سورة الفرقان الآية 41-60

وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً: ما يتّخذونك إلّا موضع هزء، أو مهزوء به.

أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا  محكيّ بعد قول مضمر. والإشارة للاستحقار. وإخراج بعث اللّه رسولا في معرض التّسليم، يجعله صلة. وهم على غاية الإنكار تهكّم واستهزاء. ولولاه، لقالوا: أ هذا الّذي زعم أنّه بعثه اللّه رسولا!؟

إِنْ كادَ: إنّه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا: ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدّعاء إلى التّوحيد، وكثرة ما يورد ممّا يسبق إلى الذّهن أنّها حجج ومعجزات.

لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها: ثبتنا عليها. واستمسكنا بعبادتها.

وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا .

وعيد لهم، وتنبيه على أنّه لا يهملهم، وإن أمهلهم.

أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ: بأن أطاعه.

و قدّم المفعول الثّاني للعناية به. والاستفهام للتّقرير والتّعجيب.

أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا : حفيظا، تمنعه عن الشّرك والمعاصي.

و حاله هذا. والاستفهام للإنكار.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: نزلت في قريش. وذلك أنّه ضاق عليهم المعاش،فخرجوا من مكّة وتفرّقوا. فكان الرّجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجرا حسنا، هواه، فعبده.

و كانوا ينحرون لها النّعم ويلطّخونها بالدّم، ويسمّونها سعد صخرة.

و كان إذا أصابهم داء في إبلهم وأغنامهم، جاؤوا إلى الصّخرة، فيمسحون بها الغنم والإبل. فجاء رجل من العرب بإبل له يريد أن يمسح  بالصّخرة إبله ويتبارك  عليها.

فنفرت إبله، فتقرّقت. فقال الرّجل شعرا.

         أتيت إلى سعد ليجمع شملنا             فشتّتنا سعد فما نحن من سعد

 

         وما سعد إلّا صخرة مستوية             من الأرض لا تهدي لغيّ ولا رشد

 ومرّ به رجل من العرب، والثّعلب يبول عليه. فقال شعرا:

         وربّ يبول الثّعلبان برأسه             لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب‏

 أَمْ تَحْسَبُ: بل أ تحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، فتجدي لهم الآيات أو الحجج، فتهتمّ بشأنهم وتطمع في إيمانهم.

و تخصيص الأكثر، لأنّه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحقّ وكابر استكبارا وخوفا على الرّئاسة.

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم، وعدم تدبّرهم فيما شاهدوا من الدّلائل والمعجزات.

بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا  من الأنعام. لأنّها تنقاد لمن يتعهدّها وتميّز من يحسن إليها ممّن يسي‏ء إليها، وتطلب ما ينفعها وتتجنّب ما يضرّها، وهؤلاء ليسوا كذلك.

و لأنّها إن لم تعتقد حقّا، ولم تكتسب خيرا، لم تعتقد باطلا، ولم تكتسب شرّا، بخلاف هؤلاء. ولأنّ جهالتها لا تضرّ بأحد، وجهالة هؤلاء تؤدّي إلى هيج الفتن وصدّ النّاس عن الحقّ. ولأنّها غير متمكّنة من. طلب الكمال، فلا تقصير منها ولا ذمّ، وهؤلاء مقصّرون، مستحقّون لأعظم العقاب على تقصيرهم.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، رفعه‏

 

عن محمّد بن داود الغنويّ، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام-: فأمّا أصحاب المشأمة، فهم اليهود والنّصارى. يقول اللّه - عزّ وجلّ-: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ: يعرفون محمّدا والولاية في التّوراة والإنجيل، كما يعرفون أبناءهم في منازلهم. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أنّك الرّسول إليهم. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.

فلمّا جحدوا ما عرفوا، ابتلاهم اللّه بذلك، فسلبهم روح الإيمان، وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح: روح القوّة، وروح الشّهوة، وروح البدن. ثمّ أضافهم إلى الأنعام، فقال: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ. لأنّ الدّابّة إنّما تحمل روح القوّة، وتعتلف بروح الشّهوة، وتسير بروح البدن.

و في روضة الكافي : ابن محبوب، عن عبد اللّه بن غالب، عن أبيه عن سعيد بن المسيّب، قال: سمعت عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- يقول: إنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- فقال: أخبرني إن كنت عالما عن النّاس، وعن أشباه الناس. وعن النّسناس. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا حسين، أجب الرجل. فقال الحسين عليه السّلام- إلى قوله :

أمّا قولك: النّسناس، فهم السّواد الأعظم- وأشار بيده إلى جماعة النّاس. ثمّ قال:

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب الخصال ، عن أبي يحيى الواسطيّ، عمّن ذكره، أنّه قيل  لأبى عبد اللّه- عليه السّلام- أ ترى هذا الخلق كلّه من النّاس؟ فقال:

ألق منهم التّارك للسّواك، والمتربّع في موضع الضّيق، والدّاخل فيما لا يعنيه، والمماري فيها لا علم له، والمستمرض  من غير علّة، والمستشعث  من غير مصيبة، والمخالف‏على أصحابه في الحقّ، وقد اتّفقوا عليه، والمفتخر  بآبائه، وهو خلو من صالح أعمالهم. فهو بمنزلة الخلنج  يقشر لحاء عن لحاء حتّى يوصل إلى جوهريّته. وهو كما قال اللّه تعالى:

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ: ألم تنظر إلى صنعه؟

كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ: كيف بسطه؟! أو: ألم تنظر إلى الظّلّ، كيف مدّه ربّك على القلب؟

و قيل : معناه: ألم تعلم؟ فيكون من رؤية القلب.

و قيل : المراد الظّلّ من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس. وجعله ممدودا عليه [لأنّه لا شمس معه. كما قيل في ظلّ الجنّة ممدودا ]  إذا لم يكن معه الشمس.

و قيل : مدّ الظّلّ من وقت غروب الشّمس إلى وقت طلوعها.

و قال أبو عبيدة : الظّلّ ما نسخته الشّمس، وهو بالغداة. والفي‏ء ما نسخ الشّمس، وهو بعد زوال الشّمس. وسمّي فيئا، لأنّه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ- أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ. فقال: الظّلّ، ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس.

وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً: ثابتا. من السّكنى. أو: غير متقلّص- من السّكون- بأن يجعل الشّمس مقيمة على وضع واحد.

و في هذا إشارة إلى أنّه قادر على تسكين الشّمس، حتّى يبقى الظّلّ ممدودا، بخلاف ما يقوله الفلاسفة.

ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ، أي: على الظّل دليلا.

قيل : بمعنى أنّه لو لا الشّمس، لما عرف الظّل. ولو لا النّور، لما عرفت الظّلمة.و كلّ الأشياء تعرف بأضدادها.

و قيل : جعلنا الشّمس عليه دليلا، بإذهابها إيّاه عند مجيئها.

و قيل : لأنّ الظّل يتبع الشّمس في طوله وقصره، كما يتبع السّائر الدّليل. فإذا ارتفعت الشّمس، قصر الظّلّ. وإذا انحطّت الشّمس، طال الظّلّ.

و قيل : إنّ «على» هنا بمعنى «مع». فالمعنى: ثمّ جعلنا الشّمس مع الظّلّ دليلا على وحدانيّتنا.

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا، أي: أزلناه بإيقاع الشّمس موقعه.

لمّا عبّر عن إحداثه بالمدّ بمعنى التّيسير، عبّر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي هو في معنى الكفّ.

قَبْضاً يَسِيراً : قليلا قليلا، حسبما ترتفع الشّمس، لينتظم بذلك مصالح الكون، ويتحصّل به مالا يحصى من منافع الخلق.

و «ثمّ» في الموضعين لتفاضل الأمور، أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها.

و قيل : مدّ الظّلّ لمّا بنى السّماء بلا نيّر، ودحا الأرض تحتها. فألقت عليها ظلّها، ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة. ثمّ خلق الشّمس عليه دليلا، أي مسلّطا عليه مستتبعا إيّاه، كما يستتبع الدّليل المدلول أو دليل الطّريق من يهديه. فإنّه يتفاوت بحركتها ويتحوّل بتحولّها. ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً شيئا فشيئا، إلى تنتهي غاية نقصانه. أو قبضا سهلا عند قيام السّاعة، بقبض أسبابه من الأجرام المظلّة والمظلّ عليها.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً:

شبّه ظلامه باللّباس في ستره.

وَ النَّوْمَ سُباتاً: راحة للأبدان بقطع المشاغل. وأصل السّبت، القطع. أو: موتا، كقوله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. لأنّه قطع الحياة. ومنه: المسبوت، للميّت.

وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً : ذا نشور، أي: انتشار ينتشر فيه النّاس للمعاش.

أو بعث من النّوم، بعث الأموات.

فيكون إشارة إلى أنّ النّوم واليقظة، أنموذج للموت والنّشور.و عن لقمان - عليه السّلام-: يا بنيّ، كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.

وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ:

و قرأ  ابن كثير على التّوحيد، إرادة للجنس.

بُشْراً: ناشرات للسّحاب، جمع نشور.

و قرأ  ابن عامر بالسّكون، على التّخفيف. وحمزة والكسائي به وبفتح النّون، على أنّه مصدر وصف به. وعاصم «بشرا» تخفيف بشر، جمع بشور، بمعنى مبشر.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، يعني: قدّام المطر.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً : مطهّرا ليطهّركم. وهو اسم لما يتطهّر به، كالوضوء والوقود، لما يتوضّأ به ويوقد به.

و قيل : بليغا في الطّهارة. وفعول، وإن غلب في المعنيين، لكنّه قد جاء للمفعول- كالصّبوب بمعنى المصبوب- وللمصدر- كالقبول- وللاسم، كالذّنوب.

قيل : توصيف الماء به يكون إشعارا بالنّعمة فيه، وتتميما للمنّة فيما بعده- فإنّ الماء الطّهور أهنأ وأنفع ممّا خالطه ما يزيل طهوريّته- وتنبيها على أنّ ظواهرهم لمّا كانت ممّا ينبغي أن يطهّروها، فبواطنهم بذلك أولى.

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً: بالنّبات.

و تذكير «ميتا»، لأنّ البلدة في معنى البلد. ولأنّه غير جار على الفعل- كسائر أبنية المبالغة- فأجري مجرى الجامد.

وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً  قيل : يعني أهل البوادي الّذين يعيشون بالحيا  ولذلك نكّر الأنعام والأناسيّ  وتخصيصهم لأنّ أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والمناقع  فيهم وبما حولهم من الأنعام‏غنية عن سقيا السّماء. وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء، فلا يعوزها الشّرب غالبا، مع أنّ مساق هذه الآيات، كما هو للدلالة على عظم القدرة، فهو لتعداد أنواع النّعمة. والأنعام قنية الإنسان وعامّة منافعهم. وعليّة معايشهم منوطة بها. ولذلك قدّم سقيها على سقيهم، كما قدّم عليها إحياء الأرض، فإنّه سبب لحياتها وتعيّشها.

و قرئ : «نسقيه» بالفتح وسقى وأسقى لغتان.

و قيل : أسقاه: جعل له سقيا. و«أناسي» بحذف ياء، وهو جمع إنسيّ أو إنسان- كضرابيّ في ضربان- على أنّ أصله أناسين، فقلبت النّون ياء.

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ:

قيل : صرّفنا هذا القول بين النّاس، في القرآن وسائر الكتب.

و قيل : أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصّفات المتفاوتة من وابل وطلّ وغيرهما، أو في الأنهار أو في المناقع.

لِيَذَّكَّرُوا: ليتفكّروا وليعرفوا كمال القدرة وحقّ النّعمة في ذلك ويقوموا بشكره. أو ليعتبرا بالصّرف عنهم وإليهم.

فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً : إلّا كفران النّعمة وقلّة الاكتراث لها.

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً : نبيّا ينذر أهلها، فيخفّ عليك أعباء النّبوّة. لكن قصرنا الأمر عليك، إجلالا لك وتعظيما لشأنك وتفضيلا لك على سائر الرّسل. فقابل ذلك بالثّبات والاجتهاد في الدّعوة وإظهار الحقّ.

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، فيما يريدونك عليه.

و هو تهييج له وللمؤمنين.

وَ جاهِدْهُمْ بِهِ: بالقرآن. أو: بترك طاعتهم الّذي يدلّ عليه، فَلا تُطِعِ.

و المعنى أنّهم. يجتهدون في إبطال حقّك، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم.

جِهاداً كَبِيراً  لأنّ مجاهدة السّفهاء بالحجج، أكبر من مجاهدة الأعداء بالسّيف. أو لأنّ مخالفتهم ومعاداتهم فيما بين أظهرهم، مع عتوّهم وظهورهم. أو لأنّه جهاد مع كلّ الكفرة، لأنّه مبعوث إلى كافّة القرى.و في مجمع البيان : وَجاهِدْهُمْ بِهِ، أي: بالقرآن- عن ابن عبّاس- جِهاداً كَبِيراً، أي: تامّا شديدا. وفي هذا دلالة على أنّ من أجل الجهاد وأعظمه منزلة عند اللّه- سبحانه- جهاد المتكلّمين في حلّ شبه المبطلين وأعداء الدّين. ويمكن أن يتأوّل عليه‏

قوله- صلّى اللّه عليه وآله-: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: خلّاهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان. من: مرج دابّته: إذا خلّاها.

هذا عَذْبٌ فُراتٌ: قامع للعطش من فرط عذوبته. من: فرت الماء يفرت فروتا، فهو فرات: إذا عذب.

وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ: بليغ الملوحة.

و قرئ : «ملح» على فعل. ولعلّ أصله مالح، فخفّف، كبرد في بارد.

و في الكافي : وفي رواية حمدان بن سليمان أنّهما قالا- عليهما السّلام-: يا أبا سعيد، تأتي ما ينكر ولايتنا في كلّ يوم ثلاث مرّات. إنّ اللّه- عزّ وجلّ- عرض ولايتنا على المياه. فما قبل ولايتنا، عذب وطاب. وما جحد ولايتنا، جعله اللّه- عزّ وجلّ- مرّا وملحا أجاجا.

وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً: حاجزا من قدرته وَحِجْراً مَحْجُوراً : وتنافرا بليغا، كأنّ كلّا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوّذ للمتعوّذ عنه.

و قيل : حدّا محدودا. وذلك كدجلة، تدخل البحر فتشقّه، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها.

و قيل : المراد بالبحر العذب، النّهر العظيم، مثل النّيل. وبالبحر الملح، البحر الكبير. وبالبرزخ، ما يحول بينهما من الأرض، فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصّفة، مع أنّ مقتضى طبيعة أجزاء كلّ عنصر، أن تضامّت وتلاصقت وتشابهت في الكيفيّة.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، يعني: الّذي خمّر به طينة آدم، أو جعله جزء من مادّة البشر، لتجتمع وتسلس وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة. أو: النّطفة.فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، أي: قسّمه قسمين ذوي نسب- أي: ذكورا ينسب إليهم- وذوات صهر- أي: إناثا يصاهر بهنّ- كقوله : فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن عليّ بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرميّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال للأبرش: يا أبرش، هو كما وصف نفسه. كان عرشه على الماء والماء على الهواء. والهواء لا يحدّ. ولم يكن يومئذ خلق غيرهما، والماء يومئذ عذب فرات- إلى أن قال: وكانت السّماء خضراء [على لون الماء الأخضر]  وكانت الأرض غبراء على لون الماء العذب.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة. وهو بتمامه مذكور عند قوله - تعالى-: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما.

حدّثني أبي ، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن بريد العجليّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ- وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً. فقال: [إنّ اللّه- تبارك وتعالى- خلق آدم من الماء العذب.

و خلق زوجته من سنخه . فبرأها من أسفل أضلاعه فجرى بذلك الضّلع‏]  بينهما سبب ونسب. ثمّ زوّجها إيّاه، فجرى بينهما بسبب ذلك صهر. فذلك قوله: نَسَباً وَصِهْراً.

فالنّسب- يا أخا بني عجل- ما كان [من نسب الرّجال. والصّهر ما كان من‏]  سبب النّساء.

و في الكافي : محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن بريد العجليّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ- وذكر كما في تفسير عليّ بن إبراهيم، إلّا أنّ في آخره: فالنّسب- يا أخا بني عجل- ما كان بسبب الرّجال. والصّهر، ما كان بسبب‏النّساء.

و في كتاب معاني الأخبار  بإسناده إلى عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه قال: ألا وإنّي مخصوص في القرآن بأسماء. احذروا أن تغلبوا عليها، فتضّلوا في دينكم. أنا الصّهر. يقول اللّه- عزّ وجلّ-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً.

و الحديث طويل.

أخذت منه موضع الحاجة.

وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ، حيث خلق من مادّة واحدة، بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة. وجعله قسمين متقابلين. وربّما يخلق من نطفة واحدة، توأمين ذكرا وأنثى.

في أمالي شيخ الطّائفة - قدّس سرّه- بإسناده إلى أنس بن مالك، قال: ركب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذات يوم بغلته، فانطلق إلى جبل آل فلان. فنزل  وقال:

يا أنس، خذ البغلة، وانطلق إلى موضع كذا وكذا، تجد عليّا جالسا يسبّح بالحصى فأقرئه منّي السّلام، واحمله على البغلة وآت به إليّ .

قال انس: فذهبت، فوجدت عليّا كما قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فحملته على البغلة، وأتيت  به إليه. فلمّا بصر برسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-  قال:

السّلام عليك يا رسول اللّه. قال: وعليك السّلام يا أبا الحسن، أجلس . فإنّ هذا مكان جلس فيه سبعون [نبيا]  مرسلا. ما جلس فيه أحد من الأنبياء»، إلّا وأنا خير منه. وقد جلس في موضع كلّ نبيّ أخ له ما جلس من الإخوة أحد إلّا وأنت خير منه.

قال أنس: فنظر  إلى سحابة قد أظلّتهما ودنت من رؤوسهما. فمدّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يده إلى السّحابة، فتناول منها  عنقود عنب، فجعله بينه وبين عليّ. وقال: كل يا أخي! هذه  هديّة من اللّه- تعالى- إليّ ثمّ إليك.قال أنس: قلت: يا رسول اللّه، عليّ أخوك!؟ قال: نعم، عليّ أخي. فقلت: يا رسول اللّه، صف لي كيف عليّ أخوك؟ قال:

إنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق ماء تحت العرش، قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام.

و أسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه، إلى أن خلق آدم. فلمّا خلق  آدم، نقل ذلك الماء من اللّؤلؤة، فأجراه في صلب آدم، إلى أن قبضه اللّه- تعالى-. ثمّ نقله إلى صلب شيث.

فلم يزل ذلك الماء ينقل  من ظهر إلى ظهر، حتّى صار في [صلب‏]  عبد المطّلب.

ثمّ شقه اللّه- عزّ وجلّ- نصفين. فصار نصفه في [أبي‏]  عبد اللّه بن عبد المطّلب، ونصف في أبي طالب. فأنا من نصف الماء، وعليّ من النّصف الآخر. فعليّ أخي في الدّنيا والآخرة.

ثمّ قرأ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وسلم: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً.

و في روضة الواعظين  للمفيد- رحمه اللّه-: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: خلق اللّه- عزّ وجلّ- نطفة بيضاء مكنونة. فنقلها من صلب إلى صلب، حتّى نقلت. النّطفة إلى صلب عبد المطّلب. فجعل نصفين، فصار  نصفها في عبد اللّه، ونصفها في أبي طالب. فأنا من عبد اللّه، وعليّ من أبي طالب. وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً.

و في كتاب المناقب  لابن شهرآشوب: وخطب النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- على المنبر في تزويج فاطمة خطبة رواها يحيى بن معين في أماليه وابن بطّة في الإبانة

، بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعا، ورويناها عن الرّضا- عليه السّلام-. فقال: الحمد للّه المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع في سلطانه، المرغوب إليه فيما عنده، المرهوب من عذابه، النّافذ أمره في سمائه وأرضه، الّذي  خلق الخلق بقدرته، وميّزهم بأحكامه، وأعزّهم بدينه، وأكرمهم بنبيّه محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

إنّ اللّه- تعالى- جعل المصاهرة نسبا لا حقا وأمرا معترضا، وشّج  بها الأرحام،و ألزمها الأنام. قال اللّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً. ثمّ إنّ اللّه- تعالى- أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ، وقد زوّجتها إيّاه على أربعمائة  مثقال فضّة. أرضيت يا عليّ؟ قال: رضيت يا رسول اللّه.

و في مجمع البيان : قال ابن سيرين: نزلت في النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-. زوّج فاطمة عليّا، فهو ابن عمّه وزوج ابنته، فكان نسبا وصهرا.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه بن أسد عن إبراهيم بن محمّد الثّقفيّ، عن أحمد بن معمّر الأسديّ، [عن الحسن بن محمّد الأسديّ‏]  عن الحكم بن ظهير، عن السّدّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عبّاس قال: قوله- عزّ وجلّ-:

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً نزلت في النّبيّ وعليّ- صلّى اللّه عليهما. زوّج النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا ابنته وهو ابن عمّه، فكان له نسبا وصهرا.

و قال أيضا : حدّثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدّثنا المغيرة بن محمّد، عن رجاء بن سلمة، عن نائل بن نجيح، عن عمرو  بن شمر، عن جابر الجعفيّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاس في هذه الآية قال:

خلق اللّه آدم . وخلق نطفة من الماء، فمزجها بنوره. ثمّ أودعها آدم. ثمّ أودعها ابنه شيث، ثمّ أنونش ، ثمّ فتيان ، ثمّ أبا فأبا، حتّى أودعها إبراهيم- عليه السّلام-. ثمّ أودعها إسماعيل- عليه السّلام-. ثمّ أمّا فأمّا وأبا فأبا، من طاهر الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام، حتّى صارت إلى عبد المطّلب. فانفرق  ذلك النّور فرقتين: فرقة إلى عبد اللّه، فولد محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله-، وفرقة إلى أبي طالب، فولد عليّا- عليه السّلام-.

ثمّ ألّف اللّه النّكاح بينهما، فزوّج اللّه عليّا بفاطمة- عليهما السّلام-. فذلك قوله- عزّ وجلّ-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً.

و في هذا المعنى ما

رواه الشّيخ أبو جعفر محمّد بن جعفر الحائري  في كتابه «كتاب ما اتّفق فيه من الأخبار في فضل الأئمّة الأطهار»  حديثا مسندا يرفعه إلى مولانا عليّ بن الحسين- عليهما السّلام-. قال: كنت أمشي خلف عمّي الحسن وأبي الحسين- عليهما السّلام- في بعض طرقات المدينة، وأنا يومئذ غلام قد ناهزت  الحلم. أو كدت. فلقيهما  جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ وأنس بن مالك وجماعة من قريش والأنصار. فسلّم هناك جابر، حتى انكبّ على أيديهما وأرجلهما يقبلّهما.

فقال له رجل من قريش، كان نسيبا لمروان: أ تصنع هذا يا أبا عبد اللّه، وأنت في سنّك وموضعك من [صحبة]  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-؟ وكان جابر قد شهد بدرا.

فقال له: إليك عنّي! فلو علمت- يا أخا قريش- من فضلهما ومكانهما ما أعلم، لقبّلت ما تحت أقدامهما من التّراب.

ثمّ أقبل جابر على أنس، فقال: يا أبا حمزة، أخبرني رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فيهما بأمر ما ظننت أنّه يكون في بشر. فقال له أنس: وما الّذي أخبرك به يا أبا عبد اللّه؟

قال عليّ بن الحسين: فانطلق الحسن والحسين، ووقفت أنا أسمع محاورة القوم.

فأنشأ جابر يحدّث. قال:

بينا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذات يوم في المسجد. وقد خفّ من حوله، إذ قال لي: يا جابر، ادع لي ابنيّ حسنا وحسينا. وكان شديد الكلف  بهما. فانطلقت فدعوتهما.

و أقبلت أحمل هذا مرّة وهذا مرّة، حتّى جئته بهما.

فقال لي- وأنا أعرف السّرور في وجهه لمّا رأى من حنوني عليهما-: أ تحبّهما يا جابر؟

قلت: وما يمنعني من ذلك- فداك أبي وأمّي- ومكانهما منك مكانهما!؟ فقال: ألا أخبرك من فضلهما؟ قلت: بلى، فداك أبي وأمّي.

قال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- لمّا أحبّ أن- يخلقني، خلقني نطفة بيضاء [طيّبة]

 فأودعها صلب آدم. فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحم طاهرة ، إلى نوح وإبراهيم ثمّ كذلك إلى عبد المطّلب، لم يصبني من دنس الجاهليّة شي‏ء. ثمّ افترقت تلك النّطفة شطرين: إلى [أبي:]  عبد اللّه، وإلى أبي طالب. فولدني [أبي:]  عبد اللّه، فختم اللّه بي النّبّوة. وولد عمّي أبو طالب عليّا، فختمت به الوصيّة.

ثمّ اجتمعت النّطفتان منّي ومن عليّ وفاطمة، فولدنا الجهر والجهيرة. فختم اللّه بهما أسباط النّبوة، وجعل ذرّيتّي منهما وأمرني بفتح مدينة- او قال: مدائن- الكفر، وأقسم ربّي ليظهرنّ منهما ذرّيّة طيّبة، تملأ الأرض عدلا بعد ما ملئت جورا. فهما طهران مطهّران، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة. طوبى لمن أحبّهما وأباهما وأمّهما. وويل لمن عاداهم وأبغضهم!

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، يعني: الأصنام. أو كلّ ما عبد من دون اللّه، إذ ما من مخلوق يستقلّ بالنّفع والضّرّ.

وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً :

الظّهير: المعين. فقيل : كان معينا للشّيطان على ربّه بالمعاصي، أي كان شريكا له بمعاصيه.

و قيل : كان معينا [له في معصية الشّيطان لربّه، فإنّ عبادة الأصنام مثلا معاونة]  للشّيطان في معصيته.

و المراد ب «الكافر» الجنس. وقيل : أبو جهل.

و قيل : الظّهير: المهين. أي: كان الكافر على ربّه مهينا، لا وقع له عنده. من قولهم: ظهرت به: إذا نبذته خلف ظهرك.

و في بصائر الدّرجات:  عبد اللّه بن عابر  عن أبي عبد اللّه البرقيّ، عن الحسن  بن عثمان، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة، قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ- وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً. قال: تفسيرها في بطن القرآن، يعني:عليّ. هو ربّه في الولاية [و الطّاعة]  والرّبّ، هو الخالق الّذي لا يوصف.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال عليّ بن إبراهيم- رحمه اللّه-: وقد يسمّى الإنسان ربّا بهذا الاسم لغة، كقوله - تعالى-: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. وكلّ مالك لشي‏ء يسمّى ربّه. فقوله- تعالى-: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً. قال: «الكافر» الثّاني. كان على أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- ظهيرا.

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً  للمؤمنين والكافرين.

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: على تبليغ الرّسالة.

مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ: [إلّا فعل من شاء].

أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا : أن يتقرّب إليه ويطلب الزّلفى عنده بالايمان والطاعة.

صورّة بصورة الأجر، من حيث إنّه مقصود فعله. واستثناه منه، قطعا لشبهة الطّمع، وإظهارا لغاية الشّفقة.

و قيل : الاستثناء منقطع. معناه: لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا، فليفعل.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ في استكفاء شرورهم والإغناء عن أجورهم. فإنّه الحقيق بأن يتوكّل عليه، دون الأحياء الّذين يموتون: فإنّهم إذا ماتوا، ضاع من توكلّ عليهم.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ: ونزّهه عن صفات النّقصان، مثنيا عليه بأوصاف الكمال، طالبا لمزيد الإنعام بالشّكر على سوابغه.

وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ: ما ظهر منها وما بطن.

خَبِيراً : مطّلعا. فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ:

في روضة الكافي  بإسناده إلى عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق الخير يوم الأحد. وما كان ليخلق‏الشّر قبل الخير. وفي يوم الأحد والاثنين، خلق الأرضين. وخلق أقواتها يوم الثّلاثاء. وخلق السّموات يوم الأربعاء، ويوم الخميس. وخلق أقواتها يوم الجمعة. وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ-:

خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ:

قد سبق الكلام فيه. ولعلّ ذكره زيادة تقرير، لكونه حقيقا بأن يتوكّل عليه، من حيث إنّه الخالق للكلّ والمتصرّف فيه. وتحريض على الثّبات والتّأنّي في الأمر.

فإنّه- تعالى- مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كلّ مراد، خلق الأشياء على تؤدة وتدرّج.

و «الرّحمن»، خبر للّذي، إن جعلته مبتدأ، ولمحذوف، إن جعلته صفة للحيّ. أو بدل من المستكنّ في «استوى».

و قرئ  بالجرّ صفة للحيّ.

فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً : فاسأل عمّا ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته. وهو اللّه- تعالى- أو جبرئيل، أو من وجده في الكتب المتقدّمة ليصدّقك فيه.

و قيل : الضّمير للرّحمن. والمعنى: إن أنكروا إطلاقه على اللّه- تعالى- فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب، ليعرفوا مجي‏ء ما يرادفه في كتبهم. وعلى هذا يجوز أن يكون الرّحمن مبتدأ، والخبر ما بعده. والسّؤال كما يعدّى ب «عن»، لتضمّنه معنى التّفتيش، يعدّى بالباء، لتضمّنه معنى الاعتناء.

و قيل : إنّه صلة خبيرا.

 [و في مجمع البيان : روي أنّ اليهود حكوا عن ابتداء خلق الأشياء بخلاف ما أخبر اللّه- تعالى- عنه. فقال- سبحانه-: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً.

]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ:

لأنّهم ما كانوا يطلقونه على اللّه- تعالى-. أو لأنّهم ظنّوا أنّه أراد به غيره. ولذلك قالوا:

أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا، أي: للّذي تأمرنا- يعني: تأمرنا بسجوده، أو لأمرك‏لنا من غير عرفان.

و قيل : لأنّه كان معرّبا لم يسمعوه.

و قرئ : «يأمرنا» بالياء، على أنّه قول بعضهم لبعض.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله- عزّ وجلّ-: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ- إلى قوله:- وَمَا الرَّحْمنُ. قال: جوابه: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ  وَزادَهُمْ، إي: الأمر بالسجود للرّحمن نُفُوراً : عن الإيمان.