سورة الأعراف الآية 1-20

سورة الأعراف قيل : مكّيّة إلّا ثمان آيات من قوله- تعالى-: وَسْئَلْهُمْ  إلى قوله- تعالى-:

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ .

و قيل : وكلّها محكم.

و قيل : إلّا قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ .

و آيها مائتان وخمس [أو ست‏]  آيات.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: من قرأ سورة الأعراف في كلّ شهر، كان يوم القيامة من الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فإن قرأها في كلّ جمعة، كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة. أما إنّ فيها محكما فلا تدعوا قراءتها، فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها.

و في مصباح الكفعميّ : عنه- صلّى اللّه عليه وآله-: من قرأها، جعل اللّه بينه وبين إبليس سترا . وكان آدم- عليه السّلام- شفيعا له يوم القيامة.المص : قد سبق الكلام في تأويله في أوّل سورة البقرة.

و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى سفيان بن سعيد الثّوريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث طويل: «و المص» معناه: أنا  اللّه المقتدر الصّادق.

و بإسناده  إلى سليمان بن الخضيب  قال: حدّثني ثقة قال: حدّثني أبو  جمعة  [رحمة]  بن صدقة قال: أتى رجل من بني أميّة- وكان زنديقا- جعفر بن محمّد فقال له:

قول اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه: المص. أيّ شي‏ء أراد بهذا، وأيّ شي‏ء فيه من الحلال والحرام، وأيّ شي‏ء فيه ممّا ينتفع به النّاس؟

قال: فاغتاظ - عليه السّلام- من ذلك فقال: أمسك، ويحك، «الألف» واحد، و«اللّام» ثلاثون، و«الميم» أربعون، و«الصّاد» تسعون. كم معك؟

فقال الرّجل: مائة وإحدى وستّون .

فقال- عليه السّلام-: إذا انقضت سنة إحدى وستّون  ومائة، ينقضي ملك أصحابك.

قال: فنظر، فلمّا انقضت إحدى وستّون  ومائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة  الكوفة وذهب ملكهم.

و في تفسير العيّاشيّ . خيثمة الجعفي ، عن أبي لبيد  المخزوميّ قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: يا أبا لبيد، إنّه يملك من ولد عبّاس إثنا عشر. ويقتل بعد الثّامن منهم أربعة، فتصيب أحدهم الذّبيحة ، هم فئة قصيرة أعمارهم، قليلة مدّتهم، خبيثةسيرتهم. منهم الفويسق  الملقّب بالهادي والنّاطق والغاوي  والمعادي.

يا أبا لبيد، إنّ لي في حروف القرآن المقطّعة لعلما جمّا. إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أنزل «الم، ذلك الكتاب» فقام محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-. حتّى ظهر نوره وتبتت كلمته وولد يوم ولد، وقد مضى من الألف السّابع مائة سنة وثلاث سنين.

ثمّ قال: وتبيانه في كتاب اللّه في الحروف المقطّعة إذا أعددتها  من غير تكرار.

و ليس من حروف مقطّعة حرف ينقضي أيّامه، إلّا وقائم من بني هاشم عند انقضائه.

ثمّ قال: «الألف» واحد، و«اللّام» ثلاثون، و«الميم» أربعون، و«الصّاد» تسعون. فذلك مائة وإحدى وستّون. ثمّ كان بدء  خروج الحسين- عليه السّلام- «الم، اللّه». فلمّا بلغت مدّته، قام قائم ولد العبّاس عند «المص». ويقوم قائمنا عند انقضائها [ «بالر»] . فافهم ذلك وعه  واكتمه .

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: أنّ حيّ  بن أخطب وأبا ياسر بن أخطب ونفرا من اليهود من أهل نجران أتوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقالوا له: أ ليس تذكر فيما أنزل إليك «الم»؟

قال: بلى.

قالوا: أتاك  بها جبرئيل من عند اللّه؟

قال: نعم.

قالوا: لقد بعث أنبياء قبلك، ما نعلم نبيّا منهم أخبرنا  مدّة ملكه وما أحلّ اللّه  غيرك.قال: فأقبل حيّ  بن أخطب على أصحابه فقال لهم: «الألف» واحد، و«اللّام» ثلاثون، و«الميم» أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. فعجّب ممّن يدخل في دين مدّة ملكه وأجل  أمّته إحدى وسبعون سنة! قال: ثمّ أقبل على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال له: يا محمّد، هل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قال: هاته.

قال: «المص».

قال: إنّها أثقل وأطول. «الألف» واحد، و«اللّام» ثلاثون، و«الميم» أربعون، و«الصّاد» تسعون، فهذه مائة وإحدى وستّون سنة.

ثمّ قال لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فهل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قال: هاته.

قال: «الر».

قال: هذا أثقل وأطول. «الألف» واحد، و«اللّام» ثلاثون، و«الرّاء» مائتان. فهل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قال: هاته.

قال: «المر».

قال: هذا أثقل وأطول. «الألف» واحد، و«اللّام» ثلاثون، و«الميم» أربعون، و«الرّاء» مائتان.

ثمّ قال: هل مع هذا غيره؟

قال: نعم.

قالوا: قد التبس علينا أمرك، فما ندري ما أعطيت. ثمّ قاموا عنه.ثمّ قال أبو ياسر لحيّ  أخيه: وما يدريك لعلّ محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- قد جمع هذا كلّه وأكثر منه.

فقال أبو جعفر- صلوات اللّه عليه-: إنّ هذه الآيات أنزلت فيهم «منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات». وهي تجري في وجوه أخر على غير ما تأوّل  به حيّ  وأبو ياسر وأصحابه.

كِتابٌ: خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب. أو خبر «المص». والمراد به، السّورة أو القرآن.

أُنْزِلَ إِلَيْكَ: صفة.

فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، أي: شكّ، فإنّ الشّكّ حرج الصّدر. أو ضيق قلب من تبليغه، مخافة أن تكذّب فيه أو تقصّر في القيام بحقّه.

و توجيه النّهي إليه، للمبالغة، كقولهم: لا أرينّك ها هنا.

و «الفاء» تحتمل العطف والجواب، فكأنّه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به، فلا يحرج صدرك.

و في مجمع البيان : وقد روي في الخبر: أنّ اللّه- تعالى- لمّا أنزل القرآن إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: إنّي أخشى أن يكذّبني النّاس ويقطعوا  رأسي، فيتركوه كالجزّة . فأزال اللّه- تعالى- الخوف عنه.

لِتُنْذِرَ بِهِ: متعلّق «بأنزل إليك»، أو ب «لا يكن». لأنّه إذا أيقن أنّه من عند اللّه، جسر على الإنذار. وكذا إذا لم يخف منهم، أو علم أنّه موفّق للقيام بتبليغه.

وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ : يحتمل النّصب بإضمار فعلها، أي: لتنذر به وتذكّر ذكرى. فإنّها بمعنى التّذكير.

و الجرّ، عطفا على محلّ «تنذر».

و الرّفع، عطفا على «كتاب»، أو خبرا لمحذوف.اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ: يعمّ القرآن والسّنّة، لقوله- تعالى-: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى.

وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ: يضلّونكم  من الجنّ والإنس.

و قيل : الضّمير في «من دونه» «لما أنزل»، أي: ولا تتّبعوا من دون دين اللّه دين أولياء.

و قرئ : «و لا تبتغوا ».

قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ، أي: تذكّرا  قليلا. أو زمانا قليلا تذكّرون، حيث تتركون دين اللّه وتتّبعون غيره.

و «ما» مزيدة لتأكيد القلّة. وإن جعلت مصدريّة، لم ينتصب «قليلا» «بتذكّرون».

و قرأ  حمزة والكسائيّ وحفص، عن عاصم: «تذكّرون» بحذف التّاء. وابن عامر «يتذكّرون» بالياء، على أنّ الخطاب بعد مع النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-.

و في تفسير العيّاشيّ : عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

 

قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- في خطبة: قال اللّه: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. ففي اتّباع ما جاءكم من اللّه الفوز العظيم، وفي تركه الخطأ المبين.

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ: وكثيرا من القرى.

أَهْلَكْناها: أردنا إهلاك أهلها. أو أهلكناها بالخذلان.

فَجاءَها: فجاء أهلها.

بَأْسُنا: عذابنا.

بَياتاً: بائتين، كقوم لوط. مصدر وقع موقع الحال.

أَوْ هُمْ قائِلُونَ : عطف عليه، أي: قائلين نصف النّهار، كقوم شعيب.

و إنّما حذفت «واو» الحال استثقالا، لاجتماع حرفي عطف. فإنّها «واو»عطف استعيرت للوصل، لا اكتفاء بالضّمير فإنّه غير فصيح.

و في التّعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم عن العذاب، ولذلك خصّ الوقتين.

و لأنّهما وقت دعة واستراحة، فيكون مجي‏ء العذاب فيهما أفظع.

فَما كانَ دَعْواهُمْ، أي: دعاؤهم واستغاثتهم. أو ما كانوا يدّعونه من دينهم.

إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ : إلّا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه، تحسّرا عليه.

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ: عن قبول الرّسالة وإجابتهم الرّسل.

وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ : عن تأدية ما حمّلوا من الرّسالة. والمراد من هذا السّؤال، توبيخ الكفرة وتقريعهم.

و المنفيّ في قوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال الاستعلام. أو الأوّل في موقف الحساب، وهذا عند حصولهم على العقوبة.

في كتاب الاحتياج  للطّبرسيّ: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في حديث: فيقام الرّسل، فيسألون عن تأدية الرّسالات  الّتي حملوها إلى أممهم. [فيخبرون أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أممهم‏] . وتسأل الأمم، فيجحدون ، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. (الحديث).

و قد مضى تمامه في سورة النّساء عند تفسير فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ .

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ: على الرّسل، حين يقولون: لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. أو على الرّسل والمرسل إليهم ما كانوا عليهم.

بِعِلْمٍ: عالمين بظاهرهم وبواطنهم. أو بمعلومنا منهم.

وَ ما كُنَّا غائِبِينَ : عنهم، فيخفى علينا شي‏ء من أحوالهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏. قال: الأنبياء عمّا حمّلوا من الرّسالة. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ. قال: لم نغب عن أفعالهم.

وَ الْوَزْنُ، أي: القضاء. أو وزن الأعمال، وهو مقابلتها بالجزاء.

و الجمهور، على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفّتان ينظر إليه الخلائق، إظهارا للمعدلة، وقطعا للمعذرة، كما هو يسألهم عن أعمالهم فتعترّف بها ألسنتهم ويشهد لها جوارحهم.

و يؤيّده ما روي: أنّ الرّجل يؤتى به إلى الميزان، فينشر عليه تسعة وتسعين سجّلا. كلّ سجّل مدّ البصر. فتخرج له بطاقة فيها كلمتا الشّهادة. فيوضع السّجلات في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السّجلّات وثقلت البطاقة.

و قيل : توزن الأشخاص، لما روي عنه- عليه السّلام- أنّه قال: ليأتي العظيم السّمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة.

يَوْمَئِذٍ: خبر المبتدأ الّذي هو «الوزن».

الْحَقُّ: صفة، أو خبر مبتدأ محذوف. ومعناه: العدل السّويّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : المجازاة بالأعمال، إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ.

قال وهو قوله: «فمن ثقلت» (الآية).

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ: حسناته، أو ما يوزن به حسناته. وجمعه، باعتبار اختلاف الموزونات وتعدّد الوزن. فهو جمع موزون، أو ميزان.

فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : الفائزون بالنّجاة والثّواب.

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ: بتضييع الفطرة السّليمة الّتي فطرت عليها، واقتراف ما عرّضها للعذاب.

بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ : فيكذّبون بدل التّصديق.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: بالأئمّة يجحدون.

و في كتاب الاحتجاج : عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه سئل: أو ليس توزن الأعمال؟قال: لا. لأنّ الأعمال ليست أجساما، وإنّما هي صفة ما عملوا. وإنّما يحتاج إلى وزن الشّي‏ء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفّتها. وإنّ اللّه لا يخفى عليه شي‏ء.

قيل: فما معنى الميزان؟

قال: العدل.

قيل: فما معناه في كتابه فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ؟

قال: فمن رجح عمله.

قيل : وسرّ ذلك، أنّ ميزان كلّ شي‏ء هو المعيار الّذي به يعرف قدر ذلك الشّي‏ء. فميزان النّاس يوم القيامة، ما يوزن به قدر كلّ إنسان وقيمته على حسب عقيدته وخلقه وعمله، لتجزى كلّ نفس بما كسبت. وليس ذلك إلّا الأنبياء والأوصياء، إذ بهم وباتّباع شرائعهم واقتفاء آثارهم وترك ذلك وبالقرب من سيرتهم والبعد عنها يعرف مقدار النّاس وقدر حسناتهم وسيّئاتهم. فميزان كلّ أمّة، هو  نبيّ تلك الأمّة ووصيّ نبيّها والشّريعة الّتي أتى بها. فمن ثقلت حسناته وكثرت فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ  فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بظلمهم عليها من جهة تكذيبهم للأنبياء والأوصياء وعدم اتّباعهم.

و في الكافي ، وفي معاني الأخبار ، عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه سئل عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ.

قال: هم الأنبياء والأوصياء.

و في رواية أخرى : نحن الموازين القسط.

و في مصباح الشّريعة : قال الصّادق- عليه السّلام- في كلام طويل: فإذا أردت أن تعلم أ صادق أنت أم كاذب، فانظر في قصد معناك وغور دعواك وعيّرهما  بقسطاس من اللّه- عزّ وجلّ-، كأنّك في القيامة. قال اللّه- تعالى-: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ. فإذا اعتدل‏معناك بدعواك، ثبت لك الصّدق.

و في كتاب الخصال : عن محمّد بن موسى  قال: سمعت [أبا عبد اللّه - عليه السّلام- يقول: إنّ الخير ثقل على أهل الدّنيا على قدر ثقله في موازينهم يوم القيامة، وإنّ الشّرّ خفّ على أهل الدّنيا على قدر خفّته في موازينهم يوم القيامة.

عن أبي مسلم  راعي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-]  يقول: خمس ما أثقلهنّ في الميزان: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلّا اللّه، واللّه أكبر، والولد الصالح يتوفّى لمسلم فيصبر ويحتسب.

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ، أي: مكّنّاكم من سكناها وزرعها والتّصرّف فيها.

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ: أسبابا تعيشون بها. جمع، معيشة.

و عن نافع ، أنّه همّزه تشبيها بما «الياء» فيه زائدة، كصحائف.

قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ : فيما صنعت إليكم.

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ:

قيل : أي: خلقنا أباكم آدم- عليه السّلام- طينا غير مصوّر، ثمّ صوّرناه. نزّل خلقه وتصويره، منزلة خلق الكلّ وتصويره. أو ابتدأنا خلقكم ثمّ تصويركم، بأن خلقنا آدم- عليه السّلام- ثمّ صوّرناه.

و الحامل على هذا التّخصيص قوله: «ثمّ قلنا» (الخ). ولا حاجة إليه، إذ يمكن أن يكون كلّمه.

 «ثمّ» لتأخير الإخبار.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : خَلَقْناكُمْ، أي: في أصلاب الرّجال.

و صَوَّرْناكُمْ، أي: في أرحام النّساء.

ثمّ قال: وصوّر ابن مريم في الرّحم دون الصّلب، وإن كان مخلوقا في أصلاب‏الأنبياء، ورفع وعليه مدرعة من صوف.

حدّثنا  أحمد بن محمّد عن جعفر بن عبد اللّه المحمّديّ قال: حدّثنا كثير بن عيّاش ، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أمّا خَلَقْناكُمْ، فنطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظما ثمّ لحما. وأمّا صَوَّرْناكُمْ، فالعين والأنف والأذنين والفم واليدين والرّجلين. صوّر هذا ونحوه، ثمّ جعل الدّميم  والوسيم  والجسيم  والطّويل والقصير وأشباه هذا.

ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ : ممّن سجد لآدم.

قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ، أي: أن تسجد.

و «لا» صلة مثلها في لئلّا يعلم، مؤكّدة معنى الفعل الّذي دخلت عليه، ومنبّهة على أنّ الموبّخ عليه ترك السّجود.

و قيل : الممنوع من الشّي‏ء مضطرّ إلى خلافه، فكأنّه قيل: ما اضطرّك إلى أن لا تسجد.

إِذْ أَمَرْتُكَ: دليل على أنّ مطلق الأمر للوجوب والفور.

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ: جواب من حيث المعنى استأنف به، استبعادا لأن يكون مثله مأمور بالسّجدة، كأنّه قال: المانع أنّي خير منه، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به. فهو الّذي سن القياس أوّلا، وتبعه فيه غيره.

خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ : تعليل لفضله  تفضّله عليه. وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كلّه باعتبار العنصر، وغفل مّا يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله- تعالى-: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ بغير واسطة. وباعتبار الصّورة، كما نبّه بقوله- تعالى-: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. وباعتبارالغاية، وهو ملاكه. ولذلك أمر الملائكة بسجوده له لما بيّن لهم أنّه أعلم منهم، وأنّ له خواصّ ليست لغيره.

و قيل : الآية دليل الكون والفساد، وأنّ الشّياطين أجسام كائنة. وفيه نظر، لأنّها إنّما تدلّ على الكون والفساد لو كان حدوث المركّبات بزوال صور البسائط، وليس كذلك، كما حقّق في موضعه. ولعلّ إضافة خلق الإنسان إلى الطّين والشّيطان إلى النّار، باعتبار الجزء الغالب.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن [الحسن بن‏]  عليّ بن يقطين، عن الحسين بن ميّاح ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ إبليس قاس نفسه بآدم فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. فلو قاس الجوهر الّذي خلق اللّه منه آدم- عليه السّلام- بالنّار، كان ذلك أكثر نورا وضياء من النّار.

و بإسناده  إلى داود بن فرقد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم، وكان في علم اللّه أنّه ليس منهم. فاستخرج ما في نفسه من الحميّة فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى جعفر بن محمّد بن عمارة  القرشيّ رفع الحديث قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه- عليه السّلام-.

فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس. قال: نعم، أنا أقيس.

قال: لا تقس، فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. فقاس ما بين النّار والطّين. ولو قاس نوريّة آدم- عليه السّلام- بنوريّة النّار،

من  عرف الفضل ما بين النّورين وصفاء أحدهما على الآخر. ولكن قس لي رأسك ، أخبرني عن أذنيك ما لهما مرّتان؟

قال: لا أدري.

قال: فأنت لا تحسن أن تقيس رأسك، [فكيف‏]  تقيس الحلال والحرام.

قال: يا ابن رسول اللّه، أخبرني ما هو؟

قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- جعل الأذنين مرّتين لئلّا يدخلهما شي‏ء إلّا مات، ولو لا ذلك لقتل ابن آدم الهوامّ. وجعل الشّفتين عذبتين  ليجد ابن آدم طعم الحلو والمرّ. وجعل العينين مالحتين لأنّهما شحمتان، ولولا ملوحتهما لذابتا. وجعل الأنف باردا سائلا لئلّا يدع في الرّأس داء إلّا أخرجه، ولولا ذلك لثقل الدّماغ وتدوّد.

و بإسناده  إلى ابن شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد- عليه السّلام- فقال لأبي حنيفة: اتّق اللّه ولا تقس الدّين برأيك، فإنّ أوّل من قاس إبليس.

أمره اللّه- عزّ وجلّ- بالسّجود لآدم، فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و بإسناده  إلى ابن أبي ليلى قال: دخلت أنا والنّعمان على جعفر بن محمّد- عليه السّلام- فرحّب بنا.

فقال: يا ابن أبي ليلى، من هذا الرّجل؟

قلت: جعلت فداك، هذا رجل من أهل الكوفة له رأي ونظر ونقاد.

قال: فلعلّه الّذي يقيس الأشياء برأيه. ثمّ قال: يا نعمان، إيّاك والقياس. فإنّ أبي حدّثني عن آبائه أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: من قاس شيئا في  الدّين برأيه، قرنه اللّه مع إبليس في النّار فإنّه أوّل من قاس حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.و بإسناده  إلى أبي زهير  شيب بن أنس ، عن بعض أصحاب  أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام- لأبي حنيفة: يا أبا حنيفة، إذا ورد  عليك شي‏ء ليس في كتاب اللّه ولم تأت به الآثار والسّنّة، كيف تصنع؟

قال: أصلحك اللّه، أقيس وأعمل فيه برأيي.

قال: يا أبا حنيفة، إنّ أوّل من قاس إبليس الملعون، قاس على ربّنا- تبارك وتعالى- فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

فسكت أبو حنيفة.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و بإسناده  إلى جعفر بن محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد- عليه السّلام- حديث طويل. يقول- عليه السّلام- في آخره: إنّ أمر اللّه- تعالى ذكره- لا يحمل على المقاييس. ومن حمل أمر اللّه على المقاييس، هلك وأهلك. إنّ أوّل معصية ظهرت، الأنانيّة من إبليس اللّعين حين أمر اللّه ملائكته بالسّجود لآدم فسجدوا وأبي [إبليس‏]  اللّعين أن يسجد. فقال اللّه- عزّ وجلّ-: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. فكان أوّل كفره قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثم قياسه بقوله:

خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.] . فطرده اللّه- عزّ وجلّ- عن جواره ولعنه وسمّاه رجيما. وأقسم بعزّته لا يقيس أحد في دينه، إلّا قرنه مع عدوّه إبليس في أسفل درك من النّار.

أبي - رحمه اللّه- قال: حدّثنا عبد اللّه بن جعفر الحميريّ، [عن أحمد بن محمد]  عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن محمّد الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ القبضة الّتي قبضها اللّه من الطّين الّذي خلق منه آدم- عليه السّلام- أرسل إليها جبرئيل- عليه السّلام- أن يقبضها.فقالت الأرض: أعوذ باللّه أن تأخذ منّي شيئا.

فرجع إلى ربّه، فقال: يا ربّ، تعوّذت بك منّي.

فأرسل إليها إسرافيل، فقالت له مثل ذلك.

فأرسل إليها ميكائيل، فقالت له مثل ذلك.

فأرسل إليها ملك  الموت، فتعوّذت باللّه منه أن يسبي  منها شيئا.

فقال ملك الموت: وأنا أعوذ باللّه أن أرجع إليه حتّى أقبض منك.

قال: وإنّما سمّي آدم: آدم، لأنّه خلق من أديم الأرض.

و بإسناده  إلى [عبد اللّه بن‏]  يزيد بن سلام، أنّه سأل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: آدم خلق من الطّين كلّه أو من طين واحد؟

فقال: بل من الطين كلّه. ولو خلق من طين واحد، لما عرف النّاس بعضهم بعضا وكانوا على صورة واحدة.

قال: فلهم في الدّنيا مثل؟

قال : التّراب فيه أبيض، وفيه أخضر، وفيه أشقر، وفيه أغبر، وفيه أحمر، وفيه أزرق، وفيه عذب، وفيه ملح، وفيه خشن، وفيه ليّن، وفيه أصهب. فلذلك صار النّاس فيهم ليّن، وفيهم خشن، وفيهم أبيض، وفيهم أصفر وأحمر وأصهب وأسود على ألوان التّراب.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، عن صالح بن أبي حمّاد، عن الحسن بن زيد ، عن الحسن  بن عليّ بن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- لمّا أراد أن يخلق آدم- عليه السّلام- بعث جبرئيل- عليه السّلام- في أوّل ساعة من يوم الجمعة. فقبض بيمينه قبضة [بلغت قبضته‏]  من السّماء السّابعة إلى‏السّماء الدّنيا وأخذ من كلّ سماء تربة، وقبض قبضة أخرى من الأرض السّابعة العليا إلى الأرض السّابعة القصوى.

فأمر اللّه- عزّ وجلّ- كلمته ، فأمسك القبضة الأولى بيمينه والقبضة الأخرى بشماله. ففلق الطّين فلقتين، فذرا من الأرض ذروا  ومن السّموات ذروا. فقال للّذي بيمينه: منك الرّسل والأنبياء والأوصياء والصّدّيقون والمؤمنون والسّعداء ومن أريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال. وقال للّذي بشماله: منك الجبّارون والمشركون والكافرون والطّواغيت ومن أريد هوانه وشقوته، فوجب لهم ما قال كما قال. ثمّ أنّ الطّينتين خلطتا جميعا.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عنه- عليه السّلام-: كذب إبليس [لعنه اللّه يا إسحاق‏]  ما خلقه اللّه [إلّا]  من طين. قال اللّه- عزّ وجلّ-: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً  قد خلقه اللّه من تلك النّار، و[النار]  من تلك الشّجرة، والشّجرة أصلها من طين.

قالَ فَاهْبِطْ مِنْها: من السّماء، أو الجنّة، أو من المنزلة الّتي أنت عليها.

فَما يَكُونُ لَكَ: فما يصحّ.

أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها: وتعصي، فإنّها مكان الخاشع المطيع. وفيه تنبيه على أنّ التّكبّر لا يليق بأهل الجنّة، وأنّه- تعالى- إنّما طرده وأهبطه لتكبّره لا لمجرّد عصيانه.

فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ : ممن أهانه اللّه- تعالى- لتكبّره.

قال  النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: من تواضع للّه، رفعه اللّه، ومن تكبّر، وضعه اللّه.

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ : أمهلني إلى يوم القيامة. فلا تمتني، ولا تعجّل عقوبتي.

قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ : يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهرا، لكنّه‏محمول على ما جاء مقيّدا بقوله- تعالى-: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النّفخة الأولى.

و يوم البعث والقيامة، هو النّفخة الثّانية.

في كتاب العلل : عن الصّادق- عليه السّلام-: يموت إبليس ما بين النّفخة الأولى والثّانية.

و في- تفسير العيّاشي : عنه- عليه السّلام-: أنظره  إلى يوم يبعث فيه قائمنا.

و في إسعافه إليه، ابتلاء للعباد وتعريضهم للثّواب بمخالفته.

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي، أي: بعد أن أمهلتني لأجهدن  في اغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب اغوائك إيّاي بواسطتهم، تسمية أو حملا على المعنى أو تكليفا بما غويت لأجله.

و «الباء» متعلّقة بفعل القسم المحذوف لا «بأقعدنّ»، فإن «اللّام» تصدّ عنه.

و قيل : «الباء» للقسم.

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ: ترصّدا بهم، كما يقعد القطّاع للسّابلة.

صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ :

قيل : طريق الإسلام. ونصبه على الظّرف، كقوله:

         كما عسل الطّريق الثّعلب‏

 

 وقيل : تقديره: على صراطك، كقولهم: ضرب زيد الظّهر والبطن.

و في تفسير العيّاشي : عن الصّادق- عليه السّلام-: الصّراط هنا  عليّ- عليه السّلام-.

و في الكافي : عن الباقر- عليه السّلام-: يا زرارة، إنّما عمد  لك ولأصحابك.

فأمّا الآخرون، فقد فرغ منهم.و في رواية العيّاشيّ : إنّما صمد .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، أي:

من جميع الجهات، مثل قصده إيّاهم بالتّسويل والإضلال من أيّ وجه يمكنه بإتيان العدوّ من الجهات الأربع. ولذلك لم يقل: من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

و قيل : لم يقل: من فوقهم، لأنّ الرّحمة تنزل  منه. ولم يقل: من تحتهم، لأن الإتيان  منه يوحش [الناس‏] .

و عن ابن عبّاس  مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الآخرة. وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الدّنيا. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جميع جهة حسناتهم وسيّئاتهم.

و قيل : يحتمل أن يقال: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من حيث يعلمون ويقدرون على التّحرّز عنه. وَمِنْ خَلْفِهِمْ من حيث لا يعلمون ولا يقدرون. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من حيث يتيسّر  لهم أن يعلموا ويتحرّزوا، ولكن لم يفعلوا لعدم تيقّظهم واحتياطهم.

و إنّما عديّ الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء، لأنّه منهما متوجّه إليهم. وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة، فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عرضهم. ونظيره قولهم: جلست عن يمينه.

و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ.

معناه: أهوّن عليهم أمر الآخرة. وَمِنْ خَلْفِهِمْ آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضّلالة وتحسين الشّبهة. وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بتحبيب اللّذّات إليهم، وتغليب  الشّهوات على قلوبهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، ما يقرب منه ببيان أبسط.و في نهج البلاغة ، من كتاب له- عليه السّلام- إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أنّ معاوية قد كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه: وقد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ  لبّك ويستفلّ غربك  فاحذره، فإنّما هو الشّيطان يأتي المرء من  بين يديه ومن خلفه وعن  يمينه وعن  شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرّته.

وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ : مطيعين. وإنّما قاله ظنّا لقوله- تعالى-:

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ لمّا رأى فيهم  مبدأ الشّرّ متعدّدا، ومبدأ الخير واحدا.

و قيل : سمعه من الملائكة.

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً: مذموما. من ذأمه: إذا ذمّه.

و قرئ : «مذوما» ، كمسول، في مسؤول. أو كمكول ، في مكيل. من ذامه يذيمه  ذيما.

مَدْحُوراً: مطرودا.

لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ:

 «اللّام» فيه لتوطئة القسم. وجوابه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ .

و هو سادّ مسدّ جواب الشّرط.

و قرئ : «لمن» بكسر اللّام، على أنّه خبر «لأملأنّ» على معنى: لمن تبعك هذا الوعيد. أو علّة «لأخرج»، و«لأملأنّ» جواب قسم محذوف. ومعنى «منكم»:

منك ومنهم، فغلّب المخاطب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الصّادق- عليه السّلام- في قوله- تعالى-:

فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ.

فقال إبليس: يا ربّ، فكيف وأنت العدل الّذي لا تجور، فثواب عملي  بطل؟

قال: لا، ولكن سلني من أمر الدّنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك.

فأوّل ما سأل البقاء إلى يوم الدّين.

فقال اللّه: قد أعطيتك.

قال: سلّطني على ولد آدم.

قال: سلّطتك.

قال: أجرني فيهم مجرى الدّم في العروق.

قال: قد أجريتك.

قال: لا يولد  لهم واحد إلّا ولد  لي اثنان، وأراهم ولا يروني، وأتصوّر لهم في كلّ صورة شئت.

قال: قد أعطيتك.

قال: يا ربّ، زدني.

قال: قد جعلت لك [و لذريّتك‏]  صدورهم أوطانا.

قال: ربّ، حسبي. قال إبليس عند ذلك: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ- إلى قوله-: شاكِرِينَ.

قال :

و حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لمّا أعطى اللّه- تعالى- إبليس ما أعطاه من القوّة، قال آدم- عليه السّلام-: يا ربّ، سلّطت إبليس على ولدي وأجريته فيهم مجرى الدّم في العروق وأعطيته ما أعطيته، فما لي ولولدي؟

فقال: لك ولولدك السّيّئة بواحدة، والحسنة بعشر أمثالها.

قال: يا ربّ، زدني.

قال: التّوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النّفس الحلقوم.

فقال: يا ربّ، زدني.قال: أغفر ولا أبالي.

قال: حسبي.

قال: قلت له: جعلت فداك، بماذا استوجب إبليس من اللّه أن أعطاه ما أعطاه؟

فقال: بشي‏ء  كان منه شكره اللّه عليه.

قلت: وما كان منه، جعلت فداك.

قال: ركعتين ركعهما في السّماء في أربعة آلاف سنة.

وَ يا آدَمُ، أي: وقلنا: يا آدم.

اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ.

و قرئ : «هذي» . وهو الأصل، لتصغيره على «ذيا». و«الهاء» بدل من الياء.

فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ : فتصيرا من الّذين ظلموا أنفسهم.

 «فتكونا» يحتمل الجزم، على العطف. والنّصب، على الجواب.

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ، أي: فعل الوسوسة لأجلهما. وهي في الأصل:

الصّوت الخفيّ، كالهينمة  والخشخشة . ومنه: وسوس الحليّ وسوسة. وقد سبق في البقرة كيفيّة وسوسته.

و الفرق بين وسوسه ووسوس له، أنّ الأوّل بمعنى: ألقى إلى قلبه المعنى وبصوت خفيّ. والثّاني، أنّه أوهمه النّصيحة له بذلك.

لِيُبْدِيَ لَهُما: ليظهر لهما.

و «اللّام» للعاقبة. أو للغرض على أنّه أراد- أيضا- بوسوسته أن يسوأهما بانكشاف عورتيهما، ولذلك عبّر عنهما بالسّوءة. وفيه دليل على أنّ كشف العورة في الخلوة وعند الزّوج من غير حاجة، قبيح مستهجن في الطّباع.

ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما: ما غطّي عنهما من عوراتهما. وكانا لايريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وإنّما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور، كما قلبت الواو في «أو يصل» تصغير «واصل» لأنّ الثّانية مدّة.

و قرئ : «سوآتهما» بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الواو، وبقلبها واوا، وإدغام الواو السّاكنة فيها.

وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا: إلّا كراهة أن تكونا.

مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ : الّذين لا يموتون، أو يخلدون في الجنّة.

و استدلّ به على فضل الملائكة على الأنبياء- عليهم السّلام-.

و جوابه: أنّه كان من المعلوم أنّ الحقائق لا تنقلب، وإنّما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما- أيضا- ما للملائكة من الكمالات الفطريّة والاستغناء عن الأطعمة والأشربة. وذلك لا يدلّ على فضلهم مطلقا.