سورة مريم‏ الآية 81-98

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا : ليتعزّزوا بهم، حيث يكونون لهم وصلة وشفعاء عنده.

كَلَّا:

ردع وإنكار لتعزّزهم بها.

سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ: ستجحد الآلهة عبادتهم، ويقولون ما عبدتمونا.

كقوله : إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا. أو: سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنّهم عبدوها. كقوله : ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.

وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا :

فسّر الضّدّ بضدّ العزّ. أي: ويكونون عليهم ذلّا. أو بضدّهم على معنى أنّها تكون معونة في عذابهم، بأن توقد بها نيرانهم. أو جعل الواو للكفرة. أي: يكونون كافرين بهم، بعد أن كانوا يعبدونها. وتوحيده لوحدة المعنى الّذي به مضادّتهم فإنّه بذلك كالشّي‏ء الواحد. ونظيره‏

قوله - عليه السّلام-: «و هم يد على من سواهم».و قرئ : «كلّا»- بالتّنوين- على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله: أقلّي اللّوم عاذل والعتابن.

أو على معنى: كلّ هذا الرّأي كلّا وكلّا على إضمار فعل يفسّره ما بعده. أي:

سيجحدون كلّا، سيكفرون بعبادتهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا جعفر بن أحمد قال: حدّثنا عبد اللّه  بن موسى قال: حدّثنا الحسن  بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية أنّه يكون  هؤلاء الّذين اتّخذوهم آلهة من دون اللّه، عليهم ضدّا يوم  القيامة، [و يتبرّؤون منهم ومن عبادتهم يوم القيامة] . ثمّ قال: ليس العبادة هي السّجود، ولا الرّكوع، وإنّما هي طاعة الرّجال. من أطاع مخلوقا في معصية الخالق، فقد عبده.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ بأن سلّطناهم عليهم، أو قيّضنا لهم قرناء.

تَؤُزُّهُمْ أَزًّا : تهزّهم وتغريهم على المعاصي، بالتّسويلات وتحبيب الشّهوات.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : لمّا طغوا فيها وفي فتنها  وفي طاعتهم، ومدّلهم في طغيانهم وضلالتهم ، أرسل عليهم شياطين الإنس والجنّ، «تؤزّهم أزّا»، أي: تنخسهم نخسا وتحضّهم على طاعتهم وعبادتهم.

فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا، حتّى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم، وتطهر الأرض م فسادهم.

إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ أيّام اجالهم عَدًّا .و المعنى: لا تعجل بهلاكم، فإنّه لم يبق إلّا أيّام محصورة وأنفاس معدودة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  متّصلا بقوله: وإذا أمسك، أمسكنا- عند قوله:

وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ-: وقوله: أَ لَمْ تَرَ- إلى قوله:- أَزًّا قال: نزلت في مانعي [الخمس و]  الزّكاة والمعروف. يبعث اللّه عليهم سلطانا، أو شيطانا، فينفق ما يجب عليه من الزّكاة [و الخمس‏]  في غير طاعة اللّه، ويعذّبه اللّه على ذلك. وقوله- تبارك وتعالى-: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، فقال لي: ما هو عندك؟ قلت: عندي عدد الأيّام قال: إنّ  الآباء والأمّهات ليحصون ذلك، ولكنّه عدد الأنفاس.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن الحسن بن إسحاق، عن عليّ بن مهزيار، عن عليّ بن إسماعيل الميثميّ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: قول اللّه- عزّ وجلّ-: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا. قال: ما هو عندك؟ قلت: عدد الأيّام. قال: إنّ الآباء والأمّهات يحصون ذلك، ولكنّه عدد الأنفاس.

و في نهج البلاغة : من كلام له- عليه السّلام-: نفس المرء خطاه إلى أجله.

و قال- عليه السّلام-: كلّ معدود منقض. وكلّ متوقّع آت.

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ: نجمعهم إِلَى الرَّحْمنِ: إلى ربّهم الّذى غمرهم برحمته.

و لاختيار هذا الاسم في هذه السّورة شأن. ولعلّه لأنّ مساق الكلام فيها لتعداد نعمه الجسام، وشرح حال الشّاكرين لها والكافرين بها.

وَفْداً : وافدين عليه، كما يفد الوفّاد  على الملوك، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم.

و الوفد: جمع وافد. وفد يفد وفدا وأوفد على الشّي‏ء: أشرف عليه.

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما يساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً : عطاشا.

فإنّ من يرد الماء، لا يرده إلّا لعطش. أو كالدّوابّ الّتي ترد الماء.و الورد: الجماعة الّتي ترد الماء.

و في عيون الأخبار : حدّثنا أبو عليّ محمّد بن أحمد  بن يحيى المعاذي  قال: حدّثنا أبو عمر ومحمّد بن عبد اللّه الحكميّ الحاكم بنوقان قال: خرج علينا رجلان من الرّي برسالة بعض السّلاطين بها إلى الأمير نصير  بن أحمد لبيخارا. وكان أحدهما من أهل الريّ، والآخر من أهل قمّ. وكان القمّيّ على المذهب الّذي كان قديما [بقمّ في النّصب‏] . وكان الرّازيّ متشيّعا.

فلمّا بلغا بنيشابور، قال الرّازيّ للقمّيّ: ألا نبدأ بزيارة الرّضا- عليه السّلام- ثمّ نتوجّه إلى بخارا؟ فقال القمّيّ: قد بعثنا سلطاننا برسالة إلى الحضرة ببخارا، فلا يجوز لنا أن نشتغل بغيرها، حتّى نفرغ منها. فقصدا بخارا، وأدّيا [الرّسالة]  ورجعا، حتّى حاذيا طوس. فقال الرّازيّ للقمّيّ: ألا تزور الرّضا- عليه السّلام؟ فقال خرجت من قمّ  مرجئا لا أرجع إليها رافضيّا! قال: فسلّم الرّازيّ أمتعته ودوابّه إليه، وركب حمارا، وقصد مشهد الرّضا- عليه السّلام. وقال لخدّام المشهد: خلوا  لي المشهد هذه اللّيلة، وادفعوا إليّ مفتاحه. ففعلوا ذلك.

قال: فدخلت المشهد، وغلقت الباب، وزرت الرّضا- عليه السّلام. ثمّ قمت عند رأسه، وصلّيت ما شاء اللّه- تعالى. وابتدأت في قراءة القرآن من أوّله. قال: فكنت أسمع صوتا بالقرآن كما أقرأ. فقطعت صوتي، ودرت  المشهد كلّه، وطلبت نواحيه. فلم أر أحدا. فعدت إلى مكاني، وأخذت في القراءة من أوّل القرآن. فكنت أسمع الصّوت كما أقرأ لا ينقطع. فسكتّ هنيئة  وأصغيت بأذني، فإذا الصّوت من القبر. فكنت أسمع مثل ما أقرأ، حتّى بلغت آخر [سورة]  مريم فقرأت: يَوْمَ نَحْشُرُ  الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً.فسمعت الصّوت من القبر: «يوم يحشر المتّقون إلى الرّحمن وفدا ويساق المجرمون إلى جهنّم وردا». حتّى ختمت القرآن، وختم.

فلمّا أصبحت، رجعت إلى نوقان، فسألت من بها من المقرءين عن هذه القراءة.

فقالوا: هذا في اللّفظ والمعنى مستقيم، لكنّا لا نعرف في قراءة أحد. قال: فرجعت إلى نيشابور، فسألت من بها من المقرءين عن هذه القراءة. فلم يعرفها أحد منهم. حتّى رجعت إلى الريّ، فسألت بعض المقرءين عن هذه القراءة، فقلت: من قرأ: «يوم يحشر المتّقون إلى الرّحمن وفدا ويساق المجرمون إلى جهنّم وردا»؟ فقال  لي: من أين جئت بهذا؟

فقلت: وقع لي احتياج إلى معرفتها في أمر حدث لي.

فقال: هذه قراءة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من رواية أهل البيت- عليه السّلام. ثمّ استحكاني السّبب الّذي من أجله سألت  عن هذه القراءة. فقصصت عليه القصّة، وصحّت لي القراءة.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أنا أوّل وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي، ثمّ أمّتي. ثمّ أسألهم: ما فعلتم بكتاب اللّه وبأهل بيتي؟

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبد اللّه بن شريك العامريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سأل عليّ- عليه السّلام- رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن تفسير قوله- عزّ وجلّ-: يَوْمَ نَحْشُرُ (الآية).

قال: يا عليّ، إنّ الوفد  لا يكون إلّا ركبانا. أولئك رجال اتّقوا اللّه- عزّ وجلّ- فأحبّهم [اللّه‏] ، واختصّهم، ورضي أعمالهم، فسمّاهم  المتّقين.

ثمّ قال: يا عليّ، أما والّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، إنّهم ليخرجون من قبورهم، وبياض وجوههم كبياض الثّلج. عليهم ثياب بياضها كبياض اللّبن. عليهم نعال الذّهب‏ [شراكها من لؤلؤ يتلألأ.

و في حديث آخر  قال: إنّ الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق الجنّة. عليها رحائل الذّهب‏]  مكلّلة بالدّرّ والياقوت. وجلالها الإستبرق والسّندس. وخطامها جذل  الأرجوان. وأزمّتهم من زبرجد. فتطير بهم إلى المحشر. مع كلّ رجل منهم ألف ملك من قدّامه [و عن يمينه‏]  وعن شماله، يزفّونهم [زفّا]  حتّى ينتهوا بهم إلى بابا الجنّة الأعظم.

و على باب الجنّة شجرة الورقة منها يستظلّ تحتها مائة ألف من النّاس. وعن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية.

قال: فيسقون منها شربة، فيطهّر اللّه- عزّ وجلّ- قلوبهم من الحسد، ويسقط عن أبشارهم الشّعر. وذلك قوله - عزّ وجلّ-: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً من تلك العين المطهّرة. ثمّ يرجعون إلى عين أخرى عن يسار الشّجرة، فيغتسلون منها، وهي عين الحياة.

فلا يموتون أبدا. ثمّ يوقف بهم قدّام العرش، وقد سلموا من الآفات والأسقام والحرّ والبرد [أبدا] .

قال: فيقول الجبّار- جلّ ذكره- للملائكة الّذين معهم: احشروا أوليائي إلى الجنّة، ولا تقفوهم مع الخلائق. فقد سبق رضائي عنهم، ووجبت لهم رحمتي. فكيف أريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات والسّيّئات؟! فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة. فإذا انتهوا إلى باب الجنّة الأعظم، ضربوا الملائكة الحلقة ضربة فتصرّ  صريرا. فيبلغ صوت صريرها كلّ حوراء خلقها اللّه- عزّ وجلّ- وأعدّها لأوليائه. فيتباشرن إذ سمعن  صوت صرير الحلقة، ويقول بعضهنّ  لبعض: قد جاءنا أولياء اللّه. فيفتح لهم الباب. فيدخلون الجنّة ويشرف عليهم أزواجهم من الحور العين والآدميّين فيقلن: مرحبا بكم، فما كان أشدّ شوقنا إليكم! ويقول لهنّ لهم أولياء اللّه‏

مثل ذلك.

فقال عليّ- عليه السّلام-: من هؤلاء يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: يا عليّ، هؤلاء شيعتك [و شيعتنا]  المخلصون في ولائك . وأنت إمامهم.

و هو قول اللّه- عزّ وجلّ-: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [على الرّحائل‏] .

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن محمّد بن إسحاق المدنيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- سئل عن هذه الآية. فقال: يا عليّ، إنّ الوفد لا يكون إلّا ركبانا- وذكر نحو ما في تفسير عليّ بن إبراهيم إلى قوله: ويقول لهم أولياء اللّه مثل ذلك.

و في محاسن البرقيّ : عنه، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان وغيره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: يحشرون على النجائب .

و في شرح الآيات الباهرة : عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن عبد اللّه بن شريك العامريّ، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ- عليه السّلام-: يا عليّ، يخرج يوم القيامة أقوام  من قبورهم، بياض وجوههم كبياض الثّلج. عليهم ثياب بياضها كبياض اللّبن. عليهم نعال الذّهب، شراكها من اللّؤلؤ  يتلألأ. فيؤتون بنوق من نور، عليها رحائل من ذهب، مكلّل بالدّرّ والياقوت. فيركبون عليها حتّى ينتهوا إلى [عرش‏]  الرّحمن، والنّاس في حساب يهتمّون ويغتمّون ، وهؤلاء يأكلون و. يشربون فرحون.

فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: من هؤلاء يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله؟فقال: يا عليّ، هم شيعتك. وأنت إمامهم. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً على الرّحائل وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً. وهم أعداؤك يساقون إلى النّار بلا حساب.

لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ:

الضّمير فيه للعباد المدلول عليها بذكر القسمين. وهو النّاصب لليوم [في قوله- تعالى-: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ‏] .

إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ، أي: إلّا من تحلّى بما يسعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة، من الأيمان والعمل الصّالح، على ما وعد اللّه. أو: إلّا من اتّخذ من اللّه إذنا فيها لقوله : لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ. من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا: إذا أمره به.

و محلّه الرّفع على البدل من الضّمير. أو النّصب على تقدير مضاف. أي: إلّا شفاعة من اتّخذ عند الرحمن عهدا. [أو على الاستثناء.

و قيل : الضمير ل «المجرمين». والمعنى: لا يملكون الشفاعة فيهم، إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهدا يستعدّ به أن يشفع له بالإسلام.] .

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن سلمة بن الخطّاب، عن الحسن بن عبد الرّحمن، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت: قوله: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. قال: إلّا من أتى  اللّه بولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده. فهو العهد عند اللّه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا جعفر بن أحمد، عن عبد اللّه  بن موسى، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية قال: لا يشفع  لهم، ولا يشفعون إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً إلّا من أذن‏له بولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده- صلوات اللّه عليهم. فهو العهد عند اللّه.

حدّثني  أبي، عن الحسن بن محبوب، عن سليمان بن جعفر، [عن أبيه‏] ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن أبيه، عن آبائه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من لم يحسن وصيّته عند موته، كان نقصا  في مروءته.

قلت: يا رسول اللّه، وكيف يوصي [الميّت‏]  عند الموت؟ قال: إذا حضرته الوفاة، واجتمع النّاس إليه، قال:

اللّهمّ يا فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، الرّحمن الرّحيم، إنّي أعهد إليك في دار الدّنيا أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت، وحدك لا شريك لك. وأنّ محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- عبدك ورسولك. وأنّ الجنّة حقّ. وأنّ النّار حقّ. وأنّ البعث حقّ. والحساب حقّ. والقدر والميزان حقّ. وأنّ الدّين كما وصفت. وأنّ الإسلام كما شرّعت. وأنّ القول كما حدّثت. وأن القرآن كما أنزلت. وأنّك أنت اللّه  [الملك‏]  الحقّ المبين. جزى اللّه محمّدا خير الجزاء. وحيّا اللّه محمّدا وآل محمّد بالسّلام.

اللّهم يا عدّتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدّتي، ويا وليّي في نعمتي، إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. فإنّك إن تكلني إلى نفسي ، كنت أقرب من الشّرّ وأبعد من الخير. [و اسرى في الفتن وحدي‏] . فآنس في القبر وحشتي. واجعل لي عهدا  يوم ألقاك منشورا.

ثمّ يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصيّة في سورة مريم- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. فهذا عهد الميّت.

و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم. [و حقّ عليه‏]  أن يحفظ هذه الوصيّة، ويتعلّمها .

و قال عليّ- عليه السّلام-: علّمنيها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقال:علّمنيها جبرئيل.

و في الكافي وتهذيب الأحكام  مثل هذه الوصيّة سواء.

 

و في جوامع الجامع : وعن ابن مسعود أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال لأصحابه ذات يوم: أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عند اللّه عهدا!؟ قالوا:

و كيف ذلك؟

قال: يقول: اللّهمّ فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت، وحدك لا شريك لك. وأنّ محمّدا عبدك ورسولك. وإنّك ان تكلني إلى نفسي، تقرّبني من الشّرّ، وتباعدني من الخير. وإنّي لا أثق إلّا برحمتك.

فاجعل لي عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة. إنّك لا تخلف الميعاد.

فإذا قال ذلك، طبع اللّه  عليه بطابع ويوضع»

 تحت العرش. فإذا كان يوم القيامة، نادى مناد: أين الّذين لهم عند اللّه  عهد فيدخلون الجنّة؟

 

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً : قيل : الضّمير يحتمل الوجهين. لأنّ هذا لمّا كان مقولا فيما بين النّاس، جاز أن ينسب إليهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا جعفر بن أحمد، عن عبد اللّه  بن موسى، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-

 قال: قلت: قوله- عزّ وجلّ-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. قال: [هذا]  حيث قالت قريش: إنّ للّه- عزّ وجلّ- ولدا. وإنّ الملائكة إناث . فقال اللّه- تبارك وتعالى- ردّا عليهم:

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا :

قال : أي عظيما.

و الالتفات للمبالغة في الذّمّ. أو التّسجيل عليهم بالجرأة على اللّه. والإدّ- بالكسر والفتح-: العظيم المنكر. والأدّة: الشّدّة. وأدّني الأمر وآدّني: أثقلني وعظم عليّ.

تَكادُ السَّماواتُ:

و قرئ  بالياء.

يَتَفَطَّرْنَ: يتشقّقن مرّة بعد أخرى مِنْهُ.

قال : يعني ممّا قالوه وممّا رموه به.

و قرئ : «ينفطرن». والأوّل أبلغ. لأنّ التّفعل مطاوع فعّل، والانفعال مطاوع فعل.

و لأنّ أصله للتّكلف.

وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ: تسقط ممّا قالوه، وممّا رموه به هَدًّا ، أي: سقوطا. أو: مهدودة ومكسورة. أو [تخرّ]  للهدّ ممّا قالوه.

و هو تقرير لكونه إدّا. والمعنى: انّ هول هذه الكلمة وعظمها، بحيث لو تصوّرت بصورة محسوسة، لم تتحمّلها هذه الأجرام العظام وتفتّتت من ثقلها. أو: انّ فضاعتها مجلبة لغضب اللّه، بحيث لولا حلمه، لخرّب العالم، وبدّد قوائمه، غضبا على من تفوّه بها.

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً :

يحتمل النّصب، على العلّة ل «تكاد»، أو ل «هدّا» على حذف اللّام، وإفضاء الفعل إليه. والجرّ، بإضمار اللّام، أو بالإبدال من الهاء في «منه». والرّفع، على أنّه خبر محذوف تقديره والموجب لذلك «أن دعوا» أو فاعل «هدّا». أي: هدّها دعاء الولدللرّحمن. وهو من «دعا» بمعنى «سمّى» المتعدّي إلى المفعولين. وإنّما اقتصر على المفعول الثّاني ليحيط بكلّ ما دعي له ولدا . أو من «دعا» بمعنى «نسب» الّذي مطاوعه ادّعى إلى فلان إذا انتسب إليه.

وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً : ولا يليق به اتّخاذ الولد، ولا يتطلّب له لو طلب مثلا لأنّه مستحيل.

و لعلّ في ترتيب الحكم بصفّة الرّحمانيّة الإشعار بأنّ كلّ ما عداه نعمة ومنعم عليه، فلا يجانس من هو مبدأ النّعم كلّها ومولى أصولها وفروعها: فكيف يمكن أن يتّخذه ولدا!؟

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي: ما منهم. إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً : إلّا وهو مملوك يأوي إليه بالعبوديّة والانقياد.

لَقَدْ أَحْصاهُمْ: حصرهم وأحاط بهم، بحيث لا يخرجون عن حوزة علمه وقبضته وقدرته، وَعَدَّهُمْ عَدًّا  أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم. فإنّ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ .

وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً :

قال في الحديث السّابق : واحدا واحدا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن إسحاق بن الهيثم، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ- عليه السّلام- أنّه قال: إنّ الشّجر لم يزل حصيدا  كلّه حتّى دعي للرّحمن ولد. عزّ  الرّحمن  وجلّ أن يكون له ولد. تَكادُ  السَّماواتُ أن يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. فعند ذلك اقشعرّ الشّجر، وصار له شوك، حذار أن ينزل به العذاب.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا :

سيحدث لهم في القلوب مودّة من غير تعرّض منهم لأسبهابها.قيل : والسّين، لأنّ السّورة مكّيّة، وكانوا مبغوضين ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم ذلك إذا دجا  الإسلام. أو لأنّ الموعد القيامة، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد، فينزع ما في صدورهم من الغلّ.

و روي  عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: إذا أحبّ اللّه عبدا يقول لجبرئيل:

أحببت فلانا، فأحببه . فيحبّه جبرئيل. ثمّ ينادي [في أهل السّماء] : إنّ اللّه قد أحبّ فلانا، فأحبّوه. فيحبّه أهل السّماء. ثمّ توضع له المحبّة في أهل  الأرض.

و الإيمان والعمل الصّالح، إنّما يمتاز بولاية أمير المؤمنين والأئمّة. يدلّ عليه ما

رواه عليّ بن إبراهيم  قال: روى فضّالة بن أيّوب، عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال: آمنوا بأمير المؤمنين- عليه السّلام- وعملوا الصّالحات بعد المعرفة. معناه: بعد المعرفة باللّه وبرسوله والأئمّة- صلوات اللّه عليهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  في الحديث السّابق متّصلا بقوله: «واحدا واحدا»:

قلت: قوله- عزّ وجلّ-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا.

قال: ولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام. هي الودّ الّذي ذكره اللّه- عزّ وجلّ.

و في أصول الكافي  بإسناده عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- [مثله، إلّا أنّ فيه:

هي الودّ الّذي قال اللّه.

و في تفسير العيّاشي : عن عمّار بن سويد قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام-]  يقول في هذه الآية : فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ- وذكر حديثا طويلا في آخره.

و دعا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لأمير المؤمنين- عليه السّلام- في آخرصلاته، رافعا بها صوته يسمع النّاس  يقول: اللّهمّ، هب لعليّ المودّة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين. فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (الآية). وفي الحديث تتمّة تأتي عند قوله : قَوْماً لُدًّا.

و في مجمع البيان : وفي تفسير أبي حمزة الثّماليّ: حدّثني أبو جعفر الباقر- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ: قل: اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا. فقال . فنزلت هذه الآية.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال الصّادق- عليه السّلام-: كان سبب نزول هذه الآية أنّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- كان جالسا بين يدي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. فقال له: قل يا عليّ: اللّهمّ اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا. فأنزل اللّه الآية.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى، عن محمّد بن زكريّاء، عن يعقوب بن جعفر بن سليمان عن عليّ بن عبد اللّه بن العبّاس، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذا الآية قال: نزلت في عليّ- عليه السّلام. فما من مؤمن إلّا وفي قلبه حبّ لعليّ بن أبي طالب- صلوات اللّه عليه، وعلى ذرّيّته الطّيّبين.

 فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ بأن أنزلناه بلغتك.

و الباء بمعنى «على» أو على أصله، لتضمّن «يسّرناه» معنى أنزلناه. [أي:

أنزلناه‏]  بلغتك.

لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ: الصّائرين إلى التّقوى.

وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا : أشدّاء الخصومة، آخذين في كلّ لديد- أي: شقّ من المراء- لفرط لجاجهم.

و في الحديث السّابق المنقول عن تفسر العيّاشيّ : وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا بني أميّة.

فقال رمع : واللّه لصاع من تمر في شنّ  بال أحبّ إليّ ممّا سأل [محمّد]  ربّه! أفلا سأله ملكا يعضده!؟ أو كنزا يستظهر به على فاقته!؟ فأنزل اللّه فيه عشر آيات من هود أوّلها :

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ (الآية).

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الصّادق- عليه السّلام- في قوله: قَوْماً لُدًّا قال: أصحاب الكلام والخصومة.

و في روضة الواعظين  للمفيد- رحمه اللّه- قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا. هو عليّ- عليه السّلام. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ. [قال: هو عليّ‏] . وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا. قال: بني أميّة، قوما ظلمة.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن سلمة بن الخطّاب، عن الحسن بن عبد الرّحمن، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت: قوله- تبارك وتعالى-: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا. قال: إنّما يسّره اللّه- عزّ وجلّ- على لسانه- صلّى اللّه عليه وآله- حين أقام أميرالمؤمنين- عليه السّلام- [علما] ، فبشّر به المؤمنين، وأنذر به الكافرين. وهم الّذين ذكرهم اللّه- تعالى- قَوْماً لُدًّا ، أي: كفّارا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله.

 

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ:

تخويف للكفرة، وتجسير للرّسول- صلّى اللّه عليه وآله على إنذارهم.

هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ: هل تشعر بأحد منهم وتراه؟

أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً :

و قرئ : «تسمع» من أسمعت.

و الرّكز: الصّوت الخفيّ. وأصل التّركيب هو الخفاء. ومنه: ركز الرّمح: إذا غيّب طرفه في الأرض. والرّكاز: المال المدفون.

و في الحديث السّابق المنقول عن تفسير عليّ بن إبراهيم  أنّه قال في بيان هذه الآية:

أهلك اللّه- عزّ وجلّ- من الأمم ما لا تحصون  فقال: يا محمّد هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً، أي: ذكرا. والحمد للّه.