التيمّم

قال تعالى :   وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَو عَلَى سَفَرٍ أَو جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائطِ أَو لاَمَستُمُ النِّسَاءَ فَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً  ([1]) .

وقال الرسول الأعظم  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : « خلقت لي الأرض مسجداً وطهوراً »([2]) .

وقال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم ويصلّ »([3]) .

وسئل عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك ؟ قال [  عليه‏السلام] : « لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لص أو سبع »([4]) .

وأيضاً سئل عن رجل يمرّ بالركية ـ أي البئر ـ وليس معه دلو ؟ قال [  عليه‏السلام] :

« ليس عليه أن يدخل الركية ؛ لأنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض ، فليتيمّم »([5]) .

وفي رواية اُخرى : أنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد([6]) . . . أنّ اللّه‏ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً([7]) .

وأيضاً سئل عن رجل تكون به القروح والجراحات فيجنب ؟ قال [  عليه‏السلام] : « لا بأس بأن يتيمّم ولا يغتسل »([8]) . إلى غير ذلك كثير .

الفقهاء  :

قسّموا الطهارة إلى قسمين : اختياريّة واضطراريّة ، والاُولى الطهارة المائيّة ، والثانية الطهارة الترابيّة ، وهذه بدل عن تلك تسوّغها الأسباب الموجبة للتيمّم عقلاً أو شرعاً ، وهذه الأسباب ما يلي :

______________________

[1] النساء : 43 .

[2] الوسائل 3 : 350 ، ب7 من أبواب التيمّم ، ح2 ، وفيه : « جعلت لي » .

[3] الوسائل 3 : 341 ، ب1 من أبواب التيمّم ، ح1 .

[4] الوسائل 3 : 342 ، ب2 من أبواب التيمّم ، ح2 .

[5] الوسائل 3 : 343 ، ب3 من أبواب التيمّم ، ح1 .

[6] الوسائل 3 : 386 ، ب23 من أبواب التيمّم ، ح6 .

[7] الوسائل 3 : 385 ، ب23 من أبواب التيمّم ، ح1 .

[8] الوسائل 3 : 348 ، ب5 من أبواب التيمّم ، ح11 .

 

 

1 ـ  عدم الماء  :

عدم وجود الماء الكافي للوضوء أو الغسل في سفر أو حضر ، إجماعاً ونصّاً .

وتسأل : إذا لم يكن لديه ماء ولكنّه يحتمل ولا يستبعد أن يصيب الماء إذا بحث عنه وسأل فهل يجب عليه البحث والسؤال بحيث إذا تيمّم بدونه يبطل عمله ؟

الجواب  :

أجل ، يجب إن كان في الوقت سعة ؛ لأنّ عدم الماء شرط في صحّة التيمّم ، وبديهة أ نّه لا بدّ من إحراز الشرط والعلم به ، ولا يحصل هذا العلم إلاّ بعد البحث والفحص الموجب لليأس ، وبتعبير الفقهاء أنّ الشكّ في وجود الماء يستدعي الشكّ في مشروعيّة التيمّم ، فلا يكون مجزئاً في نظر العقل . هذا ، بالاضافة إلى قول الإمام  عليه‏السلام :

« إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت » .

وقالوا : يجب على المسافر أن يبحث عن الماء في البرّية مقدار رمية سهم إذا كانت الأرض وعرة ، ومقدار رمية سهمين إذا كانت سهلة ، على أن يكون البحث إلى الجهات الأربعة يميناً وشمالاً وأماماً ووراءً ، مع عدم اليأس من عدم وجود الماء ، والأمان على النفس والمال ، واستندوا لهذا الحكم برواية عن الإمام الصادق  عليه‏السلام : « يطلب الماء في السفر إن كانت الحزونة ـ أي الأرض وعرة ـ فغلوة ، وإن كانت سهولة فغلوتين »([1]) .

وليس من شكّ أنّ هذه الأحكام إنّما شرّعت ، حيث كان السفر على الأقدام والجمال ، أمّا اليوم حيث السيّارات والطائرات ولا سبع ولا ضبع فلا موضوع لها من الأساس . ولكن ينبغي أن نعلم أنّ قولهم هنا يجب البحث والفحص ، إنّما هو تفريغ وتطبيق لقاعدة عامّة من صميم الحياة ، وهي أنّ كلّ ما يتوقّف عليه وجود الواجب بعد وجوبه فهو واجب ، وأ نّه لا عذر أبداً للإنسان عند اللّه‏ والعقل والناس أن يهمل أمراً يعلم علم اليقين أنّ إهماله سيؤدّي حتماً إلى إهمال الواجب وتركه ، وهذا الضابط لا يختصّ بباب دون باب من الفقه ، ولا بجهة دون جهة من الحياة([2]) .

ومن هذا الضابط يتبيّن معنى أنّ من كان لديه قليل من الماء يكفي لوضوئه أو غسله من الجنابة فقط تحتّم عليه أن يحتفظ به لأجل الصلاة ، ولا يجوز له التصرّف فيه لغير ضرورة ، ولو لم يدخل الوقت إذا علم أ نّه لن يجد الماء عند الصلاة بعد دخول وقتها .

أمّا القول بأنّ حفظ الماء مقدّمة ووسيلة من أجل الصلاة والمفروض أ نّها لا تجب قبل الوقت وإذا لم تجب الغاية فكيف تجب الوسيلة ؟ وهل يزيد الفرع على الأصل والتابع على المتبوع ؟ أمّا هذا القول فلعب بالألفاظ بعد العلم بأنّ وقت الصلاة

آتٍ لا محالة ، وأ نّها لا تصحّ بالتيمّم مع القدرة على الوضوء ، وأنّ هذا قادر عليه في نظر العقل والعرف ، ولذا وجب السفر إلى الحجّ ، وإلى كثير غيره قبل مجيء زمانه ، ووجب التعلّم قبل أوان العمل ، والغسل لصوم رمضان قبل الفجر ، إلى غير ذلك .

_________________

[1] الوسائل 3 : 341 ، ب1 من أبواب التيمّم ، ح2 .

[2] وخرج جماعة من الفقهاء عن هذه القاعدة في صورة واحدة فقط ، وهي أنّ للإنسان أن يجنب

مختاراً وبإرادته مع علمه بأ نّه لن يجد الماء إذا أجنب ، والمسوغ لهذا الاستثناء وجود النصّ ، قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إنّ أبا ذرّ قال : يا رسول اللّه‏ هلكت جامعت أهلي على غير ماء ، فقال له النبيّ  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : يا أبا ذرّ يكفيك الصعيد عشر سنين » لأنّ قول أبي ذرّ : هلكت يشعر بأ نّه جامع ، وهو آيس من وجود الماء [  منه  قدس‏سره ] . الوسائل 3 : 369 ، ب14 من أبواب التيمّم ، ح12 .

 

 

2 ـ  الضرر  :

أن يتضرّر صحّياً من استعمال الماء ، ويكفي مجرّد الظنّ بالضرر ، سواءً حصل له تلقائيّاً أم من قول الطبيب ، وإذا قال له الطبيب : إنّ استعمال الماء مضرّ وكان يعلم هو أ نّه غير مضرّ وأنّ الطبيب مخطئ في تشخيصه فالمعوّل على علمه ، لا على قول الطبيب . وإن كان لا يعلم بالضرر ولا بعدمه فإن حصل له العلم أو الظنّ أخذ بقول الطبيب ، وبالأصحّ بعلمه أو ظنّه الناشئ من قول الطبيب . وإن لم يحصل له شيء أبداً وبقي على شكّه وتردّده أخذ بقول الطبيب بناءً على أنّ الخبر الواحد([1]) حجّة في

الموضوعات ، وإلاّ فلا يجوز له الاعتماد عليه .

ولو افترض أ نّه لا يتضرّر صحّياً من استعمال الماء ، ولكنّه يتألّم من شدّة البرد وتصيبه مشقّة فوق المعتاد والمألوف حين الغسل أو الوضوء ، بحيث إذا انتهى منه عاد إلى طبيعته ودون أن ينكب بصحّته فهل تتعيّن في حقّه الطهارة المائيّة أو تجوز له

الطهارة الترابيّة أو هو مخيّر بينهما ؟

الجواب  :

إنّه مخيّر بين الطهارة المائيّة وبين الطهارة الترابيّة ، فإن شاء اغتسل أو توضّأ ، وإن شاء تيمّم ، وفي الحالين تصحّ عبادته . أمّا لو استعمل الماء مع وجود الضرر الصحّي فعبادته فاسدة . والفرق أنّ الضرر منهيّ عنه ؛ لقوله تعالى :   وَلاَ تُلْقُوا بِأَيدِيكُم إِلَى التَّهلُكَةِ  ([2]) ، والنهي في العبادة يدلّ على الفساد ، أمّا تحمّل الألم والمشقّة والحرج فغير منهيّ عنه إطلاقاً ، فإذا تطهّر وصلّى صحّت طهارته وصلاته . ومن هنا قيل : إنّ نفي الحرج في الشريعة من باب الرخصة . ونفي الضرر من باب العزيمة .

وتسأل : كما أنّ الطهارة مع الحرج والمشقّة غير منهيّ عنها فهي أيضاً غير مأمور بها ، ومع عدم الأمر لا تكون صحيحة بحال ؛ لأنّ صحّتها تتوقّف على الإتيان بها بداعي امتثال الأمر ، والمفروض عدم الأمر ، فتكون النتيجة أنّ الغسل والوضوء مع الحرج والمشقّة تماماً كالغسل والوضوء مع الضرر الصحّي .

الجواب  :

إنّ العبادة راجحة بذاتها ، ومحبوبة مرغوبة للشارع بطبيعتها ، ويكفي للتقرّب بها إليه عدم النهي عنها ، لا وجود الأمر بها فعلاً ، والشارع لم ينه عن التعبّد له مع وجود الحرج والمشقّة ، بل رفع الأمر والإلزام عن العبد في مثل هذه الحال من باب التسهيل والمنّة والتفضّل ، فإذا اختار لنفسه المشقّة والحرج وألزم نفسه به كان ذاك إليه ، بل يعدّ مطيعاً ومنقاداً . أمّا مع وجود الضرر فإنّه ملزم ومرغم على الترك ، ولا خيار له إطلاقاً ؛ لأنّ الضرر محرّم في ذاته ، ومكروه ومبغوض للشارع بطبيعته ، سواء ألبس ثوب التعبّد أو التمرّد .

__________________

[1] في الطبعات السابقة « الواجب » والصحيح ما أثبتناه .

[2] البقرة : 195 .

 

 

3 ـ  قلّة الماء  :

من مسوّغات التيمّم أن يكون معه قليل من الماء يحتاجه حالاً أو مآلاً لغاية أهم من الوضوء والغسل ، كشربه أو شرب غيره كائناً من كان ، وما كان إذا اضطرّ إليه ، ما دام لكبده الحرّى أجر ، وفي صرفه خير ونفع ، ودفع للضرر والفساد . وقد

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن رجل يكون معه الماء في السفر ويخاف قلّته ؟ قال : « يتيمّم بالصعيد ، ويستبقي الماء »([1]) . فإذا احتفظ بالماء خوفاً من العطش وتيمّم صحّ تيمّمه وصلاته ، وإذا خالف وتوضّأ أو اغتسل فقد عصى قطعاً ، ولكن وضوءه وغسله صحيحان ؛ لأنّ الأمر بالتيمّم لا يستدعي النهي عن الوضوء أو الغسل ؛ إذ المفروض أ نّه لا يتضرّر ، ولا يتمرّض من استعمال الماء ، وإنّما يخاف العطش فقط .

والخوف من العطش شيء ، والضرر الصحّي الحاصل من استعمال الماء شيء آخر ، وعليه يكون الوضوء والغسل مع الخوف من العطش ، تماماً كالصلاة مع عدم انقاذ الغريق فإنّها تصحّ ، ولكن يأثم المصلّي ويعاقب على ترك الأهم .

____________________

[1] الوسائل 3 : 388 ، ب25 من أبواب التيمّم ، ح3 .

 

 

4 ـ  ضيق الوقت  :

أن يتّسع الوقت للوضوء والصلاة معاً ، بحيث إذا توضّأ وقعت الصلاة بكاملها في وقتها المحدّد . ولو افترض أ نّه إذا توضّأ وقعت الصلاة أو ركعة منها خارج الوقت ، وإذا تيمّم وقعت بتمامها داخل الوقت ، لو افترض ذلك وجب التيمّم ، وإذا توضّأ بطل

عمله ، وعليه أن يقضي الصلاة ؛ لأنّ المحافظة على الوقت أهمّ في نظر الشرع من المحافظة على الطهارة المائيّة ، وليس من شكّ أنّ المهم يسقط بالأهم ، وأنّ الموقّت يذهب بذهاب وقته ، ويتفرّع على هذا ما يلي :

الأوّل  : أنّ الوضوء لا يصحّ منه في هذه الصورة إذا أراد به هذه الصلاة بعينها ؛ إذ المفروض أنّ هذه الصورة تجب مع التيمّم لا مع الوضوء ، أمّا إذا قصد غاية اُخرى ولو الكون على الطهارة صحّ وضوءه ؛ لأنّ الوضوء راجح بنفسه ، وأنّ الأمر بالشيء

لا يقتضي النهي عن ضدّه ، فيكون حال الوضوء تماماً كحال الصلاة قبل زوال النجاسة عن المسجد .

الثاني  : إذا اغتسل أو توضّأ جاهلاً بأنّ الوقت لا يتّسع للطهارة والصلاة معاً ثمّ تبيّن له الضيق وعدم السعة صحّ عمله إن قصد غاية اُخرى غير هذه الصلاة ، وبطل إن قصدها بالذات .

الثالث  : أنّ التيمّم لضيق الوقت عن استعمال الماء إنّما يخوّل الدخول بهذه الصلاة فقط ، أمّا الصلوات الاُخر وما إليها من الغايات فلا ؛ لأ نّه واجد للماء بالنسبة إليها .

 

 

ما يصحّ به التيمّم  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن رجل دخل الأجمّة ـ أي الغابة ـ ليس فيها ماء ، وفيها طين ماذا يصنع ؟ قال : « يتيمّم فإنّه ـ أي الطين ـ الصعيد » . قال السائل : إنّه راكب ولا يمكنه النزول من خوف وليس هو على وضوء ؟ قال : « إن خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوات الوقت فليتيمّم ، يضرب بيده على اللبد أوالبرذعة ويتيمّم ويصلّي »([1]) .

وقال [  عليه‏السلام] : « إذا كنت في حال لا تقدر إلاّ على الطين فتيمّم به ، فإنّ اللّه‏ أولى بالعذر إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر أن تنفضه وتتيمّم به »([2]) .

وقال [  عليه‏السلام] : « إذا كانت الأرض مبتلّة ليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجفّ موضع تجده فتيمّم به »([3]) .

الفقهاء  :

قالوا : يجب التيمّم بالصعيد ؛ لقوله تعالى :   فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طيِّباً   ، والصعيد وجه الأرض تراباً كان أو رملاً أو حجراً ، على شريطة أن يكون مباحاً غير مغصوب ، وطاهراً غير نجس ، ولا يجوز التيمّم بشيء من المعادن أو النبات أو الرماد .

وقالوا : إذا عجز عن التيمّم بما يصدق عليه وجه الأرض ، فإن أمكن أن يجمع الغبار من الثياب وما إليها فعل ، وتيمّم به ، وإلاّ يتيمّم بالغبار على الثوب أو عرف الدابة ونحوه ، وإن تعذّر كلّ ذلك تيمّم بالطين ، حيث لا يقدر إلاّ عليه .

وتسأل : إذا حبس أو وجد في مكان لا ماء فيه ولا ما يتيمّم به حتّى الطين بحيث يصدق عليه أ نّه فاقد الطهورين فماذا يصنع ؟ هل يصلّي بلا وضوء ولا تيمّم أو لا تجب عليه الصلاة ؟ وإذا لم تجب عليه أداءً فهل تجب عليه قضاءً ؟

الجواب  :

ذهب أكثر الفقهاء إلى عدم وجوب الصلاة أداءً ، ووجوبها قضاءً ، أمّا الدليل على عدم الأداء فهو الحديث المشهور : « لا صلاة إلاّ بطهور »([4]) وقد تعذّرت ، وأمّا وجوب الأداء فقد استدلّ عليه صاحب المدارك بقول الإمام : « متى ذكرت صلاة

فاتتك فصلّها »([5])([6]) ، ثمّ قال صاحب المدارك : ( وما قيل من أنّ سقوط الأداء يوجب سقوط القضاء فدعوى مجرّدة عن الدليل ، مع انتقاضها بوجوب القضاء على الساهي والنائم ، ووجوب قضاء الصوم على الحائض )([7]) .

_____________________

[1] الوسائل 3 : 354 ، ب9 من أبواب التيمّم ، ح5 .

[2] الوسائل 3 : 354 ، ب9 من أبواب التيمّم ، ح7 .

[3] الوسائل 3 : 354 ، ب9 من أبواب التيمّم ، ح4 .

[4] الوسائل 1 : 365 ، ب1 من أبواب الوضوء ، ح1 .

[5] وقد يقال : إنّ هذا يصدق على من فاتته صلاة واجبة ، كان عليه أن يؤديها ، ولا يشمل بحال من لم تجب عليه من الأساس كما نحن فيه ، وعليه يكون الاستشهاد في غير محلّه [  منه  قدس‏سره ] .

[6] الوسائل 4 : 291 ، ب63 من أبواب المواقيت ، ح1 .

[7] المدارك 2 : 243 ، 244 .

 

 

صورة التيمّم  :

جاء في [  قوله تعالى ] :   فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طيِّباً فَامسَحُوا بِوُجُوهِكُم وَأَيدِيَكُم إِنَّ اللّه‏َ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً  ([1]) .

قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إنّ عمّاراً أصابته جنابة ، فتمعّك ـ أي تمرّغ ـ كما تتمعّك الدابة ، فقال له رسول اللّه‏  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : تمعّكت كما تتمعّك الدابة ؟ ! » فقال المستمعون : كيف التيمّم ؟ فوضع الإمام  عليه‏السلام يديه على الأرض ، ثمّ رفعهما فمسح وجهه ويديه فوق الكفّ قليلاً([2]) .

وسئل الإمام أبو جعفر  عليه‏السلام عن التيمّم ؟ فضرب بيديه على الأرض ، ثمّ رفعهما فنفضهما ، ثمّ مسح بهما جبينه وكفّيه مرّة واحدة([3]) .

الفقهاء  :

قالوا : المراد من الوجه هنا بعضه لا كلّه ؛ لأنّ الباء في قوله تعالى :   فَامسَحُوا بِوُجُوهِكُم   تفيد التبعيض تماماً كقوله :   وَامسَحُوا بِرُؤوسِكُم  ([4]) بالنسبة إلى الوضوء ؛ لأ نّها إذا لم تكن للتبعيض تكون زائدة ؛ لأنّ « امسحوا » تتعدّى بنفسها ، وحدّدوا القدر الواجب من مسح الوجه أن يبدأ المتيمّم من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى ، ويدخل فيه الجبهة والجبينان .

وقالوا : المراد باليدين الكفّان فقط ، فإنّ اللّه‏ تبارك وتعالى أطلق الأيدي في التيمّم ، ولم يقيّدها بالحدّ إلى المرفقين كما فعل في الوضوء ، وعليه يكون تيمّم الإمام ومسحه الكفّين دون التعدّي عنهما تفسيراً وبياناً للآية ، ومقيّداً لإطلاقها ، ويؤيّد ذلك أ نّك إذا قلت : هذي يدي وفعلته بيدي لا يُفهم من اليد إلاّ الكفّ فقط .

وبالتالي فإنّ صورة التيمّم عندهم هكذا : أن تضرب على الأرض بباطن الكفّين ، وتمسح وجهك من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى ، ثمّ تمسح تمام ظاهر الكفّ اليمنى بباطن الكفّ اليسرى ، وتمام ظاهر اليسرى بباطن اليمنى .

وبعد أن اتفق الفقهاء على ذلك اختلفوا فيما بينهم هل يجب في التيمّم ضربة واحدة على الأرض سواء أكان بدلاً عن الوضوء أم بدلاً عن غسل الجنابة والحيض والنفاس ومسّ الميّت ، أو يجب التفصيل بين التيمّم الّذي هو بدل عن الوضوء فتجب له ضربة واحدة ، وبينما هو بدل عن الغسل فتجب ضربتان إحداهما للوجه والاُخرى لليدين ؟

ذهب المشهور إلى التفصيل ، وأ نّه تكفي الضربة الواحدة لما هو بدل عن الوضوء ، ولا بدّ من الضربتين لما هو بدل عن الغسل ، أيّ غسل .

وقال كثير من المحقّقين : لا تجب الضربتان بحال ، بل تكفي ضربة واحدة لكلّ تيمّم ، سواء أكان بدلاً عن الوضوء ، أم بدلاً عن الغسل ، واستدلّوا بأنّ الإمام  عليه‏السلام حين تيمّم ضرب ضربة واحدة ، وقد أراد أن يبيّن حقيقة التيمّم وماهيّته ، ويعلّم الناس الصورة الواجبة لما هو بدل الوضوء وبدل الغسل ، ولو كان هنالك من فرق لفصّل ولم يسكت ، فترك التفصيل دليل على الشمول والعموم ، بل أنّ تيمّمه  عليه‏السلام أظهر فيما هو بدل عن غسل الجنابة ، حيث أتى به بعد أن حكى قصّة عمّار الّذي كان جنباً .

وقال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه : ( إنّ الاكتفاء بالضربة الواحدة فيما هو بدل الغسل أظهر وأقوى )([5]) نظراً إلى الأخبار الكثيرة الحاكية للضربة الواحدة ، بحيث لا يبعد دعوى تواترها ، وقد جاءت بكاملها جواباً عن السؤال عن كيفيّة

التيمّم على الإطلاق ، وبهذا يتبيّن أنّ بعض الروايات الدالّة على الضربتين لا تصلح بحال ؛ لمعارضة الدالّة على الواحدة ، فيتعيّن إمّا طرحها وإمّا حملها على الاستحباب ، وحملها على الاستحباب أشبه بالقواعد وأحوط .

وهنالك رواية اُخرى دلّت على أنّ الواجب ضربات ثلاث : واحدة للوجه ، وثانية للكفّ اليمنى ، وثالثة للكفّ‏اليسرى([6]) ، ولكنّها رواية شاذّة ، والعمل بها متروك .

__________________________

[1] النساء : 43 .

[2] الوسائل 3 : 358 ، 359 ، ب11 من أبواب التيمّم ، ح2 ، 4 .

[3] الوسائل 3 : 359 ، ب11 من أبواب التيمّم ، ح3 .

[4] المائدة : 6 .

[5] مصباح الفقيه 6 : 313 .

[6] انظر الوسائل 3 : 362 ، ب12 من أبواب التيمّم ، ح5 .