجلّ- أن يمطر السّماء عليهم، فقال لهم إدريس: أمّا الآن، فنعم.

فسأل اللّه- عزّ وجلّ- إدريس عند ذلك أن يمطر السّماء عليهم وعلى قريتهم ونواحيها. فأظلّتهم سحابة من السّماء. وأرعدت وأبرقت وهطلت عليهم من ساعتهم، حتّى ظنّوا أنّه الغرق. فما رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمّتهم أنفسهم من الماء .

وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا :

قيل : يعني شرف النّبوّة والزّلفى عند اللّه.

و قيل : السّماء السّادسة أو الرّابعة.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن مفضّل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أخبرني جبرئيل- عليه السّلام- أنّ ملكا من الملائكة كانت له عند اللّه منزلة عظيمة. فتعتّب عليه. فأهبطه  من السّماء إلى الأرض. فأتى إدريس- عليه السّلام- فقال له: إنّ لك من اللّه منزلة، فاشفع لي عند ربّك.

فصلّى ثلاث ليال لا يقصر . وصام أيّامها لا يفطر. ثمّ طلب إلى اللّه- عزّ وجلّ- في السّحر في الملك. فقال الملك: إنّك قد أعطيت سؤلك، وقد أطلق اللّه جناحي. وأنا أحبّ أن أكافئك. فاطلب إليّ حاجة. فقال: تريني ملك الموت لعلّي آنس به. فإنّه ليس يهنئني مع ذكره شي‏ء.

فبسط جناحه ثمّ قال: اركب. فصعد به يطلب ملك الموت في السّماء الدّنيا.

فقيل له: اصعد فاستقبله بين السّماء الرّابعة والخامسة. فقال الملك: يا ملك الموت مالي‏أراك قاطبا ؟ قال: العجب إنّي تحت ظلّ العرش حيث أمرت أن أقبض روح آدميّ  بين السّماء الرّابعة والخامسة! فسمع إدريس- عليه السّلام- فامتعض . فخرّ من جناح الملك. فقبض روحه مكانه. وقال اللّه- عزّ وجلّ-: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد، عن أحمد بن أبي داود، عن عبد اللّه بن أبان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال في حديث طويل يذكر فيه مسجد السّهلة: أما علمت أنّه موضع بيت إدريس النّبيّ- عليه السّلام- الّذي [كان‏]  يخيط فيه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن محمّد بن أبي عمير، عمّن حدّثه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- غضب على ملك من الملائكة. فقطع جناحيه ، وألقاء إلى جزيرة من جزائر البحر. فبقي ما شاء اللّه- عزّ وجلّ- في ذلك البحر.

فلمّا بعث اللّه- عزّ وجلّ- إدريس- عليه السّلام- جاء  ذلك الملك إليه، فقال: يا نبيّ اللّه، ادع اللّه أن يرضى عنّي ويردّ عليّ جناحي. قال: نعم. فدعا إدريس- عليه السّلام. فردّ اللّه- عزّ وجلّ- عليه جناحه، ورضي عنه. قال الملك لإدريس:

أ لك إليّ حاجة؟ قال: نعم. أحبّ أن ترفعني إلى السّماء [حتّى أنظر إلى ملك الموت. فإنّه لا عيشة لي مع ذكره.

فأخذه الملك على جناحه حتّى انتهى به إلى السماء]  الرابعة. فإذا ملك الموت يحرّك رأسه تعجّبا. فسلّم إدريس- عليه السّلام- على ملك الموت- عليه السّلام- فقال له:

مالك تحرّك رأسك؟ قال: إنّ ربّ العزّة أمرني أن أقبض روحك بين السّماء الرّابعة والسّماء الخامسة. [فقلت: (يا ربّ)  وكيف يكون  هذا، وغلظ  السّماء الرّابعة مسيرة خمسمائة عام‏] ، ومن السّماء الرّابعة إلى الثّالثة مسيرة خمسمائة عام، ومن السّماء الثّالثة إلى السّماءالثّانية مسير خمسمائة عام، [و غلظ السّماء الثّالثة مسيرة خمسمائة عام‏] ، وكلّ سماءين  وما بينهما كذلك!؟ فكيف يكون هذا، ثمّ قبض روحه بين السّماء الرّابعة والخامسة!؟

و هو قوله- عزّ وجلّ-: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.

و فيه  عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل، وفيه: ثمّ صعدنا إلى السّماء الرّابعة، وإذا فيها رجل. فقلت: من هذا، يا جبرئيل؟ فقال: هذا إدريس رفعه اللّه مكانا عليّا. فسلّمت عليه. وسلّم عليّ. واستغفرت له. واستغفر لي.

و في علل الشّرائع  بإسناده إلى عبد اللّه بن يزيد بن سلام أنّه قال لرسول اللّه- وقد سأله عن الأيّام-: فالخميس؟ قال: هو يوم خامس من الدّنيا. وهو يوم [أنيس. لعن فيه‏]  إبليس. ورفع فيه إدريس.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- روى عن موسى بن جعفر، [عن أبيه‏] ، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السّلام- قال: إنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لعليّ- عليه السّلام- في كلام طويل: هذا إدريس- عليه السّلام- أعطاه اللّه- عزّ وجلّ- مكانا عليّا. قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك.

و محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أعطي ما هو أفضل من هذا. إنّ اللّه- جلّ ثناؤه- قال فيه : وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ. فكفى بهذا من اللّه رفعة.

أُولئِكَ:

إشارة إلى المذكورين في السّورة، من زكريّاء إلى إدريس.

الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: بأنواع النّعم الدّينيّة والدّنياويّة.

مِنَ النَّبِيِّينَ:

بيان للموصول.

مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ:

بدل منه، بإعادة الجارّ. ويجوز أن تكون «من» فيه للتّبعيض. لأنّ المنعم عليهم‏أعمّ من الأنبياء وأخصّ من ذرّيّة آدم.

وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، أي: ومن ذرّيّة من حملنا خصوصا، وهم من عدا إدريس. فإنّ إبراهيم كان من ذرّيّة سام بن نوح.

وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ الباقون.

وَ إِسْرائِيلَ:

عطف على إبراهيم. أي: ومن ذرّة إسرائيل. وكان منهم موسى وهارون وزكريّاء ويحيى وعيسى.

و فيه دليل على أنّ أولاد البنات من الذّريّة.

وَ مِمَّنْ هَدَيْنا: ومن جملة من هدينا إلى الحقّ.

وَ اجْتَبَيْنا للنّبوة والكرامة.

و في كتاب المناقب  لابن شهر آشوب، في مناقب زين العابدين- عليه السّلام- قال- عليه السّلام- في قول اللّه- تعالى-: وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا: نحن عنينا بها.

إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا :

خبر ل «أولئك» إن جعلت الموصول صفته. واستئناف، إن جعلته خبره، لبيان أنّ خشيتهم من اللّه وإخباتهم له، مع ما لهم من علوّ الطّبقة في شرف النسّب وكمال النّفس والزّلفى من اللّه- عزّ وجلّ.

و عن النّبيّ - صلّى اللّه عليه وآله-: اتلوا القرآن وابكوا. فإن لم تبكوا، فتباكوا.

و البكيّ: جمع باك، كالسّجود في جمع ساجد.

و قرئ : «يتلى»- بالياء. لأنّ التّأنيث غير حقيقىّ وقرئ : «بكيّا»- بكسر الباء.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس: حدّثنا جعفر بن محمّد الرّازيّ، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بريد بن معاوية، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:

 كان عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- يسجد في سورة مريم حين  يقول: وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا. ويقول: نحن عنينا بذلك. ونحن أهل الحبوة  والصّفوة.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ: فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء.

يقال: خلف صدق- بالفتح- وخلف سوء- بالسّكون.

أَضاعُوا الصَّلاةَ: تركوها.

في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضّالة بن أيّوب، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث: وليس إن عجّلت قليلا، أو أخّرت قليلا، بالّذي يضرّك، ما لم تضيع تلك الإضاعة . فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول لقوم: (الآية).

و في مجمع البيان : وقيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها، من غير أن تركوها أصلا.

و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام.

وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ:

في جوامع الجامع : رووا عن عليّ- عليه السّلام-: من بنى الشّديد، وركب المنظور، ولبس المشهور.

و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من سلم من أمّتي من أربع خصال، فله الجنّة: من الدّخول في الدّنيا، واتّباع الهوى، وشهوة البطن، وشهوة الفرج.

فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا : شرّا، كقوله:

         فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره             ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

 أو: جزاء غيّ، كقوله : يَلْقَ أَثاماً. أو: غيا عن طريق الجنّة.و قيل : هو واد في جهنّم.

إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً:

قيل : يدلّ على أنّ الآية في الكفرة.

و أقول: وسيجي‏ء ما يؤيّده من الأخبار.

فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ:

و قرأ  ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب، على البناء للمفعول من أدخل.

وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً : ولا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم.

و يجوز أن ينتصب «شيئا» على المصدر.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمة اللّه-: حدّثنا محمّد بن همّام بن سهيل، عن محمّد بن إسماعيل الطّويّ ، عن عيسى بن داود النّجّار، عن أبي الحسن موسى بن جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-:

 «أولئك» (الآية).

قال: نحن ذرّيّة إبراهيم. ونحن المحمولون مع نوح. ونحن صفوة اللّه. وأمّا قوله:

وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا. فهم- واللّه- شيعتنا الّذين هداهم اللّه لمودّتنا، واجتباهم لديننا. فحيوا عليه. وماتوا عليه. ووصفهم اللّه بالعبادة والخشوع ورقّة القلب، فقال: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا. ثمّ قال- عزّ وجلّ-: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. وهو جبل صفر يدور في وسط جهنّم. ثمّ قال- عزّ وجلّ-: إِلَّا مَنْ تابَ من غش آل محمد وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً- إلى قوله:- كانَ تَقِيًّا.