سورة الشّعراء الآية 41-60

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ  قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ :

التزم لهم الأجر والقربة عنده، زيادة عليه إن غلبوا. ف «إذا» على ما يقتضيه من الجواب والجزاء.

و قرئ : «نعم» بالكسر. وهما لغتان.

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، أي بعد ما قالوا له: «إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين».  ولم يرد به أمرهم بالسّحر والتّمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسّلا به إلى إظهار الحقّ.

فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ :

أقسموا بعزّته على أنّ الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السّحر.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ثمّ قال فرعون للملإ حوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ- إلى قوله تعالى-: لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.

فكان فرعون وهامان قد تعلّما السّحر، وإنّما غلبا النّاس بالسّحر، وادّعى الرّبوبيّة بالسّحر.

فلمّا أصبح، بعث في المدائن حاشرين، مدائن مصر كلّها. وجمعوا ألف ساحر.

و اختاروا من الألف، مائة. ومن المائة، ثمانين. فقال السّحرة لفرعون: قد علمت أنّه ليس في الدّنيا أسحر منا. فإن غلبنا موسى، فما يكون لنا عندك. «قال: إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي، أشارككم في ملكي. قالوا: فإن غلبنا موسى وأبطل سحرنا، علمنا أنّ ما جاء به ليس من قبل السّحر ولا من قبل الحيلة، وآمنّا به وصدّقناه. فقال فرعون: إن غلبكم موسى- عليه السّلام- صدّقته أنا أيضا معكم، ولكن أجمعوا كيدكم، أي: حيلتكم.

قال: وكان موعدهم يوم عيد لهم. فلمّا ارتفع النّهار من ذلك اليوم، وجمع فرعون النّاس والسّحرة. وكانت له قبّة طولها في السّماء ثمانون ذراعا. وقد كانت كسيت بالحديد والفولاذ المصقول. فكانت إذا وقعت الشّمس عليها، لم يقدر أحد أن ينظر إليها من لمع الحديد ووهج الشّمس.

و جاء فرعون وهامان وقعدا عليها ينظران، وأقبل موسى- عليه السّلام- ينظر إلى السّماء. فقالت السّحرة لفرعون: إنّا نرى رجلا ينظر إلى السّماء، ولن يبلغ سحرنا إلى السّماء، وضمنت السّحرة من في الأرض. فقالوا لموسى- عليه السّلام-: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ  قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ. فأقبلت تضطرب وصارت مثل الحيّات، وهاجت. وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ.

و في جوامع الجامع : وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ. أقسموا بعزّة فرعون، وهي  من أقسام الجاهليّة. وفي الإسلام لا يصحّ الحلف إلّا باللّه- تعالى- أو بعض  أسمائه وصفاته.

و في الحديث: لا تحلفوا إلّا باللّه. ولا تحلفوا باللّه، إلّا وأنتم صادقون.

و في أصول الكافي  بإسناده إلى محمّد بن زيد الطّبريّ قال: كنت قائما على رأس الرضا- عليه السّلام- بخراسان، وعنده عدّة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن‏عيسى العبّاسيّ. فقال: يا إسحاق، بلغني أنّ النّاس يقولون إنّا نزعم أنّ النّاس عبيد لنا! لا وقرابتي من رسول اللّه، ما قلته قطّ. ولا سمعته [من أحد]  من آبائي قاله. ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله. ولكنّي أقول: النّاس عبيد لنا في الطّاعة، موال لنا في الدّين. فليبلّغ الشّاهد الغائب.

فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ: تبتلع.

و قرأ  حفص: «تلقف» بالتّخفيف.

ما يَأْفِكُونَ : ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم، فيخيّلون حبالهم وعصيّهم أنّها حيّات تسعى. أو: إفكهم، تسمية للمأفوك به مبالغة.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ : لعلمهم بأنّ مثله لا يتأتّى بالسّحر.

و فيه دليل على أنّ منتهى السّحر، تمويه وتزويق ، يخيّل شيئا لا حقيقة له. وأنّ التبّحر في كلّ فنّ نافع.

و إنّما بدّل الخرور بالإلقاء، ليشاكل ما قبله. ويدلّ على أنّهم لمّا رأوا [ما رأوا] ، لم يتمالكوا أنفسهم، كأنّهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنّه- تعالى- ألقاهم بما خولّهم من التّوفيق.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ :

بدل من «ألقي» بدل الاشتمال. أو حال بإضمار قد.

رَبِّ مُوسى وَهارُونَ :

إبدال للتّوضيح ودفع التوهّم، والإشعار على أنّ الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما.

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فعلّمكم شيئا دون شي‏ء. ولذلك غلبكم أو أفوادعكم  على ذلك وتواطأتم عليه.

أراد به التلبيس على قومه، كي لا يعتقدوا أنّهم آمنوا عن بصيرة وظهور حقّ.

و قرأ  حمزة والكسائي وأبو بكر وروح «أ آمنتم» بهمزتين.فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم. وقوله:

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ  بيان له.

قالُوا لا ضَيْرَ: لا ضرر علينا في ذلك.

إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ، بما توعدنا به، فإنّ الصّبر عليه محاء للذّنوب، موجب للثّواب والقرب من اللّه. أو: بسبب من أسباب الموت وقتلك أنفعها وأرجاها.

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا: لأن كنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ : من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد.

و الجملة في المعنى، تعليل ثان لنفي الضّير، أو تعليل للعلة المتقدّمة.

و قرئ : «أن كنّا» على الشّرط، لهضم النّفس وعدم الثّقة بالخاتمة. أو على طريقة المدلّ بأمره، نحو: «إن أحسنت إليك، فلا تنس حقّي».

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فألقى موسى عصاه، فذابت في الأرض مثل الرّصاص.

ثمّ طلع رأسها وفتحت فاها، ووضعت شدقها العليا على رأس قبّة فرعون. ثمّ دارت وأرخت شفتها السّفلى والتقمت عصيّ السّحرة وحبالهم. [و غلب كلّهم‏] . وانهزم النّاس حين رأوها، وعظمها وهولها ممّا لم تر العين ولا وصف الواصفون مثله.

قيل: فقتل في الهزيمة من وطء النّاس [بعضهم بعضا]  عشرة آلاف رجل وامرأة وصبيّ، ودارت على قبة فرعون.

قال: فأحدث فرعون وهامان في ثيابهما وشاب رأسهما، وغشي عليهما من الفزع، ومرّ موسى- عليه السّلام- في الهزيمة مع النّاس. فناداه اللّه - عزّ وجلّ-: خُذْها وَلا تَخَفْ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى.

فرجع موسى- عليه السّلام- ولفّ على يده عباء كانت عليه. ثمّ أدخل يده في فمها، فإذا هي عصا كما كانت. فكان كما قال اللّه عزّ وجلّ: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لمّا رأوا ذلك. قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.فغضب فرعون عند ذلك غضبا شديدا، وقالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ موسى- عليه السّلام- الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. فقالوا له كما حكى اللّه- عزّ وجلّ-: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.

فحبس فرعون من آمن بموسى- عليه السّلام- [في السّجن‏]  حتّى أنزل اللّه- عزّ وجلّ- عليهم الطّوفان والجراد والقمل والضّفادع والدّم. فأطلق فرعون عنهم.

فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ.

فخرج موسى- عليه السّلام- ببني إسرائيل ليقطع بهم البحر. وجمع فرعون أصحابه وبعث في المدائن حاشرين. وحشر النّاس، وقدّم مقدّمته في ستّمائة ألف، وركب هو في ألف ألف، وخرج كما حكى اللّه- عزّ وجلّ-.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي:

و ذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحقّ ويظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلّا عتوّا وفسادا.

و قراء  ابن كثير وابن نافع: «أن أسر»- بكسر النّون ووصل الألف- من سرى.

و قرئ : «أن سر». من السّير.

إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ : يتبعكم فرعون وجنوده.

و هو علّة الأمر بالإسراء. أي: أسر بهم حتى إذا اتّبعوكم مصبحين، كان لكم تقدّم عليهم، بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر، فيدخلون مدخلكم، فأطبقه عليهم فأغرقهم.

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسراهم.

فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ  العساكر ليتّبعوهم.

إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ :

على إرادة القول. وإنّما استقلّهم- وكانوا ستّمائة وسبعين ألفا- بالإضافة إلى‏

جنوده، إذ نقل أنّه خرج وكانت مقدّمته ستّمائة  ألف.

و «الشّرذمة»: الطّائفة القليلة. ومنها: ثوب شراذم: لما بلي وتقطّع. و«قليلون»، باعتبار أنّهم أسباط، كلّ سبط منهم قليل.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، يقول: عصبة قليلة.

و في أصول الكافي  بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، يقول- عليه السّلام- في آخره: إنّ اللّه خلق أقواما لجهنّم والنّار. فأمرنا أن نبلّغهم كما بلّغناهم. واشمأزّوا من ذلك، ونفرت قلوبهم. وردّوه علينا، ولم يحتملوا، وكذّبوا به، وقالوا: ساحر كذّاب! فطبع اللّه على قلوبهم وأنساهم ذلك.

ثمّ أطلق اللّه لسانهم ببعض الحقّ، فهم ينطقون وقلوبهم منكرة، ليكون ذلك دفعا عن أوليائه وأهل طاعته. ولولا ذلك، ما عبد اللّه في أرضه. فأمرنا بالكفّ عنهم والسّتر [و الكتمان. فاكتموا عمّن أمر اللّه بالكفّ عنه، واستروا عمّن أمر اللّه بالسّتر]  والكتمان عنه.

قال: ثمّ رفع يده وبكى وقال: اللّهمّ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. فاجعل محيانا محياهم، ومماتنا مماتهم. ولا تسلّط عليهم عدوّا لك فتفجعنا بهم. فإنّك إن فجعتنا  بهم، لم تعبد أبدا في أرضك. وصلّى اللّه على محّمد وآله وسلّم-.

وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ : لفاعلون ما يغيظنا.

وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ : وإنّا لجمع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور.

أشار أوّلا إلى عدم ما يمنع اتّباعهم من شوكتهم، ثمّ إلى تحقّق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التّيقّظ في شأنهم حثّا عليه. أو اعتذار بذلك إلى أهل المدائن، كي لا يظنّ به ما يكسر سلطانه.و قرأ  ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيّون: «حاذرون». والأوّل للثّبات والثّاني للتّجدّد.

و قيل : الحاذر، المودّي في السّلاح. وهو أيضا من الحذر، لأنّ ذلك إنّما يفعل حذرا.

و قرئ: «حادرون»  بالدّال، أي: أقوياء .

فَأَخْرَجْناهُمْ: بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السّبب، فحملتهم عليه.

مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ  وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، يعني: المنازل الحسنة والمجالس البهيّة.

كَذلِكَ، مثل ذلك الإخراج، أخرجنا. فهو مصدر. أو: مثل ذلك المقام الّذي كان لهم، على أنّه صفة مقام. أو: الأمر كذلك. فيكون خبرا لمحذوف.

وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ  فَأَتْبَعُوهُمْ:

و قرئ : فاتّبعوهم».

مُشْرِقِينَ : داخلين في وقت شروق الشّمس‏] .